ما الذي نتعلمه من أربعة فيروسات كورونا عن كوفيد-19 عبر التاريخ؟
تسبب أربعة فيروسات كورونا نحو رُبع حالات الزكام، ولكن كلًا منها على الأرجح كان مميتًا عندما حقق القفزة إلى البشر. نستطيع أن نتعلم الكثير مما حدث بعدها
بقلم: أنتوني كينغ
ترجمة: د. عبد الرحمن سوالمة
عام 1889 انتشرت فاشية مرضية Outbreak من وسط آسيا إلى العالم، بادئة بذلك جائحة Pandemic امتدت آثارها إلى السنة التالية. وكانت تسبب الحمى والتعب، ويتوقع أنها قتلت مليون شخص. فقد ألقي لوم هذا المرض على الإنفلونزا Influenza بشكل عام، وأعطي الاسم “الإنفلونزا الروسية” Russian flu. ولكن، في ظل عدم وجود عينات نسيجية للفحص بحثًا عن فيروس الإنفلونزا Flue virus، لا توجد أدلة قاطعة على ذلك.
وهناك احتمال آخر، وهي أن “الإنفلونزا” كانت جائحة سببها أحد فيروسات كورونا Coronavirus. ووجهت أصابع الاتهام إلى فيروس عُزل في ستينات القرن الماضي، مع أنه اليوم لا يسبب شيئًا خطيرًا أكثر من الزكام Cold. في الواقع، هناك أربعة فيروسات كورونا يقدر أنها مسؤولة عن 20 إلى 30 % من حالات الزكام. ومؤخرًا فقط، بدأ اختصاصيو الفيروسات بالبحث في هذه الفيروسات المملة ظاهريًا، وما وجدوه يشير إلى أن الفيروسات كان لها ماضٍ أكثر إماتة من الآن. ويعتقد الباحثون الآن أن جميع هذه الفيروسات الأربع بدأت تصيب الإنسان في القرون القليلة الماضية، وعندما كانت تصيبهم، كانت على الأرجح تسبب جائحات.
التشابهات مع الأزمة الحالية واضحة. ويبدو أن معرفتنا المتزايدة لفيروسات كورونا الأخرى هذه قد تكون مهمةً في مواجهة تحدي كوفيد-19. ويمكن للمعلومات حول أصول ومسارات وسمات فيروسات كورونا المسببة للزكام أن تزودنا بأدلة حاسمة حول ما يجب أن نتوقعه في الأشهر أو السنوات القادمة. كما قد يساعدنا فهم هذه الفيروسات غير الخطيرة نسبيًا على تجنب جائحة أخرى.
فيروسات كورونا (الفيروسات التاجية) Coronaviruses هي عائلة كبيرة من الفيروسات التي تشتهر بشكل أساسي في التسبب بالأمراض في الماشية. وحتى وقت قريب، لم يعرها كثيرًا من الاهتمام إلا بعض اختصاصيي الفيروسات. ويقول فرانك إيسبر Frank Esper، من عيادة كليفلاند Cleveland Clinic في أوهايو: “اكتُشِفت فيروسات كورونا البشرية في ستينات القرن العشرين”. ولكن السلالتين اللتين اكتشفتا لم تسببا إلا الزكام، ويقول أيضًا: “نحيناها جانبًا؛ فقد كانت لدينا فيروسات أهم لندرسها”.
تغير هذا التصرف اللامبالي في عام 2002 عندما بدأ عضو جديد في عائلة فيروسات كورونا بإصابة البشر. وبحلول الوقت الذي وُضِع فيه وباء المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة Severe Acute Respiratory Syndrome (اختصارًا: المتلازمة SARS) تحت السيطرة في السنة التي تلتها، كان الفيروس سارس-كوف-1 (SARS-CoV-1) قد أصاب 26 دولة وقتل 10 من أصل 8 آلاف شخص أو أكثر أصابهم. وحقيقة أن هناك فيروس كورونا يمكنه أن يكون بهذه الإماتة كان بمثابة إنذار بالخطر. وكان الفيروس منعزلًا مهملًا في عالم الفيروسات، وصار فجأةً في دائرة الضوء.
وسرعان ما تُتُبِّع الفيروس سارس-كوف-1 إلى جذوره، واكتشفت فيروسات قريبة منه في الخفافيش، وهي حيوانات تتيح لها فسيولوجيتها الغريبة أن تعيش مع عدد كبير من فيروسات كورونا من دون أن تصاب بالمرض. ويبدو أن فاشية المتلازمة SARS بدأت عندما بدأ أحد هذه الفيروسات الخفاشية بإصابة قطط الزباد Civet Cats، وانتقل من هذا المضيف الوسطي إلى البشر.
لفيروسات كورونا بروتينات على أسطحها، وتعمل بمثابة المفتاح الذي يفتح قفل خلايا مختلفة في أنواع مضيفة مختلفة. ويمكن لهذه البروتينات أن تغير شكلها نتيجة لطفرات جينية، أو عندما تتبادل الفيروسات المادة الوراثية فيما بينها، فاتحة أبوابًا جديدة لأنواع جديدة من المضيفين. وقد يكون أحد هؤلاء المضيفين هو البشر، وهذا ما صار واضحًا بشكل مثير للقلق بعد فاشية المتلازمة SARS. وكان ذلك مفاجئًا لاختصاصيي الفيروسات، مما دفعهم إلى بدء رحلة لاستكشاف فيروس كورونا، متتبعين فيروسات كورونا في الأشخاص وفي الحياة البرية في محاولة منهم لفهم الكيفية التي تحصل بها هذه التغيرات، وما هي المخاطر المستقبلية المحتملة.
“يقدر أن ما نسبته 20 إلى 30%من حالات الزكام تسببها أربعة فيروسات كورونا”
كانت إحدى صائدات الفيروسات متقدمة في السباق، ليا فان دير هويك Lia van der Hoek، من جامعة أمستردام University of Amsterdam في هولندا؛ والتي كانت تُحسِّن من تقنية جينية لاكتشاف فيروسات غير معروفة، وقد وجدت مؤخرًا فيروس كورونا آخر، HCoV-NL63، في طفل عمره سبعة أشهر مصاب بالتهاب الشعب الهوائية Bronchitis. وتقول: “وجدت الفيروس NL63 بالصدفة، قبل أن عرفنا عن المتلازمة SARS، وبدأ كل العالم بالمسح”. وأظهر عقد من الأبحاث التي تلت ذلك أن الفيروس NL63 واسع الانتشار، ويظهر فيما نسبته 1 إلى 9% من المصابين بعداوى المسار التنفسي حول العالم؛ ويسبب الحمى والسعال وألم الحلق والتهاب القصبات والتهاب الرئة. ودائمًا ما يصاب الأطفال به في السنوات الأولى من الحياة. وتقول فان دير هويك: “السعال العالي الذي قد يصاب به الأطفال، كعواء الفقمات، هو سمة نموذجية للفيروس NL63”. أي أنّ ، الفيروس NL63 هو فيروس كورونا آخر مرتبط بالزكام.
وجدت فيروسات قريبة من الفيروس NL63 منذ ذلك الحين في الخنازير والقطط والخفافيش. وفي 2012 أشارت المقارنات الجينية بين الفيروس البشري وبين الفيروسات الموجودة في الخفافيش إلى أنها اشتركت في سلف قديم قبل 563 إلى 822 سنة. وهذا يشير إلى أن الفيروس حقق القفزة إلى البشر في وقت ما بالقرن الثالث عشر والخامس عشر. وعندما حصل ذلك، كانت النتيجة عبارة عن جائحة، هذا ما يقوله رالف باريك Ralph Baric، اختصاصي الفيروسات من جامعة نورث كارولينا University of North Carolina. وكما هي الحال مع الفيروس سارس-كوف-2 SARS-CoV-2، الفيروس المسبب لمرض كوفيد-19، فإن الفيروس NL63 الأصلي كان ليكون مميتًا إن أصاب السكان البشر الذين لديهم مناعة ضعيفة. وكلا الفيروسين يربط نفسه بالمستقبل الخلوي نفسه، الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 (Angiotensin-converting enzyme 2)، والموجود بوفرة في الرئتين والأمعاء. ويقول باريك: “يبدو هذا كأنه شبيه بالإنفلونزا. ولكنه يسبب مرضًا أشد في كبار السن مقارنة بصغار السن”.
يريد باريك من المؤرخين الطبيين أن يبحثوا عن أدلة على جائحات في العصور الوسطى، ولكن لا دليل على أنهم سيجدون أيًا منها؛ وفي ذلك الوقت، عايش البشر عددًا كبيرًا من العداوى، من ضمنها فيروسات كالإنفلونزا والأمراض البكتيرية كالسل Tuberculosis، كما تقول فان دير هويك. وتقول أيضًا: “لا أعلم إن كانت جائحة المتلازمة SARS في العصور الوسطى ستجلب الانتباه”. ولكن، من الممكن أن دليلًا كهذا موجود لجائحة قريبة سببها فيروس كورونا. وهنا يأتي دور الإنفلونزا الروسية.
إعادة التفكير في الإنفلونزا الروسية
بعد فاشية المتلازمة SARS، تجدد الاهتمام بفيروسي كورونا المسببين للزكام اللذين اكتشفا في ستينات القرن العشرين، واللذين يبدوان غير مثيرين للاهتمام، وهما الفيروس HCoV-229E والفيروس HCoV-OC43. ويقول مارك فان رانست Marc Van Ranst، من جامعة لوفان الكاثوليكية KU Leuven في بلجيكا: ” ليست لهذه الفيروسات أسماء فاخرة، ما يعني أنها لم تدرس بشكل كبير. وكان الفيروس OC43 والفيروس 229E فيروسين يتيمين لوقت طويل”. وفي 2003 صار هو وفريقه أول من حدد تسلسل جينوم الفيروس OC43، والذي اكتشف عام 1967 في وحدة الزكام Common Cold Unit في ساليسبيري بالمملكة المتحدة. وعن طريق مقارنة تسلسله الجيني بسلالات فيروسية موجودة في حيوانات أخرى، استنتج الباحثون أن الفيروس OC43 لا بد وأن أصله كان من الماشية أو الخنازير. وبأخذ معدلات الطفرات المتوقعة بالاعتبار، وبالحساب رجوعًا، قدر الفريق أن القفزة للبشر حدثت نحو عام 1890. هل يبدو ذلك مألوفًا؟
وهذا التاريخ ليس الأمر الوحيد الذي يربط الفيروس OC43 بالإنفلونزا الروسية؛ فالعديد من المرضى في تلك الجائحة كانت لديهم أعراض واضحة تؤثر في الجهاز العصبي المركزي. وحاليا، وعلى الرغم من أن الفيروس يرتبط غالبًا بالزكام الخفيف، إلا أنه معروف بأنه يصيب النسيج العصبي. وهذا الفيروس مشتبه به في بعض أمراض الجهاز العصبي مثل الداء المزيل للميالين المزمن Chronic Demyelinating Disease والتصلب المتعدد Multiple Sclerosis. وليس هذا فحسب، ففي عام 1994 نُشر تقرير عن طفل عمره ست سنوات أصيب بفيروس كورونا بقري الأصل، وهو ما يشير إلى أن السلالات المنتشرة في الماشية يمكنها بالفعل أن تجد طريقها متسللة إلى البشر. وإذا كان الفيروس OC43 هو المتهم في جائحة عامي 1889/90، فمن الواضح أنه فقد قدرته خلال السنوات 130 الماضية. ويقول فان رانست: “على الأرجح أنه استمر لعدد جيد من السنين، وكان على شكل فصول سيئة من الإنفلونزا، حتى فقد ببطء تدريجي آلية الإصابة بالمرض”.
وماذا عن الفيروس 229E؟ في منتصف ستينات القرن الماضي عزل هذا الفيروس، وأشارت التجارب اللاحقة إلى أن نصف المتطوعين المصابين بالفيروس 229E أصيبوا بالبرد بعد يومين إلى خمسة أيام. وفي 2007 عاد الفيروس إلى الساحة عندما اكتُشف أحد أقربائه في حيوانات الألباكا Alapaca المصابة بمرض تنفسي. وفي الوقت نفسه، كان هناك باحثون يقودهم كريستيان دروستين Christian Drosten، ومن بعدهم باحثون من جامعة بون University of Bonn في ألمانيا، يبحثون في مجموعة من فيروسات كورونا القريبة من الفيروس 229E في الخفافيش ذات الأنف الورقي Leaf-Nosed Bats في غانا. وأشارت دراساتهم إلى أن الفيروس 229E ترك الخفافيش ليجد طريقه إلى البشر في وقت ما بين 1686 و1800.
وفي عام 2012 بدأت قطع الأحجية بالتلاؤم مع بعضها البعض عندما أصاب فيروس كورونا جديد وغامض ومميت في المملكة العربية السعودية مسببًا ما عرف بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية Middle East Respiratory Syndrome (اختصارًا: المتلازمة MERS). وتُتُبِّع الفيروس المسؤول عنه، وهو ميرس-كوف MERS-CoV، إلى مصدره في الجمال وحيدة السنام، وبينما كان دروستين وغيره يبحثون في هذا الرابط، وجدوا أن 5.6%من هذه الجمال في المملكة العربية السعودية وإفريقيا مصابة بفيروسات قريبة من الفيروس 229E.
وتشير المقارنات الجينية للفيروس 229E والفيروسات القريبة منه في الحيوانات إلى أنها نشأت في الخفافيش الإفريقية وانتقلت إلى الجمال قبل أن تصيب البشر خلال القرن الثامن عشر أو نحوه. وكما هي الحال مع ميرس، فإنها على الأرجح تسببت بجائحة عندما وصلت إلى البشر لأنهم لم تكن لديهم مناعة ضدها. وكما هي الحال مع الفيروس NL63، لم يبحث أحد عن دليل في السجلات التاريخية.
فكرة أن فيروسات كورونا المسببة للزكام كانت أكثر إماتة بكثير عند بداية ظهورها في البشر تدعمها الدراسات على الحيوانات. فعلى سبيل المثال، في عام 2016، أمسك العلماء فيروس كورونا متلبسًا في تهمة القفز بين الأنواع إلى الخنازير. وتقول ليندا سيف Linda Saif، من جامعة ولاية أوهايو Ohio State University: “كان التسلسل الجيني مرتبطًا بشكل وثيق بفيروسات كورونا في الخفافيش، ومن ثم بدا كأن الفيروس كان قد انتقل مباشرة من الخفافيش”. وقد قتل هذا الفيروس 25 ألف خنوص (ولد الخنزير) بالصين في بضعة أشهر فقط. وتقول سيف إن هذه الأحداث شائعة، وقد أمضت سيف عقودًا في البحث في فاشيات فيروسات كورونا المستجدة في الحيوانات. وعلى سبيل المثال، في تسعينات القرن الماضي، دمر فيروس كورونا تنفسي بما يعرف بـ”حمى الشحن ” Shipping fever قطعان الماشية. وفي عام 1977 ظهر داء مسبب للإسهال يسببه فيروس كورونا في الخنازير في أوروبا، وبعدها انتشر إلى الصين ومن ثم إلى الولايات المتحدة، إذ يقدر أنه قتل ثمانية ملايين خنزير.
وتقول سيف: “من الممكن جدًا أن فيروسات كورونا [المسببة للزكام] عندما قفزت أولًا إلى البشر، قد سببت نوبات من المرض الشديد”. ولكن المفاجئ في الموضوع هو مدى ندرة حدوث هذه القفزات. ويقول إيسبر: “عندما حدثت المتلازمة SARS، بدأ الأشخاص مثلي بالبحث عن فيروسات كورونا أخرى قد تسبب عداوى تنفسية”. ولم يظهر إلا فيروس واحد. وفي عام 2005 اكتُشف فيروس كورونا الرابع المسبب للزكام في مريض عمره 71 سنة مصابًا بالتهاب الرئة في مستشفى هونغ كونغ. والفيروس HCoV-HKU1 يسبب أمراضًا تنفسية وقد سُجّل على مستوى العالم. ويبدو أن أقرب أقربائه هو فيروس كورونا الموجود في القوارض. ولا نعلم متى بدأ بإصابة البشر. ومع ذلك، فإن إيسبر يلفت النظر إلى أن الأشخاص أقل احتمالًا لأن يدخلوا المستشفى بسبب الفيروس HKU1 والفيروس NL63 مقارنة بفيروسي 229E وOC43، وهو ما يشير ربما إلى أن الاثنين الأولين لهما جذور أقدم في البشر.
والفيروس HKU1 يجلب قليلًا من الاهتمام، ولكن إيسبر اهتم به بشكل خاص عندما وُجِد في عدة مرضى في مستشفى محلي بأوهايو. وقد اكتَشف أن الأشخاص الأكبر سنًا يصابون إصابة أشد بشكل خاص بالفيروس كورونا هذا. وبينما يُظَن في الغالب أن فيروسات الزكام تسبب أمراضًا تصيب الأطفال، يقول إيسبر إن فريقه قد وجد أن البالغين يشكلون ما نسبته 70% من حالات العدوى بفيروسات كورونا هذه. وهذا يختلف عن أغلب الفيروسات، ولكنه يطابق ما نكتشفه عن الفيروس المسبب لمرض كوفيد-19. ويقول إيسبر: “يبدو أن جميع فيروسات كورونا هذه تعمل بشكل مماثل جدًا. وفهم سبب إصابتها للبالغين بهذه النسبة العالية قد يكون أحد الأسئلة المهمة التي ستعطينا فهمًا لجائحة فيروس كورونا الحالية، وكذلك الجائحات المستقبلية”.
تنافس بين الفيروسات
وهناك رقم آخر مثير للاهتمام مرتبط بفيروسات كورونا الأربعة المسببة للزكام: ينتشر وينحسر. وتقول فان دير هويك: “في حالة الفيروس NL63، فإن هناك سنينًا يكون الانتشار فيها كبيرًا وسنينًا يكون الانتشار فيها قليلًا. وقد لاحظنا أنها تصل إلى ذروتها كل سنتين تقريبًا”. وإضافة إلى ذلك، كانت عداوى الفيروس NL63 والفيروس OC43 بين عامي 200 و2010 أكثر شيوعًا في الأطفال من الفيروس 229E والفيروس HKU1. وتقول: “هذه الفيروسات في تنافس”. كما لاحظ إيسبر أن الفيروسات تضرب على مراحل. ويقول: “هنا في أوهايو كانت السنة الماضية استثنائية بالنسبة إلى الفيروس HKU1″، حيث أصاب ما يصل إلى 160 حالة. وكذلك الحال بالنسبة إلى الفيروس OC43، والذي كان شائعًا أيضًا، أما بالنسبة إلى الفيروسين NL63 و229E فبالكاد كانت هناك إصابات تُذكر. ويقول: “ربما كان ذلك بسبب زيادة نشاط الجهاز المناعي، والذي يعطي الحماية لسنتين ومن ثم يقل نشاطه”.
ولكن، قد يكون هناك تفسير أكثر قتامة؛ فقد وجدت تجربة أجريت في عام 1990، قد أظهرت أن المتطوعين المصابين بالفيروس 229E كانوا أكثر عرضة للإصابة مرة أخرى في السنة التالية. وإذا كانت هذا هي الحال، فإنهم لم يعانوا أي أعراض ولكنهم كانوا قادرين على نقل الفيروس. وتظن فان دير هويك أن هذا له دلالات مثيرة للقلق فيما يتعلق بمواجهة كوفيد-19. وتقول: “هل يمكنك تخيل ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى حماية الأشخاص الأكثر عرضة؛ عندما يكون عندنا أشخاص من دون أعراض يفرزون الفيروس دون أن يعلموا؟” وتقول إن الأشخاص الذين لديهم أجسام مضادة لفيروس سارس-كوف-2 يجب أن تُدرس لنرى إذا كان ذلك ينطبق أيضًا على مرضى كوفيد-19.
وعلى الرغم من ذلك، تعطينا الأبحاث حول فيروسات الزكام بعض الأسس للتفاؤل أيضًا. وتتكون عائلة فيروسات كورونا من أربع عائلات فرعية، وتنتمي الفيروسات البشرية إلى عائلتين منها. والفيروس NL63 والفيروس 229E في مجموعة تسمى ألفا Alpha، جنبًا إلى جنب مع فيروسات كورونا الهرّية والكلبية. أما الفيروس OC43 والفيروس HKU1؛ فينتميان إلى العائلة الفرعية بيتا Beta، والتي تحتوي أيضًا على الفيروسات المسببة للمتلازمتين MERS وSARS وكذلك كوفيد-19. وتقول فان دير هويك إن الأجسام المضادة لأحد الفيروسات قد تكون فعالة ضد فيروس آخر قريب. وتقول: “من المؤكد أننا يجب أن نبحث في مسألة إذا كان الأشخاص يحصلون على بعض الحماية حاليا [ضد كوفيد-19] بمجرد إصابتهم بعدوى الفيروس OC43 أو الفيروس HKU1”. ولكن فان رانست يحذر أن العكس ربما لا يكون صحيحًا. ويقول: “ربما إذا كنت أكبر في السن وعندك بعض المناعة المتبقية ضد بعض فيروسات كورونا، فهناك احتمال أكبر أن جسدك سيبالغ في ردة الفعل”.
وعلى المدى الأطول، لا يستطيع اختصاصيو الفيروسات توقع الكيفية التي سيتطور بها الفيروس سارس-كوف-2. وربما يستمر بالتسبب بأمراض شديدة لعدد من السنوات، خصوصًا في الأشخاص الأكبر سنًا. ولكن، يبدو من المرجح أنه سيصير يومًا ما مجرد فيروس زكام آخر. ويقول إيسبر إن هذه الفيروسات هي من نوع ‘اضرب واهرب’، ويضيف قائلًا : “هذه الفيروسات تصيبك، وتولد ملايين الفيروسات وتنشرها جميعًا”، ولكن جهازنا المناعي يقتلها في العادة خلال خمسة أيام. وإذا كانت الفيروسات شديدة الإماتة، فإنها لن تحصل على فرصة الانتشار، ومن ثم فإنه من مصلحتها أن تصير أقل خطرًا. يقول إيسبر: “إذا استمر الفيروس سارس-كوف-2 بالوجود، وهو ما أتوقع أن يحدث، فإنه قد يصير أقل خطرًا بمرور الوقت”.
يعاني البالغون في المعدل إصابتين إلى ثلاث إصابات من الزكام كل عام، ويصاب الأطفال به أكثر من ذلك. وتسبب هذه الحالاتِ مجموعةٌ من الفيروسات، من ضمنها أربعة من فيروسات كورونا (انظر: المقال الرئيسي) والتي تعتبر مسؤولة عن نحو رُبع هذه الحالات. ولكن، في الغالب يكون المتهم فيروسًا أنفيًا Rhinovirus، وهو مصطلح يعني حرفيًا “فيروس الأنف”. وهناك نحو 100 نوع مختلف منه، والتي تعتبر مسؤولة عن نصف حالات الزكام. وتربط هذه الفيروسات بالسعال والاحتقان، كما تربط أيضًا بعداوى الأذن والجيوب. وهناك أيضًا فيروسان قريبان، وهما الفيروس المخلوي التنفسي Respiratory syncytial virus و الفيروس البشري التالي لالتهاب الرئة Human metapneumovirus، اللذان يستقران في المجرى التنفسي. وفي الحالات الشديدة، يمكنهما أن يسببا التهاب الرئة والتهاب القصبات. وإذا أصبت بزكام الصيف، فإن مقترف الجريمة في هذه الحالة هو فيروس نظير الإنفلونزا البشرية Human parainfluenza virus، والذي يأتي في أربعة أشكال. وهذه الفيروسات تسبب أحيانًا أمراضًا شديدة أيضًا. وعلى الرغم من ذلك، وكما هي الحال مع أغلب حالات الزكام، فإن النتيجة الاعتيادية هي أنك ستتعافى في غضون أسبوع أو ما يقارب ذلك.
© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC