أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم النفس

مقابلة جو هنريش: يجب على علم النفس أن يَمدَّ نطاقَـه إلى ما هو أبعد من الثقافة الغربية

تُجرَى معظم دراسات علم النفس على أشخاصٍ يعيشون في مجتمعات غربيةٍ ومتعلمةٍ و صناعيةٍ وغنيةٍ وديمقراطيةٍ. ولكن خصائص التفكير الغريب بعيدةٌ كل البعد عن كونها عالمية

بقلم:     دان جونز

ترجمة: د. محمد الرفاعي

كيف تؤثر الثقافة التي نعيش بها في نفسيتنا ودوافعنا وعملية اتخاذ القرار لدينا؟ كان جو هنريش Joe Henrich أنثروبولوجيًّا ثقافيًّا Cultural anthropologist لا يزال يعمل في شركة أمازون Amazon حين حاول اكتشاف ذلك لأول مرة. فقد كان رائداً في استخدام ألعاب التعاون التجريبية كمعضلة السجين Prisoner’s dilemma ولعبة الإنذار Ultimatum game خارج المختبر. لاحقاً، أدرك أن النتائج التي توصل إليها ذات آثارٍ كبيرةٍ على البحث النفسي الذي يميل إلى التركيز على الطلبة من الخلفيات الغربية. ففي عام 2010 قدَّم مفهوم “الغرابة” WEIRD لوصف النفسية غير التقليدية في الأفراد بالغالبية العظمى من هذه الدراسات. وهو يعمل الآن أستاذا لعلم الأحياء التطوري البشري في جامعة هارفارد Harvard University، ويخبر مجلة نيو ساينتست New Scientist عن أصول الغرابة وتأثيرها في التاريخ ودورها في العالم الحديث.

دان جونز Dan Jones: متى أدركت أنك وزملاءَك ومعظم الأشخاص الذين تُدَرِّسُهُم غريبون؟

جو هنريش: انبثقت فكرة الغرابة عن سلسلةٍ من وجبات الغداء التي بدأت تناولها عام 2006 تقريباً مع اثنين من الأنثروبولوجيين الثقافيين، ستيفن هاين Steven Heine وآرا نورينزايان Ara Norenzayan. فقد لاحظنا أنه في العلوم السلوكية وعلم النفس على وجه الخصوص، كان نحو 96% من المشاركين في الدراسات من المجتمعات الغربية و المتعلمة و الصناعية والغنية  والديمقراطية ـ وأنهم غالباً ما كانوا مختلفين نفسياً مقارنةً بالآخرين. فالأشخاص من الثقافة الغربية يميلون إلى إظهار ثقةٍ أكبر في الغرباء وإلى الإنصاف تجاه الآخرين المجهولين؛ ويميلون إلى التفكير التحليلي Analytically أكثر من الكلي Holistically ؛ ويُعوِّلون أكثر على النوايا في الأحكام الأخلاقية؛ ويهتمون أكثر بالشخصية والذات وتنمية السمات الشخصية؛ وهم أكثر فرديةً وأقل ولاءً لمجموعتهم؛ وأكثر عرضةً للحكم على سلوك الآخرين على أنه يعكس شيئاً من السجية طويلة الأمد لا عوامل ظرفيةً مؤقتةً.

إذًا، فهو الغرب مقابل البقية؟

من المهم عدم إقامة انقسامٍ بين الغريب WEIRD وغير الغريب non-WEIRD. فالغرابة طيفٌ مستمرٌ متعدد الأبعاد، وهناك الكثير من الاختلاف حتى داخل أوروبا الغربية. ففي دراسةٍ حديثة، أخذنا بياناتٍ من رابطة مسح القيم العالمية World Values Survey، وباستخدام تقنيات علم الوراثة السكانية، قمنا بتحليل الاختلافات الثقافية لتجمعاتٍ سكانيةٍ مختلفةٍ في الولايات المتحدة، وهي أغرب الدول الغريبة. وأظهر مقياس الغرابة هذا أن سكان نيو إنغلاند New Englander هم أغرب سكان العالم، ويختلفون بشكلٍ كبيرٍ عن السكان في الشرق الأوسط وإفريقيا الموجودين في الطرف الآخر من الطيف. ومن المثير للاهتمام، أنه على الرغم من وجود قدرٍ كبير من الأبحاث في علم النفس الاجتماعي التي تقيم انقسامٍ بين الشرق والغرب، فقد اتضح أن الأفراد النموذجيين الذين يُدرَسون في اليابان أو الصين هم نوعاً ما في منتصف طيف الغرابة.

كيف تطور العقل الغريب؟

هذا هو السؤال الذي كنت أحاول الإجابة عنه طوال الأعوام العشرة الماضية. ففي كتابي الجديد أغرب الناس في العالم: كيف صار الغرب غريباً من الناحية النفسية ومزدهراً ازدهاراً خاصاً The WEIRDest People in the World: How the West became psychologically peculiar and particularly prosperous، أحاجّج في أن التغييرات الاجتماعية التي بدأها ما أسميه برنامج الكنيسة الغربية الكاثوليكية للزواج والأسرة كان قوةً دافعةً رئيسةً، لا سيما تأثيره في القرابة.

لماذا القرابة مهمةٌ جداً؟

أنظمة القرابة هي مجموعةٌ من الأعراف التي تحدد الكيفية التي يجب أن نتصرف بها في سياقاتٍ مختلفة. وقد كانتْ على الأرجح أولى المؤسسات الاجتماعية البشرية التي ظهرتْ لأنها مبنيةٌ على نفسيتنا المتطورة. فعلى سبيل المثال، تستفيد مؤسسة الزواج من نفسية نوعنا الميَّالة إلى الارتباط، وتؤثر مفاهيم مجموعات الأقارب الممتدة في جزءٍ جوهريٍّ من نفسيتنا الميالة إلى القرابة، وذلك لمساعدة ورعاية أطفالنا وإخوتنا وأقاربنا القريبين الآخرين.

تبني الأعراف الاجتماعية التي تشكل أنظمة القرابة العالمَ الذي تولَدُ فيه. إنها تحدد من يمكنك الزواج به، وما يمكنك أن ترثه وتمتلكه، ومن تشكل تحالفاتٍ معه، وأين تعيش، ونوع الأنشطة الاقتصادية التي تشارك فيها. وبينما نكبر بين أعراف ومؤسسات مجتمعنا، نطور تكيفاتٍ نفسيةٍ لنعيش في هذا العالم الاجتماعي.

ما علاقة القرابة بالغرابة؟

في معظم المجتمعات الزراعية عاش الناس في قبضة مؤسساتٍ مبنيةٍ على الأقارب داخل مجموعاتٍ أو شبكاتٍ قبلية. غالباً ما يتبع الميراث والإقامة بعد الزواج إما خط الذكر أو الأنثى – ولكن ليس كليهما – لذلك غالباً ما عاش الناس في أسرٍ ممتدةٍ باتجاهٍ واحد، وتنتقل الزوجات أو الأزواج إلى العيش مع أقارب أزواجهم. وامتلكتْ العديد من وحدات القرابة الأراضي أو سيطرتْ عليها جماعياً، ووفرتْ المنظمات المبنية على الأقارب للأعضاء الحمايةَ، والضمانَ والأمنَ، ورعاية المرضى والمصابين، والفقراء وكبار السن كذلك. وكانت الزيجات المرتبة بين الأقارب كأبناء العمومة أمراً اعتيادياً، والزواجُ متعدد الزوجات شائعاً بين الرجال ذوي المكانة العالية. وترعى شبكات الأقارب المكثفة هذه نفسيةً غير غريبةٍ؛ مما يخلق عقليةً أكثر جماعيةً مع قدرٍ أكبر من التوافق، والطاعة للسلطة، والمحسوبية، والولاء داخل المجموعة.

كيف غيرت الكنيسة أنظمة القرابة؟

فرضت الكنيسة الغربية حظراً على زواج أقارب الدم امتد ليشمل الأقارب البعيدين، حتى وصل الأمر في نهاية المطاف إلى أبناء العمومة من الدرجة السادسة؛ مما أدى إلى قطع الروابط بين العائلات والقبائل والعشائر. وقد حرّمت تعدد الزوجات وأثنت عن تبني الأطفال حتى انقرضت بعض السلالات ببساطة لعدم وجود ورثةً لها. كما شجعتْ الكنيسةُ، بل طالبت أحياناً، المتزوجين حديثاً على إنشاء أسرٍ مستقلةٍ، وعززتْ الملكية الفردية للممتلكات.

لماذا قد يغير هذا نفسية الناس؟

بدلاً من أن تولد في عالمٍ ترث فيه معظم علاقاتك الاجتماعية، عالمٍ يعتمد فيه كل شيءٍ على العلاقات الاجتماعية، فيه ولاءٌ، وطاعةٌ، وتوافقٌ قويٌ داخل المجموعة، عليك الآن أن تبحث عن علاقات منفعةٍ متبادلةٍ وتطورها. وعندما تقرر أي المدن، النقابات، أو الارتباطات التطوعية الأخرى ستنضم إليها -والتي ستكوّن شبكة الأمان الجديدة الخاصة بك، بدلاً من شبكة الأقارب -فأنت تبحث عن أشخاصٍ يشاركونك اهتماماتك، ومعتقداتك وما إلى ذلك. وهذا الانتباه يركز على الشخصيات الأساسية للناس، سماتهم وسجاياهم، بدلاً من علاقتهم السابقة بك. ويرتبط نجاحك في العالم الآن بتنمية سماتك، بجعل نفسكَ جذابةً للآخرين لأنك ستعمل معهم أو ستتزوج منهم.

كيف اختبرت هذه الفكرة؟

أولاً، أنشأنا مؤشرين لـ “شدة القرابة” Kinship intensity. فقد قاس أحدهما قوة روابط القرابة في أكثر من 1200 تجمعٍ سكاني من جميع أنحاء العالم، وذلك بالاعتماد على مشاهداتٍ من الأنثروبولوجيا يعود تاريخها إلى أكثر من 100 عام، ومسجلةٍ في أطلس الأعراق البشرية Ethnographic Atlas  [قاعدة بيانات للثقافات في جميع أنحاء العالم]. ودرس الآخر معدلات زواج أبناء العمومة في جميع أنحاء أوروبا خلال القرن العشرين، إذ تشير المعدلات الأعلى إلى زيادة شدة القرابة. فقد طورنا أيضاً مقاييس لفترة تأثر البلدان والمناطق المختلفة داخل أوروبا بالكنيسة الغربية. وبعد ذلك وضعنا في الاعتبار 24 متغيراً نفسياً متعلقاً بنفسية الغرباء دُرِسَ في العديد من البلدان والسكان. فوجدنا أنه كلما ضعفت المقاييس التاريخية لشدة القرابة وطالت مدة وجود الكنيسة، ازدادت غرابة عقول الناس الذين يعيشون هناك حالياً.

أنت تعتقد أن الغرابة تساعد أيضاً على تفسير الكيفية التي صار بها الغرب “مزدهراً ازدهاراً خاصاً”. فما هو الرابط؟

توفر النفسية الأكثر غرابةً، والأكثر فرديةً، أرضاً خصبةً لتطوير المؤسسات الرسمية، ومفاهيم الحقوق الفردية والمساواة أمام القانون، والتي يصعب تصورها في عالمٍ من العشائر أو الأقرباء. ونظراً لأن الناس في الغرب ابتعدوا عن شبكات القرابة الضيقة نحو الارتباط التطوعي مع الغرباء في شكل الاتحادات العمالية، والنقابات، والأديرة، والجامعات، والشركات، فقد تكيفوا نفسياً ليكونوا أكثر ثقةً في الأشخاص خارج مجموعة الأقارب، كما طوروا قانون العقود لدعم الارتباط التطوعي. فقد حدث هذا في وقتٍ أبكر بكثير مما حدث في أماكن كالصين. إن العقل الغريب صبورٌ  أيضاً، وهو الأمر المسجل في العديد من الدراسات، والذي -جنباً إلى جنب مع الثقة والدافع الفردي لتمييز نفسك -يساعد على دفع الابتكار في التكنولوجيا والأنشطة الاقتصادية. وأطلق هذا في النهاية الثورة الصناعية.

“صورة علم النفس التي لدينا لا تمثل صورة الإنسان العاقل Homo sapiens

 

ما هي عيوب الغرابة؟

في المجتمعات التي يوجد فيها إحساسٌ قوي بالقرابة، مثل فيجي حيث أجريت إبحاثا ميدانية، هناك شعور بالأمان، والألفة، والوحدة ـ نوعٌ من الراحة يأتي من الاحتضان الدافئ لحقيقة أنك في قلب شبكةٍ متراصةٍ من العلاقات، والتي ستدعمك دائماً. إنهم غير مرتبطين بك لأنك شخصٌ من المناسب التواصل معه، أو ذكيٌ أو ناجحٌ حالياً، إنهم مرتبطون بك عميقاً، وسيرتبطون بأطفالك. فهذا شعورٌ مريحٌ، آمنٌ، وسعيدٌ. أما الغرابة؛ فتقوض هذا الشعور.

فالأشخاص الذين يعيشون في مجتمعاتٍ قبليةٍ أو عشائريةٍ يميلون كذلك إلى رؤية أنفسهم على أنهم حلقاتٌ في سلسلةٍ تربط الماضي بالمستقبل؛ مما يخلق إحساساً بالاستمرارية يمنح الناس إحساساً حقيقياً بالمعنى والأمان. أما الغربيون؛ فإنهم يبدون كـ: “أنا فرد متفرد على نقطةٍ زرقاءَ شاحبةٍ وسط فضاءٍ أسود عملاق”، و”ماذا يعني كل هذا؟”

ما هي عواقب تَحيُّز علم النفس تجاه الأفراد الغريبين؟

هذا يعني أن صورة “علم النفس البشري” Human psychology الموجودة في الكتب الدراسية، والتي لا تزال تتضح في العديد من الدراسات العلمية، لا تمثل علم نفس الإنسان العاقل على الإطلاق. بل ربما يكون الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو إعاقة هذا التحيز جهودَنا لفهم أصول وطبيعة العمليات النفسية وتطور الدماغ. ويتضح أن الكثير مما يبدو يؤكد صفاتٍ عقليةً ناميةً ذات مساراتٍ تنمويةٍ واضحةٍ خلال الطفولة، هو حقيقةً نتيجةٌ للمنتجات الثقافية كالمؤسسات والقيم و التكنولوجيا، أو اللغات التي يواجهها الأفراد ويجب عليهم تعلمها وتشربها واستكشافها ليشقوا طريقهم في العالم. وهذا لا ينطبق فقط على علم النفس وعلم الأعصاب – بما في ذلك الإدراك، والذاكرة، والتعلم، والدوافع، والتفكير المنطقي، والتواصل الاجتماعي – ولكن أيضاً على جوانب فسيولوجيا الإنسان والتشريح والصحة. لدى الأشخاص الغريبين أقدامٌ مسطحة، وميكروبيومات Microbiomes فقيرة، ومعدلات عالية من قصر النظر Myopia، ومستويات منخفضة غير طبيعية من التعرض للطفيليات مثل الديدان الطفيلية؛ مما قد يزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والحساسية.

وهناك أيضاً الجانب التطبيقي الخاص بمشكلة الأشخاص الغريبين. فإذا كان الناس في أماكن مختلفةٍ مختلفين نفسياً، فإن أشكال الحكومات نفسها، السياسات الاجتماعية، والبرامج الاقتصادية ستكون لها غالباً تأثيراتٌ ونتائج مختلفةٌ جداً. غالباً ما تجاهلنا ذلك، إذ نُقِلَتْ المؤسسات الحاكمة والسياسات الاقتصادية الغريبة، كما هي دون تغيير، إلى البلدان والمجتمعات في جميع أنحاء العالم. وأظن أن بعضاً من فشل الجهود حسنة النية لإحداث النمو الاقتصادي، أو تحسين الظروف الصحية ناتجٌ من الإخفاق في تفسير الاختلافات بالنفسية الثقافية للناس.

هل صار العالمُ أكثر غرابةً؟

مع زيادة التمدن والعولمة، هناك اتجاهٌ نحو عائلاتٍ أصغر، وطرقِ تفكيرٍ أكثر غرابةً. حتى أنّ شيئاً بسيطاً كانتشار المدارس ذات النمط الغربي سيدفع الناس نحو المزيد من التفكير التحليلي. لذلك يحدث فقدانٌ للتنوع النفسي والثقافي. ولكنني أعتقد أننا سنرى طرقاً جديدةً لتنظيم المجتمعات وهيكلة العالم الاجتماعي وعلاقات الناس. وعليه، لا أعتقد أنه يجب علينا القلق من أن المؤسسات التي انتشرت خارج أوروبا على مدى القرون الأخيرة ستسحق الاختلافات النفسية والاجتماعية في العالم. وبينما يعيد الناس تفسير ما تعلموه من المجتمعات الأخرى، ويصممون طريقتهم الخاصة في أداء الأشياء، سيستمر العالم بالاندماج والتفكك في فسيفساء من التنوع الثقافي والنفسي.

© 2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى