أوروبا تبني “توأمًا رقميًا” للأرض لتحسين التنبؤات المناخية
باستيعاب المزيد من البيانات أكثر من أي وقت مضى، ستحاكي نمذجة "الإكساسكيل" تأثير التغير المناخي في البشر
بقلم: بول فوسن
ترجمة: مي بورسلي
الاتحاد الأوروبي European Union يضع اللمسات الأخيرة على الخطط الطموحة لمشروع “توأم رقمي” Digital twin لكوكب الأرض يحاكي Simulate الغلاف الجوي والمحيطات والجليد واليابسة بدقة لا مثيل لها، وتوفر تنبؤات بالفيضانات والجفاف والحرائق بأيام إلى سنوات مُقدمًا. فلن تتوقف جهود مشروع محاكاة دستينيشن إيرث (وجهة الأرض) Destination Earth عند هذا الحد: فهي ستحاول أيضًا حصر السلوك البشري، وتمكين القادة من رؤية تأثيرات الأحداث المناخية والتغير المناخي في المجتمع وقياس آثار السياسات المناخية المختلفة.
وتقول روبي ليونغ Ruby Leung، الاختصاصية بعلم المناخ من مختبر شمال غرب المحيط الهادي الوطني Pacific Northwest National Laboratory التابع لوزارة الطاقة الأمريكية U.S. Department of Energy (اختصارا: الوزارة DOE): “إنها مهمة جريئة حقًا، أحبها كثيرًا”. ومن خلال عرضRender الغلاف الجوي للكوكب في مربعات بعرض كيلومتر واحد فقط، وهو مقياس أدق عدة مرات من النمذجات المناخية Climate models الحالية، يمكن للمحاكاة أن تبني توقعاتها على بيانات أكثر تفصيلاً في الوقت الفعلي أكثر من أي وقت مضى. فهذا المشروع سيبدأ العام القادم ويعمل على أحد الحواسيب العملاقة الثلاثة التي ستقيمها أوروبا في فنلندا وإيطاليا وإسبانيا.
ومشروع المحاكاة دستينيشن إيرث نهض من رماد المشروع إكستريم إيرث Extreme Earth، وهو اقتراح قادَهُ المركز الأوروبي للتنبؤات الجوية متوسطة المدى European Centre for Medium-Range Weather Forecasts (اختصارا: المركز ECMWF) لبرنامج رائد للأبحاث بقيمة بليون يورو. ففي نهاية المطاف كان الاتحاد الأوروبي قد ألغى هذا البرنامج الرائد، لكنه ما زال مهتما بالفكرة. والمخاوف من تأخر أوروبا عن الصين واليابان والولايات المتحدة في مجال الحوسبة الفائقة Supercomputing كانت قد أدت إلى الوصول إلى التعهد الأوروبي المشترك للحوسبة عالية الأداء European High-Performance Computing Joint Undertaking، وهو استثمار بقيمة ثمانية بلايين يورو لإرساء الأساس لآلات “الإكساسكيل” Exascale النهائية القادرة على إجراء بليون بليون عملية حسابية في الثانية. وقد مَثّل اقتراح المشروع إكستريم إيرث المهمل فرصةً لاستخدام هذه السعة استخداما مثاليا. ويقول بيتر باور Peter Bauer، نائب مدير الأبحاث من المركز ECMWF، والذي نسق المشروع إكستريم إيرث وكان يقدم المشورة إلى الاتحاد الأوروبي حول البرنامج الجديد: “هذا يبث الحياة في بنيتك التحتية الرقمية”.
ونمذجات المناخ القياسية تعمل بدقة 50 أو 100 كيلومتر؛ حتى أفضلها مثل النمذجة “الأوروبية” التابعة للمركز ECMWF التي تعمل بدقة تسعة كيلومترات. والنمذجة الجديدة بدقة كيلومترٍ واحدٍ ستُمكن من عرض تيارات الحمل الحراري Convection مباشرةً، والانتقال الرأسي للحرارة الضروري لتكوين السحب والعواصف، بدلاً من الاعتماد على تقريب حسابي باستعمال الخوارزميات. ويقول بيورن ستيفنز Bjorn Stevens، الاختصاصي بعلم المناخ من معهد ماكس بلانك للأرصاد الجوية Max Planck Institute for Meteorology: “أسميها البعد الثالث للنمذجة المناخية”. كما ستعمل النمذجة أيضًا على محاكاة المحيط بتفاصيل دقيقة كافية لالتقاط سلوك الدوامات Eddies التي هي من المحركات المهمة لنقل لحرارة والكربون.
وفي اليابان أظهرت عمليات رائدة لنمذجة مناخ عالمي بدقة كيلومتر واحد أن المحاكاة المباشرة للعواصف والدوامات تؤدي إلى تنبؤات أفضل لهطول الأمطار على المدى القصير. ولكن يجب أيضًا أن تُحسَّن التنبؤات المناخية على مدى شهور وسنوات. والعمل الأخير أظهر أن النمذجات المناخية لا تبين التغيرات التي يمكن التنبؤ بها في أنماط الرياح التي تدفع التقلبات في درجات الحرارة الإقليمية وهطول الأمطار، ربما لأن النمذجات غير ناجحة في إعادة إنتاج العواصف والدوامات (Science, 31 July, p. 490).
كما ستُمكن الدقةُ العالية المشروعَ دستينيشن إيرث من بناء توقعاته اعتمادا على بيانات أكثر تفصيلاً. إذ تستقبل نمذجاتُ الطقسِ أرصادَ درجة الحرارة والضغط من الأقمار الاصطناعية ومحطات الطقس والطائرات والعوامات لتوجيه عمليات المحاكاة. ولكن الشبكات الرديئة تعني أن النمذجات لا يمكنها استقبال القياسات التي لا تكون في المتوسط جيدة أو تغطي مناطق واسعة، مثل تصدعات الجليد البحري. وتقول ساندرين بوني Sandrine Bony، الاختصاصية بعلم السحاب من معهد بيير سيمون لابلاس Pierre Simon Laplace Institute، إن مشروع دستينيشن إيرث سيسد هذه الفجوة، ثم أضافت قائلة: “المقاييس التي تنبّأنا بها هي أقرب إلى الأرقام التي قسناها”.
والنمذجة ستشمل أيضًا بيانات في الوقت الفعلي تتعقب تلوث الغلاف الجوي ونمو المحاصيل وحرائق الغابات وظواهر أخرى معروفة بتأثيرها في الطقس والمناخ، كما يقول فرانسيسكو دوبلاس- رييس ، Francisco Doblas-Reyes الاختصاصي بعلم نظام الأرض من مركز الحوسبة الفائقة في برشلونة Barcelona Supercomputing Center. “إذا ثار بركان غدًا، فهذا مهم لخطر فشل هطول الأمطار الاستوائية في غضون بضعة أشهر”. كما ستشتمل على بيانات حول المجتمع، مثل استخدام الطاقة، وأنماط حركة المرور، وتحركات البشر (من تتبع الهواتف المحمولة).
فالهدف هو السماح لواضعي السياسات بقياس الكيفية التي يؤثر بها التغير المناخي في المجتمع مباشرة، والكيفية التي يمكن بها للمجتمع أن يُغير مسار التغير المناخي. فعلى سبيل المثال، يمكن للنمذجة أن تتنبأ بالكيفية التي يؤثر بها التغير المناخي في الزراعة وأنماط الهجرة بالبرازيل – وكذلك الكيفية التي يمكن لتخفيض دعم الإيثانول أن يحد من إزالة الغابات في الأمازون. والآن، يستخلص الاختصاصيون بعلم المناخ النتائج الإقليمية من النمذجات المناخية العالمية ويمررونها إلى خبراء في الزراعة أو الاقتصاد لفهم التأثيرات في السلوك البشري. حاليا، كما تقول إيرين كوغلان دي بيريز Erin Coughlan de Perez، الاختصاصية بعلم مخاطر المناخ من مركز المناخ التابع للصليب الأحمر والهلال الأحمر Red Cross Red Crescent Climate Centre: “ينتقل المصممون من مجرد توقع ما سيكون عليه الطقس، إلى ما سيفعله الطقس”.
ولن يكون الوصول إلى مثل هذه القدرات أمرًا سهلاً. إذ تعتمد الحواسيب الفائقة “الإكساسكيل” على كل من شرائح الحاسوب التقليدية وكذلك على وحدات المعالجة الغرافيكية Graphical processing units (اختصارا: وحدات المعالجة GPU)، والتي تتسم بالكفاءة في التعامل مع العمليات الحسابية المُكثّفة. ووحدات المعالجة GPU جيدة لتشغيل مكونات النمذجة بالتوازي وتدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعي، وهما تقنيتان سيعتمد عليهما المشروع دستينيشن إيرث لتحسين الأداء. ولكن يجب إعادة صياغة كود (ترميز) نمذجة المناخ القديم. وللمركز ECMWF السبْقُ في هذا المجال: فالمركز يُكيِّف نمذجته المتوقعة لبيئة تعتمد على وحدات المعالجة GPU، وقد اختبرها في عام 2019 بدقة كيلومتر واحد على مدى أربعة أشهر محاكاةً على الحاسوب Summit، الحاسوب الفائق الأمريكي الذي كان الأسرع في العالم حتى تفوقت عليه مؤخرًا آلة يابانية.
والكم الهائل من البيانات الناتجة من النمذجة ستكون مشكلة في حد ذاتها. فعندما أجرى الفريق الياباني تجربته بدقة كيلومتر واحد، استغرق الأمر نصف عام لاستخراج شيء مفيد من يومين من البيانات، كما يقول دوبلاس-رييس. “فعندما نحاول الوصول إلى البيانات ونفعل شيئًا ذكيًا بها لابد أن نمرّ بمرحلة عنق الزجاجة”. و سيعمل جزء كبير من المشروع دستينيشن إيرث على حل هذه المشكلة، وعلى تصميم طرق لتحليل نتائج النمذجة في الوقت الفعلي.
وكنظام تشغيلي، فمن المرجح أن يعمل المشروع على عدة نطاقات زمنية، كما يقول باور. وسيكون أحدهما شبه يومي، وربما يستهدف أحداث الطقس القاسية الفردية لأسابيع أو شهور في المستقبل. وقد يكون التشغيل في الوضع الآخر، التنبؤات طويلة الأمد، أقل تواترًا: ربما التنبؤ بالمناخ لمدة عشر سنوات كل نصف عام أو نحو ذلك. ويقول باور: “إذا نجح هذا، فقد يكون نموذجًا تتبعه الدول الأخرى”.
الأوروبيون ليسوا وحدهم في التخطيط لنمذجات مناخ ” الإكساسكيل”. “نحن نسير في هذا الاتجاه أيضًا، لكننا لم نصل بعد إلى هذا المستوى من الجهد”، كما تقول ليونغ التي تشغل منصب رئيس العلماء في نمذجة نظام الأرض التابع للوزارة DOE.
ويقول ستيفنز إنه من المثير أن تشارك في نظام معلومات على نطاق كوكبي حقيقي يمكنه أن يكشف ليس فقط تأثير الفراشة Butterfly effect الذي يضرب به المثل في الطقس والمناخ، ولكن أيضًا الكيفية التي تظهر بها الإجراءات البشرية المحلية على مستوى العالم. “هذه هي قصة العولمة، فهذه هي قصة حقبة الأنثروبوسين Anthropocene، وهذه هي المنصة العلمية التي ستسمح لك باستكشاف ذلك كله”.
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved