تواتر الأسئلة حول تفشي وباء جدري القرود Monkeypox مع الارتفاع الكبير في الحالات.
قريب نادر للجدري قفز مؤخراً من إفريقيا إلى القارات الأربع الأخرى، وبأعداد أكبر بين المثليين من الرجال.
دفع الظهور المفاجئ لجدري القرود، في 13 بلداً في أربع قارات، المجتمعات الصحية في العالم للعمل. يتسبب جدري القرود -وهو ابن عم قريب للجدري Samllpox، وأخف شدة منه بكثير- من حين إلى آخر بفاشيات Outbreaks صغيرة في إفريقيا، ويعتقد أنه ينتشر ببطء ومن غير المحتمل أن يشكل جائحة Pandemic. ولكن العلماء قلقون من انتشاره بين الرجال المثليين، والذين يشكلون العدد الأكبر من الحالات حتى الآن. يشكل هذا التفشي عودة غريبة وغير مطمئنة لفيروس الجدري، وهو تهديد غاب إلى حد كبير منذ أن أعلنت منظمة الصحة العالمية World Health Organization (اختصارا: المنظمة WHO) عن القضاء عليه عام 1980.
في 7 مايو 2022 بدأ التفشي الحالي بالظهور في المملكة المتحدة، والتي أكدت 20 حالة حتى الآن. وفي الثلاثة أيام الماضية، سُجلت أكثر من 100 حالة محتملة في إسبانيا والبرتغال والولايات المتحدة وكندا والسويد وإيطاليا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا وهولندا وأستراليا والكيان الإسرائيلي المحتل. وديفيد هيمان David Heyman – عالم أوبئة في كلية لندن للصحة والطب الاستوائي London School of Hygiene & Tropical Medicine والذي ساعد على القضاء على الجدري، وعمل أولاً على فاشيات واسعة لجدري القرود في إفريقيا منذ 25 عاماً- يتوقع ظهور حالات أكثر بكثير في الأيام والأسابيع القادمة.
ينتشر فيروس جدري القرود عادة عن طريق التلامس اللصيق، ورذاذ جهاز التنفس، لكن يبدو أن انتقال العدوى بالاتصال الجنسي يسهم في هذا التفشي. «هذا ليس نموذجياً على الإطلاق»، كما تقول عالمة الأوبئة Epidemiologist روزاماند لويس Rosamund Lewis، وهي خبيرة المنظمة WHO في أمراض جدري القرود. وتتابع قائلة: «يجب أن نقلق فعلاً من هذا الوضع الجديد، والذي ظهر بالضبط في الأيام الخمسة الأخيرة.» وفي 20 مايو 2022 اجتمعت المجموعة الاستشارية الإستراتيجية والتقنية المعنية بالمخاطر المعدية ذات الإمكانيات الوبائية والأوبئةStrategic and Technical Advisory Group on Infectious Hazards with Pandemic and Epidemic Potential -والتي يرأسها هيمان- لتطوير توصيات تغطَي كل شيء من الحاجة إلى مراقبة أشد صرامة إلى استخدام لقاحات ضد جدري القرود.
«جدري القرود» Monkeypox تسمية خاطئة. إذ اكتشف الفيروس في عام 1958 في مجموعة من نسانيس الأبحاث، لكن من المحتمل أن معظم المُضيفين Hosts الطبيعيين هي من قوارض وثدييات صغيرة أخرى. وقد ظهر الفيروس في البشر، لأول مرة، في عام 1970 فيما يسمى الآن جمهورية الكونغو الديمقراطية، مسبباً الحمى وآلام الرأس وانتفاخ العقدة الليمفاوية، يليها انتشار بثور مليئة بالقيح تشبه قروح الجدري. ويتفشى المرض من حين إلى آخر في إفريقيا بجنوب الصحراء الكبرى بعد اتصال شخص ما بحيوان بري مصاب. ويحمل المسافرون المصابون أحياناً المرض إلى بلاد أخرى. ففي عام 2003 كانت هناك 47 حالة في الولايات المتحدة عزيت إلى كلاب براري أليفة أصيبت بالعدوى من أنواع أخرى استوردت من غانا.
هذا، ويتعافى معظم الناس خلال أسابيع قليلة. وفي حين تقتل سلالة حوض الكونغو حتى 10% من المصابين، إلا أنه يبدو أن التفشي الأخير هو من سلالة غرب إفريقيا ذات معدل وفيات يعادل نحو 1% في التفشيات السابقة.
«عادة ما تتلاشى الفاشية من تلقاء نفسها»، كما يشير لويس، لأن العديد من الأفراد المصابين لا يصيبون شخصاً آخر بالعدوى. ولكن هذا التفشي «يتوزع على مساحة جغرافية واسعة، بحيث يبدو العدد الكلي للحالات المشكوك بها مرتفعاً جداً».
على الرغم من أن التفشي «نادر حقاً وغير عادي»، إلا أنه من غير المحتمل أن يكون تهديداً رئيساً لعموم سكان الولايات المتحدة، كما يقول آغام راو Agam Rao -المتخصص بفيروسات الجدري وداء الكلب من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها Centers for Disease Control and Prevention (اختصارا: المراكز CDC)، والتي أكدت أول حالة في الولايات المتحدة. ويستطرد قائلا: «مجموعة صغيرة فقط من السكان متأثرة حالياً به، وبينما لا استغرب حدوث حالات أخرى، إلا أنني لا أتوقع أن يتفشى بالصورة نفسها التي تفشى فيها كوفيد -19 ، على سبيل المثال».
مقدمات معقدة ؟
الحالة المسجلة الأولى في الفاشية الحالية هي لمسافر عاد إلى المملكة المتحدة في 4 مايو 2022 من نيجيريا، وهي بقعة ساخنة Hot spot لمرض جدري القرود. وقد أكد الأطباء أن المريض مصاب بجدري القرود بعد ثلاثة أيام. ولكن ذلك الشخص لم تكن له علاقة بأي من الحالات الأخرى التي اكتشفت حتى الآن، بحسب وكالة أمن الصحة Health Security Agency، مما يقترح دخول عدد من الحالات القادمة من إفريقيا.
وفي 19 مايو 2022 نشر فريق يقوده جويا باولو غوميز Joao Paulao Gomez -من المعهد الوطني للصحة National Institute of Health في البرتغال- الجينوم الأول الكامل للفيروس، والذي يشبه كثيراً الفيروسات التي حملها المسافرون من نيجيريا في عام 2018 و2019 إلى سنغافورة والكيان المحتل الإسرائيلي والولايات المتحدة. سلسل الباحثون البرتغاليون الفيروس من عينة جمعت في 5 مايو، وهذا يعني أن الشخص المصاب لا يحتمل أن يكون قد اتصل بالشخص المُصَّنف في المملكة المتحدة. في ذلك الوقت لم تكن لدى الأطباء البرتغاليين أي فكرة عن سبب تقرحات المريض، كما يقول غوميز، ولم يختبروا العينة حتى علموا بمجموعة الحالات في المملكة المتحدة. ويستطرد قائلا: «لم يتصور أحد أنه مرض جدري القرود».
بالفعل، فإن جدري القرود نادر جداً بحيث إن قلة من الأطباء رأوا حالات منه. تشبه تقرحاته تلك التقرحات من أمراض أخرى مثل جدري الماء والزهري، ولا يفكر معظم الأطباء بإجراء تحليل لكشفه. وإضافة إلى الاختبارات التي تتطلب وقتا طويلا لسلسلة الفيروس الكبير- أكبر بـ 20 ضعفاً من فيروس HIV – يمكن للمختبرات أيضاً أن تستخدم تجربة التفاعل المتسلسل للبوليميريز Polymerase chain reaction (اختصارا: الاختبار PCR) الذي يمكنه اختبار عينات لأجزاء ضئيلة من الحمض النووي DNA الفيروسي لجدري القرود، ومن ثم تضخيمه إلى مستويات يمكن كشفها.
لم يبرهن إلى الآن على انتقال جدري القرود عن طريق الاتصال الجنسي، على الرغم من أن الباحثين النيجيريين شكوا -في تقرير صدر عام 2017 – أنه قد يحدث، نظرا لعدد من المرضى ممن كانت لديهم تقرحات على أعضائهم التناسلية. أما فيرناندو سيمون Fernando Simon -مدير مركز تنسيق الإخطارات الصحية والطوارئ التابع لوزارة الصحة الإسبانية؛ فيقول إن الحالات السبع المؤكدة كلها التي سجلت في 19 مايو في اسبانيا كانت بين المثليين الرجال. ( أخبرت إسبانيا في 20 مايو عن 23 حالة مشتبه بها إضافية).
«ومعظم التقرحات في هذه الحالات هي حول العضو التناسلي والشرج والفم حصراً»، كما يقول سيمون. وليس هناك دليل على أن السائل المنوي يمكنه نقل الفيروس. «والفرضية الأكثر قبولاً حتى الآن هي أن الفيروس ينتقل جراء تلامس التقرحات». ولكنه يؤكد على أن الانتقال يمكن أن يحدث بالتلامس غير المتعلق بالاتصال الجنسي.
لم يمرض أي من المصابين في إسبانيا حتى الآن بشدة أو يضطر إلى الإقامة في المستشفى. اثنان مصابان بفيروس HIV وهو تحت السيطرة بالمعالجة. لدى مجتمعات المثليين من الرجال إصابات أكثر بالفيروس HIV، لكن ليس هناك دليل على أن جهاز المناعة الضعيف أدى أي دور في هذا التفشي. ولم يقدم موظفو الصحة في عدد من الدول المصابة -ولأسباب تتعلق بالخصوصية- إلا القليل من التقاصيل حول الأشخاص المصابين.
من المحتمل أن جدري القرود بدأ بالانتشار بين المثليين من الرجال قبل مايو بكثير، كما يقول هيمان، لكنه لم يكتشف. ربما كان الانتقال على مستوى منخفض جداً خلال إغلاق كوفيد -19، كما يخمن. «ثم فجأة رفع الحظر وبدأ الناس يعيشون حياتهم العادية مرة أخرى».
ملء المكان الشاغر
شكل الجدري -وهو ابن عم لجدري القرود بلاء كبيراً لقرون عدة، وفتك بـ 30% من المصابين به. أدت حملة عالمية ضخمة في ستينات وسبعينات القرن العشرين إلى إيقاف انتقاله: واليوم فإن الفيروس هو الكائن الممرض Pathogen البشري الوحيد الذي قضي عليه، على الرغم من أن عينات منه ما زالت موجودة في مختبرات في روسيا والولايات المتحدة. ومع انخفاض عدد الحالات في أوائل سبعينات القرن العشرين، بدأت الدول بالتوقف عن استخدام لقاح الجدري لأن أخطاره تفوق فوائده. فهذا اللقاح يحتوي على فيروس يدعى فاكسينيا Vaccinia، ولديه تاريخ محيِّر- لكن يبدو أنه فيروس جدري طبيعي ربي في المختبرات. تتكاثر الفاكسينيا داخل المتلقي وتسبب أحياناً تأثيرات جانبية شديدة، قاتلة أكثر من واحد من مليون شخص ملقح. وقد أوقفت المنظمة WHO برنامج التلقيح في عام 1977، وهو العام الأخير الذي حدثت فيه حالة طبيعية من مرض الجدري.
الإصابة بالجدري وكذلك لقاح الجدري كلاهما يقيان من الإصابة بجدري القرود، ولذا صار عدد متزايد من الناس معرضين لجدري القرود خلال الخمسين عاماً الماضية. ويخشى بعض الباحثين من أن جدري القرود ربما يتطور ليملأ «الكوّة الإيكولوجية» Ecological niche التي خلَفها الجدري. بالفعل، فقد ازدادت الحالات المسجلة باستمرار في إفريقيا حلال السنوات السابقة – والفاشية الجديدة هي الأولى التي تحدث في عدة قارات في الوقت نفسه.
هناك لقاحان جاهزان للوقاية من الجدري وجدري القرود في أوروبا وأمريكا الشمالية. أحداهما مُصنَع من قبل ايميرجانت بيوسوليوشين Emergent Biosolutions ، وهو مشابه للقاح المستخدم خلال حملة القضاء عليه، ولا يزال بإمكانه إحداث مرض شديد، بل حتى موت الأفراد الضعفاء مناعيا. واللقاح الآخر من صنع بافاريان نورديك Bavarian Nordic ، وهو يستخدم صنفا لا يتناسل Nonreplicating من فاكسينيا مصمم خصيصاً ليسبب أعراضاً جانبية أقل. وهو اللقاح الوحيد المرخص لجدري القرود.
نقص في إمدادات اللقاحات
في أوائل الشهر الحالي بدأت المملكة المتحدة بتقديم لقاحات للعاملين في الرعاية الصحية ممن كانوا على اتصال بمرضى جدري القرود. لم تقم إسبانيا حتى الآن بفعل ذلك، ويشير سيمون إلى أن أطباء الأمراض المعدية في البلد لديهم المعدات الشخصية الواقية، والخبرة لحماية أنفسهم. كذلك، فإن مستشفى ماساشوستس العام Massachusetts General Hospital -الذي يعالج الحالة المؤكدة الوحيدة في الولايات المتحدة- لم يقدم أيضاً أي لقاح للعاملين لديه. فهم أيضاً يتخذون الاحتياطات اللازمة، كما يقول بول بيدينغر Paul Biddinger الذي يرأس مركز المستشفى لطب الكوارث. لكن على الرغم من أن الولايات المتحدة قد رخصت اللقاحات إلا أن الأطباء لا يستطيعون وصفها للمرضى. فهي توجد فقط في المخزون الوطني الذي تتحكم فيه المراكز CDC. وحاليا، تُصنّف المراكز CDCالعاملين بالرعاية الصحية في المستشفى ضمن فئة الخطر “المتوسط” الذي لا يحتاج إلى تلقيح.
هذا، وتمنع اللقاحات الإصابة بالمرض حتى ولو استخدمت بعد أربعة أيام من تعرض الشخص للفيروس، كما يمكن أن تستخدم أيضاً لحماية الاتصالات بحالات مؤكدة أو محتملة بجدري القرود. حتى الآن لم يعلن أي بلد عن خطط لفعل ذلك. فهناك نقص في اللقاحين، وعادة يتوفران فقط من خلال المخزون الوطني.
في صدفة غريبة، عقدت بافاريان نورديك اجتماعاً مع هيمان وتسعة آخرين من رواد الصحة العامة من شتى أنحاء العالم هذا الأسبوع خطط له منذ ستة أشهر، لمناقشة الحاجة إلى عدد أكبر من الدول لتخزين لقاحاتها، بسبب ازدياد حالات جدري القرود خلال الأعوام القليلة الماضية. ويقول برنارد هوت Bernard Hoet نائب رئيس الشركة للاستراتيجية الطبية: «فكرنا حقاً أن الخبراء والسلطات المختصة في هذا الحقل بحاجة إلى بدء التفكير في توفير اللقاح. وشركة كشركتنا لا يمكنها تخزين الكميات المطلوبة لكل الدول إلى الأبد. لدينا اليوم بعض الجرعات وسنقوم بتوزيعها، لكن أنىّ لنا أن نقرر إذا ذهبت هنا أو هناك؟»
تتوفر أيضاً أدوية لمعالجة حالات جدري القرود الشديدة. أحدها تيكوفيريمات Tecovirimat، وفي عام 2018 صار أول دواء توافق عليه إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية US. Food and Drug Administration (اختصارا: الإدارة FDA) لمعالجة الجدري، بعد أن ثبت أنها آمنة في تجارب على البشر، وأنها فعالة في حيوانات أصيبت بفيروسات قريبة لفيروس الجدري. وفي العام الماضي، بناء على بيانات مشابهة، وافقت الإدارة FDA على عقار ثانٍ للجدري وهو برينسيدوفوفير Brincidofovir.
على الرغم من أن العقاقير واللقاحات تبشَر بالحد من شدة هذه الفاشية ومداها، إلا أن المنظمة WHO أصدرت في 18 مايو تحذيرات بأن «هذه الإجراءات المضادة ليست متوفرة على نطاق واسع حتى الآن.» ومن المحتمل ان تقرع أجراس الإنذار بشدة أعلى وأعلى لو استمرت الحالات بالازدياد وانتشر الفيروس في بلدان أكثر.
بقلم : جون كوهين
ترجمة : د.سعد الدين خرفان
©2022, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved