أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
أركيولوجيا

كهرمان الدم: مجموعة رائعة من الأحافير تؤجج حرباً في ميانمار

بقلم: غرايام لاوتون Graham Lawton

ترجمة: أحمد شوقي

إن العدد الهائل من اكتشافات الكهرمان المستخرج حديثاً يعيد كتابة ما نعرفه عن عصر الديناصورات. لكن الحصول عليها قد يتأتى مقابل ثمن بشري مرعب.

       عليك أن تذكر نفسك بأنك تنظر إلى حيوان عاش مع الديناصورات جنباً إلى جنب. أحمل في يدي قطعة من الكهرمان، وأرفعها أمام النافذة لأحصل على رؤية أفضل للجثة التي بداخلها: عنكبوت تمددت أقدامه خلف جسده. وعلى الرغم من أنه يبدو كما لو قد مات أمس، فإنه ظل محنطاً منذ نحو 100 مليون عام.

       وتحت نظر العين الساهرة لأمينة المتحف كلير ميليش Claire Mellish، ألتقط قطعة أخرى شفافة ومائلة إلى الاحمرار من الكهرمان، كانت مكتظة تماماً بالحشرات. تقول أمينة المتحف إنها واحدة من سبع شرائح مأخوذة من أغنى قطعة من الكهرمان اكتظاظاً بالحشرات: عقدة في حجم قبضة اليد، تحتوي على 454 نوعاً مختلفاً من الحشرات.

       أنا في متحف التاريخ الطبيعي بلندن Natural History Museum in London لأختلس نظرة على بعض محتوياته من الكهرمان البورمي. حتى زمن قريب، كانت هذه المجموعة المخبأة ــــ المكونة من 117 قطعة، والتي جمعت من بورما المعروفة الآن باسم ميانمار عندما كانت جزءا من الإمبراطورية البريطانية ــــ هي المجموعة البحثية الوحيدة في العالم. ولكن في العقود الأخيرة أو نحو ذلك، تزايد الاهتمام العلمي بشكل فجائي. إن كهرمان بورما واحد من أهم كنوز الأحافير في العالم، لغناه بأحافير من حقبة زمنية محددة، بالغة الأهمية وإن كانت حتى الآن غامضة إلى حد كبير. لقد أسفرت عن ظهور اللافقاريات والنباتات والأزهار والفطر والطيور والأفاعي والضفادع وحتى الديناصورات.

“لقد جئت إلى هنا لأتعجب من هذه الوفرة الحفرية. وغادرت بقصة أكثر قتامة عن الكراهية العرقية والتهريب والدمار البيئي”

       يقول إد جيرزيمبوسكي Ed Jerzembowsky، خبير الكهرمان في معهد نانجينغ للجيولوجيا وعلم الأحافير في الصين Nanjing Institute of Geology and Paleontology in China “إنه نظام إيكولوجي استوائي بالكامل”. لكنه يخبرني أنه صار الآن منطقة حرب. لقد جئت إلى هنا لأتعجب من هذه الوفرة الحفرية. وغادرت بقصة أكثر قتامة عن الكراهية العرقية والتهريب والدمار البيئي، في ظروف عمل جهنمية وإراقة دماء.

       كان الكهرمان البورمي، أو بورميت Burmite، أثمن الأحجار الكريمة لقرون عديدة. ويأتي كل المعروض عالمياً من كاتشين، وهي ولاية تقع في أقصى شمال ميانمار. وتوجد أغنى رواسبه في غابة الوادي المسمى هوكاونغ Hukawng ، وتعني بالبورمية “مكان الشيطان”.

       هذا الاسم يبدو ملائماً. فمنذ استقلت ميانمار عن المملكة المتحدة قبل 70 عاماً، كانت هوكاونغ منطقة محظورة. فالأقلية العرقية من سكان كاتشين تكافح من أجل الاستقلال منذ 1962. والآن يبدو الوضع خطيرا جداً. لذا حدثني جيرزيمبوسكي قائلاً: “لا تذهب إلى كاتشين. فهنالك حرب دائرة، وهي تزداد شراسة”.

       يبدأ الكهرمان على شكل إفراز صمغي أو راتنج ينضح تدريجياً من الصنوبريات وأنواع أخرى من الأشجار كاستجابة لإصابة أو هجوم. وغالباً ما تقع الحيوانات الصغيرة، ومعها الريش، وأوراق الأشجار والفطريات، في مصيدة هذه المادة اللزجة. وفي أحيان كثيرة، يتحجر الراتنج ويصير كهرماناً. وعند التعرض للتسخين والضغط بعد أن يدفن تحت الترسبات، يتبلمر هذا الصمغ اللزج المتطاير ويتصلب متحولاً إلى مادة تشبه البلاستيك الشفاف. وأيا ما كان حوصر داخلها فإنه يتأحفر بدوره أيضاً. تقول ميلش: “هذا يريك عالماً قديماً بتفاصيل فوتوغرافية”، وتردف “وهي لا تُبدي أي اختلاف عما لو كانت أحياء”.

       الأحافير داخل الكهرمان، التي تعرف بالمتضمنات Inclusions,، نافذةٌ على النظم الإيكولوجية التي فقدت منذ مدة طويلة. فكهرمان البلطيق Baltic Amber، على سبيل المثال، يعود تاريخه إلى نحو 44 مليون عام إلى زمنٍ كانت فيه أوروبا أرخبيلا شبه استوائي. هذا الكهرمان الذي وجد بالدرجة الأولى حول بحر البلطيق، يحتوي على التجمع الأكثر تنوعاً من الأحافير، بما يتجاوز 3000 نوع. وهي بذلك تقدم صورة حية لغابة بلوط مشبعة بالرطوبة الدافئة وغابة صنوبر ذات بحيرات وأنهار، تزخر بالحشرات الطائرة وتعج بالسحالي والعناكب وفرس النبي Mantises والنمل الأبيض والعقارب والحشرات العصوية Stick insects.

       إن كهرمان البلطيق صلب وشفاف، لذا يعد مثالياً للدراسة العلمية. أما الكهرمانات الأخرى فأقل دراسة. وعند زيارتي للمتحف، رأيت عينات من المكسيك والولايات المتحدة وجمهورية الدومينيكان وأماكن أخرى. معظمها بدا مملاً يشبه الحصى البني.

       أما الكهرمان البورمي فهو زجاجي وشفاف مما يجعله نافذة أخرى على الماضى لا تقدر بثمن، ولو أنها استلزمت وقتاً طويلاً لفتحها.

       استحوذ الكهرمان على الاهتمام العلمي للمرة الأولى في عام 1982 عندما كان فرتز نوتلنغ Fritz Noetling، الموظف الألماني في بعثة المسح الجيولوجي للهند Geological Survey of India، يبحث عن موارد قابلة للاستغلال في بورما البريطانية. ولاحظ أن الكهرمان غني تماماً بالحشرات والمتضمنات الأخرى، وقدر أن عمره نحو 40 مليون عام، أي نفس عمر كهرمان البلطيق تقريباً.

       ومقارنة بكهرمان البلطيق، الذي يمكن أن يستخرج بكميات كبيرة من المناجم بسهولة وكثيراً ما يُعثر عليه على الشواطئ، كان كهرمان بورما في وسط غابة عدائية. إذا ما كان لدى نوتلنغ طموحات لاستغلال ترسباته، فسرعان ما تضاءلت تلك الطموحات.

       بعد سنوات قليلة، بدأ أحد هواة التاريخ الطبيعي المحليين واسمه آر. سي. سوينهو R.C. Swinhow في إرسال عينات إلى عالم الحشرات ثيودور كوكريل Theodore Cockerell بجامعة كولورادو Colorado University. وقد تعرف كوكريل على 38 نوعاً جديداً من أنواع الحشرات، ثلاثة من العناكب والديدان الألفية، وذكر أن هناك الكثير مما لم يستطع التعرف عليه. وقد كتب في خطاب إلى مجلة نيتشر Nature عام 1922 “إن حيوانات هذه الحقبة رائعة جدا”. واستناداً إلى هذه الأحافير، اقترح أن الكهرمان أقدم مما كان يعتقد في الأصل، وربما يكون عمره 100 مليون عام. وإذا ما كان الأمر كذلك، فهذا من شأنه أن يجعله مثيراً للاهتمام بشدة. ففي أوائل القرن العشرين، كان سجل أحافير العصر الطباشيري المتأخر – ما بين 100 إلى 66 مليون عام مضت – منعدماً تقريباً. كان الأمر فجوة محبطة بالنظر إلى أن النباتات المزهرة كانت جديدة على المشهد وأن انفجاراً تطورياً كان في كامل الازدهار.

       وفي عام 1921، أهدى سوينهو مجموعة إلى المتحف البريطاني. وكانت المجموعة الوحيدة من نوعها في العالم ولكن لسبب ما تم خُزِّنت ونسي أمرها.

       ثم جاءت الحديقة الجوراسية Jurassic Park. تعتمد حبكة الرواية الصادرة عام 1993 على استخراج دم ديناصور من بعوضة محفوظة في كهرمان يعود إلى 100 مليون عام مضت. تقول ميليش: “في أعقاب ذلك، أدرك المتحف أننا بحاجة إلى متخصص في أحافير الحشرات ليفحص تلك المجموعة”.

كان ألكسندر رازنتسين Alexander Rasnitsyn من معهد الأحافير Paleantological Institute  في موسكو الشخص المناسب. فزار لندن وسرعان ما أضاف إلى القائمة مزيداً من الأنواع، وذلك بالتعرف على عناكب وعقرب وقوقعة حلزون وجلد كائن زاحف.

وفي الوقت نفسه تقريباً، وقّعت منظمة استقلال كاتشين The Kachin Dependent Organization وجناحها العسكري، جيش استقلال كاتشين (اختصارًا: الجيش KIA)، معاهدة سلام مع حكومة ميانمار. بعد ذلك بوقت قليل، ارتحل مالك إحدى شركات التعدين الكندية الصغيرة ويدعى ليوارد كابيتال Leeward Capital إلى هناك بحثاً عن الثروة، وانتهى به الأمر في وادي هو كاونغ.

الأبحاث غير جازمة، هذا إذا لم تكن صامتة، حول المكان الذي جاءت منه مكتشفات الكهرمان”

كان الكهرمان الخطة C بالنسبة إلى ليوارد، بعد فشله في تحقيق الخطة A (الذهب) والخطة B (البلاتينيوم). كانت الأمور سيئة في أول الأمر، إذ كان السوق العالمي مغموراً بكهرمان البلطيق، لذا أرسلت الشركة عينات إلى ديفيد غريمالدي David Grimaldi من المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي The American Museum of Natural History في نيويورك. ويُذكر أنه دُهش لرؤيتها واشترى 75 كيلوغراما من الكهرمان الخام. وسرعان ما دخل العلماء الصينيون في هذا المجال. وهكذا بدأ التدافع على الكهرمان البورمي.

على مدار السنوات القليلة التالية، تضخم الاهتمام، وفقاً لتقدير أندرو روس Andrew Ross من المتاحف الوطنية باسكوتلاند National Museum Scotland، فقد تزايد عدد الأنواع الحية Species الموصوفة من الكهرمان البورمي أُسيا. في عام 2000، كان هناك60  نوعا. وفي عام 2018 أضيف 320 نوعا آخر. وفي الحساب الأخير كان هناك ما مجموعه 1192 نوعا.

أُرِّخت الرواسب بتقنيات النظائر المشعة، وقُدِّر عمرها بنحو 98.8 مليون عام، وقد تزيد نصف مليون أو تنقص.

معظم الأحافير كان من الحشرات وغيرها من الكائنات الصغيرة، ولكن كانت هنالك كائنات أكبر أيضاً. فمن بين اللافقاريات هنالك السرطانات والعقارب والصراصير والعناكب المدرعة والرعاشات، وأمهات أربع وأربعين وحلزون وحشرة سيكادا مُشعِرة وجرادة وعتة ملفوفة بخيوط العنكبوت.

وقد احتوت إحدى القطع على عنكبوت يهاجم دبوراً، كمثال نادر لسلوك متأحفر. وهنالك نباتات، بما في ذلك أزهار في حالة نثر لحبوب لقاحها. كلها جرى حفظها بشكل رائع.

كما كانت هنالك حيوانات بحرية، بما في ذلك الصدفيات الأمونية Ammonite والربيان Shrimp، مما يدل على أن الغابة التي تشكل فيها الكهرمان كانت عند البحر.

كانت الفقاريات الأكثر إثارة من بين الجميع. فبقايا جلود الزواحف وريش الطيور كانت معروفة سلفاً من مجموعة متحف التاريخ الطبيعي البريطاني. ولكن في العامين السابقين اكتشفت مجموعة مدهشة من الحيوانات. ففي عام 2016، كشف فريق بقيادة غريمالدي النقاب عن مجموعة من 12 سحلية. وبعد بضعة أسابيع، وصفت مجموعة منافسة جناحين صغيرين من صيصان طيور من المفترض أنها سقطت من أعشاشها وعلقت بالراتنج. وأعقب ذلك جزء من ذيل ديناصور صغير مغطى بالريش، مكتمل بالجلد، العظام والزغب. كما شهد العام الماضي ظهور دفعة من أحافير الفقاريات: يد برص، صوصي طائر حدث كاملين، وأربعة ضفادع وثعبان. ويبدو أن هذه الأحافير تشكلت في غابة استوائية على الساحل الذي تسوده أشجار الخشب الأحمر، التي تنتج الراتنج بكميات غزيرة.

أسرى الزمن

يقول ريان مك كيلر Mc Kellar من متحف ساسكتشوان الملكي Royal Sasketchewon Museum في ريجينا بكندا، والمؤلف المشارك مع آخرين، في الورقة البحثية التي أعلنت عن اكتشاف الديناصور والثعبان: “عند هذه اللحظة، نحصل على أفضل لمحة عن منتصف العصر الطباشيري” ويضيف: ” هنالك فجوة في أحافير الصخر الرسوبي. يساعدنا كهرمان بورما على سد هذه الفجوة. فهو يساعدنا على فهم أمور مثل الكيفية التي سادت بها النباتات الزهرية، والكيفية التي تنوعت بها الحشرات بموازاتها”. لكن هذا الفهم يتحقق بتكلفة باهظة.

أنفق ما شئت من وقت في الخوض في أدبيات الكهرمان البورمي غير أنك سرعان ما تصطدم بضباب معلوماتي محبط، فالأوراق البحثية غالباً غامضة، إن لم تكن صامتة تماماً، فيما يتعلق بالأماكن التي أتت منها الاكتشافات بالضبط. يعود سبب ذلك -إلى حد كبير- إلى أصول Provenance العينات غير المؤكدة، والمثيرة للجدل في كثير من الأحيان.

واليوم، يقطع الكهرمان البورمي رحلة طويلة وغير مألوفة حتى ينتهي الأمر به كأحجار كريمة أو قطع متحفية. بعد أن يستخرج بالأيدي في وادي هوكاونغ، ينقل بمشقة من الأرض المتنازع عليها إلى سوق صاخبة في ضواحي ميتكينا Myitkyina، عاصمة كاتشين Kachin . ويشتري تجار المحافظة الصينية المجاورة يُنان Yunnan معظم الكهرمان. ومن هناك يُهرَّب عبر الحدود إلى سوق في مدينة تنغتشونغ Tengchong، التي هي بمثابة مغناطيس يجذب التجار من بكين وشانغهاي وغوانغتشو Guangzhou. كانت تنغتشونغ معتادة على التخصص في اليشب Jade، لكن الكهرمان تفوق عليها بشكل متزايد. وفي عام 2017، أطلقت الحكومة الصينية على تنغتشونغ لقب “مدينة الكهرمان”.

يقول أليساندرو ريبا Alessandro Rippa من مركز الدراسات الآسيوية بجامعة كولورادو Center for Asian Studies at University of Colorado، في بوردو، الذي زار تنغتشونغ وميتكينا لإجراء بحث عن تجارة الكهرمان: “ما تعلمته من بحثي هو أن الكهرمان يدخل إلى الصين عملياً دون المرور بالجمارك على أي جانب”.

يتفق العلماء الذين زاروا تنغتشونغ في شعورهم بالعجب. يعبر عن ذلك جيرزيمبوسكي قائلاً: “لم أر شيئاً مثل ذلك فقط”. ويردف: “تجد أكشاكاً بعد أكشاك من الكهرمان، وأنت تعلم أن كل ما تنظر إليه في هذه الأكشاك هو نوع غير موصوف من قبل”.

ويتفق مك كيلر، الذي زار المنطقة في العام الماضي، مع ذلك قائلا: “هذا شيء مدهش. لم تكن لدي أي فكرة عن مداه حتى رأيته شخصياً. هنالك أربعة أو خمسة شوارع من بائعي الكهرمان، عشرات وعشرات منهم يبيعونه بالكيلوغرام. إنه لأمر يفوق الخيال”. ويذكر أن الكثير من العينات تتميز بالضخامة، فهي بمثل حجم الرأس البشري، مما يدل على أن المزيد من الاكتشافات المثيرة قد يكون قادماً. ويتابع قائلا: “نحن لا نواجه نفس القيود على الأحجام التي نراها في ترسبات الكهرمان الأخرى. وربما نحصل على حيوانات كاملة”.

معظم الكهرمان مقصده أ­سواق الأحجار الكريمة، لكن بعضه ينتهي بين أيدي الباحثين. وليس من المعتاد أن يجوب العلماء أسواقه بأنفسهم، لكنهم يعرفون من يفعل ذلك. وعلى طول المسيرة من المنجم إلى السوق، يخبئ الباعة الأذكياء العينات المثيرة للاهتمام لعرضها على المشترين المحتملين في الدائرة العلمية.

محور هذه العملية هو عالِم الأحافير ليدا زينغ Lida Xing من جامعة الصين للعلوم الجيولوجية China University of Geosciences في بكين. ففي السنوات الأخيرة، أنشأ شبكة من تجار الكهرمان في كاتشين ويُنان لتنبيهه عندما يظهر فجأة ما يثير الاهتمام. “سيرسلون صوراً ومقاطع فيديو، والصور تؤخذ من كل الزوايا مصحوبة بالتفاصيل. وإذا ما شعرت أن هناك ما يعد ذا قيمة علمية، أُوصي المتاحفَ بشرائه”، هذا ما أخبر به ليدا زينغ نيوسيانتست NewScientist عبر البريد الإلكتروني.

أما معهد ديكسو لعلم الأحافير Dexu Institute of polontology -المتحف غير الربحي في تشاوتزو Chaozhou بالصين- فهو واحد من أفضل العملاء. فمنذ إنشائه في 2013، اشترى أكثر من 150 أحفورة مهمة من كهرمان بورما، بما في ذلك ذيل الديناصور، الذي يُعيره لعلماء مثل مك كيلر. ويذكر موقع ديكسو بصورة مشوقة: “لدينا عينات أخرى من الكهرمان لا تقل عن ذلك أهمية لكنها لم تنشر بعد”. كما أنفقت الأكاديمية الصينية للعلوم أموالاً في شراء الكهرمان البورمي، وفقاً لما يقوله جيرزيمبوسكي. ويمتلك معهده 30000 قطعة.

يرى مك كيلر، الذي يعمل زميلا زائرا في ديكسو، أن هذا المعهد والمعاهد المشابهة يؤدون خدمة عظيمة لضمان أن تُتاح العينات المهمة علمياً للباحثين بدلاً من أن “تحجب” في المجموعات الخاصة. لكنه يوافق على أنهم غالباً ما لا يعرفون بالضبط المكان الذي أتت منه أحافيرهم، بقوله: ” إذا ما اشتريت عينة، فليس في مقدورك توصيفها وفقاً للطبقات Stratigraphy، أو من أي موضع من السجل الجيولوجي جاءت العينة”.

في أحوال نادرة، يستطيع العلماء معرفة ذلك بدقة. لكن التوصل إلى هذه المعرفة يقتضي الكثير من الجهد والشجاعة.

في صيف 2015، قابل زينغ وسيطا في السوق بميتكينا أطلعه على قطعة مصقولة من الكهرمان في حجم وشكل ثمرة مشمش مجففة، وتحتوي على ما بدا أنه جذر نباتي. وعندما تفحصه زينغ بعدسة مكبرة أدرك أنه أكثر مدعاة للاهتمام بكثير: فهو جزء من ذيل حيوان فقاري مغطى بالريش، فاشتراها لحساب ديكسو، على الرغم أنه لم يذكر المبلغ الذي دفعه ثمنا لها، ثم أطلع مك كيلر عليها. واتضح أنه لديناصور من ذوات الريش، يحتمل أن يكون لديناصور صغير السن من الثيرابودا (وحشيات الأرجل) Theropod (وهي مجموعة تي. ريكس T. rex). “انبهرت! هذه هي النوعية التي طالما كنا نأمل أن نجدها”، هذا ما أخبر به مك كيلر إحدى محطات الراديو الكندية في 2016.

حاول زينغ سابقا الوصول إلى مناجم الكهرمان وفشل. حينذاك صار أكثر تصميماً. بعد أيام قليلة، أنجز ما كان يبدو مستحيلاً: تسلل من ميتكينا إلى وادي هوكاونغ.

كانت الرحلة شاقة وخطيرة. وكان اتفاق 1994 لوقف إطلاق النار بين الجيش KIA والقوات المسلحة لميانمار – المسماة رسمياً تاتماداو Tatmadow – قد انهار في 2011، واستؤنف القتال. كانت المناجم حينئذ تحت سيطرة الجيش KIA، الذي تمثل له الأحجار الكريمة مصدراً مهما للدخل.

وقد فُتِح طريق عابر للحدود منذ أعوام قليلة، مما جعل الانتقال من الصين إلى ميتكينا أمراً سهلا. لكن العبور إلى الأراضي التي يسيطر عليها الجيش KIA قصة أخرى.

أثناء سفر زينغ متنكراً بأوراق هوية مزورة – مرتديا ملابس محلية وصابغا وجهه بصبغة صفراء يستخدمها أبناء كاتشين كواق للشمس وطارد للحشرات – سار هو والوسيط لمدة سبع ساعات على طرق صعبة جدا، مروراً بالعديد من نقاط التفتيش العسكرية. وعندما خرجا عن الطريق، عبرا نهراً على قارب خشبي ثم أتما الكيلومترات النهائية القليلة على ظهر فيل.

ووفقاً لرواية زينغ، فقد اتضح أن “المنجم” عبارة عن مدينة أكواخ من نحو 3000  خيمة، تغطي كل واحدة منها فتحة منجم ضيقة يصل عمقها إلى عشرة أمتار. وكان عمال المناجم يعيشون في أكواخ من الخيزران على طول الفتحات. وقد وصف زينغ الأحوال في المناجم بأنها “خطرة جداً”، وغير آدمية.

يشتغل عمال المناجم دون معدات أمان وغالباً ما يموتون اختناقا أو في الانهيارات. وبعد ثلاث ساعات من جمع الكهرمان وعينات الصخور، غادر هو ودليله على طريق رحلة العودة المنهكة.

قال زينغ إنه عندما كان هناك قابل التاجر الذي باع ذيل الديناصور للوسيط واصطحبه إلى فتحة المنجم التي جاءت العينة منها. وهكذا كان قادراً على أن يحدد بدقة أصل هذه الأحفورة.

وقال إنه راض عن كونه حصل على العينة بشكل قانوني وإنه صدّرها إلى الصين بتصريح صادر عن الجهة الرسمية، بمؤسسة ميانمار للجواهر Myanmar Gems Enterprise. وحسب قوله، فإن كل عينات الكهرمان البورمي في ديكسو تم الحصول عليها بشكل قانوني. حاولت نيوسيانتست التأكد من ذلك مباشرة مع ديكسو، لكنها لم تلق استجابة.

من المحتم أن يثير شراء الكهرمان البورمي قضايا أخلاقية. فمنذ استئناف القتال في 2011، كانت مناجم الكهرمان في وادي هوكاونغ في قلب حرب متزايدة على الموارد الدموية .

تعتمد منظمة استقلال كاتشين بشدة على الموارد الطبيعية -في الغالب اليشب والذهب ولكن أيضاً الكهرمان- للحصول على إيرادات. كما أنها تفرض ضرائب على أولئك الذين يستخدمون طرق التهريب إلى الصين. ولكونها حكومة الأمر الواقع في الإقليم، فهي تستخدم الأموال للمدارس والمستشفيات والبنية التحتية، كما تقول حنا هندستروم Hanna Hindstrom، وهي مديرة حملة في المنظمة غير الحكومية، غلوبال وتنس Global Witness وخبيرة في موارد ميانمار. وتذكر أن منظمة الجيش KIA لا تنشر أي رقم عن إيراداتها، لكنها بلا شك تستخدم النقود في شراء الأسلحة.

كذلك تسعى التامادو بشدة إلى إحكام السيطرة على المناجم وطرق التهريب، لتحجيم منظمة استقلال كاتشين والاحتفاظ بالغنائم لنفسها. ووفقاً لغلوبال وتنس ومنظمات غير حكومية أخرى، فإن لجنرالاتها تاريخا طويلا وقاسيا من صنع الثروات من اليشب والذهب والموارد الطبيعية الأخرى. وهذا هو أحد أسباب صعوبة تحقيق سلام عادل.

بعد كسر الهدنة بفترة قصيرة، انخرطت التامادو في الأمر مرة أخرى. يقول ستيفين تساجي Steven Tsaji، رئيس ائتلاف من منظمات المجتمع المدني يسمى مجموعة شبكة تنمية كاتشين Kachin Development Networking Group: “هاجم الجيش البورمي مناطق مناجم اليشب وسيطر عليها في الفترة من 2013 إلى 2015”. يذكر أن الجيش KIA عوّض خسائره بتوسيع نطاق عملياته في الكهرمان، لكن جيش ميانمار استولى على ذلك أيضاً.

في العام الماضي أرسل مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان UN Human Rights Council إلى كاتشين لجنةَ تقصي حقائق مستقلة لتوثيق النزاع. وقراءة تقريرها مثيرة للرعب. في يونيو 2017، أسقطت القوات الجوية لميانمار منشورات على مناجم الكهرمان تطالب السكان المحليين بمغادرة المنطقة خلال عشرة أيام. ثم شنت هجوماً عسكرياً عليها. ولمدة خمسة أشهر تالية، عرضت التامادو القرويين دون تمييز لحملة من القتل والتعذيب والاغتصاب والحرق. توقف الهجوم خلال موسم الأمطار، لكنه استؤنف في يناير 2018 مصحوباً بقصف جوي ومدعوماً بمدفعية ثقيلة وقوات برية.

ويقول تقرير الأمم المتحدة إن الهدف العام لتامادو كان “هدم اقتصاد الجيش KIA بالاستيلاء على الكهرمان وموارد المناجم (الأخرى) التي كانت تحت سيطرتهم. ووفقاً لتساجي، فإن هذه المهمة نجحت.

وتدين استنتاجات الأمم المتحدة العملية العسكرية: العمليات العسكرية غير قانونية وفقاً للقانون الدولي، والقائد الأعلى لميانمار، كبير الجنرالات مين أونغ هلاينغ Min Aung Hlaing، وكبار قادته العسكريين يجب أن يحقق معهم ويحاكمون بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.

ومناجم الكهرمان أيضاً بؤرة إساءات للحقوق الإنسانية والبيئية. يقول هندرسون: ” ظروف العمل السيئة إلى حد كبير هي علامة مميزة لكل مناجم الكهرمان في ولاية كاتشين. واللوائح البيئية، حيثما وجدت، يتم تجاهلها إلى حد كبير”.

يعد الكهرمان جزءاً فقط من حرب الموارد، والعلماء ليسوا وحدهم الذين يختصون بشرائه. ولكن من غير الممكن ألا تستنتج أنهم متواطئون، إن لم يكونوا متورطين بنشاط، في تجارة تساعد على تمويل الحرب. يقول جيرزيمبوسكي: “أعتقد أن المبالغ القادمة من الصين أججت الصراع بشكل غير مباشر”، ويضيف: ” لا نعرف ذلك يقيناً، لكنني لن أتفاجأ. هنالك الكثير من الأموال”.

تكلفة الأبحاث

       لم يفصح ديكسو وغيره من جامعي العينات عما يدفعون مقابلها. ويقول العلماء إنهم لا يعرفون عن ذلك، على الرغم من أن مك كيلر يظن أن عينة جيدة من الفقاريات قد تحقق “ما قد يبلغ آلاف الدولارات”. ويقدر جيرزيمبوسكي أن القيمة “بالآلاف” وأن عينة الأفعى ربما كانت “غالية جداً”. ويقول إن التجار ماكرون ويساومون مساومات غير حقيقية لرفع الأسعار، في حين تدفع الأكاديمية الصينية للعلوم كل ما يلزم لتأمين امتلاك العينات المهمة. ووفقاً لتقديرات غير منسوبة إلى مصدرها نشرت في الصحيفة الكندية فاينانشال بوست Financial Post، فإن من الممكن “بسهولة” أن تكون قيمة ذيل الديناصور قد بلغت 100.000 دولار وأن قيمة تجارة الكهرمان المشروعة تبلغ على الأقل بليون دولار في العام.

سألت مك كيلر عما إذا كان هو وزملاؤه على علم بالنزاع، وعن دور الكهرمان فيه. سكن لبرهة وتنهد: “إلى حد ما. إنه لعار، لكنه خارج عن سيطرتنا. ولا أرانا نؤججه بشكل مباشر. لقد تصاعد على مدى الأعوام الثلاثة أو الأربعة الماضية. والكثير من العينات التي نتعامل معها كانت قد جمعت قبل أن تكون هنالك مشكلات في المنطقة”.

حتى الآن، تخضع مناجم الكهرمان لسيطرة التامادو، على الرغم من أن هندرسون وغيره يتنبؤون بأن الجيش KIA سيحاول استعادتها. وتدور مفاوضات عملية سلام تستهدف إنهاء نزاعات ميانمار العرقية، لكن الجيش KIA يرفض المشاركة.

هذا العام نُشر 79 بحثاً عن الكهرمان البورمي. ومع استمرار تدفق العينات تنتشر الشائعات عن أحافير أكثر روعة. وسوق تنغشونغ للكهرمان مزدحم كما كان دائماً. وأحد أكثر الحجارة الثمينة المعروضة قيمةً هو حجر ذو لون أحمر قان، ويعرف محلياً باسم Xuè Po، وبالترجمة إلى الإنجليزية يعني “كهرمان الدم”.

قصة هوليودية

هل يمكننا استخراج الحمض النووي DNA لديناصور عمره 100 بليون عام من بعوضة محفوظة في كهرمان بورمي، على نمط قصة الحديقة الجوراسية؟ للأسف، لا بالتأكيد. ووفقاً لكلير ميليش من متحف التاريخ الطبيعي في لندن، فإن أحافير الحشرات في الكهرمان تكون هياكل خارجية مجوفة تحللت أحشاؤها منذ زمن طويل. حتى إذا ما بقيت الأنسجة، فإن الحمض النووي DNA لا يبقى. يقول ريان مك كيلر من متحف ساسكاتشوان الملكي في ريجينا بكندا: “إن عمر النصف الحمض النووي DNA هو نحو 500 عام، ونحن نتحدث عن عينات تبلغ من العمر 99 مليون عام”.

حتى لو كان خط قصة الحديقة الجوراسية خيالياً، فإن تأثير الفيلم على علم الأحافير كان حقيقياً جداً: بعد نجاحه بدأت المؤسسات حول العالم في إلقاء نظرة فاحصة على مجموعات الكهرمان التي لديها والسعي وراء اكتشافات جديدة.

© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

Related Articles

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

Back to top button