العثور على أقدم عظام هومو سابينس في أوروبا
قلادات من أسنان دببة الكهوف تثير جدلاً حول الروابط الثقافية مع النياندرتال
بقلم: آن غيبونز
ترجمة: صفاء كنج
خلال موجة من الدفء قبل نحو 47 ألف سنة، لجأت مجموعة صغيرة من البشر إلى كهف على المنحدر الشمالي لجبال البلقان Balkan Mountains في بلغاريا اليوم. هناك، ذبحوا ثيران البيسون والخيول البرية ودببة الكهوف، تاركين أرضية الكهف مغطاة بالعظام وثروة من القطع الأثرية؛ من الخرز العاجي والقلادات المصنوعة من أسنان دب الكهف، وشفرات حجرية ملطخة بصباغ حجر المُغرة الأحمر.
وقد كانت هذه المنطقة منذ فترة طويلة موطناً لمجموعات من إنسان نياندرتال Neanderthals الذين تركوا أدوات حجرية في الكهف نفسه قبل أكثر من 50 ألف سنة. ولكن سكان الكهوف هؤلاء كانوا جدداً في أوروبا، كما أفاد فريق دولي لمجلة نيتشر Nature في الأسبوع الثاني من مايو. فقد أعاد الباحثون حفر الكهف واستخدموا مجموعة أدوات متطورة لتصنيف ضرس Molar وحفنة من شظايا عظام على أنها تنتمي إلى هومو سابينس) الإنسان العاقل) Homo sapiens، وهو النوع Species الذي ننتمي إليه. والتواريخ الجديدة الدقيقة تُظهر أن سكان الكهف عاشوا منذ 47 ألف عام، الأمر الذي يجعلهم أقرب أعضاء معروفين من نوعنا في أوروبا.
وآخر إنسان نياندرتال لم يختفِ من أوروبا الغربية إلا قبل نحو 40 ألف سنة، لذا لا بد أن هذين النوعين من البشر قد تعايشا في القارة طيلة خمسة آلاف عام على الأقل؛ وقد أظهرت دراسات الحمض النووي DNA السابقة أنهما تزاوجا.
و العمل الجديد يعيد إثارة نقاش مزمن حول الكيفية التي يؤثر فيها النياندرتال والإنسان الحديث في ثقافات بعضهم البعض، لأنه يربط الإنسان الحديث بمجموعة من الأدوات التي تشبه تلك التي صنعها النياندرتال في فترة لاحقة. وتقول كاترينا هارفاتي Katerina Harvati ، الاختصاصية بعلم الإنسان القديم من جامعة تيوبنغن University of Tübingen الألمانية: “إنه مثال رائع على تجميع كل هذه الخيوط من الأدلة معاً لتشكيل حجة قوية بأن الهومو سابينس هم من صَنع” بعض تلك القطع الأثرية.
وعظام هومو سابينس الأول نادرة في أوروبا، لذا يحاول الباحثون التعرف عليهم من الأدوات والمصنوعات الفنية اليدوية التي يُعتقد أن الإنسان الحديث ينفرد بها. وتشمل هذه القطع الأثرية مصنوعات متطورة تُعرف بالثقافة الأوريغناسية Aurignacian، بما في ذلك الأدوات الحجرية القاطعة Bladelets، والتماثيل الصغيرة المنحوتة، والآلات الموسيقية التي يرجع تاريخها إلى ما بين 43 ألف و33 ألف سنة مضت. وقد يتميز عهد النيندرتال، قبل نحو 400 ألف إلى 40 ألف سنة، بأدوات من الثقافة الموسترية Mousterian الأقل دقة من حيث الصنع. ولكن الباحثين محتارون حول من الذي صنع القطع القديمة “الانتقالية”؛ ومنها كيس من الأدوات المصنوعة من العظام والخرز والحلي التي سبقت الأوريغناسية مباشرة. فقد عُثر على إحدى مجموعات الأدوات هذه التي تنتمي إلى العصر الحجري القديم العلوي Initial Upper Paleolithic (اختصاراً: العصرIUP)، في الشرق الأوسط قبل نحو 47 ألف عام ثم ظهرت لاحقاً عبر أوراسيا Eurasia.
والأحافير الجزئية التي عُثر عليها مع المصنوعات القديمة في موقع واحد في المملكة المتحدة وفي موقع بإيطاليا تشير إلى أن الهومو سابينس بنوا بعض التجمعات الانتقالية، ولكن لا تزال هناك أسئلة تتعلق بهذه التواريخ في تلك المواقع. و في سبعينات القرن العشرين عُثر في الكهف البلغاري، المسمى باتشو كيرو Bacho Kiro، على رفات بشرية، لكنها فُقدت بعد ذلك.
وقد انضم جان جاك هوبلين Jean-Jacques Hublin ، الاختصاصي بعلم الإنسان القديم، وزملاؤه من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية Max Planck Institute for Evolutionary Anthropology إلى الباحثين البلغاريين لإعادة حفر كهف باتشو كيرو في عام 2015. وقد عثروا على آلاف العظام والأدوات الحجرية والعظمية والخرز وقلادات وعلى ضرس بشري.
والضرس يدل على أن صاحبه ينتمي إلى الهومو سابينس، لكن العديد من العظام كانت مُشظّاة جداً إلى درجة لا يمكن معها معرفة ما إذا كانت حيوانية أم بشرية. لذا، فحص فريق معهد ماكس بلانك البروتينات في العظام. وقد استخرج الفريق الكولاجين من 1271 شظية وطبق منهجًا تحليليًا جديدًا يُسمى زومز ZooMs لتحليلها. وكانت أربعة أجزاء من الطبقات القديمة بشرية. وبعد ذلك، استخرج الباحثون الحمض النووي DNA من هذه العظام، ومن السن، ووجدوا أن تسلسلات الميتوكوندريا – الحمض النووي DNA الأكثر وفرة في العديد من الرفات – هي للهومو سابينس. وحاليًا يعمل الفريق على تحليل الحمض النووي DNA من أنوية خلايا الرفات.
وفي الوقت نفسه، فإن هيلين فيولاس Helen Fewlass، اختصاصية التأريخ بالكربون المشع من معهد ماكس بلانك، وزملاؤها احتسبوا عمر الكولاجين مباشرة من 95 عظمة. وفي مقال نشرته مجلة نيتشر إيكولوجي أند إيفوليوشن Nature Ecology & Evolution أفادوا بأن عظام الإنسان والأدوات والمصنوعات تعود إلى ما بين 43650 و45820 سنة مضت. وتقول فيولاس إن أعمار عظام الحيوانات التي تركها البشر تشير إلى أنهم كانوا في الكهف “ربما اعتباراً من 46940” سنة مضت. وفي هذا الوقت تقريباً، بدأ الدفء يحل على مناخ أوروبا، الأمر الذي ربما جذب هومو سابينس مزوّدين بأدوات العصر IUP للمغامرة باتجاه الشمال انطلاقاً من الشرق الأوسط إلى البلقان وأبعد من ذلك، وفق هوبلين. (ومع ذلك، يُظهر الحمض النووي DNA لهؤلاء الواصلين الأوائل أنهم لم يتركوا أحفادًا في أوروبا اليوم).
ويلاحظ هوبلين أن القلادات المصنوعة من أسنان دببة الكهوف في باتشو كيرو تُشبه القلادات التي يُعتقد أنها مصنوعات يدوية تركها النياندرتال في وقت لاحق وصُنعت قبل نحو 42 ألف إلى 44 ألف سنة – وتمثل ما يُسمى الصناعة الشاتيلبيرونية Châtelperronian التي عُثر عليها لأول مرة في موقع مغارة غروت دو ران Grotte du Renne في فرنسا. وهو يجادل في أن هذا يدعم ادعاءه الراسخ بأن النياندرتال تعلموا صنع هذا النوع من القلادات من الإنسان الحديث.
ولكن آخرين يقولون إن الاستنباط مبالغ فيه. ويقول نيك كونارد Nick Conard، الاختصاصي بعلم الآثار من جامعة تيوبنغن أيضاً، إن التقنيات “الانتقالية” مثل أدوات العصر IUP متنوعة جداً وواسعة الانتشار لدرجة أنه ليس من الواضح أن نوعاً واحداً من البشر اخترعها. أما فرانشيسكو ديرِّيكو Francesco d’Errico ، الاختصاصي بعلم الآثار من جامعة بوردو University of Bordeaux الفرنسية، والذي يجادل هوبلين منذ فترة طويلة في قدرات إنسان نياندرتال؛ فيشير إلى كاشطات عظمية مسننة Notched bone scrapers وأشياء تشبه الخرز كدليل على أن النياندرتال كانوا قادرين على ابتكار مصنوعات فنية وتقنية متطورة قبل أن يلتقوا بالإنسان الحديث.
ولا شك في أن الجدل سيستمر، لكن علماء الآثار سعداء جدا بالتواريخ “المهمة جداً” للبقايا التي عثر عليها في باتشو كيرو كما يقول توم هيغام Tom Higham، الاختصاصي بالتأريخ باستخدام الكربون المشع من جامعة أكسفورد University of Oxford. ويوضح: “إننا للمرة الأولى قادرون على تأكيد أن أدوات العصر IUP صنعها إنسان حديث تشريحياً في أوروبا “.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved