أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
Advertisement
فيزياء نظريةميكانيكا الكم

قطط شرودنغر: تجربة فكرية جديدة تحطم نظرية الكم

يمكن لتحريف على تجربة قطة شرودنغر الفكرية الشهيرة أن يقوض فيزياء الكم – أو يوفر طريقا لفهم أعمق لكيفية عمل العالم.

بقلم: ريتشارد ويب
ترجمة: أ.د. محمد قيصرون ميرزا

مطلوب: حيّاً و ميتاً! عندما يتعلق الأمر بقطة شرودنغر، فإن شعبية رسومها على قمصان التي شيرت القطنية تحكي عن نفسها بنفسها. فهذه القطة الزومبي (الحية الميتة) تبهر العالم الواسع وهي في حالة معلقة غامضة. غير أنها بالنسبة إلى فيزيائيي الكم أكثر من معذب ينشب مخالبه في إيمانهم بالنظرية الثمينة ويسعل كرات الشَّعْر على ادعائها بأنها تدل على الطريق الواضح حول عمل الواقع.

انصرفي أيتها القطة، فقطة شرودنغر حصلت على ترقية للتو. وإذا كانت تعتقد أن القطة الأصلية كانت غريبة، فليس لذلك علاقة بالجديدة. إذ بدلاً من وضع قطة في حالة غير محددة من الموت والحياة، فإن سيناريوهاً جديداً منتشراً يتضمن إجراء حيلة مماثلة من قلة أشخاص هم أنفسهم يجرون تجربة ويشاهدونها في الوقت نفسه، على غرار تجربة قطة شرودنغر.

وسبب ذلك هو أنه إذا كانت نظرية الكمّ صالحة عالميّاً وقادرة على تفسير الواقع، فيجب أن تصف الأفراد الذين يستخدمون نظرية الكم. لكن تبين أنها تجربة فكرية في أفضل صور الخداع الكمي. غير أنها تنفجر معطية إجابة لا معنى لها تقوض، عندما تؤخذ على علاّتها، آخر معاقلنا الهشة حول طبيعة الواقع الكمي.
هذا محتمل. لكن يبدو أنه لا يوجد يقين مطلق عندما يتعلق الأمر بنظرية الكم. وبينما يواصل بعض الفيزيائيين مناقشة المغزى الحقيقي للنتيجة، يرى آخرون فيها فرصةً ودليلاً إلى حيث يمكن أن تكمن نظرية أقوى عن عمل العالم الأساس.

فمنذ أن بدأت تتبلور قواعدها الرياضياتية في عشرينات القرن الماضي، صارت نظرية الكم تحدياً لإحساسنا بالتواضع. ففي عالم حيث يمكننا رؤية الأشياء والإحساس بها، فإن للأجسام خواصَّ صلدة يمكن وصفها بنظريات فيزيائية «تقليدية» راسخة منذ وقت طويل. وللقطة في هذا العالم موقع ثنائي على مقياس الحيّ – الميت. ولها وزن ولون فروة وطول شارب وموقع في الفضاء محددة جميعاً بدقة. ويمكنك قياس هذه الأشياء في أي وقت تشاء من دون أن تتوقع أي غموض أو تغير فجائي (ما عدا الموقع: فإن القطط تتحرك أحياناً بطرق غامضة). باختصار، الواقع التقليدي هو ما نسميه حقيقة.

لن تعاني كثيرا لفهم هذا لو لم يكن عالم الكم مختلفاً اختلافاً كبيراً؛. لأن نظرية الكم تميز عمل الأشياء التي تتألف منها القطط ونحن وكلّ شيء بدقة لا نظير لها، ولم تتعارض توقعاتها مع التجربة بتاتا بيد أنها ترسم صورة مختلفة كليّاً لما يقع تحت ذلك. فليس لجسم يلتزم بقواعد الكمّ واقع يمكن تحديده بالتمام. وتكون خواصه مُرمّزة في جسم رياضياتي يدعى دالة موجية Wave function تقول جوهريّاً: إذا قمت بإجراء قياس؛ فإليك ما يمكن أن تجد.

ما يمكن أن تجد – وليس ما ستجد. ففي كل مرة تقيس جسماً كميّاً؛ فإنك تؤدي إلى «انهيار» Collapse دالته الموجية لتجمع كلّ مميزاته المحتملة المُرمّزة في الرياضيات إلى زخم أو موقع معين، على سبيل المثال. ولكنْ لو قست جسماً آخر موجوداً في شروط مماثلة تماما فمن المحتمل أن تجد قيماً مغايرة لتلك الميزات. فقطْ من خلال تكرار قياسات مماثلة يمكنك تطوير شعور تدريجي للواقع الكلي للجسيم، وفق الاحتمالات المرمّزة للدالة الموجية.

ومن ثم إليك السؤال التالي: ماذا كان هذا الكائن الكميّ يفعل قبل أن تقيسه؟ هل له كلّ هذه الخواص في الوقت نفسه؟ أم ليس له أيٌّ؟ وماذا حصل عندما قسته، مجبراً إياه على تبني مظهر محدد؟
تقع هذه الألغاز في لبّ ما يحتمل أن يكون الغموض الأساس في العِلم، أي مشكلة القياس الكمي. يقول الفيزيائي النظري لوسين هاردي Lucien Hardy من معهد بريمتر Perimeter Institute في مدينة واترلو بكندا: «تسمى مسألة القياس أحياناً مشكلة الواقع Reality problem، وهناك نوع من عدم التوافق بين فهمنا للطريقة التي يوجد فيها العالم والصورة التي يقدمها لنا التفسير الساذج لحالة الكم.»

اسكت واحسب
إن كلمة «تفسير» مهمة لأنه من هذه اللحظة وما يليها فإنّ هذا كلّ ما لدينا: أفكار أو توقعات حول مايجب أن يجري. وأقلها تبعات هو ما يطلق عليه تفسير كوبنهاغن Copenhagen interpretation الذي ابتكر في المدينة الدنماركية من قبل نجوم فيزياء الكم البارزين في أواخر عشرينات القرن الماضي. والاسم الأقل مهابة له هو أسلوب «اسكتْ واحسبْ»؛ لأنه يقول جوهريّاً إن نظرية الكمّ ليست وصفاً للواقع الفيزيائي بذاته، بل مجرد إطار عملي يسمح لنا بأن نضع تنبؤات حوله يشبه إلى حدّ ما واجهة المستخدم للتواصل بين الحاسوب والإنسان. فبتزويده بالبيانات الصحيحة؛ فإنه يتوقع نتائج القياسات – لكن هذا هو كل شيء. وما يفعله الواقع قبل هذه القياسات هو بكل بساطة ليس بسؤال يجب على نظرية الكمّ أن تجيب عنه.

«لا يمكن تحديد واقع الأشياء الكميّة قبل أن يتم قياسها.»

وهاردي نفسه ليس من مشجعي ذلك التفسير، إذ يقول: «إن هذا التفسير يجعل سرد قصة منسجمة أمراً صعباً». كما أنه لا يشفي غليل الخبير نيكولاس غيزن Nicolas Gisin، من جامعة جنيف University of Geneva في سويسرا، بعد عمله التجريبي الرائد مستغلاً غرابة الكمّ في تطبيقات العالَم الحقيقي مثل التشفير (التعمية) Cryptography، الذي يقول: «إن الفيزيائي العملي يعرف ما هو القياس ليس عليه أن يهتم كثيراً. ولكن إذا كنت تريد حقا أن تفهم الفيزياء على أنها تقدم رؤية للعالَم، فلا يمكنك قبول أن تقول فجأة: تجاهلْ كلّ شئ فالقياس ليس أكثر من ظاهرة سحرية تعلو فوق الكمّ بشكل ما وتغير كلّ شئ».

تعود هذه الاعتراضات إلى زمن بعيد. فقد تساءل آينشتاين مستنكرا عما إذا كان تفسير كوبنهاغن المضاد للواقع يعني أن القمر يختفي من الوجود إذا كنا لا ننظر إليه. غير أن أروين شرودنغر Erwin Schrodinger في عام 1935 هو الذي أعطى هذه الاعتراضات شعبية واسعة، حتى صارت اعتراضاته شعارات على قمصان التي شيرت القطنية، وذلك بمثاله العنيف -لكن لحسن الحظ الافتراضي- ضد حيوان أليف.

وكان القصد من سيناريو شرودنغر أنْ يوضح الغرابة الواضحة في التفسير. إذ يضع قطة بلحمها ودمها في صندوق مع عبوة سامة يمكن كسرها مُرسِلاً القطة إلى بارئها بواسطة آلية تعتمد على ما إذا كانت ذرَّة مُشعَّة ستتحلل أم لا. فبحسب تفسير كوبنهاغن، فإن واقع «نعم» أو «لا» لهذا التحلل ليس معروفاً قبل أن تقيسه. آه، إذا هذا هو واقع القطة. فهي في حالة تراكب كمّيّ Quantum superposition بكونها حية وميتة في الوقت نفسه.

وهذه نتيجة طبيعية عند ربط العالمين التقليدي والكميّ معاً. ولا توجد نظرية تُملي الحدود بينهما، كما أنه من الصعب رؤية أين يمكن أن يوجد شيء كهذا علما بأنّ كلّ واحد من هذين العالمين يُستمد من الآخر. وتميل حالات التراكب الكمية إلى أن تكون في غاية الدقة، وهذا أحد الأسباب الذي يمنعنا من وضع أي شيء كبير وذي أطراف، كالقطة، فيها، إلا أننا نسعى إلى ذلك. فقد وضعتْ تجارب واقعية أجساما أكبر فأكبر، وصولاً إلى شريط معدني صغير مرئي بالعين المجردة، في حالات تراكب كمية.

لا يعني هذا أنك سترى بعينك المجردة حالات التراكب هذه مباشرة، لأن النظر إلى شيء يعتبر قياساً له. يقول الفيزيائي النظري ريناتو رينر Renato Renner من المعهد السويسري الفيدرالي للتكنولوجيا Swiss Federal Institute of Technology في زيورخ: «حالما تنظر إلى القطة، فإنها ستكون إما حية أو ميتة، كما يتعين ذلك».

وأدى تحسين تجربة شرودنغر الفكرية إلى زيادة الغموض. ففي ستينات القرن الماضي وضع الفيزيائي والرياضياتي يوجين ويغنر Eugene Wigner نفسه في الصورة كمراقب إضافي ويقف خارج باب المختبر عندما يجري صديقه تجربة القطة. فقبل أن يفتح ويغنر الباب وينظر في داخل المختبر تكون منظومة القطة – الصديق بالنسبة إليه في حالة تراكب كميّ مِنْ صديق/قطة سعيدة و صديق/قطة تعيسة على فرض أن صديق ويغنر يحب القطط طبعاً.

ويصح هذا أيضاً حتى لو أنّ صديق ويغنر كان قد فتح الصندوق منذ وقت بعيد واطّلع على الحالة التي توجد عليها القطة، ومن ثم تحددت حالتهما النفسية والعاطفية. ولزيادة مشكلات القياس الأصلي؛ فإن الواقع الكمي الآن يرتبط بالمراقب أيضاً. ويمكن لأشخاص مختلفين التوصل إلى تفسيرات مختلفة للواقع في أي لحظة من الزمن من دون وجود طريقة لمعرفة أي منهم على صواب.

«حتى الآن، أيّ تفسير تؤمن به لنظرية الكمّ لم يكن أكثر من ذلك – إيمان».

ولتلافي الإحراج، فقد اقترح ويغنر أنّ أول رصد واعٍ يؤدي إلى انهيار الدالة الموجية دائماً. غير أنّ هذا يثير بالتأكيد أسئلة أخرى. ويقول غيزن: «ما المراقب؟ افترضْ أنني واحد، ولعلّ قطة شرودنغر أو بعوضة هي مراقب آخر. إنه غير دقيق بتاتاً».

وعلى مرّ السنين ظهرت مجموعة من التفسيرات المتنافسة لإعطاء شرح يضع حدّاً للمشكلات (انظر: أربع طرق لسلخ قطة شرودنغر). يفضل غيزن فئة تعرف بالانهيار الموضوعي Objective collapse. وكان رينر دائماً عضواً في مجموعة «العوالِم المتعددة» Many-worlds Interpretation. بيد أنه نتيجة عدم وجود وسيلة لسبرها تجريبيّاً، ظل موضوع أيّ منها تختار لتؤمن به ليس أكثر من ذلك – إيمانا.

لم يكن هذا تفسيراً كافياً لرينر. لذا سعى لكسر الجمود بتجربة فكرية أكثر دقة تفتّق عنها ذهنه مع زميلته دانييلا فروشيغرDaniella Frauchiger للمرة الأولى عام 2016. ولا تشمل تركيبة واحدة من نوع صديق ويغنر بل اثنتين. في البداية تنتظر «أليس» في الخارج في حين يجري صديقها تجربة كمّيّة كرمي قطعة نقود في الهواء باستخدام تقنية كمّيّة تُقيَّم نتائجها، لأغراض الرياضيات اللاحقة، بنسبة 3/2 لنتيجة أولى و 3/1 للأخرى. وبشكل موازٍ يركز «بوب »نظره على مختبر آخر، حيث تجري صديقته تجربة على غرار قطة شرودنغر (انظر: الحصول على قطط).

نصف صندوق مفتوح
التغير الأساس هو أنّ مختبري صديقي «أليس» و«بوب» – ومعهما صديقي «أليس» و«بوب» أنفسهما- هو نوع من تراكب كمّيّ، حيث تتحدد فيه احتمالات القياس الخاصة بصديقة «بوب» على الطريقة المنحازة التي يقلب بها صديق أليس قطعة نقود. وهذا يعني أنه عندما تجري «أليس» و«بوب» قياسا معينا على مختبر صديقهما المعني، فبإمكان كلّ واحد منهما معرفة ما سيحصل في تجربة الآخر بالتأكيد، بل الحصول أيضاً على إشارة عما يجب أن يكون قد جرى في تجربة الصديق الآخر، ويقول رينر: «إنها مزيج بين عدم فتح الصندوقين كليّاً ولكن مع مقارنة بما في داخلهما».

ويُجري الأربعة بإجراء قياساتهم واحداً تلو الآخر. وعند تحليل النتائج تضع التجربة الفكرية ثلاث فرضيات أساسية حول المعرفة. أولاً، مثل نظرية المعرفة، تنطبق نظرية الكمّ في هذه الحالة على كلّ شيء في جميع الأوقات. ثانيا، تكون للقياسات نتائج متسقة دائماً قد يتفق عليها الجميع. ثالثا، لا يسمح بحقائق بديلة: فإذا قاس أحدهم شيئا فلا يمكنك أن تُقسم بالمطلق إنّ العكس قد حصل.

ومثل هذه الفرضيات تساعدنا كثيرا على مسائل معلومات مخفية مماثلة في العالم التقليدي (انظر: مسألة الجبين الموحل). لكن تبين أنها تولّد في عالم الكم طريقاً مسدوداً. فقد وُجِد من خلال المعالجة الرياضياتية أنه بينما يصل كلّ المراقبين إلى حالة معرفة متسقة في معظم الحالات، فإنّ أليس وبوب يريان واقعين مختلفين بمعدل مرة واحدة من كل 12 محاولة عندما يفتحان باب المختبرين.

تتجاوز مفارقة فروشيغر – رينر مستوى عالياً من الغرابة يفوق ما سبقها من التجارب الفكرية للقطة. فسابقاً كانت هناك قطة ميتة – وحية لم يكن بإمكانك أن تراها؛ مما يفسح المجال للشك فيما إذا كانت قد وجدتْ بالأصل. أما في هذه التجربة؛ فإن كل القياسات تُجرى وكأنّ القطة الميتة – الحية لا تزال أمامك. ولا يوجد حقيقة واحدة منفردة يمكن لكلّ المعنيين في التجربة الاتفاق عليها. ويقول رينر: «إن حلول المفارقات القديمة لقطة شرودنغر وصديق ويغنر لا تنطبق على هذه الحالة». وقد كُتِب هذا الاستنتاج بالخطّ العريض في عنوان ورقة البحث التي نشرها فروشيغر ورينر عام 2018 بعد العديد من التعديلات: «لا يمكن لميكانيكا الكم أن تصف باستمرار طرق الاستخدام نفسها».

لا يمكن حتى الآن إجراء التجربة الفكرية، إذ ما زلنا بعيدين عن امتلاك المهارة التقنية لربط تجارب الكم بالشكل الذي تتطلبه. كما أنها ليست بعيدة المنال. فقد أُجريت تجربة فكرية تتعلق بذلك بالفعل، ولو أنها لم تكن ملهمة تماماً، وبرزت توقعات الحقائق البديلة. ويعتقد رينر أنه عندما تصير حواسيب الكم عملية بشكل صحيح؛ فسيكون بإمكانك استخدامها كمراقبين وسترى الكيفية التي يتحقق بها مخططه حقّاً.

في الوقت الحالي، إن الإدعاء أنه لا يمكن لنظرية الكم أن تقرر أي وجه للواقع ستوافقه تجربة كهذه هو اتهام مبالغ فيه. فلو كانت النظرية هي الطريقة الصحيحة لتفسير الأعمال الأساسية للواقع، لوجب أن تكون لها صلاحية عالمية. ويجب أن تكون قادرة على وصف نظام معقد يشمل أشخاصا، يستخدمونها، بالطريقة ذاتها التي يمكن بها استخدام الفيزياء التقليدية لوصف الأشخاص الذين يجرون قياسات تقليدية بمسطرة وساعة توقيت، على سبيل المثال. لكنها لن تستطيع ذلك، على ما يبدو.

ومنذ أن برزت هذه المفارقة، كان هناك نقاشٌ مستمرٌ حول أهميتها. فيعتقد البعض أن النتائج غير صحيحة أبداً وأن هناك افتراضاً خاطئاً أو غير واضح للعيان يؤدي إلى عدم صحة التجربة الفكرية.

لا يعتبر سكوت آرونسونScott Aaronson ، عالم الحوسبة النظرية من جامعة تكساس University of Texas بأوستن، نفسه من ذلك المعسكر. فهو يعتقد أنّ التجربة الفكرية تمثل سيناريوهاً ذكيّاً جديداً، بيد أنه يرفض الفرضية القائلة إن ميانيكا الكم بحاجة إلى أن تصف نفسها، ويقول: «لقد عرفنا منذ وقت طويل أنّ ميكانيكا الكم لم تعد صالحة في السيناريوهات الافتراضية، حيث يَجري التلاعب بنا نحن أنفسنا عندما نحاول التوصل إلى التوقعات الكمية الميكانيكية. بالتأكيد، لاتصلح النظرية عندما يكون المراقبون أنفسهم في حالة تراكب، بيد أننا لسنا كذلك، فلماذا نعير ذلك أي اهتمام؟»
لا يوافق هاردي على هذا ويقول: «إنها نظرية مهمة وتذهب إلى أبعد مما ناقشناه سابقا، إنّ المعضلة هي تقويض الطبيعة المطلقة للحقيقة – هذه هي المشكلة هنا».ومن بين من يوافقون على أن المفارقة تشكل تحدياً جديداً، هناك من يعتقد أن الحلّ يكمن في إرخاء قيود أحد الافتراضات الثلاثة حول طبيعة المعرفة التي تستند إليها. وبمثل هذا الثمن، سيكون بإمكان أيٍّ من تفسيرات نظرية الكم أو أن يوفرّ مخرجا.
«هذه المرة، يبدو الأمر كما لو أنّ القطة الميتة – الحية تقف أمامك – لا توجد حقيقة واحدة».

خذ مثلا تفسير رينر المفضل للعوالم المتعددة؛ الذي يتجاهل جزئية عدم جواز الحقائق البديلة – فهي مسموح بها، لكن في كون آخر. واعتقد رينر في بداية الأمر أنّ هذا سينجح، ولكن المزيد من الفحص بيّن أنه لا يوجد فرع للكون بعد القياس، حيث تكون إجابات جميع المراقبين الأربعة متسقة. ويقول: «قبل هذه التجربة الفكرية، كنت مُقتنعاً نسبيّاً بأنّ جميع التفسيرات لها معنى، الآن لا أعتقد أنّ أيّاً منها ذو معنى».

الحقيقة البديلة
أما غيزن فيرى أنّ الفرضية الأولى حول نظرية واحدة متسقة للمعرفة هي فرضية خاطئة، وأن هذا يدعم تفسيره المُفضَّل حيث يكون انهيار الدالة الموجية ميزة موضوعية للكون. فبعد الانهيار لا تعود قواعد نظرية الكم مطبقة ويُحل التناقض.

ويدّعي آخرون اداعاءات مماثلة دعماً لأساليبهم المفضلة. فالتراخي في الفرضية الثانية، مثلا، قد يسمح بنهج الكم البايزاني Bayesianism حيث يصير كل الشك وفقاً للشخص المراقب، ويقول رينر: «لعلّ ما يبرهن على أنها أمر ليس له حل واضح هو أنّ الأفراد لا يتفقون على ما سيكون هذا الحل».

لكن هذا قد يؤدي إلى ضياع الفرصة. فقد عرفنا مسبقاً أن نظرية الكم لا تتوافق بتاتاً مع النسبية العامة، وهي نظرية آينشتاين في الجاذبية، التي تنطبق على الأجسام الكبيرة جدّاً. ففي معظم الأحيان لا تجتمع النظريتان، لكن عند المواضع التي يكون فيها ذلك – عند أفق الحدث، على سبيل المثال، أو أولى لحظات الانفجار الكبير – تبرز مفارقات غير قابلة للحل.

تميل الفرضيات التي تحاول سد الفجوة بين النظريتين إلى العمل على افتراض أن النسبية العامة خاطئة؛ لأنّ بإمكان نظرية الكم أن تفسر كلّ القوى الأخرى الأساسية في الطبيعة. قد يكون لدينا الآن منظور آخر، ويقول رينر: «تقترح هذه التجربة أن ميكانيكا الكم بذاتها تقع في مشكلات عندما تعالج منظومات كبيرة، حتى من دون التطرق إلى النسبية».

يوافق هاردي على أنّ المزيد من التوضيح يكمن في البحث عن طرق لتوحيد نظرية الكم مع النسبية – وأنّ اكتشاف أن نظرية الكم تصدر بيانات متناقضة بالتأكيد لمراقبين مختلفين في ظروف معينة، يوفر نقطة انطلاق قيمة جدّاً.

فهو يرى أن الحالة مشابهة لتلك عندما حلّت النسبية العامة محلّ نظرية نيوتن السابقة للجاذبية. فعلى غرار نظرية الكم، كانت جاذبية نيوتن هيكلاً عملياً جيداً – تضع أرقاما فتعطيك الإجابات الصحيحة. غير أنها لم توفر أي صورة فيزيائية عن الكيفية التي تعمل بها الجاذبية فعلياً. لكن فحص الحالات القليلة التي أخطأت فيها نظرية نيوتن هو الذي دفع آينشتاين إلى صورته الفيزيائية الأغنى عن الكيفية التي يوّلّد بها تشوهُ الزمكان الجاذبيةَ، ويقول هاردي: «لم يأتِ حلّ المشكلة من أيّ طريقة تفكير موجودة بل من شيء مختلف كليّاً».

واقتراح هاردي عن المكان الذي يجب البحث فيه عن نظرية أقوى ينبع من استعارة أفكار من النسبية: أفكار حول إطارات مرجعية مختلفة وكيفية ترابطها معاً، ويقول: «يبدو أن من المحتمل أن هذا هو الهيكل الرياضياتي الصحيح لوصف الوسيلة للانتقال بين هذه العوالم التقليدية». لكن ما قد تبدو عليه هذه النظرية لا يزال موضوع عمل ضخم جار على قدم وساق. ويتوقع هاردي أنه إذا تطلبت النظرية فيزياء جديدة لم تكتشف سابقاً فقد تؤول في النهاية إلى ما يشبه نموذج الانهيار الموضوعي، من النوع الذي يفضله غيزن، حيث يكون للجاذبية دور ما في آلية الانهيار ويقول: «بيد أنني لا أعرف طبعاً».

وينهمك رينر وزملاؤه في العمل لإقناع المشككين عن طريق برمجة حاسوب تقليدي لمحاكاة حواسيب كمّيّة تتصرف كمراقبين، حتى يبرهنوا على أقلّ تقدير أن منطق التجربة الفكرية منطق سليم، ويقول: «لا أتوقع أي مفاجأة؛ لأن المُحاكي Simulator سيظهر فقط وجود تناقض». فإذا كان الأمر كذلك؛ فإن قطة شرودنغر ستكون ضمن سرب الحَمَام.

أربع طرق لسلخ قطة شرودنغر
تهدف العديد من التفسيرات المختلفة المتنافسة لنظرية الكم إلى تجنب المشكلة التي أثارتها تجربة قطة شرودنغر الفكرية: وهي قياس واع ينتج منه واقع أكيد. إليك نخبة منها.
نموذج العوالم المتعددة Many-worlds interpretation يقول إنّ الدالات الموجية الاحتمالية الممثلة للأجسام الكمّيّة مثل الجسيمات أو الذرات هي الشيء الحقيقي – وليست مجرد تركيبات رياضياتية بل صميم الواقع. فعندما تجري قياساً، فإنك لا تتسبب في انهيار احتمالات متعددة إلى واقع وحيد، لكن بكلّ بساطة تنتهي إلى عالم يأتي ضمن هذه النتيجة المرمَّزة فيها. بينما تستمر النواتج الأخرى في عوالم موازية، سويّاً مع نسخ منك أجرت قياسها – مثل قصة اخترْ مغامرتك، حيث لا يتاح لك أن تختار مغامرتك.

في نظرية الانهيار الموضوعي Objective-collapse theory يكون انهيار الدالة الموجية إما شيئا يحدث طبيعيّاً في كلّ الأوقات، أو شيئا يختاره أشخاص من خلال التلاعب بأشياء وقياسها، على الرغم من أن الآلية الفيزيائية الدقيقة غير معروفة. وهذا يحل مشكلة أن يولّد المراقبون واقعاً إلا أنه لا يخبرك بالكيفية التي يبدو بها الواقع قبل الانهيار – وما زلت بحاجة إلى تفسير نوع الفيزياء التي تؤدي إلى الانهيار.

ميكانيكا البوميانية Bohmian Mechanics تُعيد اليقين والتحديد في عالم الكم بالتأكيد على فيزياء جديدة – وتعطي إشارة إلى ما يمكن أن يبدو عليه. ففي طبقات مخفية من الواقع ترتبط «الموجات المُوجِّهة» Pilot waves بالجسيمات الكمّيّة وتتحكم في مصائرها، ويصير تفاعلنا معها هو الذي يحدد طبيعة القياس. ولكن ما هذه الموجات؟

ميكانيكا البايزانية Quantum Bayesianism تفسر الشك في الدالة الموجية بشكل مغاير تماماً. فالواقع ليس بغير مؤكد، لكن وجودك أنت هو غير المؤكَّد. ففي العالم التقليدي هناك الكثير من الأشياء التي لا يمكنك معرفتها إلا بالنظر إليها. مثلاً ما إذا كانت السماء تمطر قبل أن ترفع الستائر. فقبل ذلك يمكن أن تضع احتمالات ما إذا كانت تمطر من خبرتك السابقة، إلى أن ينهار الشك إلى يقين عند المشاهدة. أما في عالم الكم؛ فإنك لا تولّد حقيقة بقياسها بالمقدار نفسه من أنك لا تجعل السماء تمطر بمجرد فتحك للستائر، بل تُحدّث حالة اليقين الخاصة بك فقط. وبمعنى آخر لا تزعجْ نفسك بالقلق حول الواقع – فهو في كل الأحوال ما تتخيله في ذهنك.

مشكلة الجبين الموحل
في العالم، كما نختبره، هناك كل السيناريوهات التي يتم فيها إخفاء المعلومات عنا، بيد أن الفرضيات الأساسية حول المعرفة وبعض التعليل المنطقي تسمح لنا عموماً بالتغلب عليها.
فلو اعتبرت أحجية قديمة حول طفلين كانا يلعبان في الوحل. ويخبرهما أب مُتسلط أنّ هناك طيناً على جبين واحد منهما على الأقل، ويسألهما مراراً إذا كانا على ثقة مما إذا كان هناك طين على جبينهما. بالطبع لا يستطيع أيّ منهما أن يرى جبينه، لذا كمْ مرة يجب على هذا الأب أن يسألهما ليجيبا بـ «نعم» على افتراض أنهما ذكيّان ومتجاوبان ولديهما فهم سليم للمنطق؟ فإذا كنت لا تريد معرفة النتيجة فأَشحْ بنظرك بعيداً الآن. هناك احتمالان ممكنان. الأول إذا كان هناك طين على جبين أحد الطفلين فقط فيرى هو أنه لا يوجد طين على جبين الآخر من أول مرة يطرح فيها السؤال ويستطيع الإجابة «نعم». وبعد سماعه «نعم» يعرف الطفل الثاني في المرة الثانية أنه يجب ألا يكون هناك طين على جبينهما، لذا يمكن أن يقول «نعم».
لكن إذا كان كلا الطفلين موحلين، لا يمكن عندئذ لأيّ منهما الإجابة بـ «نعم» في المرة الأولى التي يطرح فيها السؤال: إن رؤية الطين على جبين الطفل الآخر لا يستبعد احتمال كونهما موحلين أيضاً، لكن في المرة الثانية فإنّ حقيقة أنّ أيّاً منهما لم يقل «نعم» أول مرة تخبرهما أن هناك طيناً على جبين كلّ واحد، لذا كلاهما يجيب بـ«نعم»
وفي كلتا الحالتين، فإنّ الحصول على صورة متسقة يتطلب جولتين من الأسئلة للجميع. ويمكنك أن تعيد التمرين مع أي عدد من الأطفال، وعليك دائماً أن تعيد طرح الأسئلة بعدد الأطفال المعنيين. غير أنّ الرقم ليس مهمّاً جدا، والنقطة الحقيقية هي أن الحصول على استنتاج متسق في العالم التقليدي ممكن دائما.

ريتشارد ويب: مدير تحرير تنفيذي في نيوساينتيست New Scientist.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى