إي. أو. ويلسون: العالم المتميّز الذي حذّر من حدوث أزمة في التنوّع البيولوجي
عالم الطبيعة، والخبير بالنمل، إدوارد ويلسون، الذي توفي في 26 ديسمبر 2021، أنجز على الأقل خمسة إسهامات أصيلة في الإيكولوجيا، وكان شديد الحماس لاكتشاف طريقة أكثر استدامة لحياة البشر على الأرض
كان إدوارد ويلسون Edward Wilson عالماً متميزاً بكل ما في الكلمة من معنى. ففي ثمانينات القرن العشرين أخبرني ميلتون ستيتسون Milton Stetson، رئيس قسم البيولوجيا في جامعة ديلاوير University of Delaware، بأن أي عالم يعتبر ناجحاً إذا أنجز إنجازًا أصيلًا واحدًا في مجاله العلمي. ولكن إدوارد ويلسون كان في الوقت الذي قابلتُه فيه عام 1982 قد أنجز خمسة على الأقل من الإسهامات العلمية المميزة. انجازاً أصيلاً واحداً.
ويلسون، الذي توفي في 26 ديسمبر من عام 2021، اكتشف وهو في الثانية والتسعين من عمره الوسائط الكيميائية التي يتواصل بها النمل. كما أنه اكتشف أهمية حجم الموئل Habitat وموقعه ضمن المجال الإيكولوجي في الحفاظ على أعداد الحيوانات. وكان أول من فهم أساس تطور المجتمعات الحيوانية والبشرية أيضاً.
وقد غيّر كل واحد من إسهاماته الأصيلة تغييراً عميقاً الطريقة التي قارب بها العلماء هذه الفروع العلمية، وفسّر لماذا كان (إي. أو E.O) – كما كان يُدعى بمحبة – بمثابة الأكاديمي الأب للعديد من العلماء الشباب أمثالي. ربما يرجع هذا السجل المذهل من الإنجازات إلى قدرته الهائلة على تركيب الأفكارالجديدة بعضها البعض بمعلومات جمعت من مجالات مختلفة من المعرفة.
تبصرات كبيرة من مواضيع صغيرة
في عام 1982 جلست بحذر قرب الرجل العظيم خلال استراحة ضمن مؤتمر حول الحشرات الاجتماعية Social insects. استدار نحوي ومد يده وقال: “أهلاً، أنا إيد ويلسون. لا أذكر أننا التقينا من قبل”. ثم استمر بالكلام حتى وقت العودة إلى العمل.
وبعد ثلاث ساعات اقتربت منه ومن دون تهيّب هذه المرة لأننا حتماً صرنا صديقين مقربين الآن. التفت نحوي ومد يده وقال: ” أهلاً، أنا إيد ويلسون. لا أذكرأننا التقينا من قبل”.
على الرغم من أنه نسيني، لكن مع كونه ودوداً ومهتماً، أظهر ويلسون، أن هناك تحت هذه الطبقات العديدة من الإبداع شخصاً حقيقياً ومتعاطفاً. كنت قد تخرجت حديثاً من كلية الدراسات العليا، وأشك في أن لا أحد في المؤتمر كان أقل معرفة مني – وهو شيء أعتقد أن ويلسون اكتشفه حالما نطقت. ومع ذلك، فإنه لم يتردد في التواصل معي، ليس مرة واحدة بل مرتين.
وبعد ذلك بثلاثين عاماً، التقينا مرة أخرى عام 2014. فقد دعيت إلى إلقاء كلمة في احتفال يكرّم نيله ميدالية بنجامين فرانكلين لعلم الأرض والبيئة Benjamin Franklin Medal for Earth and Environmental Science من معهد فرانكلين Franklin Institute. فالمكافأة كرمت إنجازات ويلسون طيلة مسيرته العلمية، وخصوصاً جهوده العديدة لإنقاذ الحياة على كوكب الأرض.
إن وصف ويلسون البليغ حول التنوع البيولوجي Biodiversity، والكيفية التي تهيئ بها التفاعلاتُ العديدة بين الأصناف الظروفَ التي تمكّنها من البقاء قد ألهمت عملي في دراسة النباتات والحشرات الأصلية وضرورتها للسلسلة الغذائية Food Chain.
و على الرغم من تخصصي بعلم الحشرات، إلا أنني لم أدرك أنها “الكائنات الصغيرة التي تدير العالم” حتى فسّر ويلسون ذلك عام 1987. ومثل كل العلماء وغيرالعلماء تقريباً، فإن فهمي للكيفية التي يدعم بها التنوع البيولوجي بقاء البشر كان قاصراً قصوراً محرجاً. ومن الجيد أنّ ويلسون قد بيَّنه لنا. وأمضيت العقود الأولى من مهنتي أدرس تطور عناية الوالدين Parental care في الحشرات، وقد قدمت كتابات ويلسون المبكرة عدداً من الفرضيات القابلة للاختبار التي وجّهت أبحاثي في هذا المجال. غير أن كتابه تنوع الحياة The Diversity of Life الذي صدر في عام 1992، أثَّر فيّ تأثيراً عميقاً وصار أساساً للتحوّل الحتمي لمسيرتي المهنية.
وخلال مسيرته المهنية رفض ويلسون رفضاً قاطعاً الفكرة التي تبناها العديد من العلماء بأن التاريخ الطبيعي Natural history، وهو دراسة العالم الطبيعي بالملاحظة بدلاً من التجربة، غير مهم. فقد صنّف نفسه بفخر على أنه عالم طبيعة Naturalist، ونشر ثقافة الحاجة الملحّة لدراسة العالم الطبيعي والحفاظ عليه. وقبل عقود من أن يصير شائعاً، أدرك أن رفضنا الإقرار بمحدودية الأرض إضافة إلى النمو الاقتصادي غير المستدام وضع البشر على المسار الإيكولوجي المجهول.
وقد أدرك ويلسون أن تعامل البشر المتهوّر مع الأنظمة الإيكولوجية التي تدعم بقاءنا لم يكن وصفة لفنائنا فقط. فقد أجبر هذا التعامل التنوع البيولوجي، الذي طالما رعى الإنسان، إلى سادس فناء للبشرية في تاريخ الكرة الأرضية، والأول الذي تسببنا به كبشر.
رؤية موسّعة للحفظ
لذا، ومع ولعه بالنمل الذي استمر طيلة حياته، فقد أضاف ويلسون ولعاً آخر: توجيه البشرية نحو وجود أكثر استدامة. ولتحقيق ذلك، علم أنّ عليه أن يتعدى الأبراج الأكاديمية، وأن يكتب للجمهور، وأن كتاباً واحداً لن يكون كافياً. فالتعلّم يحتاج إلى تكرار العرض، وهذا ما قدمه ويلسون خلال كتبه: تنوع الحياة The Diversity of Life، وبيوفيليا Biophilia ومستقبل الحياة The Future of Life، والخلق The Creation وندائه الأخير عام 2016 الذي تمثّل في كتاب نصف أرض: كفاح كوكبنا من أجل الحياة Half-Earth: Our Planet’s Fight for Life.
ومع تقدم ويلسون بالعمر، حلّ اليأس والإلحاح محل الانضباط السياسي في كتاباته. وعرض بجرأة التدمير الإيكولوجي الناجم عن المعتقدات الأصولية، والنمو السكاني المنفلت، وتحدّى الاعتقاد المركزي بالحفاظ البيولوجي، مبيّناً أن هذا الحفاظ لا يمكن أن ينجح لو بقي محصوراً في بقع استيطان صغيرة ومعزولة.
وفي كتابه نصف أرض، اختزل ويلسون عمراً من المعرفة الإيكولوجية في مقولة بسيطة : الحياة كما نعرفها يمكن لها أن تستمر فقط بحفاظنا على عمل الأنظمة الإيكولوجية على الأقل على نصف الكرة الأرضية.
لكن هل هذا ممكن؟ يستخدم نصف الكوكب تقريباً في نوع ما من أنواع الزراعة، ويحتل 7.9 بليون من البشر مع شبكتهم الواسعة من البنى التحتية النصف الآخر.
و كما أرى، فإن الطريقة الوحيدة لتحقيق رغبة ويلسون هي في تعلّم الكيفية التي يجب علينا التعايش بها مع الطبيعة في المكان نفسه، وفي الزمن نفسه. ومن الضروري أن ندفن إلى الأبد فكرة أن البشر هنا وأن الطبيعة في مكان آخر. وقد كان تقديم خطة عمل لهذا التحوّل الثقافي الجذري هدفي خلال العشرين سنة الماضية، ولي الشرف بأن هذا يتكامل مع حلم إدوارد ويلسون.
ليس هناك وقت لإضاعته في هذا المجهود. ويلسون نفسه قال ذات مرة: “الحفاظ على الطبيعة عملية لها موعد محدد ” . سوف نرى ما إذا كانت لدى البشر الحكمة للوفاء بهذا الموعد.
دوغ تالامي Doug Tallamy، أستاذ علم الحشرات من جامعة ديلاوير University of Delaware.
أعيد نشر هذا المقال من ذا كونفرسيشن The Conversation تحت رخصة Creative Commons.
بقلم: دوغ تالامي من جامعة ديلاوير
ترجمة: د. سعد الدين خرفان
© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC