الأرض القديمة كانت عالما مائيا
الحياة والصفائح التكتونية ربما لفظها الوشاح إلى سطح كوكب غارق في المياه
بقلم: بول فوسن
ترجمة: مي بورسلي
على مر العصور ارتفعت وانخفضت مستويات سطح البحر ودرجات الحرارة، لكنه افترض دائما أنّ الكمية الإجمالية للمياه السطحية للأرض ظلت ثابتة. حاليا، تتزايد الأدلة على أنه قبل ما يقرب من ثلاثة بلايين إلى أربعة بلايين سنة، كانت محيطات الكوكب تحتوي على ما يقرب من ضعف كمية المياه – وهو ما يكفي لغمر قارات اليوم إلى ارتفاع يفوق قمة جبل إيفرست. ربما “سخن” الطوفان “محركَ” الصفائح التكتونية Plate tectonics وجعل بدء الحياة على اليابسة أكثر صعوبة.
إذ يُعتقد أن الصخور الموجودة في الوشاح Mantel اليوم، وهي الطبقة السميكة الموجودة أسفل القشرة الأرضية، تحبس ما يكفي من مياه المحيط أو أكثر في هياكلها المشبعة بالمعادن. ولكن في وقت مبكر من تاريخ الأرض، كان الوشاح، المدفأ بالنشاط الإشعاعي Radioactivity، أسخن مما هو عليه بأربع مرات. وحاليا، أظهرت التجارب في المكابس الهيدروليكية Hydraulic presses أن العديد من المعادن لن تحتوي على القدر نفسه من الهيدروجين والأكسجين عند مثل درجات حرارة الوشاح هذه. ويقول جونجي دونغ Junjie Dong، طالب الدراسات العليا في علم الفيزياء المعدنية من جامعة هارفارد Harvard University، الذي قاد تجربة النمذجة، بناءً على تلك التجارب التي أجريت في المختبر، الذي نُشر في الأسبوع الثاني من شهر مارس 2021 في دورية أي جي يو أدفانسس AGU Advances: “يشير هذا إلى أن الماء لا بد أنه كان في مكان آخر… والخزان الأكثر احتمالا هو السطح”.
يقول مايكل والتر Michael Walter، الاختصاصي بعلم البترول التطبيقي من معهد كارنيغي للعلوم Carnegie Institution for Science، إن هذه الورقة تعرض حجة منطقية بديهية. “إنها فكرة بسيطة قد تكون لها آثار مهمة”.
إذ يخزن اثنان من معادن الوشاح الكثيرَ من مياهه اليوم: وادسلايت Wadsleyite ورينغوودايت Ringwoodite، وهما نوعان ينشآن من الزبرجد الزيتوني Olivine البركاني. إذ تشكل الصخور الغنية بهما 7% من كتلة الكوكب، وعلى الرغم من أن 2% فقط من وزنهما مكون من الماء اليوم، “إلا أن القليل منها يساوي الكثير”، كما يقول ستيفن جاكوبسن Steven Jacobsen، الاختصاصي بعلم المعادن التطبيقي من جامعة نورث وسترن Northwestern University.
وقد ولّد جاكوبسن وآخرون المعادن بعَصْرِ مساحيق الصخور تحت ضغط مقداره عشرات الآلاف وتسخينها إلى 1600 ْس أو أكثر. فقد جمع فريق دونغ النتائج معًا لإظهار أن معدني الوادسلايت والرينغوودايت يحتفظان بكمية أقل من الماء في درجات حرارة أعلى. وإضافة إلى ذلك، فقد وجد الفريق أن المعادن ستكون أكثر ندرة في الوشاح القديم والأكثر سخونة مما هو عليه اليوم، مما يحد من قدرتها على تخزين المياه.
التجارب ليست وحدها التي تقترح كوكبا مائيا. يقول بنجامين جونسون Benjamin Johnson، الاختصاصي بعلم الكيمياء الجيولوجية من جامعة ولاية أيوا Iowa State University: “هناك دليل جيولوجي واضح جدًا”. وتشير تركيزات التيتانيوم Titanium في بلورات الزركون Zircon التي يبلغ عمرها أربعة بلايين عام من غرب أستراليا إلى أنها تشكلت تحت الماء. وبعض أقدم الصخور المعروفة على الأرض، التكوينات التي يبلغ عمرها ثلاثة بلايين عام في أستراليا وغرينلاند، عبارة عن صخور البازلت الوسائدي Pillow basalts، وهي صخور منتفخة Bulbous rocksتتشكل عندما تبرد الصهارة Magma تحت الماء.
يقدم عمل جونسون وبوسويل وينغ Boswell Wing، الاختصاصي بعلم الجيولوجيا من جامعة كولورادو University of Colorado في بولدر، المزيد من الأدلة. فقد كانت العينات المأخوذة من قطعة من القشرة المحيطية عمرها 3.24 بليون عام من البر الرئيسي لأستراليا أكثر ثراءً في نظائر الأكسجين الثقيل من المحيطات الحالية. إذ يفقد الماء هذا الأكسجين الثقيل عندما يتفاعل المطر مع الصخور القارية لتكوين الطين، لذا فإن وفرته في المحيطات القديمة تشير إلى أن القارات بالكاد كانت قد ظهرت عند تلك النقطة، كما خلص جونسون ووينغ في دراسة نشرتها دورية نيتشر جيوساينس Nature Geoscience عام 2020. ويقول جونسون إن الاكتشاف لا يثبت أن المحيطات كانت أكبر، ولكن “من الأسهل أن تكون لديك قارات مغمورة بالمياه إذا كانت المحيطات أكبر”.
أما ريبيكا فيشر Rebecca Fischer، الاختصاصية بعلم البترول التطبيقي من جامعة هارفارد والمؤلفة المشاركة في الدراسة التي نشرتها الدورية AGU Advances؛ فتقول إنه على الرغم من أن ظهور القارات فوق سطح الماء كان سيكون أكثر صعوبة في حالة المحيط الأكبر، إلا أن ذلك قد يفسر سبب تحركها في وقت مبكر من تاريخ الأرض. فقد تكون المحيطات الأكبر حجمًا قد ساعدت على تحفيز حركة الصفائح التكتونية مع اختراق الماء للشقوق، مما أدى إلى إضعاف القشرة، ونشوء مناطق اندساس Subduction، فانزلقت شريحة من القشرة تحت الأخرى. وبمجرد أن يبدأ اللوح المنحدر بالغوص إلى الأسفل، يصبح من الممكن للوشاح الجاف والصلد أن يساعد على ثني اللوح، مما يضمن استمرار غوصه، كما يقول جون كوريناغا Jun Korenaga، الاختصاصي بعلم الجيوفيزياء من جامعة ييل Yale University. “إذا لم تتمكن من ثني الصفائح، فلا يمكن أن تكون لديك صفائح تكتونية”.
والدليل على وجود محيطات أكبر يتحدى سيناريوهات بداية الحياة على الأرض، كما يقول توماس كاريل Thomas Carell، الاختصاصي بعلم الكيمياء الحيوية من جامعة لودفيغ ماكسيميليان Ludwig Maximilian University في ميونيخ. ويعتقد بعض الباحثين أنها بدأت عند الفتحات الحرارية المائية Hydrothermal vents الغنية بالمغذيات في المحيط، بينما يفضل البعض الآخر سيناريو البرك الضحلة على اليابسة الجافة، والتي كانت ستتبخر كثيرًا، مما يخلق حمامًا مركّزًا من المواد الكيميائية.
وفرضية المحيط الأكبر تؤدي إلى تفاقم مشكلة سيناريو العالم المائي: ربما يكون المحيط نفسه قد خفف أي جزيئات حيوية وليدة إلى درجة ضئيلة. ولكن بغمر معظم الأراضي، فإنه يعقد أيضًا سيناريو البركة الضحلة. ويقول كاريل، المؤيد لسيناريو البركة، في ضوء الورقة الجديدة، إنه يفكر الآن في مكان ميلاد مختلف للحياة: جيوب مائية محمية داخل صخور المحيطات التي برزت إلى سطح الجبال البحرية البركانية. ويقول: “ربما كانت لدينا كهوف صغيرة حدث فيها كل شيء”.
عالَم الماء القديم هو أيضًا بمثابة تذكير لكيفية تطور الأرض المشروط Conditional Earth’s evolution. ربما كان الكوكب جافًا حتى قصفته الكويكبات Asteroids الغنية بالمياه بعد ولادته بوقت قصير. ولو ألقت الكويكبات ضعف كمية الماء، أو لو كان الوشاح الحالي أقل شهية للماء؛ لما كانت لتنشأ أبدًا القارات الضرورية جدًا لحياة الكوكب ومناخه. ويقول دونغ: “الأرض نظام دقيق جدا… الكثير من الماء، أو القليل جدًا، ولن تكون الأرض صالحة للحياة”.
©2021, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved