اكتشاف أصول اللغة في الموسيقى والمحاكاة والتقليد
بقلم: ديفيد روبسون David Robson
ترجمة: د. عبدالرحمن سوالمه
في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت … ماذا؟ على الأقل منذ العصور القديمة، لطالما حاولنا فهم أصل اللغة. فهي في النهاية إحدى السمات القليلة التي تُميّز البشر عن الحيوانات. حتى من بين مئات الرئيسيات الأخرى، لا يمتلك أي نوع منها نظام تواصل يقترب من نظام التواصل البشري في مرونته وفي مدى التعبير اللامتناهي من خلاله. ومن دون اللغة، فإن أعظم إنجازاتنا- التي تتضمن تقريبًا كل شيء تراه حولك- كانت ستصبح مستحيلة الحدوث.
وللأسف، فإن هذا الفصل من قصتنا كُتِب بالحبر السري؛ لأنّ بإمكان السجل الأركيولوجي فقط تقديم أدلة استنتاجية على اللغة، إلى أن نصل إلى الفترة التي بدأت فيها الكتابة قبل بضعة آلاف سنة. وقد حدا هذا بالبعض إلى أن يجادل في أن البحث عن أصل اللغة أمر لا طائل منه. وفي عام 1866 حظرت جمعية اللسانيات في باريس Paris Linguistics Society مناقشة الموضوع، وهو نوع من التعصب استمر بين العلماء نحو مئة عام.
ومن حسن الحظ أن عزيمة الباحثين النظريين في مجال التطور لا تُثنى بهذه السهولة. في العمل الذي يجمع نتائج من الأركيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والعلوم المعرفية Cognitive science، وعلم اللغة Linguistics ، بدأنا أخيرًا نقترب من معرفة مكان وزمن اكتشافنا لصوتنا. والفكرة الآخذة في البزوغ قد تحل لغزين اثنين من الألغاز المستعصية في التطور البشري.
دعنا في البداية نتحدث عن الزمن. نظرًا إلى ندرة الأدلة القاطعة، فقد ادعى بعض الباحثين أن اللغة بدأت سريعًا قبل نحو 40 ألف سنة عندما حدثت زيادة هائلة في رسوم الكهوف والثقافات الرمزية، وهو ما يشير إلى وجود التفكير المجرد، وهو الأمر الذي تحتاج إليه اللغة. لكن هذا التفسير لم يكن مقنعًا بشكل كامل. فعند تلك النقطة من الزمن كان البشر قد هاجروا مسبقًا وانتشروا في جماعات منفصلة، ومن ثم يجب أن يكون هناك تحول معرفي حدث بشكل متزامن في كل المجموعات البشرية عبر الكوكب. ومن المؤكد أنّ الأدلة المتراكمة حول تطور التراكيب التشريحية الأساسية التي تعطينا القدرة على الكلام لا تترك إلاّ مجالا صغيرا للشك في أن للغة جذورا أعمق بكثير.
على سبيل المثال، تمتلك بعض القردة العليا أكياسًا هوائية Air sacs في الحلق. وهذه الأكياس تساعدها على الصياح صيحات عالية لتخويف المنافسين، لكنها تُثبّط إصدار الأصوات المميزة لحروف العلة المهمة جدًا للكلام البشري، وفقا للمحاكاة الحاسوبية الصوتية Acoustic simulation التي أجراها بارت دي بوير Bart de Boer من الجامعة الحرة Free University of Brussels في بروكسل ببلجيكا. كان لدى أسلافنا الأقدم مثل هذه الأكياس، لكنها لم تكن موجودة في هومو هايدلبيرغينسيس Homo heidelbergensis– وهو السلف المشترك للنياندرتال Neanderthals والبشر الحديثين- الذي تطور قبل نحو 700 ألف سنة.
كما توجد عند كل من النياندرتال والإنسان الحديث Modern humans أعداد كبيرة من المسارات العصبية Nerve pathways من الدماغ، عبر العمود الفقري، إلى الحجاب الحاجز والعضلات الموجودة بين الضلوع. وتضمن هذه الأعصاب تحكمًا دقيقًا في التنفس الضروري من أجل النطق الدقيق للأصوات. وكذلك في كلا النوعين البشريين هناك تغيرات مميزة في جزء من الأذن الداخلية، مما يعطيها حساسية أكثر للترددات الصوتية التي يتميز بها الصوت البشري، وهو تكيف ضروري يسمح للتغيرات البسيطة في الألفاظ بأن تحمل معاني مختلفة.
وهناك أيضًا الجين FOXP الذي يؤثر في الاتصال العصبي في الدماغ وفي المرونة في مناطق التحكم بالكلام. وهذا الجين منتشر في الثدييات، لكننا نحمل نسخة منه تمكننا من التحكم تحكما دقيقا في تحريك عضلات الوجه والفم، وهو ما نحتاج إليه من أجل إنشاء كلام مترابط. ويشترك النياندرتال في نسخة قريبة جدًا من هذا الجين، مما يشير إلى أن النياندرتال كذلك كانوا قادرين على النطق المعقد.
وبوجود هذه النتائج مجتمعة، صار دي بوير وغيره مقتنعين بأن هناك نوعًا ما من النطق نشأ قبل نحو400 ألف سنة، عندما انفصل البشر والنياندرتال. وأن النطق ربما بدأ قبلها بمئات الآلاف من السنين، كما يجادلون في أنه حين بدأ أسلافنا بإظهار السلوك التعاوني الأكثر تطورًا – ربما قبل مليوني سنة أو أكثر من الوقت الذي تدل فيه الأدوات الحجرية على أن البشر كانوا يصطادون. وتنشأ اللغة والكلام عن خليط معقد من التأثيرات الجسدية والاجتماعية والثقافية التي تطورت شيئًا فشيئًا، كما يقول دان ديدو Dan Dediu من جامعة ليون University of Lyon في فرنسا. ويوافقه ستيفن ليفنسون Stephen Levinson من معهد ماكس بلانك لعلم اللسانيات النفسية Max Planck Institute for Psycholinguistics في هولندا، إذ يقول: “[ومن ثم] فمن الطبيعي أن نجد درجات من اللغة والكلام تعود أصولها إلى هومو إيركتوس (الإنسان المنتصب) Homo erectus. وتشير قدرات هومو إيركتوس في الصيد وصنع الأدوات إلى وجود نوع من نظام تواصلٍ متقدم”.
الغناء ولغة الإشارة
من الصعب معرفة السبب الذي دفعنا نحو ذلك الطريق التطوري، إذ تقع معظم الأفكار في واحدة من ثلاث مدارس.
وضع تشارلز داروين Charles Darwin المدرسة الأولى – وكانت الأكثر استفزازًا. جادل داروين في كتابه أصل الإنسان The Descent of Man في أن أسلاف البشر مروا بفترة كانوا يستخدمون فيها نوعا من اللغة الموسيقية البدائية. ولم تكن لهذه الأصوات، مثل غناء الطيور، معانٍ محددة، بل كان الذكور يستخدمونها لجذب الإناث. وبهذه الطريقة، نشأت مرونتنا الصوتية أولًا عن طريق الانتخاب (الانتقاء) الجنسي Sexual selection، حيث كان الذكور المتنافسون يطورون أغاني أكثر تعقيدًا ليهزموا منافسيهم. وبعدها، عندما نما الذكاء البشري، صارت هذه الأصوات ترتبط شيئًا فشيئًا بمعان معينة.
“هناك نوع ما من النطق نشأ قبل نحو 400 ألف سنة، وربما قبل ذلك بكثير”
وأشار داورين إلى أن هناك مجموعة أخرى من الرئيسيات، وهي الغيبونات Gibbons، تغني من أجل اجتذاب الأقران. ويوفر العلم الحديث بعض التلميحات إلى وجود علاقة وثيقة بين اللغة والموسيقى عند البشر. وعلى سبيل المثال، تشير المسوح الدماغية إلى أن كلا الأمرين يعالجان في شبكات عصبية بينها أجزاء مشتركة. ولكن الأدلة على أن اللغة والموسيقى نشأتا عن طريق الانتخاب الجنسي هي أدلة ضعيفة، لأننا نتوقع أن نرى فروقا كبيرة بين الجنسين في هاتين القدرتين نتيجة لذلك. ولكنّ هناك احتمالات أخرى. ربما لم يكن الدافع هو تباهي الذكور، بل هو عمل مشترك بين الأقران، أو هو غناء الوالدين لتهدئة أطفالهم.
