الرياضيات الذكية تمكِّن التصوير بالرنين المغناطيسي من رسم خريطة للجزيئات الحيوية
تقنيات جديدة تستخرج إشارات دقيقة من بيانات أنتجتها الماسحات الضوئية
بقلم: أدريان تشو
ترجمة: صفاء كنج
ترسم ماسحات التصوير بالرنين المغناطيسي MRI خريطة تفصيلية رائعة لأعضاء الإنسان الداخلية، لكنها لا تُفصح إلا عن القليل عن تركيبتها الدقيقة. واليوم يدفع الفيزيائيون بالتصوير بالرنين المغناطيسي إلى مدى جديد من الحساسية لاكتشاف جزيئات حيوية محددة في الأنسجة، وهي قدرة قد تساعد على تشخيص ألزهايمر وأمراض أخرى. ولا تنبع التطورات من ماسحات Scanners مُحسَّنة، ولكن من مناهج أفضل لحل مسائل الرياضيات العويصة واستخراج معلومات كامنة بالفعل في بيانات صورة ملتقطة بالتصوير بالرنين المغناطيسي.
وهذه التقنيات الجديدة التي جرى وصفها في مارس 2019 خلال اجتماع للجمعية الفيزيائية الأمريكية American Physical Society هنا في بوسطن، قد تصبح خلال وقت قريب متوفرة في العيادات، مثلما تقول شانون كوليند Shannon Kolind، عالمة الفيزياء من جامعة بريتش كولومبيا University of British Columbia (اختصارا: الجامعة UBC) في فانكوفر بكندا، والتي تستعين بها لدراسة التصلب المتعدد Multiple sclerosis (اختصارا: المرض MS). وتقول كوليند: “لا أعتقد أن تفاؤلي مبالغ به إذا قلت إن هذا سيحدث في خلال السنوات الخمس المقبلة”. وبدوره يقول شون ديوني Sean Deoni، وهو عالم فيزياء من جامعة براون إن “أي ماسحة ضوئية في العالم يمكنها أن تفعل ذلك”.
وتستخدم ماسحة التصوير بالرنين المغناطيسي المجالاتِ المغناطيسية والموجات الراديوية لملامسة نوى ذرات الهيدروجين – البروتونات – في جزيئات الماء التي تشكل أكثر من نصف الأنسجة الرخوة. وتتصرف البروتونات بمثابة قطع مغناطيسية صغيرة يجعلها الحقل المغناطيسي القوي للماسحة الضوئية تسير كلها في اتجاه واحد. بعد ذلك توجه نبضةٌ من موجات الراديو البروتوناتَ بعيداً عن المجال المغناطيسي، فتجعلها تدور في مجموعات، مثل مجموعة كبيرة من الجيروسكوبات Gyroscopes. تشع البروتونات حينها من تلقاء نفسها موجات راديوية.
وتتتبع الماسحة الضوئية مواقيت اضمحلال تلك الإشارة، وهو ما يحدث بطريقتين: “تسترخي” البروتونات الدوارة وتتجه مجدداً نحو المجال المغناطيسي؛ أو تتفاعل مع بعضها البعض. وتوصف هاتان العمليتان بزوج من ثوابت الوقت Time constants هما تي1 وتي2 (T1 and T2) يُشبهان أعمار النصف Half-Life في الاضمحلال الإشعاعي. ومن خلال تطبيق تسلسلات Sequences مختلفة من النبضات الراديوية، يقيس الماسح الضوئي الثابتين الزمنيين اللذين يعتمدان على البيئة الكيميائية لجزيئات الماء، ومن ثم على نوع الأنسجة. من خلال تتبع كيفية اختلاف الثابتين في جميع أنحاء الجسم، يرسم الماسح الضوئي خريطة بُنية الأنسجة الرخوة.
ولكن ليس بوسع ماسحة التصوير بالرنين المغناطيسي التقليدية تتبع جزيئات حيوية بعينها؛ لأنها تعالج كل وحدة حجم قياس مليمتر واحد من النسيج كما لو أنه يحتوي على مادة واحدة. وللبحث عن جزيء حيوي مُحدد، يجب على الباحثين افتراض أن كل “فوكسل” Voxel يحتوي على مادتين على الأقل – الجزيء الحيوي المستهدف وكل ما عداه. بعد ذلك يتعين عليهم قياس مجموعتين على الأقل من ثوابت الوقت: زوج واحد للمياه المحيطة بجزيء حيوي محدد، والآخر للمياه في الحيز الأبعد.
وفك تشابك هاتين المجموعتين صعب جدا، إنه يشبه الاستماع إلى النوتة الموسيقية نفسها وفي الوقت نفسه على آلتي زايلفون ومعرفة أي من النوتتين تلاشت بسرعة أكبر. لكن علماء الرياضيات يرون أن المسألة مطروحة بالشكل “الخطأ”، بمعنى أن القليل من التشويش سيتسبب في اختلاف كبير بتقديرات الثوابت الزمنية المتداخلة بشكل كبير، مثلما أوضح ريتشارد سبنسر Richard Spencer، عالم الفيزياء والطبيب في المعهد الوطني للشيخوخة National Institute on Aging (اختصارًا: المعهد NIA) في بالتيمور بولاية مريلاند، خلال الاجتماع.
وفي عام 1994 ركز ألكس ماكاي Alex MacKay، الفيزيائي من جامعة بريتش كولومبيا، على فك قيمتين من الثابت 2T عن بعضهما لإنتاج أول خريطة للدماغ بالرنين المغناطيسي تظهر المايلين Myelin، وهو الجزيء الدهني العازل للألياف العصبية. فقد اضطر في البداية إلى المسح لمدة 25 دقيقة لتصوير شريحة واحدة عبر الدماغ. وفي عام 2006 نشر ديوني بروتوكول نبضات أكثر تعقيداً يستخرج قيمتين لكل من T1 وT2 ويمكنه مسح الدماغ بالكامل في عشرة دقائق. في السنوات الأخيرة طور سبنسر وزميله في المعهد NIA مصطفى بوحرارة Mustapha Bouhrara منهجاً إحصائياً حسَّن من خلاله تقنيتي ماكاي وديوني. عند فك التشابك بين إشارتين في طور الاضمحلال، تنتج من التحليل الإحصائي التقليدي تقديرات دقيقة لثوابت الوقت لكنها مشوشة إلى حد كبير. وهكذا لجأ سبنسر وبوحرارة إلى استخدام ما يعرف بالمنهج البايزي Bayesian approach الذي حصلا من خلاله على توزيع احتمالات كل ثابت وقتي.
وعلى الرغم من أنها أقل دقة، إلا أن توزيعات الاحتمال يمكن إعادة إنتاجها بسهولة بكثير. عن ذلك يقول ديوني: “إنها بلا شك مساهمة هائلة”. يستغرق التحليل ما يصل إلى أربع ساعات من الحوسبة، لكن المردود قد يكون كبيراً جدا. وفي عام 2017، أفاد سبنسر وبوحرارة أنه يمكنهما رسم خريطة لجزيئات تُسمى البروتيوغليكانات Proteoglycans في غضروف الركبة الأمر الذي قد يساعد الأطباء على فك لغز منشأ التهاب المفاصل التنكسي Osteoarthritis الذي يُعد من أكثر أمراض العظام شيوعا. وخلال السنة الماضية ذكرا أن البالغين المصابين بضعف معرفي خفيف ومرض ألزهايمر لديهم كمية أقل من المايلين في أدمغتهم من الأصحاء، وهو ما ينسجم مع أدلة أخرى على أن فقدان المايلين قد يؤدي دوراً في المرض.
وبالمثل، يعرف أطباء الأعصاب منذ فترة طويلة أن مرضى التصلب العصبي المتعدد يعانون تلفًا في نسيج الدماغ تُفقد خلاله مادة المايلين. وباستخدام طريقة المسح الضوئي الجديدة، وجدت كوليند أن بعض مرضى التصلب المتعدد يفقدون المايلين أيضاً في مكان آخر من الدماغ، الأمر الذي يشير إلى أن خسارة هذه المادة تسبق ظهور التلف. يدرس ديوني وزملاؤه المايلين لدى 1200 طفل أصحاء عبر الوقت لمعرفة كيف يتطور مع التقدم في العمر. وتشير البيانات إلى أن عوامل اجتماعية مثل الرفاه المادي قد تؤدي أيضًا إلى اختلافات في عملية تكوُّن المايلين، كما يقول ديوني.
ويقول سبنسر إن فريقه يتطلع إلى الانتقال إلى التطبيقات التشخيصية: “لقد كان أملنا على الدوام هو تحويل هذا إلى أداة إكلينيكية (سريرية) بدلاً من مجرد لعبة تُستخدم لاغراض بحثية”. ولتحقيق هذه الغاية، تعمل كوليند وآخرون في جامعة بريتش كولومبيا الكندية على مسح أدمغة أشخاص أصحاء لوضع خريطة لمادة المايلين الطبيعية بفضلها يمكن التعرف على مسوحات المايلين غير الطبيعية. ولا يزال على الباحثين مقارنة المناهج بالبيانات الإكلينيكية وعينات الأنسجة لأمراض معينة، وهذا قد يستغرق سنوات عدة.
sciencemag.org