حياةٌ صافية صفريا: كيف سيكون يومُك في عالمٍ محايد الكربون
ننتقل سريعاً إلى عام 2050، ونتخيلُ صورةً لما سيكون عليه اليوم العادي حين نُخَفِّضُ انبعاثاتِ الكربون، مستوحاةً من أحدثِ الأبحاثِ، والتجاربِ الجارية، وآراءِ الخبراء
لقد استوعب القليل منا استيعاباً كاملاً تحوّلَ الاقتصاداتِ وسلوكِنا اللذَين يقتضيهما الكفاحُ الوجودي ضد التغيّر المُناخي Climate change ـ حتى مع تقريرِ شهر أغسطس الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغيّر المُناخي Intergovernmental Panel on Climate Change (اختصاراً: الهيئة IPCC) ، والذي كَشَفَ ضآلةَ الوقت المتبقي أمامنا لتعجيل الانتقال إلى عالمٍ أنظف.
ليست المشكلة أن العالم يفتقرُ إلى الالتزامات والتعهدات. فإذا كنتَ تعيش في المملكة المتحدة ، أو الاتحاد الأوروبي ، أو الولايات المتحدة ، أو العديد من الأماكن الأخرى، فإن الهدف المُعْلَنَ هو أنك لا بدّ أن تعيش في مكانٍ تكون فيه انبعاثاتُ غازاتِ الدفيئة Greenhuse gas emissions صافية صفريا Net-zero في غضون ثلاثة عقود. فقد أدرجت إحدى عشرة دولةً -هي كندا ، والدنمارك ، وفرنسا ، وألمانيا ، والمجر ، واليابان ، ولوكسمبورغ ، ونيوزيلندا ، وإسبانيا ، والسويد ، والمملكة المتحدة -بالفعل هذا الهدف في قوانينها، وأبدَتْ العشراتُ عزمَها على فعل ذلك.
ولكن معظمنا يفتقر إلى تصورٍ لما ستكون عليه الحياةُ اليومية الصافية صفريا، من منازلنا وطعامنا إلى التنقل والمناظر من حولنا. ويقول مايك تومسون Mike Thompson من لجنة التغيّر المُناخي Climate Change Committee (اختصاراً: اللجنة CCC)، وهو مستشارٌ قانوني لحكومة المملكة المتحدة: “أعتقد أننا ربما لا ندرك ذلك بما فيه الكفاية”.
ما يلي هو محاولةٌ لملْءِ تلك الفجوة وعَرْضِ يومٍ في حياة إيسلا Isla، وهي طفلةٌ حالياً، في عام 2050. إنّها بطبيعتها تخمينيةٌ ـ لكنها تستنيرُ بالأبحاثِ، وآراءِ الخبراء، والتجاربِ التي تُجْرَى الآن.
اليوم في عام 2050
عندما يرنّ جرس المُنَبه، تكفي الأمطار الغزيرة في الخارج لتلتحف إيسلا. فهذا أمرٌ غير معتادٍ في أواخر أيام الصيف. فقد كان الصيفُ عادةً أكثر جفافاً وحرّاً لأعوامٍ هنا في جنوب المملكة المتحدة. علماً بأن الطقس غير المتوقع صار سمةً من سمات الحياة في الأعوام الأخيرة.
ومن الجيد أن حرارة منزل إيسلا هي 20°س وهي ثابتةٌ طوال اليوم، وهو مريحٌ وليس فيه هواءٌ باردٌ. إنّ المنزل الذي تتقلبُ فيه درجاتُ الحرارة باستمرارٍ، كالذي اعتادَ عليه والدَاها، هو أمرٌ غريبٌ عنها. إنها لا تعرف حتى درجةَ الحرارةَ. وقد تعلّمَتْ خوارزميةٌ الدفءَ الذي تفضِّلُهُ. وأثناء نزولها إلى الطابق السفلي، تلمحُ إيسلا الوحْدَةَ الموجودة في حديقتها التي تستخرجُ الحرارةَ من الهواء. وعدا عن بعض الأقارب في يوركشاير Yorkshire الذين ما زالوا يمتلكون غلايات الهيدروجين من تجربةٍ كبيرةٍ في عشرينات القرن الحادي والعشرين، فإنّ كلّ شخصٍ تعرفه لديه مضخةٌ حراريةٌ كهذه.
