رياضيات الحياة والموت: كيف تشكل نمذجات الأمراض سياسات الحظر على المستوى القومي
بقلم: مارتن إنسيرينك، كاي كوبفرشميت
ترجمة: د. عبد الرحمن سوالمة
المحاكاة الحاسوبية التي يجريها جاكو والينغا Jacco Wallinga على وشك أن تواجه اختبارًا صعبا على أرض الواقع. والينغا هو اختصاصي بالرياضيات، وهو رئيس النمذجة الوبائية في المعهد الوطني للصحة العامة والبيئة National Institute for Public Health and the Environment (اختصارًا: المعهد RIVM)، الذي يقدم النصح إلى الحكومة الهولندية حول أي الإجراءات التي يجب اتخاذها، مثل إغلاق المدارس والأعمال؛ مما يساعد على ضبط انتشار فيروس كورونا المستجد في الدولة.
حتى الآن، اختارت هولندا مجموعة تدابير متراخية أكثر من غيرها من دول غرب أوروبا؛ فقد تأخرت في إغلاق مدارسها ومطاعمها، ولم تأمر بعدُ بالحظر الكامل. وفي خطاب ألقاه رئيس الوزراء مارك روته Mark Rutte بتاريخ 16 مارس، رفض فيه “الذهاب إلى ما لا نهاية لاحتواء الفيروس” و” إغلاق الدولة بشكل كامل”. وبدلًا من ذلك، اختار “الانتشار المضبوط” Controlledspread للفيروس في المجموعات ذات الخطر المنخفض من حيث تطوير الصورة الشديدة من المرض، وفي الوقت نفسه التأكد من أن النظام الصحي غير غارق بمرضى كوفيد-19. ودعا الجماهير إلى احترام خبرة المعهد RIVM في الكيفية التي ستحقق بها التوازن المطلوب. وتتوقع نمذجات والينغا أن عدد الأشخاص المصابين بالعدوى ويحتاجون إلى دخول المستشفى؛ وهو أهم مقياس عنده، سيقل بحلول نهاية الأسبوع، ولكن إذا كانت النمذجات مخطئة، فإن الحاجة إلى أسرَّة العناية المركزة قد يتجاوز الإمدادات، كما حصل بشكل مأساوي في إيطاليا وإسبانيا.
كوفيد-19 ليس المرض المعدي الوحيد الذي وضع له العلماء نمذجات، ففيروسا إيبولا Ebola وزيكا Zika هما مثالان حديثان على ذلك، ولكن لم يسبق وأن كان الاعتماد على عملها مهما بهذا القدر من قبل. وهناك مدن ودول كاملة طبقت الحظر بناء على تنبؤات صممت على عجل، وفي أغلب الأحيان لم يراجعها القرناء. “صار من الواضح فجأة مقدار اعتماد الاستجابة للأمراض المعدية على النمذجات”، كما يقول والينغا. وبالنسبة إلى المسؤولين عن النمذجة، “تلك مسؤولية ضخمة”، كما تقول اختصاصية الوبائيات كيتلين ريفرز Caitlin Rivers من مركز جامعة جونز هوبكنز للأمن الصحي Johns Hopkins University Center for Health Security، والتي شاركت في كتابة تقرير حول مستقبل نمذجة الفاشيات في الولايات المتحدة، والتي نشرها مركزها بتاريخ 24 مارس 2020.
وفي بداية شهر مارس صار تأثير هذه النمذجات واضحًا في المملكة المتحدة. واعتمدت حكومة المملكة المتحدة، بشكل جزئي، على نمذجة أجرتها مجموعة من إمبيريال كوليدج لندن Imperial College London، وبناء عليه اتبعت الحكومة في البداية تدابير أقل تشددا مقارنة بالعديد من الدول الأخرى، ولم يختلف ذلك عن الاستراتيجية التي تتبعها هولندا. فالإغلاق على مستوى المدن وإغلاق المدارس، كما أمرت به الصين في البداية، “سينتج منه وباء Epidemic ثان بمجرد إزالة هذه التدابير”، هذا ما وصلت إليه مجموعة من المنمذجين تعمل على نصح الحكومة ونشرته في تصريح لها. كما توقعت المجموعة أن الضبط الأقل شدة سينتج منه تقليل في ذروة الوباء، وسيجعل أي عودة إلى المرض أقل شدة.
ولكن بتاريخ 16 مارس، نشرت مجموعة إمبيريال كوليدج نمذجة مراجعة جذرية، والتي، بناء على بيانات حديثة من المملكة المتحدة وإيطاليا، توصلت إلى أن الذروة حتى وإن انخفضت، فإنها ستملأ ما يصل إلى ضعفي عدد أسرَّة العناية المركزة مقارنة بما سبق أن توقعوه من قبل، وهو ما يفوق قدرة المستشفيات. وبحسب ما توصلوا إليه أيضًا، فإن الخيار الوحيد هو بذل أقصى الجهود في تدابير ضبط المرض. وفي أفضل الأحوال، يمكن للتدابير الصارمة أن تُخَفَّف بشكل دوري لفترات قصيرة، بحسب ما قالت المجموعة (انظر: الشكل التوضيحي). فقدغيرت حكومة المملكة المتحدة مسارها خلال أيام، وأعلنت إغلاقًا صارمًا.
منمذجو الأوبئة هم أول من يعترفب أن إسقاطاتهم قد تكون غير صحيحة. “كل النمذجات تكون على خطأ، ولكن بعضها مفيد”، وفقا لما قاله اختصاصي الإحصاء جورج بوكس George Box؛ وهي عبارة صارت تقليدية في مجال الإحصاء.
رياضيات الكتب
ليس الأمر أن العلم الكامن وراء النمذجة مُختَلفٌ عليه. يستخدم والينغا نمذجة ثابت الأسس التي تُقسِّم الهولنديين إلى أربع مجموعات، أو أقسام، بحسب مصطلحات المجال: وهم الأصحاء، والمرضى، والمتعافين، والمتوفين. وتحدد المعادلات عدد الأشخاص الذين ينتقلون بين الأقسام بمرور الأسابيع والأشهر. ويقول والينغا: “الجانب الرياضياتي من المسألة مماثل لما في الكتب”، ولكن نتائج النمذجة تتباين كثيرًا بحسب صفات الكائن الممرض Pathogen والجمهور المصاب.
وبما أن الفيروس الذي يسبب كوفيد-19 مستجد، فإن المنمذجين يحتاجون إلى تقديرات لبعض المقاييس النموذجية الأساسية Key model parameters. كما تأتي هذه التقديرات، خصوصًا في الأيام الأولى من الفاشية، من عمل المنمذجين. فعلى سبيل المثال، بحلول نهاية يناير كانت عدة مجموعات قد نشرت تنبؤات متشابهة إلى حد ما لعدد حالات العدوى الجديدة التي يسببها كل شخص معدي عندما لا تؤخذ أي إجراءات لضبط المرض، وهو مقياس يسميه اختصاصيو الوبائيات (آر نوت) R0. “أعطى هذا التوافق التقريبي في هذه المرحلة المبكرة من الجائحة المنمذجين الفرصة للتحذير من الوباء والجائحة المحتملة اللذين سينتجهما هذا الكائن الممرض المستجد بعد أقل من ثلاثة أسابيع من أول التقارير الإخبارية عن الفاشية المرضية التي نشرتها منظمة الصحة العالمية World Health Organization (اختصارا: المنظمة (WHO حول الفاشية”. هذا ما قالته مايا ماجومدير Maia Majumder، وهي اختصاصية بالحوسبة الوبائية من كلية طب جامعة هارفارد Harvard Medical School، التي أنتجت مجموعتها أحد هذه التقديرات المبكرة.
يقول والينغ إن فريقه أيضًا قضى الكثير من الوقت في تقدير المعدل R0 لفيروس سارس-كوف-2 (SARS-CoV-2)، الفيروس الذي يسبب كوفيد-19، ويشعر بأنه متأكد أن المقياس أكثر من اثنين بقليل. كما أنه واثق بتقديره أن ثلاثة إلى ستة أيام هي الفترة التي تمضي من اللحظة التي يصاب بها الشخص حتى يبدأ بإصابة الآخرين. كما حصل فريق المعهد RIVM، من مسح أجري عام 2017 للهولنديين، على تقديرات جيدة حول عدد الأشخاص المخالطين لكل فئة عمرية في المنزل، والمدرسة، والعمل، وخلال وقت الفراغ. يقول والينغ إنه أقل ثقة حول قابلية كل فئة عمرية للإصابة بالعدوى ومعدل نقل الأشخاص للفيروس في مختلف الفئات العمرية. ويقول إن أفضل التقديرات تأتي من دراسة أجريت في شينجين، وهي مدينة تقع في جنوب الصين.
تفترض النمذجات المبنية على الأقسام أن جمهور الناس مختلط بشكل متجانس، وهو افتراض منطقي لدول صغيرة كهولندا. وهناك مجموعات أخرى تطور نمذجات ولكنها لا تستخدم أقساما، بل تعمد إلى محاكات التفاعلات اليومية بين ملايين الأفراد. ومثل هذه النمذجات أقدر على تصوير الدول غير المتجانسة كالولايات المتحدة، أو كل أوروبا. وتدعو المنظمة WHO منمذجي كوفيد-19 بانتظام مقارنة الاستراتيجيات والنتائج، ويقول والينغا: ” هذا يساعد- إلى حد كبير- على تقليل الاختلافات بين النمذجات التي يجد صناع القرار أنه من الصعب التعامل معها”.
ومع ذلك، فإن النمذجات يمكنها أن تنتج صورًا مختلفة بشكل كبير؛ فهناك دراسة نمذجة مثيرة للجدل وأُشتهِرت بشكل واسع، نشرتها مجموعة من جامعة أكسفورد بتاريخ 23 مارس. وتجادل هذه الدراسة في أن الوفيات المرصودة في المملكة المتحدة يمكن تفسيرها باستخدام سيناريو مختلف كليًا عن السيناريو المقبول حاليًا. فبدلًا من اعتبار أن فيروس سارس-كوف-2 انتشر خلال الأسابيع الماضية وسبب مرضًا شديدًا في نسبة كبيرة من الأفراد، كما تقترح أغلب النمذجات، فإنه يمكن للفيروس أن يكون قد انتشر عبر المملكة المتحدة منذ يناير، وقد يكون أصاب بالفعل ما يصل إلى نصف السكان، مسببًا مرضًا خطيرًا في نسبة ضئيلة فقط. وكلا السيناريوهين لهما الاحتمال نفسه، وذلك حسب ما تقوله سونيترا غوبتا Sunetra Gupta، اختصاصية الوبائيات النظرية التي قادت عمل مجموعة أكسفورد. وتضيف قائلةً: “أظن أننا غفلنا عن التفكير في أنه من المحتمل أن الكثيرين منا أصبحت لديه مناعة ضد المرض، وهي إمكانية كبيرة متساوية الاحتمال”. وتقول إن النمذجة لا يمكنها الإجابة عن التساؤل بنفسها، فالفحص الواسع للأجسام المضادة Antibodies وحده يمكنه الإجابة عنه، ويجب أن يجري ذلك بشكل عاجل.
يقول آدم كوشارسكي Adam Kucharski ، وهو منمذج في مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة London School of Hygiene & Tropical Medicine، إن السيناريو الذي تقترحه مجموعة أكسفورد بعيد الاحتمال. ويقول إن العلماء لا يعلمون بالضبط عدد الأشخاص الذين تظهر عليهم أعراضٌ طفيفة جدًا أو لا تظهر عليهم أي أعراض، ولكن البيانات من دايموند برينسيس Diamond Princess، وهي سفينة سياحية رست في يوكوهاما باليابان، لمدة أسبوعين، وكان فيها تفشٍ كبير لكوفيد-19، ومن رحلات العودة الجوية وغيرها من المصادر تخالف فكرة وجود عدد كبير من الحالات الخالية من الأعراض. كما يقول: “لا نعلم الآن، هل هي 50% من دون أعراض أو 20% أو 10%. لا أظن أن السؤال هو: أهي 50% أم 99.5% من دون أعراض”.
امتطاء النمور
خلال مراجعة ريفرز وزملائها لنمذجات تفشي المرض في الولايات المتحدة، لاحظوا أن أغلب اللاعبين الرئيسيين هم أكاديميون ذوو دور بسيط في السياسة. وفي العادة لا “يشاركون في عملية صنع القرار، ونوعًا ما يكون لهم دور محوري في عالَم جديد عندما يحل أمر طارئ”، كما تقول. وتضيف قائلة: “سيكون الأمر أكثر فعالية إذا استطاعوا أن يكونوا في موقع الحدث مع الحكومة، يعملون جنبًا إلى جنب مع صناع القرار”. وتجادل ريفرز في صالح إنشاء مركز وطني للتنبؤ بالأمراض المعدية National Infectious Disease Forecasting Center، مماثلٍ لخدمة الطقس الوطنية. سيكون هو المصدر الأساسي للنماذج في الأزمات، وسيدعم علم تفشي الأمراض في “وقت السلام”.
تقول ديفي سريدار Devi Sridahr، وهي خبيرة بالصحة العالمية من جامعة إدنبره University of Edinburg إن صُنّاع القرار اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على نماذج كوفيد-19. وتقول: “أنا لست متأكدة ما إذا كانت النمذجات النظرية ستؤدي دورًا في الحياة الحقيقة”. ويقول ويليام هاناغ William Hanage اختصاصي بالوبائيات من جامعة هارفارد إنه من الخطير بالنسبة إلى السياسيين الوثوق بالنمذجات التي تدعي تبيان الكيفية التي نُبقي بها فيروس لم ندرسه إلا قليلًا تحت السيطرة. ويقول: “الأمر يشبه أن تقرر أنك تريد أن تمتطي نمرًا. المشكلة أنك لا تعرف أين هو النمر، وما هو حجمه، وكم عدد النمور في الحقيقة”.
يقول كوشارسكي إن النمذجات تعطي أفضل فائدة عندما تتعرف على شيء غير واضح. ويقول إن أحدى الوظائف المفيدة هي بيان أن مسح درجات حرارة الناس في المطارات سيخفق في التعرف على أغلب المصابين بفيروس كورونا.
كما أن هناك الكثير مما لا تلتقطه النماذج؛ على سبيل المثال، لا يمكنها التنبؤ بتطوير فحص أسرع وأسهل للتعرف على الأشخاص المصابين وعزلهم، أو التنبؤ بمضاد فيروسات فعال يقلل من الحاجة إلى أسرة المستشفيات. ويقول إيرا لونجيني Ira Longini، منمذج في جامعة فلوريدا: “هذه هي طبيعة النمذجة: نضع فيها ما نعلمه”. كما لا تأخذ أغلب النمذجات بالحسبان المعاناة التي تصاحب التباعد الاجتماعي Social distancing، أو إن كان الناس يطيعون الأوامر ويبقون في المنزل. يقول جابرييل لوينغ Gabriel Leung، وهو منمذج من جامعة هونغ كونغ University of Hong Kong إن هناك بيانات حديثة من هونغ كونغ وسنغافورة تشير إلى أن التباعد الاجتماعي المفرط يصعب المحافظة عليه. وكلتا المدينتين تشهد ارتفاعًا في عدد الحالات، وهو ما يظن لوينغ أنه ينشأ على الأقل جزئيًا من “الإنهاك في الاستجابة” Response fatigue. ويقول: “كنا نحن المثال الأفضل لأننا بدأنا مبكرًا. ومضينا في الموضوع بجد كبير”. والآن، “مضى شهران، وقد بدأ الناس يعانون تعبًا شديدًا”. ويظن أن كلتا المدينتين قد تكون على حافة “تفشٍ محلي كبير وثابت”.
يمكن للإغلاقات الطويلة من أجل إبطاء المرض أن تكون لها آثار كارثية في الاقتصاد، وهو ما قد يؤثر بدوره في الصحة العامة. يقول لوينغ: “هذا صراع ثلاثي الأطراف. بين حماية الصحة، وحماية الاقتصاد، وحماية سلامة الناس وصحتهم النفسية”.
ويقول لونجيني إن النماذج لا تأخذ الأثر السلبي في الاقتصاد بالاعتبار، ولكن ذلك قد يجب أن يتغير. ويقول: “علينا على الأرجح أن نتصل ببعض المنمذجين الاقتصاديين وأن نحاول أخذ ذلك بالاعتبار”.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.