ومع ذلك، فإن العديد من الباحثين غير مقتنعين بهذه الآراء، وبدلًا من ذلك يقترح البعض وجود لغة إشارات بدائية، بحيث بدأ التواصل الأولي الشبيه باللغة عن طريق تحريك اليدين. وتبدو هذه الفكرة جذابة لعدة أسباب؛ فهي قد تفسر سبب كون البشر، كل البشر وحتى فاقدو البصر منهم، يحركون أيديهم عندما يتكلمون، وغالبًا لا يشعرون بأنهم يحركون أيديهم. وبالمثل، فإن النشوء التلقائي للغات الإشارة عند الأشخاص المصابين بعجز في السمع أو النطق يشير إلى وجود غريزة لأن نستخدم أيدينا عندما تفشل أصواتنا في إيصال ما نريد.
ليفنسون أحد المعجبين بهذه النظرية، قائلًا إن هومو إيركتوس، على الرغم من أنه لا يزال يفتقر إلى التغيرات التشريحية الموجودة في الأنواع المتأخرة، ربما استخدم الإشارات لتنسيق نشاطات الصيد. ومن المفاجِئ أن الرئيسيات يمكنها أن تتقن استخدام اليدين، بل إن بعضها، الموجود في الأسر، أمكن تدريبه على التواصل باستخدام إشارات معقدة، لكنها كانت تستصعب تعلم إنتاج أصوات محددة. ومن ثم فإن الإشارات ربما كانت طريقة أسهل بكثير لتبادل الأفكار في بدايات تطور اللغة. وهذا ما جهز أدمغتنا لبعض تحديات اللغة، من مثل القدرة على ربط الرموز بالمعاني، من دون اقتضاء الكثير من صناديقنا الصوتية البدائية.
وعلى الرغم من أن هذه الحجج مقنعة، فإن لغة الإشارة البدائية لا يمكنها أن تجيد تفسير سبب تحولنا إلى استخدام اللغة الصوتية كطريقة أساسية للتواصل. وينقلنا هذا السؤال إلى الفكرة الثالثة. ولعل هذه الفكرة القائلة إن اللغة بدأت أولًا عن طريق المحاكاة الصوتية Onomatopoeia، أي تقليد أصوات الأشياء، هي أكثر احتمالٍ بديهي من بين الاحتمالات الثلاثة. فحتى الأطفال يمكنهم تقليد Mimic الصهيل أو العواء للتعبير عن حصان أو ذئب. لكن من الناحية التاريخية، لطالما كان هذا الخيار الخاسر، وذلك بفضل مسألتين يبدو أنه لا يمكن تجاوزهما.
الأولى، أنها تحتاج إلى مهارة التقليد الصوتي، لكن لم تكن لدى أسلافنا الأوائل التكيفات التشريحية ولا العصبية التي يحتاجون إليها من أجل التحكم في اللفظ. لكن، بدأنا الآن بمعرفة أن الرئيسيات تمتلك تحكمًا في التنفس والمرونة الصوتية أكبر مما كان متصورًا. على سبيل المثال، بعض قردة إنسان الغاب (الأورانغ أوتان) يمكنها تعلم الصفير، ويمكنها إنتاج أصوات بطبقة صوتية معينة، وهو ما يشير إلى أن أسلافنا الأوائل ربما كانوا قادرين على التقليد غير المتقن من دون الحاجة إلى تغييرات تشريحية كبيرة.
أصوات ذات معنى
والاعتراض الثاني هو أن المحاكاة الصوتية محدودة لدرجة لا يمكن معها تكوين أسس اللغة البدائية Protolanguage منها. فأين كان لأسلافنا أن يُشيروا إلى مفاهيم صامتة، مثل الإشارة إلى نوع محدد من النباتات أو الأدوات، أو شيء أكثر تجريدًا مثل وصف الاتجاهات نحو النهر؟ ما هو الصوت الذي يجب أن يستخدموه من أجل التعبير عن حيوان هادئ مثل الأرنب؟ أما الإشارة باليد، على النقيض من ذلك، يمكنها أن تحدد الشكل الخارجي لشيء ما أو طريقة حركته، وهي حجة أخرى لدعم فكرة مفادها أن الإشارة أتت قبل النطق.
لكن الأبحاث الحديثة تظهر أن للتقليد جوانب أكثر مما قد نعتقد. أجرى غاري لوبيان Gary Lupyan من جامعة ويسكونسن-ماديسون University of Wisconsin-Madison وماركوس بيرلمان Marcus Perlman من جامعة بيرمنغهام University of Birmingham في المملكة المتحدة منافسة طُلب فيها إلى المشاركين أن يعبروا عن مجموعة من المفاهيم، مثل “اطبخ”، أو”اجمع”، أو”سكين”، أو”فاكهة”، باستخدام أصوات مبتكرة. وبعدها شغل العلماء التسجيلات الصوتية لمجموعة أخرى من المشاركين، الذين كان عليهم أن يخمنوا المعنى. وبخلاف التوقعات، تجاوز أداء المشاركين بكثير احتمال أن تكون الإجابات صحيحة مصادفة، مما يشير إلى أن هناك محاكاة صوتية خلاقة (مثل صوت “وووش” إشارة إلى نصل السكين) ويمكنها أن تعبر عن مجموعة من المفاهيم أكبر بكثير مما كنا نتصور.
بوجود الكثير من الإيجابيات والسلبيات لكل فرضية من فرضيات اللغة البدائية. قد يبدو الأمر أننا لم نقترب من الإجابة مثلنا في ذلك مثل جمعية اللسانيات بباريس في عام 1866. ولكن ماذا لو كانت كل واحدة من هذه الأفكار فيها بعض من الصحة؟ ففي النهاية، من بين السبعة آلاف لغة المتحدث بها الآن، وهذا يشمل بعض لغات السكان الأصليين Aboriginal لأستراليا ولغة جزيرة الباما Paamese في فانواتو، هناك لغات تستخدم بشكل متبادل عناصر من الغناء، والإشارة باليد، والأصوات المُقلَّدة، والكلمات. ويقول ديدو: “أستطيع أن أخمن أنه لا شك في أن اللغات كانت دائمًا تستخدم طرقًا متعددة في التعبير بشكل أو بآخر”. ومن ثم ، بدلًا من إعطاء تفسيرات تتنافس حول أيها أصح، ربما يمكن لهذه الأفكار الثلاث أن تعمل معا لتعطينا نظرية موحدة عن أصل اللغة. وهذا بالتحديد ما يقترحه عالم الأنثروبولوجيا جيروم لويس Jerome Lewis من يونيفرسيتي كوليدج لندن University College London.
ومثل داروين، يعتقد لويس أن الغناء كان الخطوة الأولى في توفير حبالنا الصوتية للكلام. لكن، بدلًا من الانتقاء الجنسي، يقترح أن اللغة نشأت من أجل الحماية. وهذه الفكرة مستوحاة من عمله مع مجتمعات الباياكا Bayaka في إفريقيا الوسطى، حيث يتناوب الأشخاص على الغناء طوال الليل من أجل إبعاد الحيوانات المفترسة. وتتشابك أصواتهم، ويغنون في طبقات صوتية مختلفة، وهو ما يجعل صوت المجموعة أكبر، وربما أكثر إنذارًا بالخطر بالنسبة إلى الحيوانات في الغابة المحيطة بهم. ويقول إن هناك سلوكًا مشابهًا عند شعب السان San في إفريقيا الجنوبية والمجتمعات الهندية التي تعيش في الغابات.
“تحل هذه النظرية الموحدة للغة لغزين من أكبر الألغاز في التطور البشري”
ويقترح لويس أن الغناء صار مستخدما للدفاع. ويقول: “توفر الأشجار بيئة آمنة جدًا لتجنب الحيوانات المفترسة الكبيرة”. ويضيف إننا عندما بدأنا بالمشي منتصبين وصرنا نعيش في مساحات مشابهة للسافانا، كنا عرضة لجماعة مخيفة من القطط الكبيرة المفترسة.
كانت الأغاني الأولى مختلفة تمامًا عن الموسيقى المحسنة التي نغني بها اليوم، ولكن الغناء في مجموعات كان يخيف الحيوانات ويبعدها ويساعد على حماية المجموعات المعرضة للخطر. “وهذه الطريقة المتمثلة في إطلاق الأصوات وتغيير النغمات من أجل إخفاء أعداد المُغنين قادت إلى نوع من المهارة الصوتية المهمة لتطوير الحنجرة وتعابير النطق الأكثر تعقيدًا”، كما يقول.
وأتاح هذا بدوره إتقان مهارة التقليد، وربما ساعد ذلك على الصيد. غالبًا ما يقلد الصيادون-الجامعون Hunter-gatherers الحديثون أصوات حيوانات الغابة من أجل جذب الفريسة، كما يقول لويس. كما أنهم يلجؤون إلى إصدار أصوات مثل أصوات الطيور لمعرفة مكان أعضاء مجموعة أخرى في الغابة وتنسيق تحركاتهم. كما أعطى توظيف التقليد في الصيد لأسلافنا ميزة تطورية مباشرة، ووضع الأساس لفكرة مفادها أن الصوت المسموع قد يمثل شيئًا ذا معنى. ويمكن للأفراد وقتها أن يستخدموا هذه الأصوات نفسها خلال رواية القصص والأداء التمثيلي الذي يشتمل على التقليد، ربما لتعليم المبتدئين كيفية الصيد. ويقول لويس: “تؤدي إعادة التمثيل دورًا مهمًا في نقل المعرفة التي تحتاج إليها من أجل الصيد الجماعي”.
وهذا، بحسب ما يرى لويس، كان نقطة التحول. وبمجرد ظهور التواصل بالإشارات، يمكن للأصوات والإشارات أن تصير أكثر تنظيمًا واتباعًا لنمط معين، وهو ما يقود في النهاية إلى إنشاء مجموعة مفردات متفق عليها بين المتكلمين، تشبه اللغة الحديثة.
وهناك أدلة كثيرة تدعم هذا التطور الأخير. وفي العديد من التجارب المختبرية، طُلِبَ إلى المشاركين استخدام إشارات وإطلاق أصوات مبتكرة من أجل إيصال أفكار إلى مجموعات متتالية من الأفراد. وكلما نُقِلت هذه الإشارات والأصوات من فرد إلى آخر، تصير أكثر تنظيمًا، وهي عملية تزيد من كفاءة اللغة وتُسهِّل على المتكلمين الجدد أن يتعلموها. وبالمثل، ففي المجتمعات التي لا يتعلم فيها ضعاف السمع والنطق لغة الإشارة، فإن لغة الإشارة التي ينشؤونها بأنفسهم تفتقر في البداية إلى التركيبات النحوية النظامية. ولكن، بعد جيلين، تنشأ قواعد أكثر نظامية.
تمرين الترابط
استقبل الباحثون الآخرون فكرة لويس استقبالا حسنًا. ويقول بيرلمان: “أظن أن اللغة الموسيقية البدائية، التي تلتها الإشارات والأصوات ذات الدلالة، هي نظرية مقنعة”.
كما رحب روبن دونبار Robin Dunbar من جامعة أكسفورد University of Oxford بفكرة أن الموسيقى ساعدت اللغة على التطور، ويقول: “التحكم في التنفس من أجل إنشاء الإشارات ضروري لإنتاج اللغة. وأتت اللغة متأخرة بعد الغناء الخالي من الكلمات، وربما كانت متأخرة كثيرًا عنه”. كما أنه يدعم مقترح لويس في أن هذه الأغاني الأولى ساعدت أسلافنا على تجنب الحيوانات المفترسة -لكن مع تغيير طفيف. إذ يشير إلى أن الغناء الجماعي يحفز إنتاج الإندورفيناتEndorphins ، وهي هرمونات تحفز الترابط الاجتماعي. ومن ثم كانت تسمح لأسلافنا بأن يعيشوا في جماعات أكبر، وهو ما منحهم القوة العددية. ويقول دونبار: “تطور الغناء من أجل ربط الجماعات لأن الجماعات المرتبطة تُبقي الحيوانات المفترسة بعيدًا عنها”.
ويوافق لويس بدوره على أن ترابط الجماعات كان وظيفة مهمة لهذه اللفظيات الموسيقية الأولية. وبحسب وجهة نظره، ساعد ذلك أيضًا على خلق الثقة المشتركة الضرورية لنشوء اللغة. ويقول لويس: “فجأة تحس بمعنًى لـ’نحن’”؛ فالكلمات في النهاية ستكون عديمة النفع ما لم يستخدمها البشر بشكل أمين وتعاوني من أجل المصالح المشتركة للمجموعة.
إذا كانت هذه النظرية الموحدة صحيحة فإنها تحل لغزين من أكبر ألغاز التطور البشري: أصل اللغة والغناء. كما ستكون برهانًا جديدًا على عبقرية داروين. ومع أنه جادل في أن الكلام بدأ عن طريق اللغة الموسيقية البدائية Musical protolanguage، فإنه أيضًا وصف الكيفية التي ربما ساعدت فيها الإشارات والمحاكاة الصوتية على إعطاء تفوهاتنا البدائية معاني معينة.
ربما لا تتأحفر الكلمات، لكن بعد مئات آلاف السنين بعد نشوء اللغة، ربما نحن جاهزون لكتابة قصتها.
© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.