عندما تُعدُّ كوباً من الشاي، تبدو غلاية إيسلا مثل تلك التي استخدَمَتْها والدتُها قبل ثلاثة عقود. ولكن 95% من الكهرباء التي تستخدمها تأتي من مزارع الرياح والطاقة الشمسية، وهذا بعيدٌ كل البعد عن الـ 40% في عام 2020. ومصدرُ الحليب في شايها من البقر. إنها تعرف أن هذا قديم الطراز، لكنها لا تزال تبحث عنه في قسم الدكاكين بالسوبر ماركت عبر الإنترنت، مع أنّ الحليب النباتي منتشرٌ في كل مكانٍ.
اليوم هو يومٌ نادرٌ يجبُ أن تذهب فيه شخصياً إلى المكتب للعمل. على غير المعتاد، تمتلك إيسلا سيارةً كهربائية بدلاً من مشاركتها ـ وهذه أحد الأسباب التي جعلتها لا تكلّف نفسها عناء الحصول على بطاريةٍ منزليةٍ خاصةٍ. تشحنها مساءً حين تكون هناك زيادةٌ في طاقة الرياح، وتستفيد من تقلب الأسعارُ، إذ تدفع الشركاتُ مقابل استخدام الطاقة الإضافية التي تنتجها. توقَفت بطاريتها عن الشحن منذ بضع دقائق، لذا فهي دافئةٌ وفي أوج كفاءتها.
أثناء قيادتها خارجةً من المدينة، تمرُّ بصفوفٍ كثيرةٍ من المنازل والمكاتب ذات الأسطح الخضراء. وسرعان ما تحلّ مكانها مدينةٌ صناعيةٌ سابقةٌ، صارت الآن صفوفاً من الصناديق التي تشبه المحركات النفاثة إلى حدٍ ما ومراوحُها تأزُّ. إنها آلاتٌ لالتقاط ثاني أكسيد الكربون مباشرةً من الهواء، ركَّبَتْها قبل بضعة أعوامٍ شركةُ شِل Shell الكبيرة لإزالة ثاني أكسيد الكربون من الجو.
في رحلةٍ قصيرةٍ على الطريق السريع، تتخطى ممرّ الشاحنات ذي كابلات الطاقة التي تشبه كابلات الحافلات الكهربائية، والتي تمتد فوق الشاحنات. ويوجد عددٌ من أبراج الطاقة على طول الطريق أكثر مما كان حين كانتْ طفلةً.
يتبع الاجتماعات المتتاليةَ في المكتب غداءٌ في المطعم. فأثناء مشيها إلى أحد المطاعم تمرُّ بالحديقة الخضراء للسيارات القديمة Old Car Park، وهي منطقةٌ معزولةٌ مُشَجَرَةٌ يسمح المجلس المحلي بفيضانها عمداً في الشتاء. وتختارُ إيسلا وزميلها تناول البرغر. ومن الواضح أنّه ليس برغراً حيوانياً. لحم البقر مدرجٌ في القائمة كصنف نادر جداً، وهناك الكثير من الكلمات التي تشرح تربيتَه وتعديله الجيني للحد من انبعاثات الميثان. إنه مكلفٌ جداً بالنسبة إلى هذا الغداء غير الرسمي. البرغر النباتي أرخص، وهو جيدٌ.
تشعرُ إيسلا بالنعاس بعد ذلك، فتأخذ نصف يومٍ إجازةً وتتوجه إلى المنزل لتتنزه على الأقدام لتنشِطَ نفسَها. ويبدو أن مرحلة النمو الأولى للغابة الجنوبية العظمى Great Southern Forest تستمرُ طويلاً منذ زمن، وهي ملاذٌ مُسْتَحَبٌ من حرارة منتصف الظهيرة التي تُبَخِّرُ بسرعةٍ أمطار الصباح. خرجَتْ من الغابة، ومشَتْ صعوداً عبر عشب الفيل البازغ الذي سيُحْصَدُ قريباً ليُسْتَخْدَمَ في صناعة وقودٍ للطائرات التي تحلّق في السماء. من أعلى نقطةٍ، يمكنها أن ترى حفنةً من الماشية والأغنام. وتجد صعوبةً في تخيّل أن هذه التلال المنحدرة كانت مغطاةً بها ذات يوم.
في وقتٍ لاحق، لا يزال منزلها باردا برودةٍ مُنْعِشَةٍ. مثل معظم جيرانها، ليس لديها مكيّفٌ للهواء، وبدلاً من ذلك، لديها مصاريعُ أوتوماتيكيةٌ لنوافذها، ومظلّةٌ كبيرة للظل، ونظام تهويةٍ طبيعي. ففي ذلك المساء اتّصَلَتْ بأصدقائها. تجلسُ إحداهنّ وتجاذبها أطراف الحديث والبحرُ خلفها، حيث يمكن رؤية شفرات مزرعة هورنسي ثري Hornsea Three للرياح التي ارتفاعها 236 م تقريباً. وصديقة أخرى جاءت من لندن London تتحسر على ثاني يوم تجاوزَتْ فيه درجة الـ38° خلال هذا العام.
بعد ذلك تسترخي إيسلا وتخططُ لقضاء عطلةٍ. وتصرفُ النظرَ عن رحلات المسافات الطويلة، والتي ما زال بعض أصدقائها يستقلّونها على الرغم من ارتفاع تكلفة الإزالة الإلزامية لثاني أكسيد الكربون والازدراء الأخلاقي الذي يحيط بالطيران. وهي تُقَلِّبُ هاتفها قبل النوم، تجدُ الخيار الأمثل الذي تحلم به: جولةٌ بقطارٍ فاخرٍ في مزارع الكروم النرويجية.
من أين تأتي التغييرات التي طرأت على حياة إيسلا في عام 2050، وما مدى احتمال حدوثها؟ تابع القراءة لإلقاء نظرة على ستة مجالاتٍ حاسمةٍ من حياتنا اليومية ـ استناداً إلى الوضع في المملكة المتحدة، ولكن مع أمثلةٍ من أماكن أخرى في العالم أيضاً (انظر: نظرةٌ على الصافي الصفري عالميا).
عودةً إلى المنازل
ستبدو المنازل في عام 2050 مشابهةً لما هي عليه حالياً، لكننا سنحسّ بأنها مختلفةٌ وستعمل بصورةٍ مختلفةٍ خلف الكواليس. وستُحَسَّنُ كفاءةُ الطاقة والعزل كثيراً، حتى في حالة المنازل القديمة. كل ما يمكن أن يُشَغَّلَ بالكهرباء سيُشَغّلُ بها. ستكون مزارع الرياح البحرية، بما في ذلك مزرعة هورنسي ثري، والتي اعتُمِدت في ديسمبر 2020 والقادرةُ على تشغيل مليوني منزلٍ، العمودَ الفقري لنسبة 95% من شبكةٍ منخفضة الكربون.
في المملكة المتحدة، تُدَفَّأ أكثر من أربعة أخماس المنازل بغلاياتِ الغاز حالياً. وبحلول عام 2050، فمن المحتمل أن تظل دافئةً باستخدام مضخةٍ حراريةٍ، وهي بصورةٍ أساسيةٍ ثلاجةٌ عكسيةٌ تستخرجُ الحرارة من الهواء أو الأرض لتدفئةِ سائلٍ يُضْغَطُ ليرفعَ درجة الحرارة أكثر، ويقول تومسون: “إنه السيناريو الأكثر شيوعاً في بحثنا”.
يُرَكَّبُ حالياً نحو 30,000 منها كل عامٍ -مقابل أكثر من مليون غلاية غازٍ كل عامٍ -لكن حكومة المملكة المتحدة تخطط “لاستراتيجية التدفئة والمباني”، المُقَرَرِ صدرت في سبتمبر 2021، لتحقيق هدف 600,000 كل عامٍ بحلول عام 2028. ومن المفترض أن يُساعد على ذلك انخفاضُ التكاليف المرافقُ لدخول المزيد من المُرَكِبين إلى السوق. وستتصدر المنازلُ الجديدةُ، والمنازلُ غير الموصولة بشبكة الغاز عمليةَ التركيب. وفي الوقت نفسه، فمن المقرر إجراء تجربةٍ لقريةٍ تعمل بالطاقة الهيدروجينية بحلول عام 2025، ومن المحتمل أن تتبعها بلدةٌ بحلول عام 2030.
ستكون مواقد الغاز للطهي قد أفسحَتْ المجال لمواقد الحث الكهربائي Induction. ربما لا يكون الاحتراق شيئاً من الماضي تماماً ـ فقد تظل المنازل النائية تحرق الأخشاب إذا لم يُحْظَرْ ذلك بسبب المخاوف المتزايدة حول التلوث بالجسيمات Particulate pollution.
تختلف الآراءُ عن مدى انخراطنا في استخدامنا للطاقة من عدمه، وتقول أليس بيل Alice Bell، من منظمة بوسيبل Possible غير الربحية: “أعتقد أننا سنكون مستهلكي طاقةٍ أكثر وعياً. ربما ستفكر إيسلا أكثر في الطاقة التي تستخدمها في ذلك اليوم”. “قد يتحققون من الطقس، فإن كان الجو مشمساً يعرفون أنّ تعرفَة الطاقةِ أرخص، فيُشَغِّلون الغسّالة والأجهزة الأخرى”. وعلى النقيض من ذلك، يعتقد تومسون أن الطاقة لن تكون شيئاً يشغل بال إيسلا، وذلك بسبب وجود الأنظمة الذكية والخوارزميات التي تحكم معظم استخدامنا للطاقة المنزلية، مثل البرامج المستخدمة في ليڤينغ لاب Living Lab، وهي بيئةُ اختبارٍ للمنازل الذكية طوّرَتها شركة كاتابالت لأنظمة الطاقة في المملكة المتحدة UK Energy Systems Catapult.
يقول بوب وارد Bob Ward ، من مدرسة لندن للاقتصاد London School of Economics ، إن أحد التغييرات المحتملة هي أنّ المزيد من المنازل ستحتاج إلى تكييفٍ. يأمل تومسون بألا يحدث هذا، وليس السبب الرئيسي لذلك الطاقة الإضافية ـ فالطلبُ منخفضٌ في الصيف وإنتاج الطاقة الشمسية مرتفعٌ- بل بسبب الحرارة التي تولدها وحدات تكييف الهواء. يَعتقدُ أن إجراءات التظليل الطبيعية والتهوية ستكون كافيةً لمعظم المنازل.
الطعامُ والنُفايات
سوف يتغير ما نأكله، مع تحولٍ كبيرٍ نحو الأنظمة الغذائية النباتية، ولكن ربما ليس إلى مستوى العالم الفيغاني Vegan الذي يَسْخَرُ من اللحوم والذي صُوّرَ في فيلم المذبحة Carnage، وهو فيلمٌ ساخرٌ للممثل الكوميدي سيمون أمستل Simon Amstell. تقول ريبيكا ويليس Rebecca Willis، من جامعة لانكستر Lancaster University: “لا أعتقد أننا سنكون أمةً من الفيغانيين”. ويتصور السيناريو المركزي للجنة CCC عالماً ينخفض فيه استهلاك اللحوم والألبان بنسبة 35%. وتستنتجُ هذا بسبب التسارع في التوجهات الحالية: إذ انخفض استهلاك اللحوم للفرد بنسبة 6% بين عامي 2000 و2018 في المملكة المتحدة. يرى سيناريو أكثر شدةً أنّ انخفاضاً بنسبة 50% ممكنٌ.
يعتقد مارك ماسلين Mark Maslin، من جامعة يونيفرسيتي كوليدج لندن University College London أن التحولات الغذائية ستكون مدفوعةً بالصحة أكثر منها بالشأن المناخي. ففي فصلٍ عن “اليوتوبيا الإيكولوجيّة ” Ecotopia في عام 2050 في كتابه كيف ننقذ كوكبنا How to Save Our Planet، كَتَبَ: “ساعدت الجائحات Pandemic في أوائل القرن الحادي والعشرين على تحويل الأنظمة الغذائية العالمية لتصير أكثر اعتماداً على النباتات، مما ساعد على تحسين صحة الجميع”.
يوافقُ وارد على ذلك، ويقول إن ظهور السمنة بوصفها عاملَ خطرٍ للإصابة بفيروس كوفيد-19 (Covid-19) سيكون بمثابة دفعةٍ أخرى نحو المزيد من الفاكهة والخضراوات في وجباتنا الغذائية. وتقول بيل إن معظم “اللحوم” ستكون على الأرجح مزيفةً، من النوع النباتي الذي تروّج له شركة إمبوسيبول فوود Impossible Food وبيوند ميت Beyond Meat. تعتقد أن اللحوم الحقيقية واللحوم المزروعة في المختبر ستكون خياراً مرتفع السعر وخاصاً بفئةٍ معينةٍ. وقد يكون الدافع وراء ذلك ضرائب الكربون، وهو أمرٌ تشير تقاريرُ إلى أنّ حكومة المملكة المتحدة تفكر فيه.
وفقاً للجنة CCC، ستنخفض كمية النُفايات التي تنتجها إيسلا في المنزل في عام 2050 بمقدار النصف تقريباً مقارنةً بما تنتجه الآن. يبقى أن نرى كيف سيحدث ذلك. وقد يعني ذلك تغليفاً أفضل في المقام الأول، أو تغليفاً أكثر قابليةً لإعادة الاستخدام مثل ذلك الذي تقدّمه الآن شركة لووب Loop الأمريكية في بعض البلدان، أو المزيد من الصناديق ليُفْرَزَ فيها ما سيُعادُ تدويره. يقول تومسون: “سنحتاج إلى أنظمةٍ أفضل للفصل والتجميع”.
التنقل
من المحتمل أن يؤدي تبني العمل الهجين أو العمل عن بُعد تبنياً أكبر إلى تقليص التنقلات في أجزاءٍ كثيرةٍ من العالم، والجائحةُ الحاليةُ هي أحد عوامل الدفع. ولكن من المرجح أن يبدو التنقل مشابهاً، إلّا أنّ معظم السيارات والشاحنات ستعمل بالكهرباء أو بـ “ناقل طاقةٍ” آخر مثل الهيدروجين، بدلاً من النفط.
تقول بيل إن الحاجة إلى توفير مساحةٍ أكبر لممرات الدراجات، ومساحاتٍ خضراء لالتقاط الكربون وللتنوع البيولوجي تعني أنه يجب أن يكون هناك عددٌ أقل من السيارات. سيُشارَكُ المزيد منها بواسطة بعض التطورات في نوادي السيارات، وخدمات حجز السيارات مثل أوبر Uber. ويقول تومسون إن الحافلة التي ستقلّ أطفال إيسلا إلى المدرسة ستعمل على الأرجح ببطاريةٍ تُشْحَنُ بالكهرباء أيضاً. ويمكن للشاحنات الثقيلة أن تستخدم خطوطاً فوقها على غرار الحافلات الكهربائية لإعادة الشحن؛ توجد بالفعل مخططاتٌ تجريبيةٌ صغيرةٌ في السويد وألمانيا. ويعني هذا إجمالاً، كما كتب ماسلين في كتابه، أنّ هواء عام 2050 “سيصيرُ الأنظفَ منذ ما قبل الثورة الصناعية” Industrial Revolution.
ستُشْحَنُ السيارات حين يكون هناك أقل ضغطٍ على شبكات الكهرباء، في الليل مثلاً. وستُغَذي الشبكةَ أيضاً، إذ ستعملُ كبطاريةٍ ضخمةٍ مُجَمَّعَةٍ يُمكنها تزويد الشبكة حين الحاجة إلى تخفيف تأثير الطبيعة المتغيرة لطاقةِ الرياح، والطاقةِ الشمسية. ويقول هايدن وود Hayden Wood من شركة بَلْب Bulb للطاقة النظيفة في المملكة المتحدة إنه “مقتنعٌ تماماً” بأن تكنولوجيا النقل من السيارة إلى الشبكة، والتي لا توجد حالياً إلا تجريبياً، سوف تتوسع. ويقول: “ليس من المنطقي أن يكون لديك غيغا واتات من سعة البطارية في سياراتِ الأشخاص غيرُ مُسْتَخْدَمَةٍ للمساعدة على تحقيق التوازن في الشبكة”.
لن يقتصر التشغيل بالكهرباء على السيارات. يقول تومسون إنه من المرجح أن تكون القطاراتُ كهربائيةً، لتحلّ محل آخر قطارٍ يعمل بالديزل حالياً، أما الخطوط منخفضة الاستخدام؛ فربما تستخدم الهيدروجين. حتى أن بيل تتصور ألواحاً شمسيةً على جانب المسارات تزود القطارات مباشرةً بالكهرباء الصديقة للبيئة، يمتلكها الركاب في تلك القطارات، على غرار تجربة “رايدينغ سن بيمز” (امتطاء أشعة الشمس) Riding Sunbeams في جنوب إنجلترا الموجودة حالياً.
سيتعين على القطارات أن تحلّ محلّ العديدِ من الرحلاتِ القصيرة بالطائرة، لكن الطيران لن ينتهي: تتوقعُ اللجنةُ CCC أن تزدادَ الرحلاتُ بحلول منتصف القرن بعد فترةٍ وجيزةٍ من التراجع أثناء وبعد جائحة كوفيد-19. من المحتمل أن يكون الطيران والزراعة أكبر قطاعين في المملكة المتحدة يستمران بانبعاث غازات الدفيئة بحلول عام 2050.
أفضل تقديرٍ للجنة CCC هو أن 17% من الطائرات ستعمل بالوقود الحيوي Biofuel، و8% بوقود النفاثات الاصطناعي، والبقية بالنفط. إذا حجزَتْ إيسلا رحلةً، فلن يكون هناك خيارُ موازنة الكربون Carbon offset لأن الرحلات الجوية جميعها ستوازِنُه بشكلٍ من أشكال إزالة الكربون، مثل وحدات التقاط ثاني أكسيد الكربون الهوائية المباشرة في ضواحي مدينة إيسلا. وتقدّرُ اللجنة CCC أن إزالة ثاني أكسيد الكربون والوقود البديل يمكن أن تضيفا نحو 14 جنيهاً إسترلينياً إلى تكلفة رحلةٍ من لندن إلى نيويورك New York في عام 2050، وذلك بعد أَخْذِ توفيرِ الوقود من الطائرات الأكثر كفاءةٍ في الاعتبار.
استخدامات الأراضي
عند التحديق من تلك الطائرات، يجب أن يبدو المنظر مختلفاً تماماً. تقول ويليس: “لا أستطيع أن أتخيل أن الريف سيبدو كما هو الآن… سيكون هناك غطاءٌ شجري أكبر في جميع أنحاء البلاد. وزراعةٌ مختلطةٌ أكثر، وليس الحقولُ الكبيرةُ، والمسطحةُ، والخضراءُ التي نراها في الوقت الحالي”. لإزالة وتخزين ثاني أكسيد الكربون، تجب استعادة الأراضي الخثيّة Peatland والغابات. وتتصور اللجنة CCC أن التحولات نحو الأنظمة الغذائية النباتية ستفرّغ نحو خُمس الأراضي الزراعية لاستخداماتٍ أخرى، مثل زراعة الأشجار. وسيوجد إنتاج الطاقة والغذاء في بعض الأراضي مع بعضهما البعض؛ يتوقع زملاء ويليس في جامعة لانكستر وجود المزيد من الألواح الشمسية في الحقول مقابل العدد القليل من الأغنام المُتبقية التي ترعى.
يقول تومسون إنّه حين يتعلق الأمر بطرق إزالة ثاني أكسيد الكربون فإننا “نعتقد أن الشجر هو الطريقة الأرخصُ، والأكثرُ فاعليةً لفعل ذلك”. وتتوقع اللجنة CCC زيادة الغطاء الغابوي Forest cover من 13% من أراضي المملكة المتحدة الآن إلى نحو 18% بحلول عام 2050، وسيكون هناك مزيجٌ من المخروطيات Conifer والأنواع النَفْضِيَّةِ Deciduous. ويقول وارد: “ستُستعادُ غاباتُ الماضي العظيمة تدريجياً في أنحاء البلاد”. وسيكون هناك المزيد من محاصيل الطاقة Energy crop أيضاً، مثل أعشاب ميسكانثوس Miscanthus. ويعتقد ماسلين أنه يمكن تفريغ المزيد من الأراضي لإعادة الطبيعة البرية Rewild وإعادة إدخال أنواع مثل القنادس. ومن غير المحتمل أن تكون المناظر مغطاةً بمراوح تستخرجُ ثاني أكسيد الكربون من الهواء. ويقول تومسون إن التكاليف المرتفعة تعني أن مثل هذه الآلات لن تغطي سوى نحو 10 كم2 مقارنةً بـ 10,000 كم2 من الغابات الإضافية.
لن تُعْتَبَرَ جميع التغيّرات في المشهد الطبيعي إيجابيةً. وهناك إجماعٌ بين اللجنة CCC والهيئات الأخرى بما في ذلك الشبكة الوطنية في المملكة المتحدة UK National Grid على أنه ستكون هناك زيادةٌ كبيرةٌ في توليد الكهرباء، وذلك للتعامل مع كل شيءٍ من الحرارة إلى المواصلات التي تُشَغَّلُ بالكهرباء. وتقول ويليس إنّه ما لم يكن إنتاج الطاقة لا مركزياً إلى أبعد حدٍ، وذلك بوجود عددٍ أكبر بكثيرٍ من المباني التي تمتلك طاقةً شمسيةً، فستكون هناك بنيةُ نقلٍ تحتيةٌ أكبر، مثل الأبراج والمحطات الفرعية، لنقل الإمدادات من مزارع الرياح في بحر الشمال North Sea إلى المنازلِ، والمصانعِ.
الطقس
مع أنّ هناك العديد من الأشياء عن الحياة في عام 2050 التي لا يمكننا أن نتحدث عنها بتيقنٍ، فإن بعض الأشياء عن حياة إيسلا وأقرانها واضحةٌ. أوضحها هو أنّهم سيعيشون في عالمٍ أكثر دفئاً، حتى ولو نجح المجتمع في التحول إلى اقتصادٍ صافٍ صفريا.
من المحتمل أن تزداد الـ 1.1°م من الاحترار العالمي Global warming الحالية فوق مستويات ما قبل الصناعة إلى نحو 1.5°س بحلول منتصف القرن، وهو متوسطٌ عالمي سيخفي تحولاتٍ أكبر في أماكن مثل القطب الشمالي Arctic. في المملكة المتحدة، فمن المتوقع أن تكون الفيضاناتُ الناجمةُ عن هطول الأمطار الغزيرة أكبر تأثيرٍ مُناخي. وقد تكون درجاتُ الحرارة المرتفعةُ خطرةً أيضاً: يقول مكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدة UK Met Office إن احتمال وجود أيامٍ بدرجة حرارة 40°س سيكون أعلى بعشر مراتٍ في وقتٍ لاحقٍ من هذا القرن مقارنةً بما كان ليكون دون التغيّر المُناخي بشري المنشأ. وتقول ويليس: “سيكون هناك طقسٌ أكثر قسوةً في هذا البلد وفي أماكن أخرى. ستعتاد إيسلا كثيراً على الحديث عن تأثيرات المُناخ”.
الأمل هو أن المجتمع سيتكيّفُ مع طقسٍ أكثر تقلباً. يقول ماسلين إنّ الأسطحَ الخضراء والمزيدَ من المساحات الخضراء في المدن ستكون أكثر شيوعاً بكثيرٍ، جزئياً لاحتباس ثاني أكسيد الكربون، ولكن بصورةٍ أساسيةٍ لموازنة تأثير جزيرة الحرارة الحَضرية Urban heat island effect الذي يجعل المدن أكثر سخونةً من المنطقة المحيطة. ففي الأعوام الأخيرة خصَّصَتْ حكومة المملكة المتحدة أيضاً المزيد من التمويل للحلول الطبيعية للفيضانات، مثل السماح عن عمدٍ للمساحات الخضراء مثل حديقة إيسلا بالفيضان.
المجتمع
لن تكون العديدُ من التغييرات التي سنراها من الآن وحتى عام 2050 مرتبطةً بالتغيّر المُناخي ـ فكّر في القفزة من حياة ما قبل الإنترنت قبل 30 عاماً إلى المجتمع الحالي عالي الترابط. حتى أنّه من غير المُرَجَّحِ أن تُغَيّرَ التحولاتُ للوصول إلى الصافي الصفري بعضَ الأساسيات. ويقول ماسلين: “لن نعود فجأةً إلى العصر الحجري Stone Age”. “سيجعلُ إنقاذ الكوكب حياة الجميع أفضل، لكننا لن نُغيّرَ تغييراً جذرياً أننا نولَد، وأن الطب الحديث يعتني بنا، وأننا نذهب إلى المدرسة، ونذهب إلى العمل ثم نحاول أن نعيش أطول فترةٍ ممكنةٍ”.
أحد الاحتمالات هو أن التفاعل مع الجمهورِ المطلوبَ لإدخالِ التغييراتِ التكنولوجية والسلوكيةِ للصافي الصفري -على غرار تجمع المواطنين من أجل المُناخ لعام 2020 في المملكة المتحدة 2020 citizens’ Climate Assembly UK -يمكن أن يُنَشِّطَ الديمقراطية على المستوى المحلي. ويقول ماسلين: “سيكون أمراً رائعاً أن نتخيلَ يوتوبيا يجعلُ تخضيرُ الكوكبُ وإنقاذُه فيها الأشخاصَ أكثر انخراطاً في السياسة المحلية”. يقول إن هذا قد يحدث “لكنني أكثر تشاؤماً بعض الشيء”.
هناك شيءٌ واحدٌ واضحٌ: مع ارتفاع درجة حرارة العالم بسرعةٍ، فإن التمسّك بالوضع الراهن ليس خياراً. وكما تقول بيل: “التغييرُ قادمٌ. فإما أن يأتي من التغييرات التي نجريها بوصفنا مجتمعاً، أو أنها ستأتي من السماء أو التربة”.
نظرةٌ على الصافي الصفري عالميا
ستُكَرَرُ بعض الأشياء في حياة إيسلا في المملكة المتحدة في دولٍ أخرى، بغض النظر عن مستويات الدخل فيها. ويُنْظَرُ إلى إزالةِ الكربون من شبكات الكهرباء بواسطة طاقة الرياح والطاقة الشمسية، وإلى تشغيلِ المَرْكبات بالكهرباء على أنهما أمران حيويان للعديد من البلدان، بما في ذلك الصين. الولايات المتحدة هي واحدةٌ من الدول التي تُفَكِّرُ بمضخات الحرارة.
في المناطق القريبة من خط الاستواء Equator، سيكون هناك تركيزٌ أكبر على الابتكارات في مجال التبريد. هذا هو السبب في أن مُختَبراً لإنشاء منازل المستقبل، وهو إنيرجي هاوس 2.0 (Energy House 2.0) في سالفورد Salford في المملكة المتحدة، سيكون قادراً على محاكاة مُناخاتٍ عالميةٍ مختلفةٍ.
ستجري التغييراتُ في النظام الغذائي بصورةٍ مختلفةٍ في أنحاء العالم. في أماكن مثل الصين، لا يزال استهلاك اللحوم في ازدياد. وكتب بيل غيتس Bill Gates في كتابه الأخير كيف نتجنبُ كارثةً مُناخيةً How to Avoid a Climate Disaster أن الأسباب الثقافية تعني أن التحولات الصارخة في النظام الغذائي في بعض البلدان قد تكون غير واقعيةٍ.
أحد الاختلافاتِ البسيطةِ هو الوقت الذي ستعيش فيه إيسلا أخرى هذه الحياة: فهدفُ الصين، على سبيل المثال، هو محايدة الكربون Carbon neutrality بحلول عام 0206، لا 2050. فلم تُحَدِدْ الهند موعداً طويل المدى للوصول إلى الصافي الصفري حتى الآن، إذ أشارَ رئيسُ الوزراء ناريندرا مودي Narendra Modi في 22 أبريل 2021 إلى أنّ الشخص العادي في الهند ذو بصمةٍ كربونيةٍ أقل بـ 60% من المتوسط العالمي. ويمكن لعالمٍ أكثر دفئاً وذي طقسٍ أكثرَ قسوةً أن يلقي مزيداً من الضغوط على بعض الحكومات. وتقول ويليس: “تتطلب استراتيجيةُ المُناخ دوراً حكومياً فعالاً جداً. يُقلقُني أننا قد نرى في بعض البلدان انهياراً سياسياً نتيجةً لذلك. كما يمكن أن يؤدي إلى تجديدٍ ديمقراطي في بلدانٍ أخرى”.
بقلم: آدام فوغان
ترجمة: د. محمد الرفاعي
© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC