أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئيةالعلوم الطبيعية

هل هناك أي نوعٍ من الأسماك يمكن أن نتناوله باستدامة؟

تشيع فينا المُلصَقاتُ التي تصفُ الطعامَ البحري بأنه "مُستدامٌ" إحساساً بالراحة لأننا نستهلك بصورةٍ أخلاقيةٍ، لكن تتبع الخسائر البيئية يخبرنا بأمرٍ آخر – غالباً

بقلم: غرايام لاوتون

ترجمة: محمد الرفاعي

ركن الأسماك في السوبر ماركت المحلي الذي أَتَبَضَعُ منه سبورةٌ تعرض عدد الأنواع المختلفة المعروضة للبيع في أي يومٍ. فعادةً ما يكون هناك نحو العشرين، لكنه قد يتجاوز في بعض الأحيان الثلاثين نوعا. وإضافةً إلى المواد الغذائية الأساسية مثل سمك القد Cod، والسلمونSalmon ، والماكريل (الإسقمري)Macerel ، فإنه غالباً ما يحتوي على سمك التراوت (السلمون المرقط)  Trout، وقاروص البحر Sea bass، وسمك الراهبMonkfish ، وجراد البحر النرويجيLangoustine ، والتونةTuna ، والإسقلوبScallops ، والحَبَّارSquid ، وسمك السلورCatfish ، والسمك المفلطحFlatfish .

   تحتوي غرفة التبريد المجاورة على المزيد: الإنقليس الهلامي Jellied eels والكوكل Cockles في مرطبانات، وبلح البحر Mussels من أيرلندا، وسرطان البحر Crab من إندونيسيا، وروبيان (قريدس/الجمبري) Prawns من الإكوادور. وفي قسم السلع المعلبة أيضا يمكنني العثورُ على المحارOysters  من كوريا الجنوبية، ولحوم السرطان Crab meat من فيتنام، والأنشوجة Anchovies من المحيط الهادي، والسردين Sardines من شمال المحيط الأطلسي، وسمك التونة من المحيط الهندي. وفي الثلاجات المزيد.

   وهذا التنوعُ يجعلني محتارًا. أنا لا آكل لحوم الثدييات أو الطيور، لكن آكل الطعام البحري، وأريد أن آكله بصورةٍ أخلاقيةٍ ومستدامةٍ قدر الإمكان. ولكن الصيد الجائر Overfishing يقلقني، وكذلك التأثيرات البيئية لمزارع السلمون وأحواض الروبيان. وتحملُ معظم المنتجات المعروضة ملصقاً يشهد بأنها اصْطيدَتْ أو زُرِعَتْ بصورةٍ مستدامةٍ، أو على الأقل “بمسؤوليةٍ” Responsibly. فماذا يعني ذلك؟ من يتأكد منه؟ هل هذا ممكن؟ بمعنى آخر، هل يمكنني أكل السمك بضميرٍ مرتاحٍ؟

   المأكولات البحرية هي تجارةٌ كبيرةٌ. ففي كل عامٍ نأكل ما مجموعه أكثر من 155 مليون طن، يُصطاد نصفه تقريباً من البرية، ونصفه من المزارع. ولتوضيح ذلك نأكلُ نحو 320 مليون طن من لحوم الحيوانات التي تُربى على اليابسة كل عام. وعلى الرغم من ذلك، فإن استهلاك الأسماك ينمو بوتيرةٍ أسرع من استهلاك اللحوم ـ نحو 3.1% كل عامٍ مقابل 2.1%. فمنذ عام 1950 ازداد عددُ السكان بنحو 175%. وفي الوقت نفسه ازدادتْ كميةُ الأسماك التي نتناولُها بنسبة 750%.

   ويَلبي هذا الطلبَ أسطولٌ من 2.9 مليون سفينة صيدٍ آليةٍ، وصناعةُ زراعة أسماكٍ واسعةٌ ومتناميةٌ. فمن ناحية مساحة السطح يُصْطَادُ في أكثر من نصف محيطات العالم. فعلى الرغم من أن البشر يعيشون على اليابسة، فإنهم يتربعون على عرش المفترسين البحريين.

   خلال مفاوضات بريكسيت (خروج بريطانيا) Brexit الأخيرة من الاتحاد الأوروبي European Union، كانت حقوق الصيد نقطةَ خلافٍ رئيسةً، على الرغم من حقيقة أن الصيد يمثل جزءاً صغيراً نسبياً من الاقتصاد في كلٍ من الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة. ولكن أهمية القضية تؤكد شعور الكثيرين بحقٍ متأصلٍ في خيرات البحر.

   للتعرف على تأثير شهيتنا للأسماك، فإن أول مكانٍ نبدأ منه هو تقريرٌ تَنْشُرُهُ كل عامين منظمة الأمم المتحدة United Nations للأغذية والزراعة Food and Agriculture Organization (اختصاراً: المنظمة فاو FAO). ويُسمى بحالة الموارد السمكية في العالم وتربية الأحياء المائية  في العالَمThe State of World Fisheries and Aquaculture (اختصاراً: تقرير الحالة SOFIA)، وهو عملٌ ضخمٌ. إذ إنه بمجرد الانتهاء من إصدارٍ ما ، فإن العمل يبدأ على الإصدار التالي.

البحرُ نصف خاوٍ

الصورة التي رسمَها التقريرُ الأخير، والذي نُشِر عام 2020، عن الموارد البحرية البرية في العالم إيجابيةٌ بصورةٍ مدهشةٍ. إذ صُنِّفَ نحو ثلثي المخزونات التجارية على أنها مستدامةٌ. وهذا يعني أن هناك ما يكفي من الأسماك لتحقيق “العائد الأقصى المستدام” Maximum sustainable yield، وهو أكبرُ عددٍ من الأسماك التي يمكن صيدها الآن وفي المستقبل دون نفاد المخزون. وبعبارةٍ أخرى، فإن المُصطاد كل عامٍ يساوي الزيادة في الكتلة الحيوية Biomass المتمثلة بالنمو والتكاثر. تراقب منظمة الفار FAO ما يقل قليلاً عن 500 مخزونٍ سمكي، والذي يُنتجُ نحو 75% من المَصِيد العالمي. وتُعَرَّفُ المخزوناتُ وفق كلٍ من الجغرافيا والأنواع، على سبيل المثال: سمك القد شمال شرق المحيط الأطلسي. واعتماداً على هذه الحسابات، فإن ما لا يقل عن نصف – ثلثي الـ 75% – من المخزونات السمكية مستدامةٌ. دعونا نسمِّ هذا منظور ” البحر نصف الممتلئ”.

   تُعْتَبَرُ مخزونات الأنواع البحرية العشر الأكثر اصطياداً، والتي تُمثل مجتمعةً ثلثَ إجمالي الأسماك التي تُصْطادُ في البحر، أكثرَ استدامةً من المتوسط. ومن ناحية الكتلة، فإن 78.7% من المأكولات البحرية التي ينتهي بها المطاف في السوق تأتي من المخزونات التي تعتبرها منظمة الفار FAO مستدامةً.

   وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا التقييم المتفائل إلى حدٍ ما يخفي حالةً فوضويةً تحت الأمواج. ويقول مانويل بارانج Manuel Barange، مديرُ قسم سياسات الموارد السمكية وتربية الأحياء المائية في منظمة الفاو FAO: “لا تمتلك العديدُ من البلدان سفنَ أبحاثٍ للذهاب إلى البحر ومراقبة المخزونات”. وحتى حين يفعلون ذلك، فإن الحسابات العلمية تُمثل تحدياً. إذ إنها تتطلبُ تقديرَ الكتلة الحيوية الإجمالية للنوع مَوضِعِ الدراسة في منطقةٍ جغرافيةٍ شاسعةٍ، ثم تقييم ما إذا كان ذلك كافياً لدعم العائد الأقصى المُستدام. وهامشُ الخطأ كبيرٌ جداً، لدرجة أن المخزون يُعتَبَرُ مستداماً حتى ولو كان أقل بنسبة 20% من المطلوب لتحقيق العائد الأقصى المُستدام.

على الرغم من مجال المناورة هذا، إلا أن منظمة الفاو FAO تقول إن ثلث مخزونات الأسماك التي تراقبها تتعرض للصيد الجائر، ومن ثمّ فهي على طريق الانهيار إن لم يُفْعَلْ شيءٌ لإيقاف نهبها. ففي عام 1974 عندما بدأت منظمة الفاو FAO بالعد، كان 90% من المخزونات مستداماً. أما حالياً؛ فقد انخفضَ الرقم إلى 65% فقط. وحتى لو بقي مستوى الصيد كما هو، سيستمر المخزون بالانخفاض. هذا هو منظور “البحر نصف الفارغ”. فقد قال شو دنيو Qu Dongyu، وهو مدير عام منظمة الفاو FAO، في انطلاق تقرير الحالة SOFIA الأخير: “لا يمكن أن نسمح لهذا بالاستمرار”.

   لقد حاق الفشلُ في وقف أو حتى إبطاء انخفاض المخزون السمكي على الرغم من ثلاثة تعهداتٍ عالميةٍ لمنع ذلك بالضبط. وقد وقَّعَتْ على التعهد الأول جميعُ الدول الأعضاء في منظمة الفار FAO البالغ عددها 193 دولة في عام 1995: وهو مدونة السلوك بشأن الصيد الرشيد Code of Conduct for Responsible Fisheries. وبعد ذلك جاءت أهدافُ أيشي للتنوع الحيوي Aichi Biodiversity Targets عام 2010، ثم أهداف التنمية المستدامة Sustainable Development Goals عام 2015، وقد وعد كلاهما بإنهاء صيد المخزوناتِ البحريةِ البريةِ الجائرِ بحلول عام 2020، وتبنتهما دول منظمة الأمم المتحدة UN التي يزيد عددها على 190 دولة.

   وحسب كلام بارانج، حقق ميثاقُ السلوك نجاحاً جزئياً. إذ أدى إلى إبطاء معدل انتقال المخزونات إلى خانة “الصيد الجائر”. فمن عام 1974 إلى عام 1995، تحول 20% من المخزونات من مستدامٍ إلى غير مستدامٍ. ففي الأعوام الـ 25 التي تلت ذلك، لم يتحول سوى 5% إضافيةٍ فقط إلى غير مستدامة. ويقول بارانج: “إننا نسطّح المنحنى… لكنه ليس بما فيه الكفاية”.

   وعلى الرغم من ذلك، فلم يكن لأهداف التنمية المستدامة أي تأثيرٍ ملموسٍ. فقد رُسِمَتْ صورتها بوضوحٍ في إطار إدارة المخزونات السمكية: هدفُها إنهاء الصيد الجائر بحلول عام 2020، وإعادة البناء بحلول عام 2030. ولم يتحقق هدف عام 2020، ولا يزال هدف عام 2030 بعيد المنال. ويستغرق تعافي مخزونٍ تعرّض للصيد الجائر ضعفين إلى ثلاثة أضعاف عمر النوع؛ فعلى سبيل المثال، يمكن أن يعيش سمك القد الأطلسي، وهو أحد أكثر الأنواع تعرضاً للصيد الجائر، لمدة 25 عاماً. ويقول بارانج: “إننا نحرز تقدماً، لكنه متباينٌ جغرافياً، وليس بالسرعة الكافية”.

تعريفاتٌ متضاربة

أما بالنسبة إلى أهداف أيشي، فانسوها. وكان من المفترض أن تُحَقَقَ الأهدافُ الـ 20 بحلول نهاية عام 2020، ولكن، وكتقديرٍ أولي، لم يُحَقَقْ أيٌّ منها. فقد حَدَّدَ الهدفُ المخصص للأسماك أربعة أهداف: إنهاءُ الصيد الجائر، وتنفيذُ خططِ التعافيRecovery plans ، والقضاءُ على الآثار السلبية الكبيرة في الأنواع المهددة والأنظمة الإيكولوجية المعرّضة للخطر، والبقاءُ ضمن الحدود الإيكولوجية الآمنة. ولم يُحَقَقْ أيٌّ منها. فقد أُحْرِزَ بعضُ التقدمِ فيما يخصُ خطط الصيد الجائر والتعافي، ولكن لم يكن هناك “تغييرٌ مهمٌ” في الخطوتين الأخريين منذ تحديد الأهداف في عام 2010.

   حتى في الحالات التي أُحْرِزَ فيها تقدمٌ، فإنه غيرُ كافٍ. فقد تَوقَفَ الصيدُ الجائرِ وبدأ التعافي في الأماكن التي تُرْصَدُ وتُقَيَّمُ وتُدَارُ فيها المخزوناتُ السمكية بعنايةٍ وفهمٍ لكيفية تَكيّفِ الأنواع داخل النظام الإيكولوجي الأعم. ولكن نصف مخزونات العالم فقط تدارُ على هذا النحو. أما النصفُ الآخر؛ ففي حالةٍ سيئةٍ، إذ يعاني الصيدَ غير المُنَظَمِ، وغير المُبَلَّغِ عنه، وغير القانوني.

   لحظةً، ربما تتساءلُ عن تقييم منظمة الفاو FAO الذي يقول إن ثلثي المخزونات مستدامةٌ. ويقول بارانج ألّا تناقضَ هناك. وتستخدمُ منظمة الفاو FAO وأيشي تعريفاتٍ مختلفةً لكلمة “مخزون” Stock. وتنطلق منظمة الفاو FAO من منظور المخزونات التجارية الضخمة؛ أما أيشي فمن المخزونات الأصغر التي تحددها البيئة. ويقول بارانج: “يعتمد الأمر على الوحدات التي تستخدمها”.

   هناك مصدرُ قلقٍ رئيسي آخر هو أن الاستدامة لا تعني بالضرورة أنها غير ضارةٍ بالبيئة. وقد يكون للصيد التجاري واسعِ النطاق، الذي بدأ بجديةٍ نحو عام 1950، العديدُ من التأثيرات السلبية في النظام الإيكولوجي الأعم، مثل الصيد العرضي By-catch للأنواع غير المستهدفة، والذي يُسمى الصيد العرضي. وتكون معظم الأسماك والطيور البحرية وغيرها من الكائنات الحية التي يُؤسَفُ لها، والتي اصْطيدَتْ عرضياً، نافقةً أو تحتضر بحلول الوقت الذي تُرْمَى فيه مرةً أخرى في البحر. فقد انخفض الصيدُ العرضي انخفاضاً كبيراً، من نحو 40% من إجمالي الصيد في عام 2000 إلى نحو 10% في عام 2014، لكنه لا يزال يُعْتَبَرُ “غير مستدامٍ” بموجب اتفاقية التنوع الحيوي Convention on Biological Diversity. وخَلصتْ دراسةٌ حديثةٌ أجراها الصندوق العالمي للطبيعة (اختصارا: الصندوق WWF) إلى أن الصيد العرضي يقتل أكثر من مليون من الثدييات البحرية، والزواحف، والطيور.

   تُمَثِلُ معدات الصيد المفقودة أو التي يُتَخَلَصُ منها مشكلةً أيضاً. فوفقاً لبعض التقديرات، يُرمى ما بين 640,000 و800,000 طن من “المعدات الأشباح” Ghost gear  كل عامٍ، مما يؤدي إلى قتل أعدادٍ لا حصر لها من الحيوانات البحرية التي تَعْلَقُ فيها.

   هناك أيضاً طُرُقُ صيدٍ معينةٌ يمكن أن تسببَ الضرر. إذ يؤدي الصيدُ بتجريف قاع البحر Bottom trawling، وفيه تجرف الشباكُ قاعَ البحر، إلى تخريب وإتلاف الموائل Habitata البحرية بصورةٍ عشوائيةٍ، حتى أنه قد يزيدُ التلوثَ لأنه يقوّضُ قدرةَ أحياء قاع البحر الدقيقة على إزالة الرواسب الضارة.

   وفقاً للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة International Union for Conservation of Nature، والذي يتتبع تأثير صيد الأسماك في الأنواع المهددة بالانقراض، فإن تأثيرها الإجمالي سلبي، كما أن ضغط الانقراض Extinction pressure الذي تسببه آخذٌ بالازدياد.

   حتى أن مفهومَ الاستدامة صارَ موضع شك. ويقول دانيال بولي Daniel Pauly من جامعة كولومبيا البريطانية University of British Columbia في فانكوفر Vancouver: “كلمة ’مستدام‘ لا تعني شيئاً”. “يمكنك حقيقةً ممارسة الصيد الجائر بصورةٍ مستدامةٍ ـ يمكنك استنزاف المخزون وصولاً إلى جزءٍ ضئيلٍ من وفرته الأصلية، وصيدُ الباقي صيداً مستداماً. إنه كَقَطْعِ غابةٍ شاسعةٍ، وترك بعض الأشجار قائمةً، والتي يمكنك حصادها بصورةٍ مستدامةٍ. فعلى سبيل المثال، أنتجت مسامك القد الكندية فيما مضى 200,000 طن كل عام. وبعد ذلك ضاعف الصيدُ الصناعي الكمية المصطادة أربعة أضعاف، مما أدى إلى انهيار المخزون في عام 1992. ولكنه تعافى إلى حدٍ ما منذ ذلك الحين، وينتجُ الآن نحو 20,000 طن كل عام ـ ويقول بولي إن هذا الرقمَ يُعْتَبَرُ “مستداماً”.

   يقول: “السؤالُ الأهم الذي يجب التفكير فيه هو مقدار الكتلةِ الحيوية المتبقية في الماء منذ عام 1950”. وبهذا المقياس، فإن جميع المخزونات السمكية في العالم تقريباً قد استُنفِدَتْ بشدةٍ. “بالنسبة إلى السمك الكبير، فإن الكتلة الحيوية قد تقلّصَتْ تقلصاً كبيراً، بما يعادل 80 إلى 90%”.

   غالباً ما تفشل الاستدامة أيضاً في أخذ عوامل إيكولوجية أخرى بعين الاعتبار. ويقول بولي إن مصايد جراد البحر النرويجي في فيرث أوف فورث Firth of Forth في أسكتلندا، على سبيل المثال، مستدامةٌ، ولكنها ليست كذلك إلا لأن العديد من الأنواع الأخرى قد اصْطيدَتْ حتى انقرَضَتْ، ولم يعد لهذا النوع أي مفترساتٍ طبيعيةٍ.

   يقول بولي إن علينا أيضاً أن نضع بعين الاعتبار أن سفن الصيد باتتْ أقوى مما كانت عليه فيما مضى. ويقول: “على الرغم من انخفاض الكتلة الحيوية، إلا أنها قادرةٌ على التعويض بالعثورِ على الأسماك القليلة المتبقية، والعملِ في مواقع لم تكن سفن الصيد القديمة قادرة على الوصول إليها… حقيقةُ أن سفن صيدنا تحافظُ على كمية المَصْيَد ليستْ مؤشراً على أن الوفرة ظَلَّتْ كما هي”.

   وإذا لم يكن ذلك سيئاً بما فيه الكفاية، فيجب أيضاً أخذ انبعاثات غازات الدفيئة Greenhouse gas من عمليات الصيد البري بعين الاعتبار. فوفقاً لتقييمٍ حديثٍ، مقابل كل كيلو كالوري من الطعام المُنْتَج، تكون الأسماك التي تُصْطَادُ من البرية ذات بصمةٍ أكبر في الاحتباس الحراري Global warming footprint من لحم الخنزير أو الدجاج أو منتجات الألبان (انظر: بصمة كربون الصناعات الغذائية). ومصايد الأسماك هي الأسوأ، ولكن هذه هي الحال حتى بالنسبة إلى أقل مصايد الأسماك البرية تأثيراً. ويرجع ذلك إلى كمية الوقود الهائلة اللازمة للسفر مسافاتٍ طويلةً على مدى أسابيع أو شهور، ولنقلِ معدات الصيد الثقيلة، فضلاً عن تكاليف الطاقة المستخدمة في تبريد الأسماك أو تجميدها.

   بالمجمل، من الواضح أن صيد الأسماك البري ذو تبعاتٍ يَصْعُبُ التعامل معها. وتقول تارا غارنيت Tara Garnett من شبكة أبحاث المناخ والغذاء Food Climate Research  بجامعة أكسفوردUniversity of Oxford’s Network: “إن قصة تعاملنا مع المحيطات هي قصةٌ مخزيةٌ ومخيفةٌ جداً”.

   ربما يكون الحل، إذاً ، هو تربيةَ الأحياء المائية، المعروفة أيضاً بزراعة الأسماك. ويوفر هذا القطاع الكبيرُ سريعُ النمو حالياً 52% من الأسماك التي يستهلكها البشر مباشرةً، ومن المتوقع أن يزداد مع زيادة الطلب على الطعام البحري، ولكن المَصْيَد من البر ما زال ثابتاً بصورةٍ أساسيةٍ.

   تربيةُ الأحياء المائية هي أسرعُ القطاعات نمواً في مجال إنتاج الغذاء العالمي. تتركز غالبيتها العُظمى في آسيا، وتُقَدَّم منتجاتها إلى حدٍ كبيرٍ للاستهلاك المحلي. أما المستهلكون الغربيون؛ فتتوفر لهم منتجات مزارع سمك السلمون أو الروبيان. وبالنسبة إلى أولئك المستهلكين الذين يسعون جاهدين إلى اتخاذ خياراتٍ أخلاقيةٍ، يمكن أن يتسبب ذلك في مشكلاتٍ.

مشكلاتٌ في المزرعة

يقول جرانت ستينتيفورد Grant Stentiford من مركز علوم البيئة ومصايد الأسماء وتربية الأحياء المائيةCentre for Environment, Fisheries and Aquaculture Science في ويموث Weymouth بالمملكة المتحدة، إن تربية الأسماك تعاني بعض المشكلاتِ المعروفةِ والتي لا يمكن إنكارها. فعلى سبيل المثال، يأتي الروبيان المزروع من مزارع من جنوب وجنوب شرق آسيا والإكوادور في الغالب، ويُرَبى في الأحواض التي أُنْشِئتْ عن طريق تدمير مستنقعات القرم (المانغروف) Mangrove. ويقول ستينتيفورد: “ترتبط هذه الصناعات بخسارةٌ كبيرة في الموائل والتنوع الحيوي. لا أعتقد أن أي شخصٍ يمكن أن يجادل في ذلك حقاً”. وإذا أضفْتَ التكلفة البيئية لإطعام الروبيان وشحنِه إلى الأسواق الغربية، فيمكن أن تتجاوز البصمة الكربونية Carbon footprint لكل كيلو كالوري في بعض الأحيان بصمةَ لحومِ البقر.

   وفي الوقت نفسه، فإن زراعة السلمون تعاني مشكلاتٍ معروفةً معرِفةً واسعةً تتعلق بالطفيليات، والإفراط في استخدام المضادات الحيوية Antibiotic، وتكاثر الأسماك الهاربة مع الأنواع البرية -مما قد يُضْعِفُ تجميعة مورثات Gene pool الأسماك البرية، ويؤدي في بعض الحالات إلى نسلٍ عقيمٍ -وتلوث قاع البحر تحت المسمكة. ويقول ستينتيفورد إن المنتجين على درايةٍ بهذه المشكلات ويحاولون تصحيح أخطائهم، ولكن لا يزال هناك طريقٌ طويلٌ لنقطعه.

   تقع تربيةُ الأحياء المائية أيضاً ضمن أهداف أيشي، والتي تنص على أنه بحلول عام 2020 يجب أن “تُدار بصورةٍ مستدامةٍ، بما يضمن الحفاظ على التنوع الحيوي”. وكما هو مُتَوقَع، لم يتحقق الهدف. فعلى الرغم من أن معظم نشاطاتِ تربيةِ الأحياءِ المائيةِ صغيرةِ النطاق في المياه العذبة مستدامةٌ، إلا أن تربية الأحياء المائية في البحر -والتي تُسمى تربية الأحياء البحرية Mariculture -ليستْ كذلك. فهي وفقاً لأحدث تقييمٍ لهذه الأهداف مسؤولةٌ عن “خسارةٍ وتدميرٍ واسع النطاق للأراضي الرطبة الساحلية (أراضي أشجار المانغروف بصورةٍ خاصةٍ)، وتلوث التربة والمياه”.

   مشكلةٌ كبيرةٌ أخرى تعانيها تربية الأحياء المائية هي أنها، وللمفارقة، غالباً ما تزيد الضغط على المصايد البرية. فسمك السلمون، والتونة، وقاروص البحر، والعديد من الأنواع المزروعة الأخرى هي من أهم الحيوانات المفترسة التي تأكل الأسماك الأخرى. ولتلبية هذا الطلب، يُصْطَادُ نحو 22 مليون طن من الأسماك البرية كل عامٍ وتُحَوَّلُ إلى طعامٍ للسمك. ويكون معظمها من السردين، والأنشوجة، وغيرها من اليرقات الصغيرة الصالحة للاستهلاك البشري. ومما زاد الطين بِلة، أنها غالباً ما تُصْطَادُ في مياه البلدان منخفضة الدخل، والتي غالباً ما تعاني مشكلاتٍ تتعلق بالأمن الغذائي، ثم تُصَدَّرُ إلى البلدان الأكثر ثراءً. ويقول بولي: “هذا هو الجنونٌ بعينه”. ومن ناحية الكتلة الحيوية الكُلْيَّة، تتطلب تربية بعض الأنواع كميةَ أسماكٍ بريةٍ للتغذية أكثر مما ستحصل عليه في النهاية من الأسماك المزروعة. “تربية الأحياء المائية ليستْ منتجةً للأسماك، بل مستهلكةً للأسماك. وتربيةُ الأحياء المائية هي السبب جزئياً وراء تدهور مصايد الأسماك”.

   المثالُ الأكثر فظاعةً هو تربيةُ التونة في البحر الأبيض المتوسط. ويقول بولي: “تحتاج زراعة التونة من 15 إلى 20 كغم [من السمك طعاماً] لكل كغم من التونة”. “وعندما تكون التونة سمينةً، تحصل على تذكرةٍ من الدرجة الأولى إلى اليابان لأنه لا أحد آخر يستطيع دفع ثمنها”.

   يعمل الباحثون على إيجاد حلولٍ، لكنها غالباً ما تتضمن مصادر بروتينيةً أخرى تسبب مشكلاتٍ بيئيةً مثل فول الصويا.

   بصفتي من محبي المأكولات البحرية، ومن محبي الطبيعة كذلك، بدأتُ أشعرُ بالقُنوط.  فليست كل أشكال تربيةِ الأحياء المائية مبذرةً جداً. فهناك فئةٌ تسمى “غير المُغذاة” Non-fed، والتي تشمل المحاريات مثل بلح البحر والمحار التي تتغذى بأنفسها، وتخلق موائل جيدةً لأشكال الحياة البحرية الأخرى. ويقول بولي: “تتألفُ تربية الأحياء المائية من قطاعين مستقلين استقلال زراعة الخضراوات عن تربية الماشية… الأشياء التي لا تحتاج إلى إطعامها هي إضافةٌ صافيةٌ إلى الطعام البحري المتاح للعالم. أو بإمكاننا أن نطعم سمكة التونة 20 كغم من السردين لنحصل على كغ واحد من التونة”.

      يقول ستينتيفورد إنه على الرغم من كل هذا، يمكن أن تظل تربية الأحياء المائية المُغذاة أكثر كفاءةً من إنتاج اللحوم على اليابسة. فالأسماك والقشريات من ذوات الدم البارد، فضلاً عن أنها حيواناتٌ مائيةٌ، لذا لا يجب عليها صرف الطاقة لتَدَفِئة أنفسها أو لدعم وزن أجسامها. يقول: “هناك كفاءةٌ متأصلةٌ في حيوانات المياه الباردة ليستْ موجودةً في الثدييات والطيور”. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من ناحية إجمالي انبعاثات غازات الدفيئة، تعادلُ معظم عمليات تربية الأحياء المائية في إنتاجها لهذه الغازات إنتاجَ لحم الخنزير والدجاج ومنتجات الألبان تقريباً.

“ليست كل أشكال تربية الأحياء المائية مبذرةً ـ فالمحاريات مثل بلح البحر والمحار تتغذى بأنفسها”

صيدُ المنتجات من الممرات

وباستثناء الرخويات المزروعة، فإن شراء الأسماك يعني المخاطرة بتدمير البيئة ونَشْرِ الظلمِ الاجتماعي. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الصعب جداً، بل يكادُ يكون مستحيلاً، أن يتخذ المستهلكون خياراتٍ مستنيرةً.

   هناك العديد من مخططات الاعتماد للأسماك الحرة والمستزرعة، لكنها بعيدةٌ كل البعد عن أن تكون شاملةً. وأحد أشهرها هو مجلس الإشراف البحري Marine Stewardship Council (اختصاراً: المجلس MSC)، والذي يَفخر بمعاييره الصارمة للاستدامة، وتَتَبُعِهِ سلاسلَ التوريد. ويقول روهان كوري Rohan Currey، كبير مسؤولي العلوم في المجلس MSC: “من المعقد جداً أن تعرف حقاً ما تشتريه…هذا هو سبب وجودنا كمجلس”.

   وعلى الرغم من ذلك، فإن 16% فقط من الأسماك التي تُصْطَادُ من البحر في العالم تَشْحَنُها أساطيلُ حاصلةٌ على شهادة المجلس MSC. أما الباقي؛ فقد يكون أو لا يكون مستداماً، أو ربما لم تُقَيمْهُ هيئةُ رقابةٍ. فمن المستحيل أن نعرف. ولا يأخذُ المجلس MSC حالياً بالاعتبار انبعاثاتِ غازات الدفيئة أو سلامةَ الحيوانات. قَسَمَ التأثيرُ الإجمالي للمجلس MSC الرأي العلمي، فقد وجدتْ بعضُ الدراسات أنه يُعزز الاستدامة، لكن البعض الآخر يرى أنه في الغالب يُعطي شهادة إجازةٍ لاستغلالِ المخزونات المفرطِ.

   إذن، كيف يمكننا أن نكون واثقين من أن الطعام البحري الذي نختاره مستدامٌ؟ حتى علماء الموارد السمكية يواجهون مشقةً في معرفة ما يشترونه. ويقول ستينتيفورد: “على الرغم من أنني شخصٌ لديه اهتمامٌ عميقٌ إلى حدٍ ما بهذا المجال، فإنني لا أعرف الإجابة”.

   يعترف بارانج أيضاً بأن الأمر صعب، ويقول إنه يشتري فقط أيّاً ماهو متوفر في السوق وتَمَتَعَ بثقةٍ معقولةٍ أنه مستدامٌ وفقاً لمعايير منظمة الفاو FAO. ويتجنب بولي السؤال. ويقول: “بصراحةٍ، لا أعرف”. ويقول إنه يجب أن تكون مهمة الحكومات، لا الأفراد، أن تقرر ما هو مقبولٌ، وما هو غير مقبولٍ.

   وإلى أن يحدثَ ذلك، سنهيمُ على وجوهنا بلا وجهة، ونجول في ممرات السوبر ماركت دون خريطة. ولكن ضع في اعتبارك أنه إذا كنتَ تأكلُ السمك، فمن شبه المؤكد أن هناك شيئاً مريباً فيه.

© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى