يتزايد الأمل باستهداف الدماغ بالموجات فوق الصوتية
طريقة غير باضعة لتعديل النشاط العصبي تدخل مرحلة اختبارات جديدة في البشر
بقلم: كيلي سيرفيك
ترجمة: IEEE بالعربية
كطريقة لرؤية ما في داخل الجسم أو للكشف عن ورم أو جنين، فإن الموجات فوق الصوتية Ultrasound مُجرّبة ودقيقة. ولكن علماء الأعصاب لديهم طموح جديد لهذه التكنولوجيا: معالجة الدماغ. وعند ترددات Frequencies أدنى من موجات السونار Sonogram، ولكنها لا تزال خارج نطاق السمع البشري، يمكن أن تخترق موجات فوق الصوتية الجمجمة وتعزّز نشاط الدماغ أو تكبحه. وإذا استطاع الباحثون إثبات أن الموجات فوق الصوتية تُغيّر وظائف الدماغ البشري بشكل آمن ويمكن توقع نتائجه، فقد تكون أداة بحث قوية وغير باضعة Noninvasive ووسيلة جديدة لمعالجة اضطرابات الدماغ.
ولا تزال الكيفية التي تعمل بها الموجات فوق الصوتية على الدماغ غامضة. ولكن التجارب الأخيرة جاءت مطمئنة فيما يخص السلامة، وتشير دراسات محدودة إلى تأثيرات ذات مغزى في البشر – تخفيف الألم، على سبيل المثال، أو تحسين الإدراك تحسينا طفيفا. «لقد رأيت الكثير من البيانات المحيرة»، كما يقول مارك كوهين Mark Cohen، عالم الأعصاب من جامعة كاليفورنيا University of California، لوس أنجلوس (اختصارًا: الجامعة UCLA). «في حين أن التحديات كبيرة جدًا، إلا أن إمكانات هذا الأمر أكبر بكثير، لدرجة يتعين علينا متابعته».
وبالفعل، يستطيع العلماء تعديل الدماغ بطرق غير باضعة من تطبيق صدمات التيار الكهربائي أو النبضات المغناطيسية عبر الجمجمة. هذا، وقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية The U.S. Food and Drug Administration (اختصارًا: الإدارة FDA) على التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة Transcranial magnetic stimulation (اختصارًا: التحفيز TMS) لعلاج الاكتئاب وألم الصداع النصفي واضطراب الوسواس القهري Obsessive-compulsive disorder ( اختصارًا: الاضطراب OCD).
ولكن، على عكس المجالات المغناطيسية أو الكهربائية، يمكن تركيز الموجات الصوتية، مثل الضوء من خلال عدسة مكبرة، على نقطة عميقة في الدماغ دون التأثير في الأنسجة الأقل عمقا. وحاليا، لا يمكن الجمع بين العمق والتركيز إلا من خلال سلك مغروس جراحيًا. غير أن الموجات فوق الصوتية قد تعطل مؤقتًا منطقة عميقة من مناطق الدماغ البشري – مثلا: اللوزة الدماغية Amygdala، محرك الاستجابات العاطفية، أو المِهاد Thalamus، وهو محطة توصيل الشعور بالألم Relay station ومنظِّم الانتباه Alertness – لاختبار وظيفتها أو علاج مرض.
والنتائج في الحيوانات مشجعة. إذ أظهرت التجارب التي أجريت في الخمسينات من القرن العشرين أن الموجات فوق الصوتية قد تثبّط النشاط العصبي في منطقة بصرية visual region من دماغ القط. أما في القوارض؛ فقد أدى توجيه الموجات فوق الصوتية إلى المناطق الحركية إلى تحفيز حركات مثل ارتعاش المخلب أو الشارب. وتركيزه على منطقة أمامية من أدمغة النسانيس Monkey من الممكن أن يغير الكيفية التي تؤدي بها الحيوانات مهام حركة العين.
ومن الناحية الفنية، فمن الصعب توجيه الموجات فوق الصوتية عبر عظمة الجمجمة السميكة الكثيفة وإظهار أن طاقتها وصلت إلى النقطة المقصودة. كما يصعب التكهّن بتأثيرات الموجات فوق الصوتية في الدماغ. ويعتمد مقدار تعزيز أو تثبيط النشاط العصبي على العديد من العوامل، بما في ذلك توقيت وشدة نبضات الموجات فوق الصوتية، وحتى خصائص الخلايا العصبية المستهدفة ذاتها. «أنا متحمسة جدا للإمكانات»، كما تقول سارة هولينغسوورث ليزانبي Sarah Hollingsworth Lisanby، الطبيبة النفسية من المعهد الوطني للصحة العقلية National Institute of Mental Health، التي تدرس التعديل العصبي غير الجراحي. وتقول: «نحتاج أيضًا إلى الاعتراف بأن هناك الكثير مما يجب علينا أن نتعلمه».
وأحد الأمور هي أن الباحثين لا يعلمون الكيفية التي تتفاعل بها الموجات الصوتية مع خلايا الدماغ. ويقول ميخائيل شابيرو Mikhail Shapiro، مهندس الكيمياء الحيوية من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا California Institute of Technology، «هذا هو أهم سؤال في هذا المجال». وعند الترددات العالية، فقد تزيد الموجات فوق الصوتية حرارةَ خلايا الدماغ وتقتلها – وهي خاصية استغلها جراحو الأعصاب لكيّ أجزاء من الدماغ مسؤولة عن الارتعاش.
وحتى عند مستويات الشدة التي لا تزيد بها درجة الحرارة كثيرا، فإن الموجات فوق الصوتية تفرض قوة ميكانيكية على الخلايا. وتشير بعض الدراسات إلى أن هذه القوة تغير القنوات الأيونية Ion channels في الخلايا العصبية (العصبونات) Neurons ، مما يغير احتمال إطلاق الخلايا إشارة إلى جاراتها. وإذا كانت الموجات فوق الصوتية تعمل أساسا عبر القنوات الأيونية، «فهذه أخبار رائعة»، كما يقول شابيرو، ثم يضيف قائلا: «لأن هذا يعني أننا قد ننظر في المكان الذي يُعبّر فيه عن هذه القنوات وأن نتنبأ بأنواع الخلايا التي تستثيرها هذه القنوات». وفي مسودة ورقة بحثية نشرت في مايو على بيوآركايف bioRxiv، أفاد فريق شابيرو أن تعريض الخلايا العصبية لفأرة مزروعة في طبق اختبار للموجات فوق الصوتية يفتح مجموعة معينة من قنوات أيون الكالسيوم Calcium ion لاستثارة خلايا معينة استثارة أكبر.
ولكن هذه القنوات وحدها لن تفسر تأثيرات الموجات فوق الصوتية، كما يقول سيونغ تشيك يو Seung-Schik Yoo، عالم الأعصاب من جامعة هارفارد Harvard University. ويشير إلى أن الموجات فوق الصوتية يبدو أنها تؤثر أيضًا في المستقبلات الموجودة بخلايا الدماغ غير العصبية التي تسمى الخلايا الدبقية Glia. ويقول: «من الصعب جدًا تطوير أي نظرية موحدة حول الآلية الدقيقة للموجات فوق الصوتية».
بغض النظر عن الآلية، فقد بدأت الموجات فوق الصوتية تظهر تأثيرات واضحة، حتى وإن كانت طفيفة، في البشر. ففي عام 2014 أظهر فريق من معهد فرجينيا بوليتكنيك Virginia Polytechnic Institute وجامعة ستيت يونيفيرسيتي State University أن الموجات فوق الصوتية المرَكزة قد تزيد من النشاط الكهربائي في منطقة المعالجة الحسية للدماغ البشري وتحسن قدرة المشاركين على تمييز عدد النقاط التي تُلمس على أصابعهم. اختبر كريستوفر باتلر Christopher Butler، عالم الأعصاب من جامعة أكسفورد University of Oxford، وزملاؤه الموجات فوق الصوتية خلال مهمة حسية أكثر تعقيدًا: الحكم على حركة الانحراف، وهزهزة النقاط على الشاشة. وفي الاجتماع السنوي لجمعية علم الأعصاب الإدراكي Cognitive Neuroscience Society الذي عقد في مايو 2020 على الإنترنت، ذكر باتلر أن تحفيز المنطقة البصرية المعروفة بالفص الصدغي الأوسط Middle temporal (اختصارًا: الفص MT) لمعالجة الحركة تُحسن قدرة الأشخاص على الحكم على الطريقة التي انحرفت بها غالبية النقاط.
ويقول مارك جورج Mark George، الطبيب النفسي من جامعة كاليفورنيا الطبية Medical University of South Carolina الذي ساعد على تطوير وتحسين هذه التكنولوجيا، إن تأثيرات الموجات فوق الصوتية كانت حتى الآن أكثر براعة من تلك التي يحدثها التحفيز TMS. وفي تقنية التحفيز TMS تضع الأقطاب على رأسك وتشغيل الجهاز وسيتحرك إبهامك، كما يقول. ولكن تجارب الموجات فوق الصوتية التي أدت إلى ارتعاش مخالب في الفئران استخدمت قوة « أعلى بكثير مما يُسمح لنا باستخدامه في البشر».
وقد حدّت الجهات التنظيمية من الدراسات الإنسانية جزئيًا؛ لأن الموجات فوق الصوتية لديها القدرة على كيّ الدماغ أو التسبب في الضرر بإحداث فجوات Cavitation، حدوث فقاعات صغيرة في الأنسجة. وفي عام 2015 وجد يو وزملاؤه نزيفًا ميكرويا Microbleed، وهي علامة على تلف الأوعية الدموية، في أدمغة الأغنام التي تعرضت للموجات فوق الصوتية مرارا. وتقول كيم بوتس بولي Kim Butts Pauly، عالمة الفيزياء الحيوية من جامعة ستانفورد Stanford University: «لقد كانت هذه صدمة كبيرة». ولكنها وفريقها أفادوا بورقة نُشرت في فبراير بدورية تحفيز الدماغ Brain Stimulation، عن وجود نزيف ميكروي في حيوانات مجموعة التحكم (الضبط) Control group أيضًا، الأمر الذي يشير إلى أن هذا الضرر قد يَنتج من تشريح الأدمغة. وتقول بوتس بولي و يو الآن إنهما واثقان من إمكانية استخدام التكنولوجيا بأمان.
اختبر كوهين وزملاؤه مؤخرًا السلامة في الأشخاص من خلال استهداف المناطق المقرر إزالتها جراحيًا لعلاج الصرع Epilepsy باستخدام الموجات فوق الصوتية. وبموافقة الإدارة FDA، فقد استخدموا شدة تصل إلى ثمانية أضعاف الحد الأقصى المستخدم للتشخيص بالموجات فوق الصوتية. كما أفادوا في أبريل، بمسودة ورقة بحثية نُشرت على medRxiv، أنهم لم يجدوا أي تلف يُذكر في أنسجة الدماغ أو الأوعية الدموية. ومع ذلك، للعثور على حد الأمان، فمن المرجح أنه سيتعين على الباحثين تجربة جميع المستويات وصولا إلى المستويات التي تضر الأنسجة، كما يقول كوهين.
” في حين أن التحديات كبيرة جدًا، إلا أن إمكانات هذه التقنية أكبر بكثير لدرجة تدفعها إلى متابعة الأبحاث على استخداماتها”
هذا، وتختبر عدة فرق بحذر الموجات فوق الصوتية كعلاج. ففي عام 2016 ذكر مارتن مونتي Martin Monti، عالم الأعصاب من الجامعة UCLA، وزملاؤه أن رجلاً في حالة من الحد الأدنى من الوعي Minimally conscious state استعاد وعيه بعد تحفيز المهاد بالموجات فوق الصوتية. ويُعِد مونتي ورقة بحثية حول دراسة متابعة Follow-up study لثلاثة أشخاص يعانون حالات ضعف مزمن في الوعي. وبعد علاجهم بالموجات فوق الصوتية أظهروا استجابة متزايدة على مدى أيام – أسرع بكثير مما كان متوقعًا، كما يقول مونتي، على الرغم من أن الدراسة لم تتضمن مجموعة التحكم (الضبط).
وهذه الدراسة والاختبارات البحثية اللتان أجريتا على مرضى الصرع استخدمتا جهاز الموجات فوق الصوتية الذي طورته شركة برينسونكس BrainSonix Corporation. ويأمل مؤسسها ألكسندر بيستريتسكي Alexander Bystritsky، اختصاصي الطب النفسي العصبي من الجامعة UCLA، بأن الموجات فوق الصوتية قد تعطل الدوائر العصبية التي تتحكم في أعراض اضطراب الوسواس القهري OCD. ويخطط فريق من مستشفى ماساتشوستس العام Massachusetts General Hospital وكلية بايلور للطب Baylor College of Medicine لإجراء دراسة على البشر باستخدام جهاز شركة برينسونكس، كما يقول بيستريتسكي.
أما إليسا كونوفاغو Elisa Konofagou، مهندسة الكيمياء الحيوية من جامعة كولومبيا Columbia University؛ فتأمل باستخدام الموجات فوق الصوتية لعلاج مرض الألزهايمر Alzheimer. وقبل توقف تسجيل المشاركين في الدراسات بسبب كوفيد-19، كانت هي وزملاؤها يحضرون لدراسة تجريبية أولية Pilot study لحقن فقاعات صغيرة مليئة بالغاز في مجرى الدم لستة أشخاص مصابين بالألزهايمر واستخدام نبضات الموجات فوق الصوتية لتتذبذب الفقاعات الدقيقة في الأوعية الدموية المُبَطنة للدماغ. ويمكن للقوة الميكانيكية لهذه الاهتزازات أن تمزق الخلايا المبطنة لهذه الأوعية مؤقتا. ويأمل الباحثون بأن شق الحاجز الدموي الدماغي Blood-brain barrier سيساعد على إزالة البروتينات السامة. (يستكشف فريق كونوفاغو وآخرون أيضًا هذه المجموعة من الموجات فوق الصوتية والفقاعات الدقيقة لتوصيل العقاقير إلى الدماغ).
وفي أول اختبار له للموجات فوق الصوتية بعد سنوات من دراسة تقنية التحفيز TMS، بدأ جورج يتطلع إلى الحدّ من الألم. فقد عرّض فريقه أذرع 19 مشاركًا لحرارة متزايدة، وصار المشاركون أكثر حساسية عبر الاختبارات المتكررة، حتى صاروا في الاختبارات الأخيرة يبلغون عن الشعور بالألم عند درجات حرارة أكثر انخفاضا مما كانوا يبلغون عنها في التجارب الأولى. ولكن، إذا تعرضوا – بين الاختبار الأول والأخير- لنبضات من الموجات فوق الصوتية التي تستهدف المهاد، فإن عتبة الألم انخفضت بمقدار النصف. ويشير جورج إلى «أن هذا تأكيد قوي» على ضرورة مواصلة الأبحاث في استخدامات هذه التقنية.
يعالج جورج بانتظام المرضى المصابين بالاكتئاب باستخدام تقنية التحفيز TMS وقد رأى أن التكنولوجيا تنقذ الأرواح. «لكن الجميع يتساءل عما إذا كان بإمكاننا التعمّق في استخدام تقنيةٍ مختلفة – الأمر الذي سيغير قواعد اللعبة»، كما يقول. «الموجات فوق الصوتية قد تحقق هذا الوعد، ولكن السؤال هو هل يمكنها تحقيق ذلك حقًا؟».
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved