بقلم: جون كوهين
ترجمة: د. عبد الرحمن سوالمة
في أحد مساءات ديسمبر2019، وقبل 13 يومًا من الانقلاب الشتوي، دخل ستة رجال ونساء إلى مُنشأة سُرِّي للأبحاث الإكلينيكية Surrey Clinical Research Facility، وهي جزء من جامعة سُرِّي University of Surrey في المملكة المتحدة. بعد أن أُخِذت مسحات من أنوفهم للفحص عن وجود 16 فيروسًا تنفسيًا، دخلوا إلى غرفهم المُتحكم في درجة حرارتها، ولمدة 24 ساعة، بقوا في وضع شبه الاستلقاء في ضوء خافت. ووضعت الممرضات قناة وريد Canula في ذراع كل منهم، لتسهيل الحصول على عينات من الدم المتدفق عبر أنبوب إلى مداخل في الحائط. يمكن للأشخاص الستة الضغط على زر لطلب استراحة للذهاب إلى دورة المياه، وتجمع عينات من البراز والبول كذلك، ولكن فيما عدا ذلك، كانوا وحيدين في مكان شبه مظلم.
ولم يكن أي من هؤلاء الأشخاص مريضًا. وعلى الرغم من أنّ الوقت هو وقت اقتراب أقصر أيام السنة، إلا أن هذه الطقوس لا علاقة لها بأي طقوس وثنية، أو عادات عيد الميلاد، أو تجمع الهيبي عند آثار ستونهِنج القريب Stonehenge للاحتفال بإعادة بعث الشمس.
وبدلًا من ذلك، فقد كانوا متطوعين بمقابل مادي في دراسة تقودها اختصاصية إيكولوجيا الأمراض المعدية ميكايلا مارتينيز Micaela Martinez Martinez، من جامعة كولومبيا Columbia University للبحث في ظاهرة لاحظها أبقراط Hippocrates وثوسيديديس Thucydides قبل 2500 سنة، وهي أن العديد من الأمراض المعدية تكون أكثر شيوعًا في فصول معينة. تقول مارتينيز: “هذا سؤال قديم جدًا، ولكنه لم يدرس جيدًا”.
كما أنه سؤال صار فجأة أكثر إلحاحًا بسبب ظهور مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-2019)، والذي أصاب الآن (20 مارس 2020) أكثر من 175 ألفًا حول الكوكب. ويأمل البعض بأن المرض قد يحاكي الإنفلونزا ويخف بحلول الصيف في المناطق المعتدلة من نصف الكرة الشمالي، حيث يعيش نصف سكان العالم. وقد عبّر رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب Donald Trump عن هذا الأمل مرارًا. “هناك نظرية تقول إنه، في أبريل، عندما تزداد الحرارة – تاريخيًا، كانت قادرة على قتل الفيروسات”، كما قال ترمب في 14 من فبراير. ولكنّ ما هو معروف عن الأمراض الأخرى لا يوفر الكثير من الدعم لفكرة القائلة إنّ كوفيد-19 سيختفي فجأة خلال الأسابيع القليلة القادمة.
وللأمراض المختلفة أنماط مختلفة. بعضها يصل ذروته في بدايات أو نهايات الشتاء، والبعض الآخر في الربيع، أو الصيف، أو الخريف. بعض الأمراض لها ذروات فصلية مختلفة تبعًا لخط العرض. والكثير منها لا توجد له دورة فصلية أبدًا. ومن ثم، لا أحد يعلم إذا كان فيروس سارس-كوف-2 (SARS-CoV-2)، الفيروس الذي يسبب كوفيد-19، سيغير من سلوكه بحلول الربيع. وفي مؤتمر صحافي قالت فيه نانسي مسيونير Nancy Messonnier، الشخصية المحورية فيما يتعلق بكوفيد-19 في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها Centers for Disease Control and Prevention في الولايات المتحدة: “أود أن أحذر من المبالغة في تأويل هذه النظرية”. إذا كانت الفصول تؤثر في سارس-كوف-2 بالفعل، فعلى الرغم من ذلك يمكنه تحدي النمط في هذه السنة الأولى ويستمر بالانتشار، لأن البشرية لم تحصل على فرصة لتكوين مناعة ضده.
وحتى بالنسبة إلى الأمراض الفصلية المعروفة، فليس من الواضح سبب ازديادها وتناقصها خلال السنة الشمسية. ويقول أندرو لودون Andrew Loudon، اختصاصي البيولوجيا الزمنية من جامعة مانشستر University of Manchester: ” أنه موضوع صعب جدًا”. تَفَحُّصُ فرضية Hypothysis على مدى عدة فصول قد يأخذ سنتين أو ثلاث. ويقول: “يمكن لباحثي ما بعد الدكتوراه إجراء تجربة واحدة فقط، ويمكن لها أن تقضي على حياتهم المهنية”. كما يمكن لهذا المجال أن يمتلئ بالعوامل المحيرة Confounding variables. ويقول سكوت دويل Scott dowell: “كل الأشياء موسمية، مثل التسوق لعيد الميلاد”، ودويل هو الشخص الذي يرأس جهود تطوير ومراقبة اللقاح في مؤسسة بيل ومليندا غيتس Bill & Melinda Gates Foundation، وقد كتب وجهة نظره في ورقة نشرت في 2001، واستخدمت مرجعًا على نطاق واسع، وقد ألهمت دراسة مارتينيز الحالية. إنه من السهل الانخداع بالارتباطات الكاذبة، كما يقول دويل.
وعلى الرغم من الصعوبات، يفحص الباحثون العديد من النظريات. والعديد منهم يركز على العلاقات بين الكائن الممرض Pathogen، والبيئة، والسلوك البشري. فالإنفلونزا على سبيل المثال، قد تنتشر أكثر في الشتاء لوجود عوامل مثل الرطوبة، أو الحرارة، أو زيادة قرب الناس من بعضهم، أو التغيرات في النظام الغذائي ومستويات فيتامين د. غير أنّ مارتينيز تدرس نظرية أخرى، وهي التي طرحتها ورقة دويل ولكن لم تُفحص؛ وهي أن الجهاز المناعي البشري قد يتغير مع تغير الفصول، بحيث يصير أكثر مقاومة أو أكثر عرضة لمختلف العداوى بناء على كمية الضوء التي تتعرض لها أجسامنا.
وبعيدًا عن السؤال المُلح عما نتوقعه من كوفيد-19، فإن معرفتنا لما يحد من الأمراض المعدية أو ما يحفزها خلال أوقات معينة من السنة يمكنه أن يوفر معلومات تفيد مراقبة الأمراض، والتوقعات، والوقت المناسب لحملات التطعيم. بل إنها قد تدلنا على طرق جديدة لمنع الأمراض أو علاجها. “إذا عرفنا ما الذي يثبط الإنفلونزا إلى أدنى مستوياتها في الصيف، فإن ذلك سيكون أكثر فعالية بكثير من لقاحات الإنفلونزا التي لدينا”، كما يقول دويل.
وصارت مارتينيز مهتمة بالتباين الموسمي Seasonality عندما كانت طالبة في جامعة ألاسكا ساوث إيست University of Alaska Southeast، حين كانت تضع علامات على الفقمات الحلقية القطبية Arctic ringed seals، وتأخذ خزعات جلدية، وتتتبع حركاتها اليومية والموسمية. وبينما كانت تعمل على رسالة الدكتوراه، تحول تركيزها من التباين الموسمي إلى شلل الأطفال Polio، وهو مرض صيفي أكثر إخافة قبل اختراع اللقاحات. (غالبًا ما كانت الفاشيات تؤدي إلى إغلاق برك السباحة، والتي لم تكن لها أي علاقة بالانتشار الفيروسي). وأما التباين الموسمي لشلل الأطفال؛ فقد جعلها فضولية تجاه أمراض أخرى. ففي 2018 نشرت ورقة بعنوان روزنامة الأوبئة “The Calendar of epidemics” في الدورية العلمية PLOS Pathogens، واحتوت الورقة على قائمة من ثمانية وستين مرضًا ودوراته الغريبة.
وفيما عدا المناطق الاستوائية، فإن الفيروس المخلوي التنفسي Respiratory Syncytial Virus (اختصارًا: الفيروس RSV) هو مرض شتوي، كما كتبت مارتينيز، أما فيروس الحماق Chickenpox فيفضل الربيع. والفيروسات العجلية Rotavirus فتبلغ ذروتها في ديسمبر أو يناير في جنوب غرب الولايات المتحدة، وفي أبريل ومايو في الشمال الشرقي. وبالنسبة إلى الهربس التناسلي Genital Herpes؛ فترتفع أرقامه في الدولة كلها في الربيع والصيف، أما التيتانوس (الكزاز) Tetanus؛ فيفضل منتصف الصيف. وأما داء السيلان Gonorrhea؛ فينتشر في الصيف والخريف، والسعال الديكي Pertussis؛ فتكون نسبته أعلى من يونيو إلى أكتوبر. ويزدهر الزهري Syphilis في الشتاء في الصين، ولكن حمى التيفوئيد Typhoid fever تزداد هناك في يوليو. ويصل التهاب الكبد سي Hepatitis C ذروته في الشتاء بالهند، وفي الربيع أو الصيف في مصر والصين والمكسيك. والفصول الجافة ترتبط بمرض الدودة الغينية Guinea worm disease وحمى لاسا Lassa fever في نيجيريا، وترتبط بالتهاب الكبد أ Hepatitis A في البرازيل. ويَسْهُل فهم التباين الموسمي أكثر في الأمراض التي تنشرها الحشرات التي تنمو خلال الفصول الممطرة، مثل مرض النوم الإفريقي African sleeping sickness، وشيكونغونيا Chikungunya، وحمى الضنك Dengue، والعمى النهري River blindness. وأما أغلب الأمراض الأخرى؛ فهناك القليل من التناغم أو المنطق وراء التوقيت. ويقول نيل نيثانسون Neal Nathanson، وهو اختصاصي فيروسات فخري من كلية طب بيريلمان في جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvania Perelman School of Medicine: “الأمر الذي يثير دهشتي هو أنه يمكن العثور على فيروس يصل ذروته في كل شهر من السنة تقريبًا في البيئة نفسها وفي المواقع نفسها. وهذا أمر جنوني حقًا إذا تمعنت به”. أما نيثانسون؛ فيرى أن هذا التباين يشير إلى أن النشاطات البشرية، كعودة الأطفال إلى المدارس أو تجمع الناس في منازلهم في الطقس البارد، وليست دافعا للتباين الموسمي.: ” تنتقل أغلب الفيروسات بين الأطفال، وفي هذه الظروف، ستتوقع أن أغلب الفيروسات ستكون متزامنة”، كما يقول.
ويشك نيثانسون في أنه، على الأقل في الفيروسات، فإن قدرتها على العيش خارج الجسم البشري أكثر أهمية. فالمادة الجينية في بعض الفيروسات ليست مُحاطة ببروتين قُفَيصي Capsid protein فحسب، بل أيضًا بغشاء يدعى الغلاف Envelope، الذي يتكون في العادة من الدهون Lipids. ويتفاعل مع خلايا المضيف خلال عملية العدوى، ويساعده على تجنب هجمات الجهاز المناعي. والفيروسات ذات الأغلفة أكثرُ هشاشة وعرضة للظروف للتأثر بالظروف المحيطة، كما يقول نيثانسون، وذلك يشتمل على سبيل المثال على حرارة الصيف والجفاف.
وفي 2018 نشرت دراسة في دورية تقارير علمية Scientific Reports داعمة لهذه الفكرة. وحلل اختصاصي الفيروسات سانديب رامالينغام Sandeep ramalingam من جامعة إدنبره University of Edinburg وزملاؤه انتشار تسعة فيروسات وتباينها الموسمي، بعض هذه الفيروسات مغلف وبعضها غير مغلف، من أكثر من 36 ألف عينة تنفسية أخذت على مدى 6.5 سنة من أشخاص التمسوا العناية الطبية في منطقتهم. ويقول رامالينغام: “الفيروسات المغلفة لها تباين موسمي محدد جدًا “.
ولكل من الفيروس RSV والفيروس البشري التالي لالتهاب الرئة Human metapneumovirus أغلفة، مثلها مثل الإنفلونزا، وتصل ذروتها في أشهر الشتاء. ولا يستمر أي منها لأكثر من ثلث السنة. أما الفيروسات الأنفية Rhinoviruses، وهي أحد مسببات الزكام التي نعرف عنها أكثر من غيرها؛ فتفتقر إلى الغلاف، ومن المفارقة لا تفضل الطقس البارد؛ ووجدت الدراسة الفيروسات في العينات التنفسية في 84.7% من أيام السنة، وبينت أنها تصل ذروتها عندما يعود الأطفال إلى المدرسة من عطلتي الصيف والربيع. وأما الفيروسات الغدانية Adenoviruses، وهي مجموعة أخرى من فيروسات الزكام؛ فتفتقر إلى الغلاف، ولها نمط مشابه غير موسمي، حيث تبقى موجودة بين الناس لأكثر من نصف السنة.
كما درس فريق رامالينغام العلاقة بين وفرة الفيروس وتغيرات الطقس اليومية. ووجدوا أن الإنفلونزا والفيروس RSV يكونان في أفضل حالاتهما عندما يكون التغير في الرطوبة النسبية على مدى 24 ساعة أقل من المعدل (أي أن الفرق أقل من 25%). ويستنتج رامالينغام: “هناك أمر محير عند النظر إلى الغلاف الدهني الأكثر هشاشة” عندما تختلف الرطوبة بشكل كبير.
يؤكد جيفري شامان Jeffrey Shaman، وهو اختصاصي جيوفيزياء المناخ من جامعة كولومبيا، على أن الأمر الأكثر أهمية في انتشار فيروس الإنفلونزا هو الرطوبة المطلقة Absolute humidity؛ وهي مجموع كمية بخار الماء في حجم معين من الهواء، وليست الرطوبة النسبية Relative humidity؛ وهي مقياس يدل على مدى قرب الهواء من مستوى التشبع. وفي ورقة نشرت في عام 2010 في الدورية العلمية بلوس بيولوجي PLOS Biology أبلغ شامان ومارك ليبسيتش Marc Lipsitch، من كلية هارفارد تي. إتش. تشان للصحة العامة Harvard T.H. Chan School of Public Health، أن الانخفاض في الرطوبة المطلقة فسّر بداية أوبئة الإنفلونزا في الولايات المتحدة القارية تفسيرًا أفضل من الرطوبة النسبية أو درجة الحرارة. كما أن الرطوبة المطلقة تنخفض بسرعة في الشتاء؛ لأن الهواء البارد يحمل مقدارًا أقل من بخار الماء.
وأما عن السبب الذي يجعل الرطوبة المطلقة الأقل تعزز نشاط بعض الفيروسات على الأخرى؛ فيبقى غير واضح. ويقول شامان إن المتغيرات التي قد تؤثر في قابلية الغشاء الفيروسي على النجاة قد تتضمن تغيرات في الضغط الأسموزي Osmotic pressure، ومعدلات التبخر، ومستوى الحمضية pH. ويقول: “بمجرد أن تصل إلى صلب الموضوع، فإننا لا نمتلك إجابات”.
هل سنرى أن سارس-كوف-2، الذي له غلاف، يصبح هشًا في الربيع والصيف عندما تزداد الرطوبة المطلقة والنسبية؟ لا نستطيع الحصول على أدلة تجيب عن هذا التساؤل من الأمراض الأخرى التي تسببها فيروسات الكورونا الأخرى، كالمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة Severe Acute Respiratory Syndrome (اختصارًا: المتلازمة SARS)، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية Middle East Respiratory Syndrome (اختصارًا: المتلازمة MERS). وظهرت متلازمة سارس في نهايات 2002 وانتهى انتشارها في صيف 2003 بفضل جهود الاحتواء الحثيثة. أما المتلازمة ميرس؛ فتنتقل بشكل فردي من الجمال إلى بشر وقد سببت فاشيات Outbreaks في المستشفيات، ولكنها لم تظهر أي انتشار واسع من شخص إلى آخر. ولم ينتقل أي من الفيروسين بين الناس لفترة كافية، على نطاق كاف، لظهور أي دورة موسمية.
هناك أربعة فيروسات كورونا بشرية تسبب الزكام وبعض الأمراض التنفسية الأخرى، وتعطينا معلومات أكثر في هذا المجال. ثلاثة منها ذات “تباين فصلي شتوي واضح”، بحيث يكون اكتشافها في الصيف قليلا أو معدوما، وذلك بحسب ما استنتجته اختصاصية الأحياء الجزيئية كيت تيمبيلتون Kate Tempelton، من جامعة إدنبره، من تحليل أجرته عام 2010 على 11661 عينة تنفسية جُمعت بين عامي 2006 و2009. وهذه الفيروسات تتصرف بشكل أساسي كالإنفلونزا.
ولا يعني ذلك أن كوفيد-19 سيتصرف مثلها.
ومن الواضح أن الفيروس بإمكانه الانتقال في الأجواء الدافئة والرطبة؛ فهناك أكثر من 240 حالة في سنغافورة. ونُشرت ورقتان علميتان على خوادم النسخ الأولية Preprint servers في بداية شهر مارس، وقد توصلتا إلى استنتاجين متناقضين. الورقة الأولى، والتي شارك في تأليفها ليبسيتش، نظرت إلى انتشار كوفيد-19 في 19 محافظة في الصين، والتي تراوحت ما بين الطقس البارد والجاف إلى الطقس الاستوائي، ووجدوا انتقالًا ثابتًا في كل مكان. أما الدراسة الثانية؛ فتستنتج أن الانتقال يبدو أنه يحدث فقط في أحزمة معينة من الكرة الأرضية، والتي فيها متوسط درجات حرارة ما بين 5 إلى 11 درجة سيليزية، ورطوبة نسبية تتراوح ما بين 47% إلى 70%.
وقد تكون فيروسات الكورونا الأخرى أكثر عرضة للتغيرات الفصلية في البيئة؛ وذلك ببساطة لأن هذه الفيروسات تصيب الإنسان منذ زمن أطول بكثير. وعندما تُكوّن نسبة كبيرة من الناس مناعة، فإن البيئة غير المفضلة قد توفر الدفعة الإضافية الضرورية لنفي هذه الفيروسات بشكل مؤقت. ولكن، ليست هذه هي الحال مع كوفيد-19، تقول مارتينيز: “مع أنه قد يكون هناك انخفاض فصلي كبير، إن كان هناك عدد كاف من الأشخاص المعرضين إلى الإصابة، فإن المرض قد يعاكس ذلك ويستمر إلى فترة طويلة”. ولا يظن ليبسيتش أن الفيروس سيختفي في أبريل أيضًا. وأي تباطؤ “يتوقع أن يكون بسيطًا، وغير كاف لإيقاف انتقال العدوى بحد ذاته”، كما كتب ليبسيتش في منشور على مدونة مؤخرًا.
تبحث مارتينيز في مركز سُرّي في عامل آخر قد يؤثر بالنهاية في معدل الإصابة بكوفيد-19. عاد المتطوعون إلى العيادة بشكل متكرر، في الانقلاب الشتوي والصيفي، وأيضًا في الاعتدال الربيعي والخريفي، حتى يتسنى للباحثين تقييم أجهزتهم المناعية والتغيرات الفيسيولوجية الأخرى على مدار اليوم ومن فصل إلى آخر.
ولا تتوقع مارتينيز أن تثبت أن مناعتنا، على سبيل المثال، أضعف في الشتاء وأقوى في الصيف. ولكن عن طريق عدّ مختلف خلايا الجهاز المناعي، وتقييم نواتج الأيض Metapolites، والسيتوكينات Cytokines في الدم، وفك شيفرة الميكروبيوم Microbiome في البراز، وقياس الهرمونات، فإن فريق مارتينيز يأمل بأن يتعلم ما إذا كانت الفصول “تعيد تنظيم” Restructure الجهاز المناعي، جاعلة بعض أنواع الخلايا أكثر وفرة في أجزاء معينة من الجسم، وأخرى أقل، بطريقة تؤثر في تعرضنا للكائنات الممرضة.
وتدعم الدراسات الحيوانية فكرة أن المناعة تختلف باختلاف الفصول. فعلى سبيل المثال، درست باربارا هيلم Barbara Helm من جامعة غرونينغن University of Groningen وزملاؤها طائرَ القليعي المطوق الأوروبي European stonechat، وهو أحد الطيور المغردة Songbirds التي أمسكوا بها ثم هيأوا لها فرصة التكاثر في الأقفاص. و بأخذ عدة عينات دم على مدى سنة، وجدوا أن مناعة الطيور تزداد في الصيف، ثم تنخفض في الخريف، وهو الوقت الذي تهاجر فيه، ويفترض أن السبب وراء ذلك هو أن الهجرة تتطلب الكثير من طاقتها.
وهناك الميلاتونين Melatonin، وهو هرمون تفرز بشكل أساسي الغدة الصنوبرية Pineal gland، وهو سبب أساسي لمثل هذه التغيرات. ويعمل هذا الهرمون على تتبع الوقت خلال اليوم، ولكنه أيضًا يشكّل “تقويمًا سنويًا حيويًا” للفصول، كما يقول راندي نيلسون Randy Nelson، اختصاصي الغدد الصماء من جامعة ويست فيرجينيا West Virginia University، المتخصص بالإيقاع اليومي Circadian rhythm. فعندما تكون الليالي طويلة، يزداد إفراز الميلاتونين. “تقول الخلايا: ‘أوه، أرى الكثير من الميلاتونين، أعرف أنها إحدى ليالي الشتاء'”. وفي دراسة أجريت على حيوانات الهامستر السيبيري Siberian Hamsters، وهي كائنات نهارية كالإنسان، أظهر نيلسون وزملاؤه أن إعطاء الميلاتونين أو تغيير أنماط الضوء يمكنها أن تغير الاستجابة المناعية لما يصل إلى 40%.
“إذا عرفنا ما الذي يثبط الإنفلونزا إلى أدنى مستوياتها في الصيف، فإن ذلك سيكون أكثر فعالية بكثير من لقاحات الإنفلونزا التي لدينا”
سكوت دويل. مؤسسة بيل ومليندا غيتس
يبدو أن الجهاز المناعي البشري أيضًا له إيقاع يومي فطري. فعلى سبيل المثال، في تجربة لقاح أجراها باحثون من جامعة بيرمنغهام University of Bermingham على 276 بالغًا، اختير نصفهم بشكل عشوائي ليأخذوا لقاح الإنفلونزا في الصباح، والنصف الآخر في المساء. وكانت استجابة الأجسام المضادة لدى المشاركين في مجموعة الصباح أعلى بشكل واضح في اثنين من سلالات الإنفلونزا الثلاث في اللقاح، وذلك حسب ما أبلغ عنه الباحثون في 2016.
كما أن هناك أدلة على التباين الموسمي في سلوك الجينات المناعية البشرية كذلك. في تحليل ضخم لعينات دم وعينات أنسجة من أكثر من عشرة آلاف شخص في أوروبا والولايات المتحدة وغامبيا وأستراليا، وجد باحثون من جامعة كيمبريدج University of Cambridge أن هناك نحو أربعة آلاف جين مرتبط بالوظيفة المناعية كانت تظهر “صفات تعبير موسمي”. وفي إحدى دراسات المجموعات Cohort study الألمانية، كان التعبير الجيني لواحد من كل أربعة جينات في جينوم خلايا الدم البيضاء يختلف بحسب الفصل. وتميل الجينات في النصف الشمالي من الكرة الأرضية إلى أن تُفَعَّل في الوقت الذي تنطفئ فيه هذه الجينات جنوب خط الاستواء، والعكس صحيح.
وأما عن الكيفية التي تؤثر بها هذه التغيرات في قدرة الجسم على مقاومة الكائنات الممرضة؛ فتبقى أمرًا غير واضح، كما يوضح اختصاصي المناعة زاكوين كاسترو دوبيكو Xaquin Castro Dopico وزملاؤه في ورقة نشرت في عام 2015 واصفين ما توصلوا إليه. وقد تكون بعض النتائج بسبب العدوى، بدلًا من أن تكون سببًا لها. وحاول الفريق أن يستثني المصابين بعدوى حادة، ولكن، “بالتأكيد، فإن حِمل العداوى الفصلية Seasonal infectious burden غالبًا ما يؤدي دورًا في ذلك”، وكما يقول دوبيكو، وهو يعمل حاليًا في معهد كارولنسكا Karolinska Institute. ولا يمكن للتغيرات المناعية الفصلية أن تفسر كل التباينات المعقدة في التباينات الموسمية للأمراض. وكما يشير نيثانسون: “لا تتزامن الأمراض مع بعضها البعض”. كما أنه يتشكك في أن التغيرات المناعية الموسمية يمكنها أن تكون كبيرة كفاية لتولّد مثل هذا الفرق. “يجب أن تكون مختلفة بشكل كبير جدًا”.
أما مارتينيز؛ فتقول إنها وجدت تلميحات مثيرة للاهتمام. وعلى الرغم من التحليلات الأولية من دراساتها في جامعة سري، والتي جمعت آخر بياناتها في ديسمبر 2019، لا تبين أي شيء عن التباين الموسمي بعد، إلا أنها تظهر أن هناك مجموعات معينة من خلايا الدم البيضاء التي تؤدي دورًا أساسيًا في جهاز المناعة والذاكرة المناعية والاستجابة المناعية تزداد في أوقات معينة من اليوم. وتأمل بأن تؤكد النتائج بإطلاق دراسة مشابهة أكبر من هذه في السنة المقبلة.
وتحذر مارتينيز من أن الضوء الاصطناعي قد يؤثر سلبًا في الإيقاع اليومي الطبيعي، وقد تكون هناك آثار غير متوقعة على مدى تعرض الشخص إلى المرض. ومن أجل استكشاف الآثار المحتملة، تعمل مارتينيز على دراسة منفصلة قيد التحضير، مع هيلم، في كل من الأجزاء الريفية والحضرية في نيويورك ونيوجيرسي. وقد ضعت الباحثتان مستشعرات ضوء على الأشجار والأْعمدة وزودتا المشاركين بأجهزة تراقب التعرض إلى الضوء ودرجة حرارة الجسم. وتقول: “حقيقة أن الناس يُغرقون الإيقاع اليومي بالإضاءة قد تكون مشكلة في حد ذاتها”.
“التجارب في الطبيعة” قد توفر تبصرات في العوامل التي تؤثر في التباين الموسمي للمرض، وذلك حسب ما اقترح دويل في ورقة نشرها في عام 2001. الأشخاص من نصف الكرة الشمالي ومن نصفها الجنوبي، الذين تكيفوا مع الفصول المختلفة، يختلطون بشكل منتظم في السفن السياحية أو في المؤتمرات، حيث يتعرضون إلى الكائنات الممرضة نفسها، لاحظ التفشي الكبير لكوفيد-19الذي حدث على متن السفينة السياحية دايموند برينسس Diamond Princess، والتي رست وعزلت صحيًا في يوكوهاما باليابان، لمدة أسبوعين في شهر فبراير. يمكن للباحثين أن يحللوا ما إذا كان هؤلاء الأشخاص قد أصيبوا بالعدوى بنسب مختلفة.
وتقول مارتينيز إنه بغض النظر عن الإجابات، إلا أنها في النهاية قد تجلب منافع مهمة للصحة العامة. وعلى سبيل المثال، “إن كنا نعلم أفضل الطرق التي يمكن بها التطعيم، من حيث أفضل وقت في السنة وأفضل وقت في اليوم، كي نستفيد من وضعية أجهزتنا المناعية، فإننا يمكننا أن نحصل على أكثر بكثير مقابل الجهود المبذولة”، كما تقول مارتينيز.
وتقول إن حالة طوارئ كوفيد-19 قد تجلب المزيد من الاهتمام بالبحث وتساعد على التوصل إلى اكتشافات مهمة. ولكن الآن، لا أحد يعرف ما إذا كانت زيادة الرطوبة، أو الأيام الأطول، أو أي أثر فصلي آخر غير متوقع، قد يأتي لنجدتنا، أو ما إذا كان على البشر مواجهة الجائحة Pandemic من دون مساعدة من الفصول.
الوقت وحده سيخبرنا.
نشرت المقالة في مجلة ساينس Science
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.