أسلحة ومخدّرات وأموال
كيف تمكّن مراهقٌ مهووس بالتقنية، ويتمتع بموهبة في التشفير، من تحويل نفسه إلى رئيس عصابة؟
«العقل المدبر: مخدرات. إمبراطورية. قتل. خيانة».
“The Mastermind: Drugs. Empire. Murder. Betrayal”
المؤلف: إيفان راتليف Evan Ratliff
480 صفحة
منشورات: Random House.
28 دولاراً أمريكيّاً.
المراجعة بقلم: آلان فوير
ترجمة: آية علي
المجرمون من الطراز العالمي، مثلهم في ذلك مثل الكتّاب من الطراز العالمي، مهووسون بالفطرة. وحدهم في غرفهم، ينسجون حبكات لا متناهية، ويدقّقون في تفاصيل مشاريعهم بعناية.
في بدايات كتاب «العقل المدبّر»، وهو تحقيق مهووس لإيفان راتليف في جريمة حقيقية، نجد صورة تستدعي التوقف والتحدّيق للمجرم المهووس الخارج عن القانون الذي صار راتليف مهووساً به: بول لي رو Paul Le Roux، ملك الجريمة الجنوب إفريقي الذي يمنح العمل لقبه. تجري الأحداث في مكان جدير بالتشويق والإثارة؛ شقة بنتهاوس (شقة فوق السطح) في مدينة مانيلا، حيث أسس لي رو منظّمته غير القانونية. لكن عندما يدخل أحد مصادر راتليف إلى الشقة، يجد سيّد الجريمة ذا الكرش في أقل المظاهر توقعاً: مُرتديا بنطالا قصيراً ونعالاً Flip-flops، وجاثماً خلف مكتب في غرفةٍ ممتلئة بالخوادم الرقميّة.
تجسّد الصفحات الـ300 التالية المحمومة، بمعنى ما، محاولة الكاتب الهائجة -التي تعرضه أحيانا للخطر- لفهم هذه اللوحة الحيّة الغريبة، واكتشاف الكيفية التي حوّل بها بول لي رو نفسه، في غضون 30 عامًا، من مراهق مهووس بالتقنية ويتمتع بموهبة في التشفير (التعمية) Encryption إلى شرير عالمي يمتلك كادرا من المرتزقة الذين يحمون مصالحه في كل شيء، من ذهب الكونغو إلى عقار الميث Meth الكوري الشمالي. ورحلة راتليف ليست مجرد أميال يقطعها على الأرض، بل هي رحلة غريبة لا تضاهيها في غرابتها رحلة أخرى. ففي بحثه عن أولئك الذين يعرفون لي رو، يذهب إلى مينيسوتا والفلبين وإسرائيل والبرازيل وفيتنام، ويواجه مجموعة من شخصيات فيلم الإخوة كوين: ناشطاً أمنيّاً كنديّاً أشيب، وصيدلانيّة مُسنة، وشرطيّاً فلبينيّاً مُستهدفاً، وقاتلاً مأجوراً من جنوب إفريقيا، والمخبر ذا الاسم المستعار الذي كان يدير أعمال لي رو في الصومال وساعد السّلطات الأمريكية في وقت لاحق على القبض عليه.
يُعتبر الراوي الذي يُركّز على فريسةٍ مراوغة أداة مبتذلة منذ رواية «موبي ديك» على الأقل، لكن إذا كان هنالك من موضوع يستحق الهوس الاستقصائي؛ فهو بول لي رو. كان الرجل مهتما بأيّ شيء وكلّ شيء: اليخوت ذات السرعة الكبيرة، والمعادن الثمينة، والمتفجرات البلاستيكية، وصيد سمك التونة، والقرصنة، وطائرات بريديتور من دون طيار Predator drones، والكوكايين البيروفي، وعقاقير الهلوسة. «كان يريد أن يكون الملك لدولته، الرجل الكبير. جالساً على مؤخرته السمينة وراء مكتب عملاق في قصره». وذلك وفقاً للمُخبر الذي أوقع به في النهاية.
وفي خضم مطاردته له، وضع راتليف -مثل صبيّ مُعجب بقاتلٍ متسلسل- أوراق ملاحظات لاصقة متعددة الألوان على جدار غرفة نومه، في محاولةٍ منه لفهم الامبراطورية المُترامية الأطراف لبطل روايته. ويكتب عن هذا قائلاً: «أودُّ الادّعاء بأنّ هذه العملية كانت خطّية؛ الصحافي الذي تحول إلى محقق، مُتتبّعاً ببراعة أثر فتات الخبز على الطريق المؤدي إلى مخبأ سري، لكن الحقيقة هي أن الأفراد والقصص جاؤوا إليّ مبعثرين، وكثيراً ما وجدت نفسي أعود باستمرار إلى إعادة تقييم بعض الحقائق التي قيلت لي من قبل».
أحد الأمور المُمتعة بشأن «العقل المدبر» هي الطريقة التي تنتقل بها القصة بسلاسة بين ما هو عادي ومُمل وما هو جنائزي ومُروّع. كان عمل لي رو الأساسي لسنوات، ومصدر ثروته العظيمة، شبكة صيدليات على الإنترنت. وكان العملاء الغافلون يقدّمون طلبياتهم لمسكنات الألم، مثل الترامادول، لدى مراكز اتصال تديرها شركة معروفة بآر إكس ليميتيد RX Limited. وبعدها يعمل الأطبّاء المُرخَّصون، معظمهم في الولايات المتحدة، على تقييم الطلبات -غير مدركين للمكان الذي تذهب إليه المدفوعات- ويرخّصون وصفات طبّية يوزعها الصيادلة من بروكلين إلى ويسكونسن.
وبينما جرى اختلاس بعض الأموال في خضم الأمر للحفاظ على استمرارية هذه العملية غير القانونية (والمشاركين فيها الذين لا يعلم معظمهم شيئاً عن الأمر)، اكتنز لي رو الجزء الأكبر منها لتمويل بقية عملياته غير المشروعة. وأدّت هذه الخدعة المُتمثلة بتحويل الأرباح شبه القانونية إلى مشاريع تجارية غير قانونية بالكامل إلى سقوط سيد الجريمة في النهاية، وذلك مع توغّل المحققين بالبحث في دهاليز عمليته الاحتيالية. كما منح هذا راتليف الثقلَ الفلسفي لقصّته، وهو أنّ الجريمة العنيفة غالباً ما تكون مجاورة للحياة العادية تجاوراً مهولاً وغير معقول، وذلك على حد تعبيره.
ويكتب راتليف: «يمكن لمديري مراكز الاتصال أن يستيقظوا ويجدوا أنفسهم تُجّار أسلحة، ويمكن لأطباء العائلة أن يتحولوا إلى متآمرين في عصابة أدوية عالميّة بنقرة زر واحدة».
هذا «الواقع المُتاخم» Adjacent reality، كما يسمّيه راتليف، هو واقع لي رو، وهو، في «العقل المدبر»، يقف متربصاً خارج تصوّرنا اليومي مباشرة؛ في الزوايا المظلمة للإنترنت التي لا نزورها أبدًا، وفي الموانئ الهادئة التي تنطلق منها السفن في الليل، وفي الغرفة الخلفية للعيادة الموجودة في نهاية الشارع. وهنا ثمة استنتاج، وربّما حتى درس: تحدث الأشياء السيئة عندما تبدأ أطراف هذين العالمين بالتلامس.
انبثق كتاب راتليف من عدة مقالات كتبها لمجلة ذ أتافيست The Atavist الإلكترونية. وبعد ثلاثة أسابيع من نشر كتاب «العقل المدبر»، صدر كتاب آخر بعنوان «مطاردة رو» HUNTING LEROUX للكاتبة إلين شانون Elaine Shannon (منشورات: 27.99، Morrow دولار أمريكي). عملت شانون، وهي صحافية، عن قرب مع إدارة مكافحة المخدرات في الماضي، ومن الواضح أنّها كانت على صلة بالعميلين الرفيعي المستوى اللذين ساعدا على الإطاحة بلي رو. لكنّ مصادر كتابها كانت أقل تنوعا من مصادر كتاب راتليف، كما أنّه ليس مثيراً ومؤرقاً بقدره.
إفصاح سريع: أنا أيضا أصبحت مهووساً بلي رو بعد مطاردته وقصّته الغامضة لصحيفة نيويورك تايمز منذ سنوات. (في «العقل المدبر»، يذكر المؤلف باختصار المقالات التي كتبتُها). وتماما مثل راتليف، أتذكّر الليالي الباهتة والمُتعبة التي قضيتُها أمام محرّك البحث غوغل معتقدا أنّني بلغت ينبوع ماء عندما أصادف اسم لي رو في أوراق تأسيس شركة غامضة في هونغ كونغ أو ملف للأمم المتحدة عن تجارة الأسلحة الصومالية. وأتذكر كذلك الغثيان الذي ألمّ بي عندما انسلّ لي رو مرة أخرى في الظلال، متوارياً عن الأنظار، واستحال الينبوع الذي خِلتُ أنّي بلغته سراباً.
وكل هذا يعني، إلى جانب الانتصارات الأخرى لـ “العقل المدبر”، أن راتليف يستحق بجدارة جائزة العام للصحافة الاستقصائية Dogged Journalism، وذلك لسعيه الدؤوب وراء هدفه حتى النهاية. ودون حرقٍ لأحداث قصته، تأتي النهاية بمنعطفٍ آخر غير متوقع، عندما يظهر لي رو بشحمه ولحمه، بعد سنوات من العيش بعيداً عن الأنظار، في قاعتي محكمتين اتحاديتين مُختلفتين.
تفشل مساعي راتليف فقط عندما يحاول غمر قصته بمواضيع شاملة (لي رو كأول الخارجين عن القانون في العصر الرقمي) أو تأصيلها في الأحداث الجارية (دور لي رو المزعوم في زيادة أزمة الأفيون). وعلى الرغم من كون هذه الأفكار صحيحة على الأرجح، فإنها بدت لي كنوعٍ من توسع غير ضروري مما قد يقترحه مسؤول دار نشر.
والحقيقة هي أن حكاية راتليف فريدة من نوعها وغريبة جدّاً ومقنعة، ويكاد يكون من الأفضل تركها تطفو بمفردها في سحابة «الواقع المُتاخم» الخاص بها. وهذا بالطبع هو مكان وجودها الفعلي؛ على مقربة من العالم الذي نعرفه، لكن مع تجاوزها له بقليل: هناك، بمفردها، في حالة من الانجراف المتلألئ.