الأمريكيون الأوائل: القصة غير المروية عن روّاد العالم الجديد
كانت القارتان الأمريكيتان الشمالية والجنوبية آخر قارتين اكتشفهما البشر. وحاليا نُدرك أن من استوطنوا هناك كانوا جماعة قويةً تمكّنت أولاً من البقاء على قيد الحياة في حوض المحيط المتجمّد
بقلم: كولن بيريس
ترجمة: محمد قبازرد
قبل نحو15 ألف سنة، وقفت مجموعة قليلة من الرّواد المستكشفين على مُستهل عالمٍ جديدٍ. كانت رحلة ملحمية على وشك البدء، إلى جنوب الأمريكتين اللتين تبلغ مساحتهما 40 مليون متر مربّع من الأراضي البكر؛ بما في ذلك سهول البراري Prairies العشبية الشاسعة، والغابات المطيرة الكثيفة، وسلاسل الجبال المرتفعة، فقط لأنّ مغامرة مدهشة كانت قد انتهت للتو.
قبل توغُّل هذه المجموعة الأمريكية الرائدة جنوباً، كان أجدادهم قد أمضوا آلاف السنين بحثاً عن الرزق في المناطق النائية جنوبَ الحوض الشمالي المتجمّد. وبمجرد وصولهم شَمالاً انخفضت درجات الحرارة وبات المناخ أكثر برودة.
وفي مواجهة ظروف آخذة في التفاقم سوءا، صمدت هذه المجموعة الرائدة الأصلية، مُمضِيةً آلاف السنين بمعزِلٍ عن سائر البشرية. وحاليا، بدأت الأضواء تُسلط على مصيرهم، ومن الواضح أن أمرا استثنائيا حصل أثناء تلك السنين المنسية. ومن سيغزون الأمريكتين في نهاية المطاف طوّروا بعض التكيُّفات غير المعتادة للبقاء، وتبيّن أن هذا الإرث الجيني ساعد على تعقّب أحفادهم اليوم.
لا نعلم على وجه الدقة متى وصل البشر إلى العالم الجديد لأول مرة، غير أنّ ما نتفق عليه هو أن الأمريكيين الأوائل وصلوا قبل مدة قصيرة نسبيا، أي قبل 15 ألف سنة. وعلى نطاق واسع يسود الاعتقاد أنهم جاؤوا عبر منطقة بيرينغيا Beringia- وهي المنطقة المتوسطة على مضيق بيرينغ Bering Strait الممتدة بين سيبيريا وألاسكا، والتي كانت أرضاً جافةً في ذاك الوقت.
ويشير هذا ضمنيا إلى أن قصة الأمريكيين الأوائل بدأت من ملحمة شبه قطبية. فبينما كانت أوروبا وآسيا موطناً لهومينين Hominins لمليوني سنة تقريبا، يبدو أن لا أحد من المستوطنين الأوائل – بمن فيهم هومو إريكتوس Homo erectus -بشقّيه المعروفَين بـالنياندرتال Neanderthals والدينوسوفان Denisovans قد انتشر جغرافياً لأبعد من حدود 55 درجة شمالاً، تقريباً إلى أبعد مما هو إيرلندا وكازاخستان حاليا. يقول بين بوتر Ben Potter من جامعة ألاسكا University of Alaska في فيربانكس: “هناك أسباب كثيرة تدعو إلى عدم فعل ذلك”. فالطقس ليس بارداً فحسب بل لا توجد هناك حيوانات كثيرة عند خطوط العرض المرتفعة هذه مما يجعل الصيد أمراً صعباً.
واستناداً إلى الأدلة الحالية فإنّ الإنسان الحديث، وليس أسلافه الأوائل المنقرضين، كان أول مَن دخل الأجزاء الشمالية من أوراسيا. يطرح جون هوفيكير John Hoffecker من جامعة كولورادو University of Colorado في بولدر فرضيةً مفادها أنّ الابتكارات المهمة هي التي مهدت لفتح المنطقة شبه القطبية هذه. وكانت الملابس المُحاكة على الأرجح ضروريةً للتأقلّم مع الأوضاع المناخية الأبرد. كما قدمت الفخاخ حلاً لصيد الطرائد قليلة الانتشار. والفخاخ التي يستعملها سكان القطب الحاليون هي فخاخ صيد آلية تعمل على مدار 24 ساعة في اليوم، فتساعد الأفراد على استغلال مقاطعاتهم التي تمتد إلى آلاف الكيلومترات المربعة.
” ربما عُزل هؤلاء البشر عن سائر البشرية لــ 15 ألف سنة”
هناك علاماتٌ مُختَلَفٌ حولَها عن النشاط البشري في شمال أوراسيا قبل نحو 45 ألف سنة، غير أنّ السجل الآركيولوجي يبدأ فعلياً قبل نحو 32 ألف سنة عند حوض القطب المتجمد الشمالي. ووجد علماء الآركيولوجيا مئات الصخور وبقايا عظام وإبر حياكة على ضفّتي نهر يانا Yana river في سيبيريا عند الحد الغربي لبيرينغيا. وقد اصطاد الناس قُرب نهر يانا حيوانات الرنّة والخرتيت الصوفي والطيور. كما اصطيدت الأرانب ربما لجلودها، إذا كان بالإمكان الاستعانة بالشعوب القطبية الحديثة كمثال.
لم تكن الحياة في بيرينغيا قاسية باستمرار، إذ كان للمستوطنين على ضفافَ نهر يانا وقت لبعض الجهود الفنية: فقد أثمر الوقت المتاح عشرات من مشغولات الخرز المنحوت من العاج والعظام. ووجد علماء الآركيولوجيا أيضاً شرائط مزينة بالعاج يبدو أنها استخدمت لربط الشعر، كما وجدوا أطباقاً عاجيةً مسطحةً ربما استُخدِمت لأغراضٍ طقوسية.
كانت هناك بقايا بشرية أيضاً في الموقع نفسه -وهي شظيتا أسنان بشرية- وقد علمنا هذه السنة (2019) أن كلتيهما احتوت على مادة وراثية DNA قديمة محفوظة. وتعود الأسنان إلى طفلين كانا من أقارب الأمريكيين الأصليين المستوطنين حديثاً وإن لم يكونا سلفين مباشرين لهم. غير أنّ الاكتشاف الفارق كان يتعلّق بحجم هذا المجموعة الاجتماعية البشرية. كان أحد الطفلين متمايزا وراثياً عن الآخر لدرجة أنه من الممكن أنّ يكون عدد سكان نهر يانا قد فاق 500 نسمة.
“إنه اكتشاف مدهش”، كما يقول هوفيكير. فالموقع الجغرافي لنهر يانا كان بعيداً عن النشاط البشري في المراكز الجنوبية في العصر الحجري Stone Age المتأخر، ومن ثم نتوقع أن يكون التجمع السكاني صغيرا ويتزاوج مع بعضه فقط. ويقول هوفيكير: “لكن من الواضح أنه كان تجمعا صحيا وقويا”. وهذا يطرح فرضيةَ وجود هجرة إلى داخل بيرينغيا وخارجها، مما يحافظ على تنوعهم الجيني. لكن مع أن هذه المجموعة ربما كانت مزدهرة، فإنّه ليس هناك دليل على نُزوحها أبعد باتجاه الشرق على الرغم من اتصال سيبيريا بالأمريكتين حينها بأرضٍ جافةٍ.
ولقد ظلوا هناك لأجيال عدة. بعدها، بدأت الأرض -قبل نحو 30 ألف سنة – تدخل طوراً بارداً جدا، عُرفَ بالذروة الجليدية الأخيرة Last Glacial Maximum. فقد غطت الثلوج قارة أمريكا الشمالية وتجمّدت وانقطعت الطريق الواصلة بين بيرينغيا والعالم الجديد. ولم تبدأ الظروف المناخية بالتحسن ولم تُفتح الطريق من جديد إلاّ بعد مرور 15 ألف سنة. وهكذا عُزِلت منطقة نهر يانا مع بداية تلك الحِقبة الزمنية.
لكن، يبدو أن مجموعات بشرية أخرى بقيت في بيرينغيا. فقد اكتشف علماء الجينات قبل عقد من الزمن، بمن فيهم ريبان مالهي Ripan Malhi من جامعة إيلينوي University of Illinois، اختلافاتٍ جينيةً مهمةً بين الأمريكيين الأصليين المستوطنين في الإقليم وبين الشرق آسيويين، وهي اختلافات ظهرت قبل آلاف السنين قبل دخول البشر الأمريكتين. اقترح علماء الجينات حلّاً مفاده أنّ أسلاف الأمريكيين الأصليين ربما عاشوا في بيرينغيا وصاروا معزولين مع انخفاض الحرارة قبل 30 ألف سنة، وأنّ طريقهم الجنوبي كان مقطوعاً بالصحاري القطبية المتجمدة في أوراسيا وبالثلوج الممتدة في أمريكا الشمالية. ونظرياً، ربما كان أولئك البشر قد انقطعوا عن البشرية لــ 15 ألف سنة، وهي فترة زمنية كافية جداً لكي ينتج انحراف جيني Genetic drift عشوائي حمضا نوويا DNA متمايزا قبل دخولهم العالم الجديد. أُطلق على هذه الفكرة: الحضانة البيرينغية Beringian incubation أو الركود Standstill.
ويقبل أكثر الباحثين بفرضية وجود فترة حضانة زمنية على الرغم من أنهم يعتقدون أنها لم تبدأ إلا قبل 24 ألف سنة على أقل تقدير، عندما ساءت الأحوال المناخية جداً واستمرت لنحو 9000 سنة على أبعد تقدير. ولكن هناك خلافا حول مكان حدوث هذه الفترة الزمنية الحاضنة بالفعل.
ويبدو بوتر مقتنعا بنزوح أسلاف الأمريكيين المعاصرين الأصليين جنوباً تزامُناً مع سوء الأحوال الجوية، وبأنهم قضوا الذروة الجليدية الأخيرة بالقرب من بحيرة بيكال عند خط عرض 53 شمالاً. ولدينا أيضاً حمض نووي DNA لطفل مات هناك قبل 24 ألف سنة. وكما هي الحال مع طفلي نهر يانا، فالظاهر أنه من أقرباء جماعة الأمريكيين الأصليين المؤسسة حتى وإن لم يكن سلفا مباشرا لهم. غير أن باحثين آخرين – كهوفيكير- مقتنعون بأن فترة الحضانة تلك حدثت في منطقة بيرينغيا نفسها. ويجادل الباحثون في أن المنطقة نائية جغرافياً لذا فمن المحتمل أن تكون موقعا ينعزل سكّانه لعدة آلاف من السنين. وبالطبع، هناك شواهد جينية على أن هذا حدث لثدييات أخرى، بما فيها الظباء والدببة البنية خلال الذروة الجليدية الأخيرة.
وهناك دليلٌ آخرٌ يأتينا من علم اللُّغويّات Linguistics. فهناك سمات متشابهة بين بعض اللغات المنطوقة في الأمريكتين ولغة كِت Ket -وهي اللغة اليينيسيّة Yeniseian language المنطوقة في سيبيريا وصولا إلى بحيرة بيكال غرباً. وتشير شجرة لغة العائلة إلى أن أقدم مثال من مجموعة هذه اللغات هي اللغة التي كان يتحدث بها قرب إقليم بيرينغيا، مما يوحي بأنها نشأت هناك. ربما كان الناطقون بلغة كِت متحدرين من البيرينغيين الأوائل الذين هاجروا عائدين إلى سيبيريا بعد الذروة الجليدية الأخيرة.
يشير هوفيكير إلى مزيد من الأسباب التي تُفسّر صحة بقاء المستوطنين في بيرينغيا. فمع ازدياد برودة الطقس واتساع الغطاء الثلجي، انخفض مستوى سطح البحر العالمي انخفاضا شديدا. وقبل 28 ألف سنة كانت البحار ربما أدنى بــ 100 متر على الأقل مما هي عليه اليوم. ونتيجة لذلك، ظهرت آلاف الكيلومترات من أراضٍ برية جديدة في وسط جنوب بيرينغيا. وهي ليست بأي أرض؛ إذ على الرغم من كون معظم المناطق دون القطب الشمالي صارت باردة وقاحلة في الفترة التي تلت الثلاثين ألف سنة الماضية، فإن نمذجات المناخ وسجلات حبوب اللقاح تشير إلى أن هذه المنطقة كانت رطبة ومعتدلة، ربما نظراً لدفع تيارات المحيط الهادي بالهواء الدافئ نحوها. يقول هوفيكير: “ليس هناك أي مكان آخر على وجه الأرض ترى فيه مثل هذا التوسع الطبيعي لموئل Habitat قابل للحياة خلال الذروة الجليدية الأخيرة”.
ومع أخذ مساحة بيرينغيا ومناخها المعتدل بالحُسبان، تطرح فرضيةٌ مفادها أنّه كان بإمكان عشرات الآلاف من الأشخاص أن يعيشوا هناك خلال الذروة الجليدية الأخيرة.
ربما كانت هناك تحديات كبيرة. فكل مَن يعيش حاليا فوق خط عرض 46 شمالاً خلال فصل الشتاء سيجاهد للحصول على أشعة شمسٍ تحفّز إنتاج فيتامين D في بشرته. تقول ليسلي هلوسكو Leslea Hlusko من جامعة كاليفورنيا University of California في بيركلي: “حتى لو كنت عاريا في العَراء، فلن تحصل على مقدارٍ كافٍ من أشعة الشمس فوق البنفسجية”. بإمكان البالغين التغلب على هذه المشكلة عن طريق تناولهم لأغذية غنية بالفيتامين D كزيت السمك، لكنّ الأطفال الرُّضَّع سيتعرّضون لخطر نقص هذا الفيتامين، الأمر الذي يُضعِفُ جهازهم المناعي ويصيبُهم بمشكلات صحية تضعف الهيكل العظمي إلى جانب الأعراض المصاحبة الأخرى. وتعتقد هلوسكو أنّ التطور أتى بالحل.
” الأشخاص الذين غزوا الأمريكتين في نهاية المطاف طوّروا تكيُّفات غير اعتيادية مكنتهم من البقاء”
والتنويع الجينيٌ الذي يُدعى الجين EDAR غيّر من كثافة قنوات الحليب في أثداء الإناث. وترى هلوسكو أن هذا يعزز انتقال المُغذيات – بما فيها الفيتامين D من الأمهات إلى الرُّضَّع. ويؤثر التنويع الجيني هذا نفسه في البشر، إذ يجعل مينا القواطع على جانبّي ألسنتهم سميكة بشكلٍ لافتٍ. ومن ثم بحثت هلوسكو بالتعاون مع هوفيكير وزملائها في التوزيع العالمي لهذه الأسنان المثيرة للفضول، ووجدتها عموما لدى أغلب السكان الأمريكيين الأصليين في الماضي والحاضر – ما عدا سكان مناطق شرق آسيا- وهو الأمر الذي يوائم فكرتها بأن أسلاف الأمريكيين الأصليين المنعزلين في بيرينغيا طوّروا التنويع EDAR الجيني، مما ساعدهم على تجاوز خلل نقص الفيتامين D وأعطاهم مينا أسنانٍ أسمك كعارضٍ جيني جانِبي مُصاحِب.
تقول تابيتا هونيماير Tabita Hunemeier من جامعة ساو باولو University of São Paulo في البرازيل: “إنها نظريةٌ عظيمةٌ”. وهي تعتقد أن المجموعة المؤسسة للأمريكيين الأصليين الأوائل كانت معزولة في بيرينغيا، حيث تطورت استجابة لذلك. في عام 2017، اكتشفت هونيماير ومعاونوها أن العديد من مجموعات الأمريكيين الأصليين حاليا يحملون نسخة غير اعتيادية مميّزة من أسرة من الجينات تسمى الجينات FADS، وأن من لديهم هذه الجينات أقدر على هضم الأطعمة الغنية بالبروتين والأحماض الدهنية التي تستهلكها عادة مجتمعات ما دون القطب الشمالي. وهذا التنويع الجيني ربما انتخب طبيعيا في مؤسسي الأمريكيين الأصليين عندما كانوا معزولين في بيرينغيا، كما تقول هونيماير.
كل هذا البحث يرسم صورة الحياة في تخوم الأمريكتين. لكن حتى وقت قريب، كان ينظر إلى قصة الحاضنة البيرينغية إجمالاً على أنها لا تعدو أن تكون أكثر قليلا من مجرد مقدمة مشوقة لقصة الأمريكيين الأوائل. وهذا بدوره أبقى على فرضية أن العصر الفعلي بدأ قبل 15 ألف سنة حين انحسر الغطاء الثلجي الممتد ونزحت مجموعة صغيرة ذات جينات متجانسة Homogeneous من بيرينغيا إلى العالَم الجديد.
مغامرة أمريكية
قبل 14600 سنة، كان المؤسسون الأوائل قد انقسموا إلى مجموعتين أمريكيَتين أصليتين مُتمايزَتين. المجموعة الأولى، أسلاف المجموعة (B) الذين استوطنوا في الأْعم شمال قارة أمريكا الشمالية، حيث لا يزال يعيش الكثير من المتحدرين منهم هناك. أما المجموعة الثانية فهي المجموعة (A) التي أسست لحضارة أمريكا لشهيرة مما قبل التاريخ والمعروفة بالكلوفيس The Clovis، التي انتشرت جنوباً إلى جنوب ووسط القارة على مدى الألفيات المتعاقبة -كما نتصوّر على الأقل. لكن علمنا مع حلول السنة الماضية أن الشعوب البيرينغية انشطرت إلى سلالات مصغّرة أخرى خلال فترة الحضانة الزمنية المذكورة آنفا. وهذا يعني أن مجموعات مختلفة ومتمايزة جينياً نزحت إلى العالم الجديد.
والدليل الأبرز على هذه الفرضية يأتي من المادة الوراثية الموجودة في عظام الطفلين اللذين دُفِنا في ألاسكا قبل 11,500 و9000 سنة على التوالي. فكلاهما ينتمي إلى المجموعة الجينية التي انشطرت من عموم البيرينغيين القدماء قبل نحو 22,000 سنة. إنّ فكرة حدوث هذا في بيرينغيا وأن المجموعتين تجنبتا الاختلاط بغيرهما لآلاف السنين… لا تبدو فكرة غير قابلة للتصديق كما قد تبدو عليه للوهلة الأولى. يُشير مالهي إلى أنّ شجرة الأنواع الحية في بيرينغيا تعرّضت للانشطار الديموغرافي السكاني نفسه خلال فترة الذروة الجليدية الأخيرة. ويزعمُ مالهي أنه ربما صارت السلالات البشرية معزولةً نظراً لتكيُّفها مع المناخات الإقليمية الدقيقة Microclimate الخاصة بكل منطقة.
حاليا، ليس هناك دليل على أن البيرينغيين القدماء ساهموا كثيراً في إثراء العالم الجديد بشرياً. حتى بعد انحسار الغطاء الثلجي الممتد، يبدو أنهم استقروا في الحوض البيرينغي وانقرضوا في نهاية المطاف أمام نزوح جماعات من الأمريكيين الأصليين من المناطق الجنوبية مما دفعهم شَمالاً إلى ألاسكا. لكن، ربما لا تكون هذه المجموعة السكانية الوحيدة المتفرعة خلال الحضانة البيرينغية. فربما وجدت سلالات أخرى كان لديها أيضا شغف الاستطلاع والتّنقّل.
في العام الماضي (2018)، ذكر عدد من الباحثين أن مكسيكيّي المكسيك يحملون توقيعا جينياً مغايراً لجيرانهم. وأحد التفسيرات هي أن أسلافهم اختلطوا قبل 9000 سنة بمجموعة بشرية غريبة يُرمَزُ إليها بالمجموعة UPopA، ويبدو أنها سلالة فرعية أخرى نشأت في منطقة بيرينغيا قبل 25 ألف سنة.
وهناك سلالةٌ بشريةٌ غامضةٌ يُرمز إليها بالرمز Y. وفي عام 2015، أعلن علماء الجينات أنّ بعض أعضاء مجموعتَي سوروري Surui وكاريتيانا Karitiana اللتين تعيشان في حوض الأمازون تشتركان بصلة جينية مثيرة للدهشة مع بعض المجموعات الأصلية الآسيو-أسترالية. والتفسير الأبسط هو أن هذه المجموعة نشأت في شرق آسيا فيما قبل التاريخ، وتُعرف بالمجموعة Y التي كانت نواة لأوائل الآسيو-أستراليين، وأيضاً قدموا مادة وراثية إلى العالَم الجديد عبر بيرينغيا.
لكن، لم يجد علماء الوراثة آثاراً للمجموعة Y في المادة الوراثية المأخوذة من البيرينغيين أو الأمريكيين الشماليين، كما بدأ بعض الباحثين بالشك في وجودها أصلاً. بعد ذلك، في العام الماضي (2018)، ظهر اكتشاف يشير إلى أنّ الشخص الذي مات في شرق البرازيل قبل 10,400 سنة حمل مادة وراثية شبيهة بجينات السلالة الآسيو-أسترالية. وينتمي هذا الفرد إلى خط السلف (A) من الأمريكيين الأصليين الذين نعلم أنهم وفدوا لاحتلال قارة أمريكا الجنوبية. ونظرا لعدم العثور على مادة المجموعة Y الوراثية الخاصة في أي سلالة في أمريكا الشمالية، يرى علماء الوراثة أنه حدث تزاوج بين فئتَين من السلالات البشرية بعد وصولهما إلى أمريكا الجنوبية. ويفترضون أن هذا قد يدل على أن المجموعة Y من البيرينغيين كانوا البشر الأوائل النازحين جنوباً إلى القارة الأمريكية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ مستوطني المواقع الأولى المبكرة هناك، مثلا منطقة مونت فيردي الأثرية في تشيلي من نحو 14,200 سنة، تركوا إرثاً جينياً وراثياً نراه حاليا لدى بعض سكان الأمازون. إنها فكرة تتوافق مع الإدراك المتنامي بأن التنوع السكاني في أمريكا الجنوبية كان أشد تعقيداً مما توقعناه سابقاً.
قبل نحو 15 ألف سنة، وقفت مجموعةٌ صغيرة من البيرنغيين على عتبة العالم الجديد. ومع مرور الوقت، سيبتكر أحفادهم فنوناً ومنحوتاتٍ ضخمة في صحراء نيزكا ببيرو، ويطلقون عشق البشرية للشوكولاته من غابات الإكوادور، ويبنون حضارات عظيمة في المكسيك. ولا تزال السلالات البشرية للأمريكيين الأصليين تحمل إرثاً جينياً من أولئك الروّاد المدهشين.
© Copyright New Scientist Ltd.