ظل الثقب الأسود العملاق في مجرة درب التبانة شوهد لأول مرة
بعد خمسة أعوام يرسل علماء الفلك صورة أفق حدث ساجيتاريوس Sagittarius A محاطاً بغاز ساطع
بتاريخ 12مايو 2022 نشر علماء الفلك الصورة الأولى للثقب الأسود Black hole العملاق في مركز مجرة درب التبانة – أو على الأقل صورة لظله. تعاونت ثمانية مراصد راديوية Radio observatories حول العالم وأكثر من 300 عالم لتصوير الجرم المعروف بــ ساجيتاريوس *Sagittarius A (اختصارا: الثقب الأسود *Sgr A)، وهو إنجاز كان يعتبر مستحيلاً حتى سنوات قليلة مضت. «إنه حقاً إنجاز مثير للإعجاب»، كما يقول خبير الثقب الأسود روجر بلاندفورد Roger Blandford من جامعة ستانفورد Stanford University، والذي لم يكن من أعضاء الفريق.
أنتج الفريق المعروف بتلسكوب أفق الحدث Event Horizon Telescope (اختصارا:EHT ) عام 2019 الصورة الأولى على الإطلاق لثقب أسود، عند مركز المجرة المجاورة العملاقة M87. فالثقب الأسود للمجرة M87 أكبر بـ 1600 ضعفٍ من الثقب الأسود *Sgr A. غير أن التشابه بين الصورتين – حلقات ساطعة من الغاز محصورة في دوامة الموت الدائرة حول تلك المُبتلعات القصوى – تظهر أن نظرية آلبرت آينشتاين في الجاذبية والنظرية النسبية تنطبقان عند جميع المقاييس. ما إن تقترب من ثقب أسود حتى « تسيطر الجاذبية»، كما صرّحت عضوة فريق التلسكوب EHT سارا إيسون Sara Issaoun -من مركز هارفارد وسميثسونيان للفيزياء الفلكية Harvard & Smithsonian Center for Astrophysics (اختصارا: المركز – CfA) في المؤتمر الصحفياً الذي عقد في ميونيخ بذلك اليوم. «نحن نعلم اليوم أنه في الحالتين، فإن ما نراه هو قلب الثقب الأسود، نقطة اللاعودة»، كما أخبرت عضوة الفريق فريال أوزيل Feryal Ozel من جامعة أريزونا University of Arizona مؤتمراً متزامنا عُقد في واشنطن.
مقارنة بالثقب الأسود في المجرة M87 التي تُحوِّل الغاز الدوار إلى تيار نفاث Jet قوي بطول آلاف السنوات الضوئية، فإن الثقب الأسود *Sgr A هادئ. «كان الثقب الأسود في المجرة M87 مثيراً للإعجاب لأنه غير عادي»، كما يقول مايكل جونسون Michael Johnson من المركز CfA. ويستطرد قائلا: «أما الثقب الأسود *Sgr A فهو مثير لأنه من النوع الشائع». إذ يقترح التحليل الأولي للصورة الجديدة أنه أهدأ مما اعتقد سابقاً: مقدار بسيط فقط من الغاز يصل إلى الثقب الأسود، وواحد بالألف منه فقط يُحوَّل إلى ضوء. هذا الثقب الأسود نهم، لكنه غير كفء«. عندما قارن الباحثون الصورة بالمجموعة الواسعة من نماذج المحاكاة Simulations في مكتبتهم، بدا أنها تماثل نماذج لثقب أسود دوّار. «إنه لأمر مثير أن نرى الإشارات الأولى» على ثقب أسود دوّار، كما تقول أوزيل.
على الرغم من أن كتل الثقوب السوداء في مراكز المجرات ضخمة جداً – أكبر بملايين أو بلايين أضعاف كتلة الشمس – إلا أن جاذبيتها الشديدة تعني أن حافتها الخارجية -وهي أفق الحدث Event horizon- ضئيلة بمعايير المجرات. والثقب الأسود *Sgr A ، بكتلة تعادل 4 ملايين كتلة الشمس، له أفق حدث يعادل فقط 15 ضعف المسافة بين الأرض و القمر. إن تصوير شيء بهذا الصغر من على بعد 27,000 سنة ضوئية يمثل تحدياً ضخماً لعلماء الفلك.
يأتي التحدي الأول من سحب الغبار حول مركز المجرة، مما يجعل الرصد بواسطة تلسكوبات بصرية optical telescopes مستحيلاً. يمكن للتلسكوبات الراديوية أن تحدِّق في العتمة، لكن أطوالها الموجية الطويلة لا تعطي فصلاً دقيقاً بما يكفي لتحديد ثقب أسود ضئيل. لكن موجات الراديو الأقصر، نحو 1 ميلليمتر، تعطي فصلاً أفضل، و يمكنها أن تخترق العتمة أيضاً. فالتلسكوبات التي ترصد عند أطوال هذه الموجات هي من جيل جديد نسبياً. وعلى النقيض من التلسكوبات الراديوية العادية، يجب أن تشيَد على ارتفاعات عالية High-altitude لتكون فوق معظم الرطوبة في الغلاف الجوي للأرض.
في علم الفلك، كلما كان التلسكوب كبيراً كانت الصورة أكثر دقة. حسب علماء الفلك منذ عدة عقود من الزمن أن التلسكوب يجب أن يكون بحجم الأرض ليتمكن من رؤية الثقب الأسود *Sgr A، حتى بموجات بطول ميلليمترات. ولكن التلسكوب EHT يوفر أيضا الخطوة التالية الأفضل: إنه يرصد مركز المجرة في الوقت نفسه بواسطة أطباق تلسكوبية منتشرة على سطح الكرة الأرضية. يخزَن فريق التلسكوب EHT البيانات، ومن ثم يعالجها بواسطة حواسيب قوية كما لو أن كل طبق كان قطعة صغيرة من تلسكوب ممتد عبر سطح الكرة الأرضية -وهي تقنية تعرف بقياس التداخل بواسطة خط الأساس الطويل Long baseline interferometry (اختصارا: التقنية VLBI). «كل زوج (من التلسكوبات) يسهم بحزء بسيط من المعلومات من الصورة الكلية»، كما تقول عضوة فريق التلسكوب EHT كاتي بومان Katie Bouman من معهد كاليفونيا للتقنية California Institute of Technology.
بحلول عام 2017، بعد تطوير تقنيات معالجة البيانات، ووضع تلسكوبات راديوية في شتى أنحاء العالم، صار الفريق مستعداً لرصد الثقب الأسود *Sgr A والمجرة المجاورة العملاقة M87. جاءت البيانات من ثماني محطات رصد من هاواي إلى إسبانيا و من أريزونا إلى القطب الجنوبي. إضافة مهمة كانت مصفوفة أتاكاما الميللمترية وتحت الميللمترية الكبيرة Atacama Large Millimeter/submillimeter Array في تشيلي، وهي مجموعة من 64 طبقاً بمساحة التقاط مُركَّبة لتلسكوب بعرض 84 متراً.
كانت النتيجة «أفضل صورة مدققة في علم الفلك الراديوي على الإطلاق»، كما يقول عضو فريق التلسكوب EHT هاينو فالكي Heino Falcke من جامعة رادباوند Radbound University. وفي أبريل 2019، نشر الفريق صورته الشهيرة الآن للثقب الأسود في المجرة M87، وهي نتيجة اختيرت على أنها الحدث العلمي الخارق لمجلة سيانس لعام 2019 Science’s 2019 Breakthrough. وهي تُظهر ظلّ أفق الحدث، مكبَراً بـ 2.5 ضعفاً بالتأثيرات الجاذبية Gravitational effects. وبعض الضوء في الحلقة المحيطة هو في الواقع ينبعث من خلف الثقب الأسود، وقد انحنى مساره بسبب الجاذبية الشديدة بحيث يبدو أنه نابع من الحافة.
واتضح أن الحصول على صورة للثقب الأسود *Sgr A أصعب بكثير. وأحد الأسباب هو أن التلسكوبات كانت تنظر إليه من خلال المستوى مركزي Central plane المزدحم لمجرة التبانة، حيث تبعثر الإلكترونات من الغازات المؤينة Ionized gases موجات الراديو. يصف جونسون هذا بمثابة التحديق عبر «زجاج مُغطَّى بالجليد». وهناك تحد آخر يتمثل بالحركة. ويتحرك الغاز ببطء حول الثقب الأسود العملاق للمجرة M87. و يستغرق أياماً للدوران حول أفق الحدث. لكن حول الثقب الأسود *Sgr A الأصغر بكثير، فإن المدار يستغرق من 4 دقائق إلى 1 ساعة، مما يعني أن نتائج رصد يستمر لعدة ساعات قد كوَّن صورا مشوشة Blurred. «إذا تغير جرم ما بطريقة “مجنونة”، فلا يمكنك تصويره بواسطة التقنية VLBI»، كما يقول فالكي. تعيّن على الفريق أن يطور تقنيات جديدة لفصل الصورة المشوشة من الإلكترونات البينجمية Interstellar والحركة السريعة، و تأكيد Emphasize الجزء المستقر من الإشارة. ويقول فالكي إنه بعد سنتين من تدقيق النتائج، فإن الفريق متأكد من أن حلقة الضوء المحيطة بظل الثقب الأسود تمثل الحقيقة. «ففي أعلى البنية الفوضوية لديك بنية مستقرة»، كما يقول.
«العُقَد» Knots الثلاثة المرئية في الصورة ربما تكون لكتل من غاز لامع دوّار، لكن أوزيل تقول إنها ربما كانت أيضاً تأثيرات جانبية ناتجة من عمليات الرصد. إذ تقول: «لا نثق كثيراً بالعقد. إنها تميل إلى الاصطفاف بما يتوافق مع أجزاء من مصفوفة التلسكوب EHT، وهي الأجزاء حيث توجد معظم التلسكوبات».
على النقيض من الثقب الأسود في المجرة M87، فإن كتلة الثقب الأسود *Sgr A معروفة بدقة عالية من دراسات لمدارات نجم قريب من الثقب الأسود. لذا، فإن الباحثين العاملين على التلسكوب EHT لديهم فكرة ثابتة عن حجم الحلقة التي يجب أن يروها. «إنه تنبؤ دقيق جداً، من دون هامش كبير للمناورة»، كما يقول فالكي. وحجم الحلقة المرصودة «مطابق تماماً»، كما يقول عضو فريق التلسكوب EHT دوم بيسكي Dom Pesce من المركز CfA، مما أعطاهم ثقة أكبر في النتيجة.
في الأعوام 2018 و2021 و2022، نفذ فريق التلسكوب EHT المزيد من حملات رصد الثقب الأسود في المجرة M87 والثقب الأسود *Sgr A. ويقول بيسكي: «البيانات كلها في مراحل مختلفة من المعايرة والمعالجة». كما تقول أوزيل: «والآن، بما أن الأدوات جاهزة، نأمل بأن تكون العملية أسرع مما مضى». يمكن للمزيد من الرصد أن يساعد الباحثين على فهم كيفية تحرك المادة حول ثقب أسود، وتحوُّلها أحياناً إلى نفاثات قوية. ففي عام 2021 أنتج الفريق صورة للثقب الأسود في المجرةM87 تظهر كيفية استقطاب Polarize الضوء، مشيرةً إلى حقول مغناطيسية تؤدي دوراً رئيساً في التراكم Accretion وتشكيل التيار النفاث. توسعت مجموعة التلسكوب EHT أيضاً منذ 2017، مضيفة أطباقاً جديدة في غرينلاند وفرنسا والولايات المتحدة، وتخطط لآخر في ناميبيا.
في المستقبل، يخطط الباحثون للرصد عند طول موجات أقصر– 0.86 ميلليمتر مقارنة بــ 1.3 ميلليمتر المستخدمة حتى الآن- مما يسمح لهم برؤية أقرب لأفق الحدث. كما أن هناك هدفًا آخر هو تصوير أفلام بتقنية الزمن المتقطع Time-lapse للغاز الدوار حول الثقوب السوداء. غير أنّ رصد الثقب الأسود في المجرةM87 كل أسبوعين هو الهدف الأول. بعد ذلك سيحاولون تصوير فيلم Sgr A* The Movie . وكما يقول بيسكي: «لا نزال في بدايات هذا الحقل. إنها الخطوات الأولى الصغيرة».
بقلم: دانييل سيلري
ترجمة : د.سعد الدين خرفان
©2022, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved