“الأفق” Horizon
المؤلف باري لوبيز Barry Lopez
572 صفحة.
منشورات: Alfred A. Knopf.
30 دولارا أمريكيا.
في منتصف ثمانينات القرن العشرين، عندما نشر باري لوبيز Barry Lopez كتابه الذي لاقى استحسانا كبيرا وصُنّف من أكثر الكتب مبيعا “أحلام القطب الشمالي” Arctic Dreams، كانت الأخطار المُحدقة بالنظم الإيكولوجية والحيوانات والشعوب التي تقطن أقصى شمال الكرة الأرضية ناشئة عن الطبيعة؛ الصعوبات الأساسية للحياة في بيئة طبيعية وعِرة. كانت هناك علامات تشير إلى أنّ تغييرا وشيكا سيحدث، لكن نهاية العالَم لم تكن تنسلّ وراء الأفق كشمس القطب الشمالي المُشرقة. ثم ازدهر التنقيب عن النفط والتعدين، مما أدى إلى تفجّر الطُّرُق والآلات الثقيلة. وشعرت المجتمعات المحلية بتأثير هذا “الغزو الوقح”. وشعر لوبيز بالقلق إزاء مستقبل المنطقة، لكنه خلص إلى أنه “من خلال التصرف باحترام تجاه كل ما تحويه الأرض، فقد نتصوّر جهلًا خانِقًا يبتعد بعيدًا عنا”.
وبالنظر إلى الوراء عبر العقود الماضية، يرغب المرء في توبيخ العالَم وإخباره أنّ عليه فعل الأمور على نحوٍ مُختلف: توقّفوا عن تفكيك النُّظُم الإيكولوجية، وتوقّفوا عن حرق الوقود الأحفوري، وابدأوا بالتعاون قبل أن ينهار كلّ شيء. وحاليا، وبينما نراقب التأثيرات المتتالية للتنمية الصناعية وتغير المناخ وهما يغيّران من وجه المنطقة القطبية الشمالية وأجزاء أخرى كثيرة من العالم، أصبح من الممكن على نحوٍ متزايد تخيُّل “الجهل الخانق” ليس كذاكرةٍ بعيدة، بل كنقشٍ على شواهد قبورنا.
وبوجود أزمةٍ بيئيّة ووجودية حقيقية ماثلةٍ أمامنا، يُعيدنا لوبيز إلى القطب الشمالي، وإلى أماكن أخرى بعيدة كتلك التي أمضى في عدد منها مددا زمنية مختلفة على مرّ السنين، مُفتّشا في كلٍّ من الذاكرة والملاحظات الميدانية المُسجَّلة بدقة، سعيا منه إلى إعادة بناء تجاربه والتنقيب في حكمتها المتراكمة والتماس بوارق الأمل. يتكشّف كتاب“الأفق” على مدى أربعة عقود، وعبر عدّة آلافٍ من الأميال، وفي ستة مواقع رئيسية: ساحل أوريغون Oregon coast، وأرخبيل القطب الشمالي الكندي Canadian Arctic، وجزر غالاباغوس Galápagos، وكينيا، وأستراليا، والقارة القطبية الجنوبية Antarctic. يعدّ الكتاب سيرة ذاتية، لكن ليست سيرته، إلا بقدر ما أصبحت حياة لوبيز الاستكشافية تُعرّفه. إنه رده على سؤاله الخاص: “بعد أن رأيتُ أجزاء كثيرة من العالَم، ماذا تعلّمتُ عن تهديد الإنسان، وانتصار الإنسان، وفشل الإنسان؟”
تملأ الإجابة 500 صفحة تبدو مجتمعة كنداءٍ حالمٍ وعاجل. إنّ “الأفق” جميلٌ ووحشيّ، ومبهجٌ وقاتم، وقصة للحالة الإنسانية العالمية في بعض أكثر الأماكن تميّزا على وجه الأرض” ويتابع لوبيز قائلا: “العتمةُ نحن، والضوءُ، كذلك، نحن”.
ومع بلوغ لوبيز عقد السبعينات من عمره، ومواجهته فناءه الشخصي (تحدّث علانية عن تأقلمه مع سرطان البروستاتا المتقدّم)، يساوره قلقٌ أكبر إزاء العالَم الذي يخلّفه وراءه. لكنّه يرى كذلك إمكانيّةً أبديّة في القوّة الموجودة في سرد القصص، عن العالم وعن أنفسنا. ومع “الأفق”، رسم لوبيز “الخيوط المتينة” لرحلاته الخاصة “في وقتٍ من تاريخنا الثقافي والبيولوجي أصبح فيه خيار فقدان الثقة في معنى حياتنا خيارا جذابا. في وقت لا يستطيع الكثيرون أن يروا في الأفق ما هو أكثر من إيحاءات بمستقبلٍ قاتم”.
يرفض لوبيز تقديم تواريخ محددة للرحلات التي يُسجّلها، باستثناء إدراجه لمعظم رحلات الكتاب في الفترة من أواخر ثمانينات القرن العشرين وعبر أوائل القرن الحادي والعشرين تقريبا. لقد حدثت منذ وقت طويل، بما يكفي ليجعلنا نشعر بغرابةٍ مُبهمة: لم تكن هناك هواتف محمولة، فقط أول أجهزة نظام تحديد المواقع GPS وما أحاط بها من إثارة.
مٌخيِّمًا في منطقةٍ أُزيلت أشجارها، تقع أعلى منطقة رأس فاول ويذر Cape Foul-weather في أوريغون، في فترةٍ ما في منتصف تسعينات القرن العشرين، يتأمل لوبيز حياة جيمس كوك James Cook، المستكشف البريطاني من القرن الثامن عشر الذي مكّننا نجاحه في سد الثّغرات في خرائط العالم من “تصور الكوكب بأسره، كُلّية، في آنٍ واحد”. ولع لوبيز بكوك (وغيره من المستكشفين الذين يملؤون صفحات الكتاب) كان حافزه عبر السنين لاتباع بعض طرق كوك البحرية وزيارة الأماكن نفسها التي ترجل فيها من سفينته وجال فيها. غالبا ما يُفاجأ لوبيز بالاختلافات بين ما وصفه كوك وبين الأوضاع الحالية. فعلى رأس فاول ويذر، وجد منحدراتٍ عارية، ولاحظ تلاشي التنوع البيولوجي، وغياب شعب ألسيا Alsea الأصلي، ووجود عدد كبير من النباتات الغازية Invasive plants؛ ناهيك عن منظر برج الهاتف المحمول وهو يبرز من قمة الجبل.
لكن لوبيز يحذر أيضًا من تبنّي مفاهيم سهلة حول النقاء الإيكولوجي أو الثقافي. دائما ما تكون النُّظم الإيكولوجية في حالة تغيّرٍ مستمر، ويحمل الازدراء الشامل للأنواع الغازية نزعةً غير مريحة من المشاعر المُعادية للمهاجرين. من أقوى الرسائل التي يقدمها لوبيز في “الأفق” هي أنه من دون تعلم احتضان التنوع، ومن دون الاستماع إلى الحكايات التي ترويها الثقافات الأخرى المغايرة لثقافتنا، فإننا نواجه خطر الطمس والإزالة. وبدلا من التباكي ببساطة على “الطبيعة المهجورة” في رأس فولويذر، يحاول لوبيز استخدامها كنقطة انطلاق لتصوّر ما قد يحدث بعد ذلك.
لكن أينما ذهب لوبيز فإنّه لا يبتعد البتّة عن طرح استنتاجات بشأن طُرُق الإنسان العديمة الرحمة. ناهضًا من فِراشه ذات ليلة في الحرارة المداريّة لجزيرة سانتا كروز Isla Santa Cruz في جزر غالاباغوس، يمشي بمفرده (وهي عادة مُتكررة أثمرت بعض أفضل الأجزاء في الكتاب) نحو الشاطئ، ويشاهد مجموعة من البجع البني Brown pelicans النائم عند الخليج. مدى كون الطيور -“الغافلة الآن عن كل ما هو خفيّ ويمثل على الأرجح تهديدا في هذا العالم المظلم الذي نتشاركه”- عرضة للخطر يقود حبل أفكاره إلى الغزاة الإسبان الذين أطلقوا الكلاب الوحشية الشرسة على الهنود، ومن هناك إلى المصرفيين الأوروبيّين الذين تعهّدوا بتمويل تجارة العبيد في غرب إفريقيا وتأمينها، وإلى أهوال بوكو حرام Boko Haram في الوقت الحاضر. في نهاية المطاف، يدعو الكتاب بأجمعه إلى التفكّر في جذور الهمجيّة، وكيف أنّنا نتجاهل الهمجيّة التي تتكشّف في مجتمعنا، مُعرِّضين بذلك أنفسنا للخطر.
العجيب في الأمر أن هذه التذكيرات الحثيثة والمستمرة بالأفعال الشنيعة لا تقلّل من جاذبية رؤية العالَم من خلال عيني لوبيز. إنّ تبجيله لاستكشاف كلِّ ركنٍ من أركان العالم، حتى لأكثر المواقع التي تحمل تاريخا مخزيا، هو تبجيل مُعدٍ. نادرًا ما يرفض لوبيز عرضا لخوض مغامرة، بغض النظر عن مدى المشقة التي ستكون عليها الرحلة. إنّ السفر، كما يكتب، “يوجّه العقل نحو (ضرورة) أخذ السياق بعين الاعتبار، ويُحرّره من ديكتاتورية الحقائق المطلقة بشأن الإنسانية. إنّه يساعد المرء على استيعاب أن جميع الناس لا يريدون أن يسيروا على الطريق نفسه”.
غالبًا ما تبدأ رحلات لوبيز بطرقٍ تجعلك تهزّ رأسك. (تبدأ أكثر من بضع رحلات بجملة عادية مثل: “في خريف عام 1987 كنت أسافر عبر ناميبيا مع عدد قليل من الأشخاص”. كما تعلمون، مثلما يفعل المرء). وفي إحدى الليالي، قرأ ورقةً علمية في المجلة العلمية نيتشر Nature عن اكتشاف بعض بلورات الزركون التي يبلغ عمرها 4.27 بليون عام في غرب أستراليا النائي. أرسل حينها على الفور رسائل إلكترونية للباحثين يطلب فيها زيارة الموقع الميداني – لأنه صادف أنه سيتجه إلى بيرث Perth قريبًا “في طريقه من زيمبابوي إلى الإقليم الشمالي”.
في البداية، تجاهل العلماء طلبه. لكنّه ألحّ في الطلب، وبعد عدّة سنوات، كان في طريقه أخيرا إلى مرتفعات جاك هيلز Jack Hills. يطير من الولايات المتحدة إلى سيدني، ثم يذهب بالقطار إلى بيرث، مُقنِعا المهندسين بالسّماح له بركوب قاطرة القيادة. وفي أحد الأيام، وأثناء عبور صحراء نولاربور Nullarbor Plain الشاسعة، “اصطدم القطار فجأة بجدارٍ مائيّ”، عاصفة مُمطرة غزيرة. وعندما صفا الطقسُ، ظهر قوسُ قزحٍ مزدوج. بعد ذلك، وصل حشدٌ من حيوانات الكنغر، عددهم يفوق المئة، تتقافز عبر السهول. “كان منظرا مُنعشا ومُمتعًا جدا لدرجة أنّ ثلاثتنا في العربة أومأنا لبعضنا بعضا في نوع من التأكيد. أيّا كان ذلك الأمر البرّي والشاعري في العالم السرمدي، فقد كنّا جزءا منه الآن”.
يتابع لوبيز طريقه بسيارة دفع رباعيّ مستأجرة حتي يصل إلى موقعٍ لتربية الأغنام، حيث حجز أحد العلماء الجيولوجيين مسكنا له على بعد 120 ميلا من أقرب مدينة “على طريقٍ تُرابيّ خالٍ من العلامات”. وعند وصوله، كان المزارع وابنته يخبزان “فطيرة لحمٍ في الفرن، وأراد أن يعرف ما إذا كنتُ أرغب في شاي بالحليبٍ”. وفي يوم من الأيام، وبينما كان متجها إلى الموقع الجيولوجي، قدّم إليه المزارع بندقية، وسأله عمّا إذا كان يمانع اصطياد أي حيوان ماعزٍ بريّ يصادفه. رفض لوبيز عرضه. لكن أثناء الدردشات المسائية على الشرفة، تشكّلت رابطة صداقةٍ بين الرجلين، وفي النهاية زار المزارع لوبيز في منزله بأوريغون. يتردّد صدى هذه البراعة في تكوين الصداقات في أقل الأماكن ترجيحا لفترةٍ طويلة بعد أن تقلبَ الصفحة الأخيرة، حيث يكتب: “هل نحن غير ملزمين بتعلّم كيفية الحديث مع بعضنا بعضا؟”
لو أنّنا أتقنّا هذه المهارة قبل نحو 30 عاما، هل كنا سنصير إلى ما نحن عليه اليوم، حيث نتصارع مع رهاب كره الأجانب Xenophobia، في حين تحترق الغابات، ويرتفع منسوب المحيطات وتتحمّض، وتتلاشى الكائنات الرائعة في كل مكان؟ كيف سيصبح حالنا بعد ثلاثة عقود، إذا لم نأخذ حذرنا؟ ما يزال أمامنا وقت لتشكيل ما سيأتي، على الرغم من كون الوقت الذي بين أيدينا ليس بقدر ذلك الذي كان متاحا ذات يوم.