تشير الأدوات إلى أن البشر وصلوا إلى الأمريكتين في وقت مبكر
نقاد يشككون في اكتشافات مكسيكية تشير إلى استيطان خلال العصر الجليدي الأخير
بقلم: آندرو كيري
ترجمة: مي منصور بورسلي
للوهلة الأولى، قد يبدو كهف تشيكيهيتي Chiquihuite Cave في ولاية زاكاتيكاس بالمكسيك مكانًا غير مرجح للعثور على علامات تشير إلى وجود البشر الأوائل، ناهيك عن الأدلة التي قد تغير قصة استيطان الأمريكتين. فهذا الكهف يقع على ارتفاع شاق يبلغ ألف متر فوق واد مطل على تضاريس صحراوية تمتد بين الجبال شمال زاكاتيكاس. وللوصول إلى هناك؛ فإن الأمر يتطلب تسلق منحدر لمدة أربع أو خمس ساعات على أرض وعرة تشبه سطح القمر في صخورها المتعرجة.
ولكن هناك فريقا بقيادة سيبريان آرديليان Ciprian Ardelean، عالم الآثار من جامعة زاكاتيكاس المستقلة Autonomous University of Zacatecas، جامعة سيتي سيغلو 21 University City Siglo XXI، استخرج نحو ألفي قطعة حجرية من التربة تحت أرضية الكهف، ويعتقد الباحثون أنها عبارة عن أدوات Tools. ومن خلال الجمع بين أحدث طرق التأريخ، يجادل الفريق في أن البشر كانوا في الموقع قبل 26 ألف سنة على الأقل – أكثر من 10 آلاف سنة قبل أي استيطان بشري آخر معروف في المنطقة. ويقول آرديليان: “تشيكيهيتي هي نقطة معزولة” من الاستيطان البشري.
وهذا التأريخ يضع البشر في هذا الموضع خلال ذروة العصر الجليدي الأخير، عندما غطى الجليد الكثير مما هو حاليا كندا وكانت مستويات البحر أدنى بكثير. ويقول آرديليان إنه لكي يستقر البشر في المكسيك بحلول ذلك الوقت، يجب أن يكونوا قد دخلوا الأمريكتين قبل 32 ألف سنة أو أكثر، أي قبل أن يصل الجليد إلى حده الأقصى.
ويقول لورين ديفيس Loren Davis، عالم الآثار من جامعة ولاية أوريغون في كورفاليس، الذي لم يكن مشاركا في فريق البحث: “إذا صحّ أن البشر عاشوا في زاكاتيكاس قبل 32 ألف سنة، فإن ذلك يغير كل شيء – إنه يضاعف الوقت الذي قضاه البشر في الأمريكتين بما هو أكثر من الضعف”. ولكنه يظل متشككًا، جزئيًا لأنه غير مقتنع بأن القطع الأثرية هي أدوات. ويقول: “لن أقول إن ذلك مستحيل”. ويضيف قائلا: “ولكن إذا كان كل ما وجدوه عبارة عن صخور مكسورة دون أي دليل يؤكد أنها استخدمت كأدوات، فمن الطبيعي أن تكون متشككا”.
ومع ذلك، يقول هو وآخرون إنهم على استعداد للاقتناع. فلعقود، اعتقد معظم الباحثين أن البشر وصلوا إلى الأمريكتين منذ نحو 13 ألف سنة؛ وانتقدت ادعاءات متقطعة لوصول أسبق انتقادات شديدة. ولكن خلال العقد الماضي ظهرت أدلة على عمليات هجرة سابقة في مواقع تمتد من كندا إلى جنوب تشيلي. ويعتقد معظم الباحثين حاليا أن البشر سافروا بالقوارب على طول الساحل الغربي إلى أمريكا الشمالية، واستغلوا الموارد البحرية، منذ 16 ألف سنة، عندما تجمد الجزء الداخلي من القارة في الغالب (Science, 30 August 2019, p. 848).
فقط في موقع واحد فقط – كهوف بلوفشCaves Bluefish، في منطقة يوكون بكندا – أنتجت التحاليل تواريخ قديمة بقدم تشيكيهيتي. والباحثون يعزون الآلاف من عظام الحيوانات المكسورة هناك – التي يرجع تاريخها إلى نحو 24 ألف سنة – إلى الصيد البشري. غير أن الموقع لا يزال مثيرًا للجدل، ويرجع ذلك جزئيًا إلى وجود عدد قليل من الأدوات الحجرية أو علامات القطع على العظام.
وقد سمع آرديليان عن الكهف من القرويين المحليين. وبدءا من 2012، فقد أمضى هو وفريقه شهرًا واحدًا أو أكثر في كل موسم تنقيب في تشيكيهيتي، وكانوا ينقلون المؤنة كل بضعة أسابيع على ظهور الحمير. وعلى الرغم من أنه قاسٍ اليوم، إلا أن الموقع كان سيبدو مضيافًا قبل أكثر من 26 ألف سنة. فبالقرب من المدخل الأصلي للكهف يتدفق جدول يغذيه ينبوع، ظل مسدودًا منذ فترة طويلة بسبب الانهيارات الصخرية. والحمض النووي DNA والأدلة الأخرى التي استخلصها الباحثون من داخل الكهف أظهرت أن الكهف كان يطل على مشهد طبيعي وفير قد آوى طيور الكركي ونسور الكوندور والمرموط والمعزة وأغنام وخيول ودببة. ويقول آرديليان: “كانت أشبه بكولومبيا البريطانية أو أوريغون منها بصحراء”.
وظل آرديليان وفريقه يستكشفون قاع الكهف على مدى السنوات الثماني الماضية، فوجدوا أحجارًا على شكل ما يشبه الكاشطات والفؤوس اليدوية ورأس الرمح وأدوات أخرى في أعماق تصل إلى ثلاثة أمتار. وقد حدد خبراء التأريخ من جامعة أكسفورد University of Oxford، وجامعة نيو ساوث ويلز New South Wales (اختصارا: الجامعة UNSW)، وأماكن أخرى متى تعرضت الصخور لآخر ضوء، ونسبة عناصر الكربون المشع، لأكثر من 50 عينة من عظام الحيوانات والفحم التي عثروا عليها بالقرب من الأدوات. كما ذكرت المجموعة في مجلة نيتشر Nature في الأسبوع الثالث من يوليو، فإن القطع الأثرية قد طُرِحت على أرضية الكهف منذ 26 ألف سنة، ودفنها التراب لمدة 16 ألف سنة بعدها. والمؤلفون يجادلون في أن هذا يشير إلى حقيقة وجود بشري مستمر، يترددون على الكهف بانتظام على مدى آلاف السنين.
لم يعثر الفريق على الحمض النووي DNA البشري أو العظام التي قطعتها أيدي البشر. ولم يكتشفوا أيضًا موقدًا مركزيًا، لذلك لا يمكنهم التأكد من أن قطع الخشب المحروق؛ التي حللت بالتأريخ بالكربون المشع، هي نتيجة حرائق الغابات أو حرائق المخيمات التي قذفت بها الرياح إلى داخل الكهف. وتقول لورينا بيسيرا- فالديفيا Lorena Becerra-Valdivia، خبيرة التأريخ بالكربون المشع من الجامعة UNSW والعضوة بالفريق: “الدليل هو الدليل”. “نحن واثقون تمامًا من أن الأدوات الحجرية هي في الواقع أدوات حجرية”.
والنقاد يشيرون إلى أن الأدوات بسيطة ولا تشبه مجموعات الأدوات الأخرى من الأمريكتين، مما يزيد من احتمال أنها نتاج كسر طبيعي. “تبدوا كقطع أثرية، ولكن لماذا لم يعثر على مثلها سوى هنا؟”، يتساءل ديفيد ميلتزر David Meltzer، عالم الآثار من الجامعة الميثودية الجنوبية Southern Methodist University. وتشابه الأدوات مع بعضها رائع أيضًا، كما يقول. ويتابع قائلا: “إذا كانت هذه الأدوات حقيقية، فلماذا لم يعثر عليها – حتى الآن على الأقل – إلا في هذا المكان على فترة تمتد عبر 10 آلاف سنة؟ فالبشر يتكيفون مع التقنيات الجديدة ويتبنونها”.
كما تقول بيسيرا- فالديفيا إن العمل في مواقع أخرى، وخاصة تلك الواقعة جنوب الولايات المتحدة، قد يظهر أدلة داعمة. وتضيف قائلة: “نحن بحاجة إلى إلقاء نظرة جيدة على أمريكا الجنوبية”.
كهف تشيكيهيتي لديه المزيد من الأسرار ليكشف عنها، كما يقول آرديليان الذي يضيف قائلا: “هذا ليس اكتشافًا لحظيا. هناك المزيد من الأدلة القادمة”.
الكاتب:
آندرو كيري Andrew Curry صحافي مقيم في برلين.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved