أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحةعلم النفسوباء الكورونا

كيف تحمي صحتك النفسية خلال تفشي فيروس كورونا

 من العزل الاجتماعي إلى العمل في الصفوف الأمامية، تمتد تحديات الصحة النفسية للجائحة عبر مدى واسع. كيف نحمي أنفسنا؟ سؤال نوجهه إلى الخبراء

بقلم:       مويا سارنر

ترجمة:   د. عبد الرحمن سوالمة

بعد أسابيع من العزل الاجتماعي الكامل، دخلت إيطاليا فيما يدعوه باولو برامبيلا Paolo Brambilla، الطبيب النفسي من جامعة ميلان University of Milan: “تجربة اجتماعية لم يسبق إجراؤها من قبل”. فقد عانت الدولة وفيات كثيرة بسبب فيروس كورونا، وقد تحملت الحظر الأكثر صرامة في العالم. وكان الأثر الذي تركته في الصحة النفسية للشعب عميقا، كما يقول برامبيلا. وشهد شهر أبريل دخول نصف سكان العالم في نوع من الحبس، ويواجه العديد من الأشخاص أكبر خطر في التاريخ الحديث على صحتهم وكسب معيشتهم.

وتقول عائشة مالك Aiysha Malik، الاختصاصية بعلم النفس (السيكولوجيا) من منظمة الصحة العالمية World Health Organization (اختصارا: المنظمة WHO): “نرى انتشار الفيروس بأعيننا، ولكننا أيضًا، منذ البدء، نرى انتشار الخوف كذلك”. فقد تعين علينا فهم خطر الفيروس فهمًا جيدًا، كما تغيرت الحياة العامة والخاصة إلى حد كبير. والإجراءات التي تعين علينا تطبيقها لكبح انتشار المرض تركت بعضنا يتصارع للتكيف مع غياب أماكن رعاية الأطفال أثناء ساعات العمل، أو نقص في الدخل، أو انفصال عن العائلة والأصدقاء، أو مخاوف شديدة من المخاطر الصحية. ولآخرين كان ذلك يعني العمل في الصفوف الأمامية ، والتصدي لتجارب قد تُخلِّف صدمات نفسية، واختيار خيارات صعبة أخلاقيا. وبغض النظر عن وضعنا، فقد حان الوقت للنظر إلى ما يمكننا جميعًا فعله للحد من الأثر في صحتنا النفسية.

ويقول أندريا دانيسي Andrea Danese، الطبيب النفسي من كلية كينغز كوليدج لندن King’s College London: “يواجه الأشخاص تجربة جديدة، مُهدِّدة، وغير متوقعة. وفي الوقت نفسه، فإنهم يفقدون استراتيجيات مهمة للتعامل مع الأوضاع المثيرة للضغط، ويتحملون الإخلال بروتينهم، ويتعين عليهم عزل أنفسهم عن أصدقائهم وعائلاتهم. كما قد يعانون فقد أحبائهم. وبالنسبة إلى الصحة النفسية من المهم أن ننظر فيما يعني – ضمنيا- المدى الطويل لهذه الحالة الطارئة”. وفي مسح نشر بمنتصف أبريل في دورية  ذي لانسيت الصحة النفسية The Lancet Psychiatry، أبلغ الناس في المملكة المتحدة عن زيادة في القلق، والاكتئاب، والضغط النفسي، وعن مخاوف من الانعزال الاجتماعي. وكانت هذه مخاوف أكبر من مخاوفهم من احتمال الإصابة بكوفيد-19.

يقول ساندرو غاليا Sandro Galea، الطبيب والاختصاصي بالأوبئة من جامعة بوسطن Boston University في الولايات المتحدة إنه من المهم جدًا أن نأخذ هذه التكلفة النفسية على محمل الجد، كما يقول: “الأثر في الصحة النفسية هو الموجة التالية من هذا الحدث، وأنا قلق من أننا لا نتحدث عنها على نحو كافٍ. فهذه المسائل حقيقية جدًا”. وتقول مالك إن إسراعنا في البدء بمعالجة النتائج السلبية ليس بالأمر المبكر جدا، وتقول: ” تحتاج الدول إلى أن تحضر للكيفية التي ستتعامل بها مع الصحة النفسية والدعم النفسي، حاليا “.

كيف نفعل ذلك؟ في كثير من النواحي، الوضع غير مسبوق، لذلك نحن نتعامل مع المجهول. ولكن هناك طرقا للبدء بفهم الأمور. ونتائج الدراسات والمراجعات تتوالى بسرعة فائقة. يمكننا أيضًا أن نؤسس تفكيرنا بناء على الأبحاث السابقة حول سيكولوجية الأوبئة والحجر الصحي، في الاستجابة للأحداث الماضية، بما في ذلك الهجمات الإرهابية والكوارث الطبيعية، وفي نظريات الصدمة Trauma والمرونة Resilience. وقد طلبنا إلى العاملين في مجال الصحة النفسية عرض مفهومهم للوضع، وتقديم نصائحهم حول الكيفية التي سنحمي بها أنفسنا وأحبائنا.

  كيف يمكننا جميعًا الحفاظ على صحتنا النفسية

بعد سبعة أيام من دخول المملكة المتحدة في حالة الحظر، كان ريتشارد بينتال Richard Bentall، الاختصاصي بعلم النفس السريري من جامعة شيفيلد University of Sheffield، في خضمّ تحليل أثر ذلك الأسبوع في الصحة النفسية Mental health لألفي شخص في المملكة المتحدة. ويقول: ” لم أتحرك بمثل هذه السرعة في أي بحث من قبل، هذا أمر استثنائي بالفعل”. وكان المشاركون في البحث يمثلون مجموع السكان البالغين من حيث العمر والجنس ودخل الأسرة. وقد أكمل كل مشارك مسحًا معياريًا حول مستويات الاكتئاب، والقلق، وأعراض الصدمة النفسية المتعلقة بكوفيد-19 (COVID-19)، وتعيّن على المشاركين المختلفين الإجابة عن الأسئلة في أيام مختلفة عن بعضهم البعض من ذلك الأسبوع. وتشير النتائج إلى أن إعلان الحظر الذي أعلنه رئيس الوزراء بوريس جونسون Boris Johnson في 23 مارس ارتبط بزيادة سريعة في الاكتئاب والقلق. وقبل الإعلان، أبلغ 16% من المشاركين عن مشاعر اكتئاب، وزاد ذلك إلى 38% مباشرة بعد ذلك. أما القلق؛ فازدادت النسبة من 17 إلى 36%. ولكن، على مدار الأسبوع، استقرت النسبة على 20% لكل من الاكتئاب والقلق. ويقول بينتال: ” الناس في مجملهم يبدون مَرِنين نفسيًا”، على الرغم من أن ذلك قد يتغير بتقدم انتشار الفيروس.

وقد تتباين آثار الحظر في الصحة النفسية بحسب المكان؛ فعلى سبيل المثال، قد تكون مختلفة بين الأشخاص الذين يعيشون في المدن الكبيرة ممن ليست لديهم مساحات خارجية والأشخاص الذين يعيشون في الريف والمحاطين بحدائقهم الخاصة، وفقا لبرامبيلا. وقد أكد مسح بينتال هذه النتيجة، إذ أظهر أن العيش الحضري كان يرتبط بخطر أعلى للاكتئاب والقلق. ويقول برامبيلا إن هناك عدة طرق يمكن قد يتجلى بها الأثر النفسي للعزل الاجتماعي، خصوصًا في الثقافات شديدة الاجتماعية. ويقول إن الأعراض المرتبطة بالإجهاد Stress related symptoms قد تشتمل على اضطرابات النوم ومشكلات في المعدة، “وكذلك، طبعًا، قد يزداد المستوى العام للقلق والاكتئاب. وفي الحالات المتطرفة جدًا، قد نتوقع زيادة في معدل الانتحار”. وفي إيطاليا، توفيت على الأقل ممرضتان، تعالجان حالات كوفيد-19، انتحارًا.

ويمكن للطريقة التي تنفذ بها الحكومات الحظر أن تؤثر في النتائج، وذلك بحسب بحث أجراه نيل غرينبيرغ Niel Greenberg ، الطبيب النفسي من كلية كينغز كوليدج لندن مع زملائه. وفي نهاية فبراير نشروا مراجعة سريعة لأربع وعشرين ورقة بحثية عن التفشيات المرضية السابقة، ومن ضمنها سارس SARS وإيبولا Ebola وإنفلونزا الخنازير Swine flu من نوع H1N1، مركزين على أثر الحجر الصحي في الصحة النفسية. ويقول غرينبيرغ: “إذا طُبّق الحجر الصحي بشكل جيد، على الرغم من أنه سيكون محبطًا ومزعجًا قليلًا أحياناً، إلا أنه لن يسبب بالضرورة مشكلات طويلة المدى على الصحة النفسية. ولكن إذا طبق بشكل سيئ، فقد يكون له أثر كبير في حيوات الناس، لأشهر وسنوات في المستقبل”. وصحيح أن الورقة كانت تنظر بشكل خاص إلى الحجر الصحي، والذي يختلف عن الحظر أو العزل الاجتماعي، “إلا أن هناك دروسًا جيدة نتعلمها”، وفقًا لغرينبيرغ.

 “إذا طبق الحجر الصحي بشكل جيد، فلن يسبب بالضرورة مشكلات طويلة المدى على الصحة النفسية”

وتبيّن أن آثار الحجر الصحي تشتمل على القلق والمزاج السيئ والاكتئاب  وأعراض الإجهاد التالي للصدمة Post-Traumatic Stress. ويقول غرينبيرغ: “نحن نأمل بأن أغلب الذين يطورون مشكلات نفسية سيتعافون بعد مرور شهور دون الحاجة إلى علاج. ولكن لا شك في أن بعض الأشخاص سيحتاجون إلى رعاية صحية إضافية كنتيجة مباشرة لما يحدث”.

ووفقا لنتائج البحث، يمكن لعدة عوامل أن تجعل الحجر الصحي ينقضي بشكل جيد من الناحية النفسية. علينا أن نفهم السبب الداعي إلى تطبيق مثل هذه الإجراءات، “وأن نتقبلها”. فالعديد من الآثار السلبية للحجر الصحي ترتبط بفقداننا للحرية، أما الحجر الصحي الطوعي فتأثيره  أقل  بكثير. ومن ثم، فقد يكون من المفيد مناشدة الأفراد أن يؤثروا في أنفسهم عن طريق تذكيرهم بالمنافع على المستوى المجتمعي الأوسع. كما نحتاج إلى أن تتوفر لنا إمدادات المواد الأساسية، ونحتاج إلى أن نكون قادرين على التواصل مع الآخرين وأن تكون لدينا أنشطة تبقينا منشغلين، كذلك نحتاج إلى أن نشعر أننا لن نعجز ماليًا. كما يجب على الحجر الصحي أن يكون قصيرًا بقدر الإمكان ولمدة محددة. يقول غرينبيرغ: “وجدنا أن تمديد فترة الحجر الصحي بعد تحديدها أول مرة هو أمر مضر بالصحة النفسية بشكل خاص”.

الوحدة في هذه الفترة سيكون لها تأثير في العديد من الناس، ولكن ليس بالضرورة بالطريقة التي نفترضها، هذا ما تقوله فرهانا مان Farhana Mann، الطبيبة النفسية من جامعة يونيفيرسيتي كوليدج لندن University College London. ومن المهم فهم الفرق بين العزلة Isolation والوحدةLoneliness . وتقول فرهانا: “ الوحدة هي شعور شخصي بأن حاجاتك الاجتماعية غير مُلباة، أما العزلة فهي تتعلق بكون المرء منفصلًا فيزيائيًا عن الآخرين. ويمكن للشخص أن يكون منعزلًا فيزيائيًا ولا يشعر بالوحدة، بينما يمكن لشخص آخر أن يكون محاطًا بالعائلة ولكنه يشعر بالوحدة بسبب نقص الترابط المطلوب. ويجدر أخذ كلا الأمرين الجديرين بعين الاعتبار خلال الأزمة الحالية”.

في مسح حديث أجراه معهد المشروع الأمريكيAmerican Enterprise Institute  على ما يزيد على خمسة أيام بدءًا من 26 مارس، وجد الباحثون أن 53% من الأشخاص أبلغوا عن شعورهم بالوحدة أو العزلة على الأقل مرة في ذلك الأسبوع، و أبلغ أكثر من الثلث عن الشعور بذلك على الأقل عدة مرات. وكجزء من أنشطة شبكة الوحدة والعزلة الاجتماعية في شبكة الصحة النفسية Loneliness and Social Isolation in Mental Health Network، طور مان وزملاؤها دراسة  للنظر في تأثير أزمة كوفيد-19 في الأشخاص الذين يعانون مشكلات في الصحة النفسية، وما هي الأفعال المفيدة. وتقول: تقترح الأبحاث السابقة أن التطوع يساعد على التخفيف من أثر الوحدة، سواء للشخص الذي يتلقى المساعدة أم المتطوع الذي يقدم المساعدة. ويمكن للتطوع للاتصال بالأشخاص أو لإيصال الدواء أن يكون طريقة للشعور بالتواصل الفاعل”.

تساعد وسائل التواصل الاجتماعي الكثيرين على أن يبقوا على اتصال بالآخرين خلال فترة التباعد الاجتماعي، ولكنها أيضًا قد تكون مؤذية، بحسب ما تقول رينا دوتا Rina Dutta من جامعة كينغز كوليدج لندن، والتي تبحث في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية لدى الشباب. وبعضهم قد يشعر بأنه غير قادر على التوقف عن النظر إلى آخر المستجدات، فتقول: “لأن هذه الوسائل  متاحة على مدار 24 ساعة طوال أيام الأسبوع، قد تؤدي إلى الانغماس، مما يؤدي إلى انهماك وتركيز لدرجة الوسواس، وإهمال النشاطات الأخرى”. وتشير إلى أن هذا أمر خطير، “فعندما لا نكون في جائحة، يمكننا أن نشجع الشباب على أن يوازنوا بين الوقت على الشاشة والنشاطات الأخرى كرؤية الأصدقاء والذهاب إلى السينما، لكن لا يمكن ممارسة هذه النشاطات”. وتقول إنه من المهم أن يكون المرء مبدعًا، وأن يجد النشاطات الآمنة البديلة التي يمكن ممارستها في المنزل، كالتمارين الرياضية أو ألعاب التسلية اللوحية.

ومع أن هذه أوقات مسببة للضغط والانزعاج بلا شك، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أنها ستضرنا من الناحية النفسية، وفقا لغرينبيرغ. ومن المهم تذكر أن “الانزعاج والإحباط ليسا مشكلات صحية نفسية”، بل هما استجابتان انفعاليتان طبيعيتان  ومنطقيتان  وضروريتان لما يحدث من حولنا. وتوافق مالك على ذلك بقولها: “هذه استجابة طبيعية، ولكن كونها طبيعية لا يعني أنها سهلة”.

الإرهاق الواقع على الأزواج والعائلات والشباب

خلال الأسبوع الأول من الحظر في المملكة المتحدة، لاحظت المؤسسة الخيرية للمعالجة الزوجية تافيستوك للعلاقات Tavistock Relationships زيادة بمقدار 40% في عمليات البحث عن خدماتها الإلكترونية مقارنة بالأسبوع الذي سبقه. فللعديد من الناس، ربما لا يكون من المفاجئ أن الحاجة إلى التباعد الاجتماعي والحظر يزيدان من المشكلات في العلاقات، وتخلق مصادر إجهاد جديدة، خصوصًا عندما تضيف مخاوف الرعاية الصحية، وضغوط رعاية الأطفال، والوضع المالي غير الموثوق به، وأوضاع العيش المزدحم إلى قائمة المشكلات.

غالبًا ما يبدو أن الأزواج يتشاركون قلقهم عن طريق “تبادل الأدوار بشكل غير مقصود”، كما تقول كاتريونا روتيسلي Catriona Wrottesley، المعالجة النفسية من تافيستوك للعلاقات. وفي مرحلة ما، قد يشعر أحد الزوجين بأنه قلِق جدا، بينما يشعر الآخر بأنه هادئ، ثم يتبادلان الأدوار. وتقول: “ينحصر القلق ما بين الزوجين، ولكنه لا يستقر بالضرورة استقرارًا دائمًا في أحد الزوجين”. وفي حين أن هذا يساعد على ترسيخ بعض العلاقات، إلا أنه قد يخلق نزاعات في علاقات أخرى”. وتقول: “إذا لم يستطع الزوجان التعامل مع الاختلاف في الاستجابة للقلق، والتعامل مع المخاطر، قد يبدو كأن أحدهما ضد الآخر. ويمكن لأحد الزوجين أن يشعر بأن الآخر لا يفهمه أو لا يهتم به. ويبدو أن هذا شائع جدًا”. كما تضيف أنه خلال الحظر، وعندما تكون المساحة الفيزيائية محدودة، يمكن للمساحة النفسية المحسوسة داخليًا أن تبدو ضيقة، ويمكن للشعور برهاب الأماكن الضيقة أن يبني ضغوطًا أكبر، حتى في الأزواج الذين ليس لديهم أطفال.

كذلك ارتبط وجود الأطفال باحتمال أكبر للقلق والاكتئاب خلال الأسبوع الأول من الحظر في دراسة بينتال بالمملكة المتحدة. فهناك خصائص معينة في جائحة كوفيد-19 تجعله مسببًا للمشكلات بشكل حاد للعائلات، كما تشير نيكولا لابوشين Nicola Labuschagne، الاختصاصية بعلم النفس الاكلينيكي (السريري) من مركز آنا فرويد الوطني للأطفال والعائلات Anna Freud National Centre for Children and Families في لندن. وتقول: “ فيروس كورونا خطر خفي، وهو ما يجعله أكثر إثارة للخوف. وهذا قد يدفع الوالدين إلى حالة من القلق المستمر، وهذا يعني أن عليهما أن يبذلا جهدا كبيرا ليكونا قادرين على التعامل مع قلقهما، وليكونا قادرين على التعامل مع قلق أطفالهما”.

وإضافة إلى ذلك، هناك أثر الحظر، ويشتمل على إغلاق المدارس لأغلب الأطفال، مما يجعل أغلب العائلات تشعر بشعور مقلق. وتقول لابوشين: “الأمر الذي يترك أثرًا كبيرًا في صحة جميع العائلات النفسية هو التغير التام في الهيكلية؛ إذ إن الآباء يتعين عليهم أن يعيدوا تأسيس مختلف الروتينات، وعندما تكون قلقًا بشأن خطر لا تستطيع رؤيته، وبشأن قدرتك على دفع الفواتير، فإن هذه مهمة صعبة”.

قد يتأثر الأطفال والمراهقون بمقدار متفاوت بالأحداث الجارية، وفقا لدانيس. وهناك عدة أسباب لذلك، إذ يقول: “بدءًا من البيولوجيا، فإن أدمغتهم لا تزال في مرحلة النمو، وقد يكونون أقل قدرة على التحكم في استجاباتهم الانفعالية، سواء للأحداث التي يجدونها صادمة أم للأفكار المثيرة للقلق والأمور المجهولة. وقد يعانون بسبب الرسائل الإخبارية المحذرة، والمتناقضة أحيانًا. وكذلك، ولدرجة أكبر من الآخرين، فإنهم عانوا إخلالا غير مسبوق في تجاربهم الطبيعية كالتعلم والاندماج في المجتمع”.

”البالغون الشباب في الولايات المتحدة أبلغوا عن مشاعر الوحدة أكثر مقارنة بالأكبر سنًا”

كما يشعر الشباب بآثار الوحدة. وفي مسح أجراه معهد المشروع الأمريكي، أبلغ البالغون الشباب عن مشاعر الوحدة أكثر بكثير مقارنة بالأكبر سنًا؛ حيث ذكر 48% من الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 أنهم شعروا بالوحدة أو العزلة على الأقل عدة مرات خلال ذلك الأسبوع، مقارنة بـ20 % فقط ممن تبلغ أعمارهم 65 سنة أو أكثر.

وعلى صعيد آخر أكثر إيجابية، يلاحظ دانيسي أن الجائحة، باعتبارها حادثة غير متصلة بالعلاقات الشخصية (بخلاف التنمر Bullying أو إساءة المعاملة Abuse مثلًا)، فإنها احتمال تطوير مشكلات الصحة النفسية بفعلها يكون احتمالا منخفضا. ويطور الآن نمذجات للتنبؤ باحتمال المخاطر على المستوى الفردي، لمحاولة التعرف على الشباب الذين يرجح -عموما- أنهم أقل مرونة ومن ثم يكون احتمال تطور مشكلات نفسية فيهم أكبر من غيرهم. وهذا سيمكِّن من تخصيص المزيد من الموارد للأشخاص الذين يتوقع أنهم أكثرعرضة للمخاطر.

 الأثر في المجموعات الأكثر عرضة

لا شك في أن هذه الأوقات صعبة على الجميع، ولكن بالنسبة إلى بعض المجموعات فإن التأثير في الصحة النفسية مثير للقلق بشكل خاص. ويقول ألان يونغ Allan Young، مدير مركز الاضطرابات العاطفية Centre for Affective Disorders التابع لجامعة كينغز كوليدج لندن: “نحن قلقون كثيرا على الأشخاص المصابين بمشكلات شديدة من مشكلات الصحة النفسية، ومن ضمنها الفصام Schizophrenia، والاكتئابDepression ، والاضطراب ثنائي القطبBipolar disorder . نعلم أن هناك ذروة سنوية كل ربيع في معدلات الانتحار والانتكاسات المرضية في المصابين بالاضطراب ثنائي القطب، خصوصًا في حالة الهوسMania ، وأحد مخاوفي الكبيرة هو أنه سيكون لدينا المزيد من ذلك”.

أما العائلات التي تعاني مشكلات نفسية؛ فقد يتدهور الوضع بسرعة كبيرة، وفقا للابوشين إذ تقول: “يمكن لأزمة كهذه أن تزيد زيادة كبيرة من الحالات الموجودة مسبقًا  والقصور الموجود مسبقًا في قدرة الوالدين على التعامل مع انفعالاتهما”. وتقول: “عندما يتفاقم الوضع، ولا يكون هناك مخرج لأن الجميع محبوس مع بعضهم البعض، يمكن للأمر أن يكون صعبًا جدًا على الأطفال”. وللكثير من الأطفال الذين هم في خطر من التأثر بالأمر، فإن المدرسة مكان يوفر الأمان والدعم. وتقول: “الحرمان من المدرسة -ليس حرمانا من روتينها، وإنما أيضًا بعض المعلمين يكون قادرا على مساعدة الأطفال على تعلم كيفية معالجة القلق- وهو أمر مهم. أعتقد أنه قد تنشأ آثار سلبية طويلة المدى بسبب ذلك”. أجرت المؤسسة الخيرية يونغ مايندز (العقول الفتية) Young Minds في المملكة المتحدة مؤخرًا مسحًا على الأشخاص صغار السن ممن لديهم تاريخ مرض نفسي أو احتياجات نفسية، ووجدوا أن أكثر من 80% أبلغوا عن تدهور وضعهم نتيجة للجائحة.

تعمل لابوشين وزملاؤها مع العائلات، وتوفر لهم مساعدة مكثفة على الأقل مرتين أسبوعيًا. وتقول: “هذه هي العائلات التي نعلم أنهم أكثرعرضة  لمخاطر الصحة النفسية، وهم معروفون لدى السطات المحلية والاختصاصيين الاجتماعيين بسبب تأثير الصحة النفسية للآباء في قدرتهم على تربية أبنائهم تربية آمنة ومقبولة. وليس لديهم واي فاي Wi-Fi، ويعيشيون في فقر، في شقق من غرفتين أو ثلاثة، ولديهم أطفال تحت خطر شديد لأن يتضرروا هم أيضًا. وهؤلاء الآباء قد عبروا بشكل واضح عن إحباطهم من عدم قدرتهم على التكيف”، كما تقول. وقد سبق  أن اضطرت هذه الخدمات إلى أن تغلق أبوابها خلال الأزمة الحالية، ولكن العاملين فيها ما زالوا يعملون، ويتصلون بالعائلات مرتين في الأسبوع، ويقترحون نشاطات لألعاب التسلية وغيرها من الاستراتيجيات.

اللامساواة – فيما يتعلق بالصحة النفسية، والتي تجعل الأشخاص من الطبقة الاقتصادية الاجتماعية الدنيا والأقليات العرقية أكثر تضررا- من المرجح أن تزداد فجوتها خلال الجائحة. وتقول ستيفاني هاتش Stephani Hatch، عالمة الاجتماع واختصاصية الوبائيات من جامعة  كينغز كوليدج لندن: “بالفعل نعتقد أن ذلك سيؤثر فيهم كثيرا، وسيزيد من اللامساواة من حيث الصحة النفسية، وستكون لها آثار طويلة المدى”. ومن الممكن أخذ فكرة عن الأثر في هذه المجموعات بالنظر في الأبحاث التي أجريت على الكوارث السابقة مثل إعصار كاترينا، الذي ضرب الولايات المتحدة في أغسطس 2005. وتقول هاتش: “نعلم أن البطالة، وفقدان الوظائف، والضغوط المالية مضرة جدًا بالصحة النفسية على المدى القريب، والمتوسط، والطويل، خصوصًا عندما يكون يزداد الضغط، أي عندما يكون سبب الضغط الحاد سببًا مزمنًا مع مرور الوقت، خصوصًا عندما تكون هناك سلسلة من الضغوطات المؤثرة في العلاقات والأوضاع المالية”.

كما يشير ستيفين بلومنتال Stephen Blumenthal، عالم نفس من صندوق تافيستوك وبورتمان Tavistock and Portman NHS Trust التابع للخدمات الصحية الوطنية في لندن، إلى وجود زيادة مثيرة للقلق في عدد الاتصالات التي ترد إلى المؤسسات التي تساعد الأشخاص الذين يعيشون تحت طائلة عنف أسري Domestic abuse.

وكذلك، فإن الصحة النفسية للمدمنين ستكون تحت ضغط أكبر. سينعزل بعض مدمني الكحول أو المخدرات عن أصدقائهم وعائلتهم، وكذلك عن مصادر الدعم مثل منظمة مدمني الكحول المجهولين Alcoholics Anonymous ومدمني المخدرات المجهولين Narcotics Anonymous، في الوقت الذي يشعرون فيه بالقلق بشكل خاص، لذا هناك خطر كبير للانتكاس.

ويقول بلومنتال إنه من المهم جدًا توفير المساعدة للأشخاص الأكثر عرضة للمخاطر. ويقول أيضًا: “يحتاج الأشخاص المضطربون إلى التحدث إلى المختصين. والنصيحة ليست كافية”.

كيف نحمي العاملين في الصفوف الأمامية؟

في ميلان، أنشأ برامبيلا وزملاؤه خدمة العيادة الخارجية للعاملين في القطاع الصحي بالمستشفى متعدد التخصصات Policlinico Hospital والتي تشتمل على دعم الصحة النفسية عن بعد. ويقول: “أنا قلِق عليهم. هذا عمل صعب، ومجهد نفسيا. إنهم يطلبون المساعدة على تخفيف القلق والأرق وأعراض الاكتئاب”.

قد توفر الخبرات من الجيش أفكارا حول الموضوع. إذ يقول غرينبيرغ: “التحديات التي تواجهها القوات المسلحة لا تقتصر فقط على ما يهدد فقط، بل على ما يهدد إدراكهم لما هو صحيح وما هو خاطئ”. وبعد أن قضى غرينبيرغ أكثر من عقدين في الجيش، هو الآن مختص بالمرونة النفسية في المؤسسات. ويقول: “ينصب اهتمامي على الكيفية التي تحافظ بها على صحة القطاع الصحي النفسية خلال هذه الجائحة. ومن المؤكد أننا نحتاج إلى حمايته صحتهم النفسية، كما أننا نحتاج إليهم لحمايتنا. ولا يمكنك الفوز في الحرب إلا إذا  كان لديك  أشخاص يقاتلون في الصفوف الأمامية”. والأشخاص المكلفون بالعمليات العسكرية غالبًا ما يجدون أنفسهم عالقين في “موقف  فظيع يريدون فيه أن يقوموا بالشيء الصحيح، ولكنهم غير قادرين على ذلك”، كما يقول. وهذا الانتهاك للقواعد الأخلاقية moral code التي يعتنقها الفرد عن طريق إجباره على فعل (أو عدم فعل) أشياء معينة يمكنه أن يقود إلى ضيق نفسي، وهي مشكلة تدعى “الأذية الأخلاقية” Moral injury.

قد يجد المهنيون العاملون في القطاع الصحي أنفسهم في هذا الوضع، غير قادرين على تقديم العناية التي يريدون تقديمها بسبب عد المرضى ونقص الموظفين والمعدات مثل أجهزة التنفس الاصطناعي. ويقول غرينبيرغ: ” على الرغم مع أن التحديات مختلفة، إلا أن الأثر الفعلي في إحساس الشخص بما هو صحيح وما هو خاطئ، وفي الصحة النفسية للمرء، يمكنه أن يكون متشابها جدًا”. ففي ورقة بحثية حديثة، جادل هو وزملاؤه في أنه إذا لم يكن هناك دعم كافٍ للموظفين، يمكن للأذية الأخلاقية أن تقود إلى مشكلات في الصحة النفسية للذين يتعاملون مع كوفيد-19، ومن ضمنها الاكتئاب واضطراب الإجهاد التالي للصدمة PTSD. ويقول أيضًا: “من المهم القول إن الأذية الأخلاقية ليست مرضًا نفسيا، ولكن لا شك في أنها تضعك في مكان تكون فيه عرضة للأذى من الناحية النفسية”.

بالنسبة إلى العاملين في القطاع الصحي الذين تعتبر صحتهم النفسية  معرضة للتأثر، فإن هذه الأوقات مقلقة بشكل خاص. وتقدم دوتا العلاج للعاملين في القطاع الصحي الذين يعانون الاضطراب ثنائي القطب والاكتئاب المقاوم للعلاج Treatment resistant depression ، وتستمر بتوفير تلك الخدمات عن بعد خلال الأزمة. وتقول: “خطر تدهور صحتهم النفسية خطرٌ حقيقي جدًا”.

خلال الأزمة، يريد الموظفون العاملون في الصفوف الأمامية أن يشاطروا الآخرين أحاسيسهم، ويتصلوا بهم ويتواصلوا معهم”

 

هناك عدة طرق للمساعدة على تقليل هذه المخاطر وتقوية مرونة العاملين في القطاع الصحي. فيقول غرينبيرغ: “تشير الأدلة من الدراسات العسكرية وغير العسكرية إلى أن الطريقة التي يعامل بها الأشخاصُ الموظفين مهمة جدًا في تحديد ما إذا كانوا سيطورون مشكلات نفسية أم لا. وبالأهمية نفسها أيضًا مسألة ما إذا كان الموظفون يطلبون المساعدة في وقت مبكر  لمحاولة تصحيح مشكلات الصحة النفسية  إذا ما تطورت لديهم. لا مفر من شعور الموظفين بالضغط؛ لأن هذا موقف صعب، ولكننا لا يجب أن نترك هذه العلامات المبكرة للشعور بالضيق أن تتطور إلى أذيات أخلاقية واضطرابات في الصحة النفسية”.

ويضيف أنه بمجرد التعرف على المشكلات، يكون من السهل نسبيًا على المشرفين أن يتدخلوا. وتشتمل الأفعال التي يمكن إجراؤها على تغيير مهام الشخص لمنحهم بعض الراحة. وبعد المرور بتجربة صعبة مجرد دردشة لمدة خمس دقائق مع زميل قد  تساعد على ذلك. ويستشهد غرينبيرغ هنا بدراسة  تبين أنه كلما زادت مثل هذه الممارسات عندما كان الجنود يعانون استجابة إجهادية حادة خلال الحرب، كانت صحتهم النفسية  أفضل بعد 20 سنة. ويقول: “ما نحتاج إليه هو أن يعتني المشرفون والمديرون والزملاء ببعضهم البعض. نحتاج إلى أشخاص يراقبون الأفراد الذين يوفرون خدمات الصفوف الأمامية مراقبة فاعلة”.

يتوافق هذا النوع من التفكير مع تفكير ليديا هارتلاند- روي Lydia Hartland-Rowe، المعالجة النفسية من صندوق تافيستوك وبورتمان التابعة للخدمات الصحية الوطنية في لندن، والتي تساعد على  تنسيق مشروع لدعم  العافية والصحة النفسية لـ52 ألف موظف في المجال الصحي ومجال العناية الاجتماعية في لندن خلال أزمة فيروس كورونا.  ويتمثل ذلك بمصادر على الإنترنت، وبرامج صوتية قصيرة وموجَّهة، والدعم بالبريد الإلكتروني وبالهاتف للمدرين حتى يحسنوا من دعمهم لفرقهم. نعلم من أحداث مثل الحريق الذي حصل في 2017 في برج غرينفيل Grenfell Tower  الذي خلف 72 قتيلًا ومن تفجيرات 2005 في المدينة والتي قتلت 52 شخصًا، أن العاملين في الصفوف الأمامية لا يحتاجون إلى استشارات نفسية عميقة خلال الأزمة أو مباشرة بعدها، ولكنهم فقط يريدون ” أن  يشاطروا الآخرين أحاسيسهم، ويتصلوا بهم ويتواصلوا معهم”، كما تقول.

يوافق غرينبيرغ على أن الروابط بين أعضاء الفريق مهمة. ويقول: “يقول البعض إن المستشفيات على وشك الوصول إلى مرحلة العجز، وإن العاملين في القطاع الصحي يواجهون مهمة مستحيلة. ولكن بوجود قيادة جيدة وصداقة حميمة -والأدوات الصحيحة- يمكنك أن تتخطى مواقف يمكن وصفها بأنها مستحيلة، وستؤدي وظيفة جيدة وتعيش، بل ستتعايش مع ما ندعوه بالنمو التالي للصدمة Post-traumatic growth، وهو شعور بأنك أبليت بلاء حسنًا على الرغم من سوء الظروف، وأنك تشعر بالفخر كونك عاملًا في القطاع الصحي”.

© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى