أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئيةبيئةجغرافياعلم المحيطاتملف خاص

كيف يؤدي «التسارع الأزرق» إلى استنزاف المحيطات؟

من التنقيب في أعماق البحر وحتى صناعة صيد الأسماك، تتوسع النشاطات البشرية في المحيطات توسعاً ضخماً في مقاطعة لا ينطبق عليها سوى القليل من القوانين. ونكافح الآن للتوصل إلى الكيفية التي يمكننا أن ننظم فيها السباق إلى نهب البحار

في سبعينات القرن العشرين، كانت دولة ناورو الواقعة على جزيرة في المحيط الهادي ولفترة وجيزة واحدة من أغنى بلدان العالم. وكان دخل الفرد فيها مساويا لدخل الفرد في المملكة العربية السعودية، مع فارق واحد، وهو أن تلك الثروة لم تكن قائمة على النفط، إنما قامت على الروث. فعلى مدار ألفية، ألقت الطيور البحرية العابرة فضلاتها على الجزيرة، لتصنع بذلك طبقة سميكة من البقايا الغنية بالفوسفات، والمهيأة بما يكفي ليتم تحويلها إلى سماد.

ألقت الطيور البحرية العابرة فضلاتها على الجزيرة، لتصنع بذلك طبقة سميكة من البقايا الغنية بالفوسفات، والمهيأة بما يكفي ليتم تحويلها إلى سماد

 

لم يدم هذا طويلاً: فقد كُشطت طبقة السماد عن بكرة أبيها منذ عشرين عاماً. وناورو الآن -التي لم تعد دولةً فاحشة الثراء- هي المحرك الرئيسي في سباق آخر مثير للجدل لاستغلال الموارد، ببذلها في العام الماضي جهوداً تؤذن بانطلاق التنقيب في أعماق المحيط الهادي، ربما في وقت مبكر من عام 2023.
هذا المشهد هو صورة مصغرة لحكاية أكبر بكثير، فمع الضغط المتنامي على مناطق اليابسة في الكرة الأرضية ومع الاستنزاف المتزايد على ما يبدو للموارد الأرضية، تتطلع الشركات والحكومات إلى الانتصارات الكبيرة المقبلة، الممكنة في أعالي البحار وأسفلها. وتنتشر الصناعات التي تعتمد على المحيط بسرعة، سواء كانت تنقيباً عن المعادن، أم الشحن، أم الطاقة، أم السياحة، أم تحلية مياه البحر، أم التنقيب البيولوجي وغيرها.
أثار «التسارع الأزرق» Blue Acceleration هذا مخاوف الكثيرين. سجلنا في التنمية المستدامة على اليابسة ليس بالمشجع. ومع القدرة المتزايدة سريعاً على الربح من المحيطات البعيدة، وعدم وضوح القوانين التي تنظم استغلال المحيطات، نخاطر بمنح الجميع حرية مجانية في الأعماق. وكما يقول عالم البيئة البحري إنريك سالا Enric Sala المستكشف المقيم من ناشيونال جيوغرافيك National Geographic Explorer in Residence: «لقد بُني مجتمعنا على تدهور الطبيعة، وتدميرها، ومن الأهمية بمكان أن ندرك أننايجب ألا نكرر الأخطاء التي ارتكبناها على اليابسة في المحيطات». لكن السؤال الذي يساوي بلايين الدولارات هو: كيف؟
إن استغلال Exploiting المحيطات، أو بالأصح استغلالها الجائر Overexploiting، ليس بالقصة الجديدة. انظر إلى التدهور الذي لحق بأعداد الحيتان بسبب الصيد في القرنين التاسع عشر والعشرين، وفقدان المصايد السمكية التي كانت وفيرة الصيد فيما مضى وتدمير قاع البحر بفعل الصيد بشباك الجرّ (الكرافات) Bottom trawling. لكن، وعلى مدار العقد الماضي أو نحوه، اتخذ اهتمامنا بالمحيطات أبعاداً جديدة كليّة. ففي عام 2016، توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (المنظمة OECD) – وهي محفل يضم دول العالم الثرية- أن يكون الاقتصاد البحري محركاً أساسياً في النمو الاقتصادي العالمي، لتتضاعف قيمته إلى نحو ثلاثة تريليونات دولار بين عامي 2010 و2030.
يصف جان-بابتيست جوفراي Jouffray Jean-Baptiste من مركز ستوكهولم للمرونة Stockholm Resilience Centre في جامعة ستوكهولم بالسويد ذلك بقوله: «إننا في طور جديد من العلاقة البشرية بالمحيط، فالآن لديك كثير من الآمال والتوقعات بأن تكون المحيطاتُ الأفقَ الاقتصادي المقبل والمحرك للتنمية البشرية مستقبلاً». صاغ جوفراي وزملاؤه عبارة «التسارع الأزرق» Blue Acceleration في ورقة بحثية نشروها عام 2020. وهي استعارة من مصطلح «التسارع العظيم» Great Acceleration الذي أُطلق على الفترة التي بدأت عام 1950 حين أخذت كل الأنشطة البشرية بالتأثير في سطح كوكب الأرض بالتزايد، من ازدياد الكثافة السكانية، إلى استخراج الموارد.
بدأ الاندفاع نحو المحيط لأن تكنولوجيات مثل الحفر البحري وتوربينات (عنفات) الرياح البحرية إلى محطات تحلية المياه ومصانع قوارب الصيد بالجر جعلته ممكناً. ويشير جوفراي إلى حقيقة مفادها أنه «لم تكن الكثير من الصناعات البحرية محتملة حتى بضعة عقود مضت».
ولا تمثل كلمة مُستدام وصفاً يمكن استخدامه مع معظم الصناعات البحرية حاليا، فحتى الآن تشكل المنتجات البحرية الملوثة للبيئة كالنفط والغاز القسم الأكبر من اقتصاد المحيطات البالغ 1.7 تريليون دولار، وهي تحقق أرباحاً سنوية تصل إلى 830 بليون دولار، يليها بناء المعدات البحرية، ومصايد الأسماك وشحن الحاويات- والأخيرة هي مصدر غير محكوم بالقوانين التنظيمية لانبعاثات غازات الدفيئة Greenhouse gases. وبالكاد تشمل هذه القائمة أي صناعة مستقبلية مستدامة. أما إنتاج الطاقة بمزارع الرياح البحرية؛ فتحل متأخرة في المركز الثامن، بعوائد تبلغ 37 بليون دولار فقط.
وقد بدأت تتبدى التأثيرات السلبية للوضع الراهن. كما يقول سيباستيان أنغر Sebastian Unger من معهد دراسات الاستدامة المتقدمة Institute for Advanced Sustainability Studies في بوتسدام بألمانيا: «يشهد المحيط أزمةً عميقة فعلاً»، فأكثر من 50 % منه تأثر مسبقاً بخسارة التنوع البيولوجي Biodiversity، والضوضاء الناتجة من النشاط البشري، وتدفق الكيماويات والتلوث البلاستيكي، وفقط بضعة أجزاء منه لم تمسها يد الإنسان بعد. كذلك لم يتحقق الهدف المتمثل بحماية 10 % من المناطق الساحلية والبحرية بحلول عام 2020، لا سيما تلك المناطق التي تحظى بأهمية خاصة للتنوع البيولوجي، بوجود 7.7 % من المناطق المحمية نوعاً ما، و2.7 % فقط من المناطق المحمية بالكامل، و1 % فقط من أعالي البحار.
انتشرت الرؤى حول مستقبل أكثر استدامة منذ العقد الأول من القرن الحالي، أحياناً تحت ستار ما يسمى «الاقتصاد الأزرق» Blue economy – على الرغم من عدم إعجاب الجميع بهذه العبارة، التي يمكن استخدامها أيضاً لتعني استغلالاً مستمراً غير مستدام. ويشرح جوليان باربييه Julian Barbière من اللجنة الحكومية الدولية لعلوم المحيطات Intergovernmental Oceanographic Commission -التابعة لليونسكو- ذلك بقوله: «لم يكن هذا ما أردنا أن نراه، علينا أن نجد التوازن الصحيح بين المحافظة على الموارد والتنمية الاقتصادية».
لكن الكثير من العوامل تحول دون ذلك. فبداية يتركز اقتصاد المحيطات الحالي كثيراً بين أيدي قلة من الشركات الراسخة، وتسعاً من العشر الأكبر هي شركات بترولية. وقد خلُص بحث قاده جون فيردين John Virdin من جامعة ديوكDuke University في كارولاينا الشمالية إلى أنه في القطاعات الثمانية الأكبر لاقتصاد المحيطات – وهي الخمس التي ذكرناها سابقاً أضف إليها بناء السفن والسياحة البحرية والموانئ- تستحوذ 100 شركة على 60 % من الإيرادات. وهي شركات تقع مقراتها بشكل أساسي في عدد من الدول من بينها: الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، والنرويج، وفرنسا والمملكة المتحدة.
والوضع يؤتي ثماره على نحو جيد، فـ40 % من عوائد النفط والغاز البحري تصب في خزائن الحكومة، وتستجيب الحكومات بدعومات مجزية من نوعها، فعلى مدار العشر سنوات الماضية، استُثمر أقل من 1 % من القيمة الإجمالية لاقتصاد المحيطات في مشروعات مستدامة عبر المنح الخيرية والمساعدات الحكومية، وفقاً لجوفراي. وعلى مدار عشرين عاماً، ظلت مسألة إعادة توجيه الدعومات التي تُستخدم حاليّاً في تطوير الصيد الجائر وتطوير صناعة استخراج الوقود الأحفوري البحري على قائمة مهام منظمة التجارة العالمية World Trade Organization (اختصارا: المنظمة WTO).
كما أن هناك بعض الإشارات الإيجابية المبهمة، فمثلاً، يأتي تمويل اقتصاد المحيطات إلى حد كبير من مديري الأصول الكبار Asset managers كشركة بلاك روك BlackRock، وفانغارد Vanguard وستيت ستريت State Street ومثيلاتها، فهذه الشركات كما يوضح جوفراي صارت شيئا فشيئا تبصر الضوء المسلط على الاستثمارات الخضراء على اليابسة، وهناك بعض الأمل في أن يتسلسل التفكير ذاته إلى الاستثمارات البحرية.
غير أن الأمر لا يقف عند التمويل فقط، فهناك عائق آخر أمام التطوير المستدام والمحافظة على المحيطات يتمثل ببساطة في افتقارنا إلى معرفة ما نحاول تطويره والمحافظة عليه. وهناك الطرق غير المترابطة التي تُشرف فيها وكالات الأمم المتحدة المتنوعة –أو لا تشرف- على نشاطات المحيطات: فالنقل البحري تشرف عليه المنظمة البحرية الدولية International Maritime Organization ومصايد الأسماك تُشرف عليها منظمة الأغذية والزراعة Food and Agriculture Organization (اختصارا: المنظمة FAO) والتنوع البيولوجي يُشرف عليه برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP، والعلوم تُشرف عليها اليونسكو UNESCO، وهكذا. ويضيف أنغر: «ولا تخاطب هذه القطاعات بعضها بعضا».
القاسم المشترك بين هذه القطاعات هو اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحارUN Convention on the Law of the Sea (اختصارا: الاتفاقية (UNCLOS، التي صارت ملزمة عام 1994. وهي تؤسس لـ«مناطق اقتصادية خالصة» Exclusive economic zones، أو اختصارا: المناطق EEZ – المناطق البحرية التي تمتد إلى 200 ميلٍ بحريٍّ في عرض البحر انطلاقا من شواطئ دولة ما ولها سيادة كاملة عليها وتمتلك حقوق استغلالها، شريطة ألا يكون هناك تداخل مع مناطق اقتصادية خالصة (حصرية) لدولة أخرى. كما أنها كرست الفوضى النسبية بالنسبة إلى ما يقع خارج حدود هذه المناطق، فيما يُسمى من الناحية التقنية بـ«المناطق الواقعة خارج حدود الولاية الوطنية» Area Beyond National Jurisdiction، وهي تُقسم إلى ما يُدعى بالـ«المنطقة» The Area في إشارة إلى قاع البحر وما يقع تحته، و«أعالي البحار» في إشارة إلى عمود الماء الذي يعلو هذه الأرض. تقول الأمم المتحدة إن الموارد الموجودة في هذه الأماكن هي «إرث مُشترك للبشرية جمعاء»، مع إلزام كل دولة بحماية البيئة البحرية والمحافظة عليها.
في هذا الصدد يقول فيردين: «لقد كانت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار إنجازاً غير عادي للتعاون الدولي، لكنها تركت ثلثي المحيطات دون وصاية، أو على الأقل ثلثي ما يقع فوق قاع البحر». تخضع ما تُسمى بـالمنطقة للسلطة الدولية لقاع البحار International Seabed Authority التي تأسست كجزءٍ من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لتنظيم التنقيب المستقبلي فيها، وهي قضية يعود الفضل لتحركات ناورو في إحيائها بقوة الآن.
تُرك هذا النظام التنظيمي غير الناضج ليتعثر في أعقاب التسارع الأزرق، فمع ازدياد الاعتراف بالثروات المحتملة في المناطق الاقتصادية الخالصة، تصاعدت أيضاً مزاعم الدول حول سيادتها على المزيد من مساحات البحار. ومن ناحية أخرى، تسهل التكنولوجيا استغلال أجزاء من أعالي البحار. ويوضح أنغر بأن النظام كما هو قائم الآن، يجعل أقل ما يُقال عن تطوير المحيطات المُستدام مستحيلاً، ويقول: «إننا بحاجة إلى تغيير الطريقة التي نُدير بها المحيطات».
يحدث هذا في بعض الأماكن، على الورق على الأقل. أحد الأمثلة على ذلك صناعة صيد الأسماك. فمثلاً يقول مانويل بارانج Manuel Barange من المنظمة FAO، إنه بينما تضمن الاتفاقية UNCLOS الوصول إلى أعالي البحار، إلاّ أن الوضع الآن بعيد كل البعد عن صناعة صيد السمك الهمجية التي كانت سائدة من قبل. وقلة الأسماك في أعالي البحار تساعد على ذلك، أما في أماكن كقيعان البحار والحيود المرجانية Coral reef أو السواحل، فتعني سهولة الوصول إلى المغذيات ميل الأسماك إلى أن ترتبط بموائل معينة. ويتابع بارانج قائلا: «في وسط المحيط هناك أسماك التونة والمارلين، ولكن ليس هناك الكثير غيرها». وتخضع المناطق الكبيرة التي تعيش فيها الأسماك لخليط من 50 معاهدة بين دول تؤلف ما يُعرف بـ«المنظمات الإقليمية لإدارة مصايد الأسماك» Regional Fisheries Management Organisations، أو اختصاراً: المنظمات REMOs- ويوضح بارانج أهمية أن يمتد مثل ذلك ليشمل المياه الدولية جميعها.
إذا ما نُظِّمت بالطريقة الصحيحة، فلن يوجد ما يمنع تأمين متطلباتنا من المأكولات البحرية باستدامة. ويسري الأمر نفسه على الأمور الأخرى المتعلقة بالمحيطات. أحد المساعي لجعل ذلك ممكناً هو المقترح الذي ترعاه الأمم المتحدة والمُسمى بـ«التنوع البيولوجي خارج الوصاية الوطنية» Biodiversity Beyond National Jurisdiction، أو اختصارا: الاتفاقية BBNJ. وتتمثل أهدافها الأساسية بوضع قواعد لإنشاء محميات بحرية وحمايتها، وهي ضرورة ملحة لتقييم الآثار البيئية Environmental impact assessments للتوسع الاقتصادي المخطط له في أعالي البحار، والاستخدام العادل والمستدام للموارد الجينية Genetic resources، الضرورية لنشوء صناعة تكنولوجيا حيوية Biotechnology industry في المحيطات.

ترعى حكومة ناورو شركة المعادن The Metals Company -مقرها كندا- التي تستخرج عقيدات المعادن من قاع المحيط. صورة: TOM MCHUGH / SCIENCE PHOTO LIBRARY

وسيكون إتمام الاتفاقية BBNJ «خطوة مهمة لخلق هذه الرؤية الجديدة» لحوكمة ثلتي المحيطات -المُنظّم بالكاد حاليّاً، كما يقول أنغر. وعلى الرغم من التقدم البطيء للمفاوضات في السنوات الماضية، فإن غياب اتفاق مأمول لم يمنع بدء جولة المحادثات التي جرت مؤخراً في مارس 2022. وفي غضون ذلك، من المقرر أن توافق الدول على مجموعة جديدة من أهداف التنوع البيولوجي لعام 2030 في مؤتمر قمة اتفاقية التنوع البيولوجي المؤجلة في كونمينغ Kunming في الصين، والمقرر عقدها في وقت لاحق من عام 2022. فعلى الرغم من الإخفاق الشامل في تحقيق الأهداف السابقة التي وُضعت في آيشي Aichi في اليابان عام 2010، بما فيها الهدف الرامي إلى إنشاء محميات طبيعية بحرية، تبدو مسودة اتفاقية العام 2030 طموحة جدا، فهي تدعو إلى أن تكون نسبة 30 % من اليابسة ومناطق المياه العذبة والمحيطات محمية بنهاية هذا العقد (وفقا للتحديث الوارد في 16 أبريل). وسيكون هذا الهدف المتمثل بـ«حماية 30 بحلول 2030» أو «30×30» ورقة اللعبة الرابحة بالنسبة إلى حماية المحيطات، كما صرَّح بيتر تومسون Peter Thomson المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للمحيطات.
أما سالا فيقول «إن هناك أسباباً تدعونا إلى التفاؤل حيال أهداف التنوع البيولوجي ذات الصلة بالمحيطات في هذه الجولة، إذ إننا نرى دولا أدركت ألَّا مستقبل لاقتصاداتها المحيطية دون المناطق المحمية». فمثلاً، ستكون أماكن الصيد أكثر إنتاجية واستدامة بكثير إن وُجدت مجاورة لأماكن يُحظر فيها صيد الأسماك.
هذا، وقد تعهدت أكثر من 70 دولة بتحقيق هدف (30×30) من خلال الانضمام إلى التحالف العالمي للمحيطات Global Ocean Alliance الذي تقوده المملكة المتحدة، كما انضمت أكثر من 90 دولة إلى تحالف الطموح العالي للطبيعة والناس High Ambition Coalition for Nature and People، الذي يلتزم بهدف (30×30) في البر والبحر. وفي العام الماضي، أنشأت المملكة المتحدة محمية «تريستان دا كونا» Tristan da Cunha البحرية على مساحة 700,000 كيلومتر مربع حول هذا الأرخبيل في المحيط الأطلسي، ووسعت كوستاريكا مساحة المتنزه الوطني على جزيرة كوكوس في المحيط الهادي بنحو 27 ضعفاً. ويقول سالا: «لقد شهدنا زيادة مذهلة وأسية في مساحات المحيطات المحمية».

لا تزال العديد من الأنواع التي تعيش في أعماق البحار، مثل الأخطبوط، موضع البحث العلمي. صورة: Aisland / Alamy Stock Photo

هناك إشارات مبشرة أيضاً، فمعاهدة غلاسكو للمناخ The Glasgow Climate Pact الموقعة في مؤتمر قمة المناخ العالمي COP26 في نوفمبر 2021، وضعت احترار المحيطات Ocean warming وتحمُّضِها Acidification بقوة على قائمة مهامها، كما ستتابع جولة محادثات المناخ القادمة، المُقرر إجراؤها في نوفمبر 2022 بمصر، العمل على الحد الذي أسماه تومسون «العدو المحوري لمشكلات المحيطات» ألا وهو انبعاثات غازات الدفيئة. بل حتى صناعة النقل البحري المشهورة بتخلفها عن ركب الحلول المناخية- بدأت بالتفكير جديّاً بالتخلص من الكربون Decarbonisation، مع التزام دول أعضاء في المنظمة البحرية الدولية International Maritime Organization بتخفيض انبعاثات النقل البحري بنسبة 40 % على الأقل بين عامي 2008 و2030، كما تواترت تصريحات بأنها تتجه نحو الالتزام بصافي انبعاثات صفرية مع عام 2050.
وفي شهر مارس 2022 أجمعت دول العالم على إجراء مفاوضات لوضع اتفاقية للتعامل مع التلوث البلاستيكي، وستحاول منظمة التجارة العالمية في يونيو 2022 مجددا إلغاء الدعومات الضارة لمصايد الأسماك، التي تمول الآن نهباً تجاريا للمخزون السمكي تتراوح قيمته ما بين 20 وحتى 30 بليون دولار سنويّاً. كما ينعقد مؤتمر المحيطات Ocean Conference في لشبونة بالبرتغال خلال شهري يونيو ويوليو 2022 الذي يهدف إلى تحديد مسار نحو اقتصاد محيطات مُستدام قائم على العلوم بمشاركة رئيسية من الشركات الخاصة والممولين.
لكن ذلك يحدث مع استمرار دوران عقارب الساعة، ويرى فيردين مسارين محتملين بين الوقت الراهن وعام 2030، فيما لا يتعدى كونه محطة في الطريق إلى عام 2050، وهو التاريخ الذي تريد الأمم المتحدة فيه للبشرية أن تحيا بانسجام مجدداً مع الطبيعة. أول هذين المسارين، هو أن تسلك الأعمال التجارية سلوكها المعتاد، في مسار يشبه مشية السلطعون الجانبية اللامبالية. أما الآخر؛ فهو أكثر إيجابية، ويصف فيردين الطريق إليه كما يلي: «بتكثيف الحماية، قد نصل إلى هدف 30×30. وبنقل بحري صفري الانبعاثات الكربونية، لتنخفض الانبعاثات الناجمة عن المسارات التي نسلكها. وأن تمنع منظمة التجارة العالمية دعومات الصيد أو تخفضها. ونطور أنظمة إبلاغ معيارية عن البصمة الإيكولوجية والاجتماعية لاقتصاد المحيطات المتنامي. كما نضع معاهدة بأهداف ذات مغزى للتقليل من النفايات البلاستيكية. حينئذٍ ندخل مرحلة إعادة التأهيل الإيكولوجي، ويرى الناس مزايا الاستثمار في ذلك ويصبح ذلك حلّاً طبيعياً للمناخ. نعم، إنه السيناريو الجيد لعام 2030».
ستحدد القرارات التي نتخذها ما إذا كان ذلك ممكناً، وإلى أي مدى نسير -ابتداءً من الوضع الراهن- نحو اقتصاد محيطات مربح ومستدام ومنصف. ويستطرد فيردين المتفائل قائلا: «هناك قصص نجاح، وهناك أسباب تدعو إلى التفاؤل، فأنا لا أؤمن أنه لا يمكن تحقيق ذلك، أو لا ينبغي لنا أن نفعل كل ما في وسعنا لعكس المنحنى».
لكن سيبقى هناك الكثير من العوائق التي يجب الالتفاف حولها، ويقول باربييه: «لدينا فاقدٌ كبير في التنوع البيولوجي، وتلوث، وصيد جائر. لكن إذا صارت لدينا عمليات مخطّط لها ومستدامة في المحيطات بحلول 2030، وتشمل بلدان العالم جميعها، سنكون في حالة أفضل بكثير مما نحن الآن عليه. وأعتقد أن هذا ممكن».

العمق المجهول
الاقتباس الذي لطالما استُخدم والقائل إن عدد الذين مشوا على سطح القمر أكبر من عدد الذين وصلوا إلى أعمق نقطة في المحيط الهادي- تشالنجر ديب Challenger Deep- لم يعد صحيحاً، فالعداد يُشير إلى 12 مشوا على سطح القمر، مقابل 22 على قاع المحيط. غير أننا لا نعرف سوى القليل عن المحيطات العميقة، لا سيما أجزاؤها البعيدة عنا. ويشرح جوليان باربييه، من اليونسكو، هيئة الأمم المتحدة التي تأخذ على عاتقها قيادة علوم المحيطات، عن ذلك بقوله: «لم نرسم خرائط دقيقة لسوى 20 % من قاع المحيطات والبحار، وما لدينا هو أرصاد منهجية للـ 2,000 مترٍ العُليا، ولم نجرِ سوى القليل من الأرصاد للأجزاء الأعمق».
ستمثل خريطة كاملة دفعاً كبيراً لعلوم المحيطات، كما أنها ضرورية لاقتصاد محيطات أكثر استدامة، ويبرر جيمي ماكمايكل- فيليبس Jamie McMichael-Phillips ذلك بالقول: «لن تبني مدينة على منطقة لم ترسم خريطةً لها، ولن تنشئ منزلاً على حقل لا تعرف خريطته. غير أننا نعمل في محيطاتنا ونستخدم موارد المحيطات في الحين الذي لم نرسم خرائط لها».
كما تؤكد كاثرين نوفلّي Catherine Novelli، وهي الوكيل السابق لوزارة الخارجية الأمريكية لشؤون التنمية الاقتصادية والطاقة والبيئة، ذلك بقولها: «أنت بحاجةٍ إلى خريطة لتعرف ما عليك القيام به حيال هذه الأمور، ولا يقتصر الأمر على كيفية الحفاظ عليها، لكن كذلك كيف ستتمكن من الاستفادة اقتصاديّاً من الموارد الموجودة هناك. فإذا أردنا الحفاظ على المحيط بحيث يمكن أن يكون مورداً مُستداماً، ينبغي أن تكون لدينا خريطة».
يشغل مكمايكل- فيليبس منصب رئيس مشروع GEBCO Seabed 2030 التابع لمنظمة نيبون. والاختصار GEBCO يشير إلى General Bathymetric Chart of the Oceans (مخطط أعماق المحيطات العام)، وهو مشروع رسم خرائط أطلقه الأمير ألبرت الأول أمير موناكو Prince Albert I of Monaco في عام 1903. وقد بدأ المشروع برسم خرائط يدوية محيطية من خلال إسقاط حبال مثقلة بالرصاص إلى قاع البحر، لكنه تطور منذ ذلك الحين إلى وضع خرائط رقمية عالية الدقة مرسومة باستخدام قراءات السونار.
غير أن السونار بطيء ولم تُرسم سوى 20 % من الخرائط. ويهدف المشروع Seabed 2030 إلى إنجاز الـ 80 % المتبقية في غضون ثماني سنوات فقط، والتي يقر ماكمايكل بأنها «مهمة جبارة»، لكنها ممكنة. ويقول: «وفق حساباتنا فتلك المهمة تعادل عمل سفينة لـ200 عام: حيث تعمل سفينة واحدة لمدة 200 عامٍ لترسم خرائط لقاع المحيط، لكن بإمكاننا خفض عدد السنوات باستخدام 50 سفينة خلال السنوات الثماني المتبقية، ما يجعل من مهمتنا قابلةً للإنجاز تماما».

الاستيلاء على المحيطات
ناورو هي أصغر دولة جزرية على وجه الأرض، بأراضٍ مساحتها 21 كيلومتراً مربعاً، أي أصغر من منطقة هاكني Hackney في لندن. وإذا أحصيت منطقتها الاقتصادية الخالصة، الممتدة حتى نحو 200 ميلٍ بحريّ قبالة شواطئها من كل الجهات، ستزداد مساحتها بذلك لتكون 308,480 كيلومتراً مربعاً، وهي مساحة أكبر من مساحة أراضيها بنحو 15,000 ضعفٍ، ما يساوي مساحة بولندا تقريباً. كما تسيطر دول جزرية أخرى على مساحات أكبر من ذلك مستفيدةً من كونها أرخبيلات متناثرة، مثلاً دولة كيريباتي Kiribati المجاورة لناورو، والمؤلفة من 33 جزيرة مرجانية وجزراً تشغل مساحة 3.5 مليون كيلومتر مربع من المحيط الهادي الاستوائي، تحتل المرتبة 172 من حيث المساحة على الأرض (من حيث مساحة اليابسة)، لكنها تشغل المرتبة 12 من حيث المنطقة الاقتصادية الخالصة.
تعيد هذه الدول الجُزرية تصنيف نفسها، ونجد ذلك فيما أدلى به كاميلو غونسالفيس Camillo Gonsalves وزير الاقتصاد في دولة سانت فنسنت وغريناد في لقاء منظمة دول الكاريبي الشرقيةOrganisation of Eastern Caribbean States لعام 2020: «قد نكون دولا جزرية نامية صغيرة، لكننا أيضاً دول نامية محيطية كبيرة. إننا أكبر بكثير مما نعتقد. علينا أن نتجه بأنظارنا نحو الخارج وندرك أن الشاطئ أو الخط الساحلي لا يمثل حافة العالم، بل هو بداية لمورد هائل غير مستَغل يمكنه أن يغذي نمونا وتطورنا باستدامة».
وإدراك أن البحار المحيطة قد تحتوي على ثروة هائلة غير مستَغلة أضاف بعداً آخر للتسارع الأزرق، يُسمى الاستيلاء على المحيط Ocean grabbing. وذلك حين تحاول إحدى الدول توسعة مناطق سيطرتها البحرية بالمطالبة بنقاط من الأرض، أو باكتشاف أماكن غير معروفة حتى الآن من الجرف القاري Continental shelf: فوفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، يمكن أن تدعي الدول ملكيتها لمناطق من الجرف القاري حتى ولو كانت واقعة على مسافات أبعد من 200 ميل بحريّ من شواطئها.
بدأت روسيا بدحرجة هذه الكرة عام 2001 حين ادعت ملكيتها لـ 1.3 مليون كيلومتر مربع من المحيط المتجمد الشمالي على طول سلسلة جبال لومونوسوف Lomonosov Ridge الواقعة تحت البحر، والتي تقول إنها امتدادٌ لسيبيريا. أما الدنمارك؛ فتخالفها الرأي بذلك، فهي تزعم بأن التضاريس التي تطلق عليها اسم «لومونوسوفريججن» Lomonosovryggen هي امتداد لغرينلاندا.
منذ ذلك الحين، قدمت 83 دولة أخرى مطالبات إلى الأمم المتحدة بلغت المساحات الإجمالية فيها أكثر من 37 مليون كيلومتر مربع من قاع البحر. وقد نجح بعضها، ففي عام 2012، ادعت أستراليا ملكيتها- ومنحت فيما بعد- لأكثر من 2.5 مليون كيلومتر مربع من قاع البحر حول مجموعة نائية من الجزر الصغيرة غير المأهولة في المحيط الجنوبي. ويقول جان بابتيست جوفراي من جامعة ستوكهولم في السويد: «لقد كان صراعا حرفيا على قاع البحر».

ما الذي يجعل المحيطات مختلفة؟
يمكن القول إن التحول للمزيد من التطور المُستدام على اليابسة صعب بما فيه الكفاية، لكن تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD المُعنون بـ«اقتصاد المحيطات عام 2030» The Ocean Economy in 2030 حدد تسعة أمور تلقي بالمزيد من الصعوبة على حالة البيئة البحرية:

  1. مساحة البحار أكبر بكثير من سطح اليابسة، وتخضع لأنظمة قانونية متعددة وتجري فيها عمليات طبيعية وتعبرها الكثير من الأنواع الحيّة وتتخللها الكثير من الأنظمة الإيكولوجية.
  2. الماء أقل شفافية من الهواء، ما يجعل عمليات الاستشعار عن بعد في المحيطات وقيعانها أكثر صعوبة.
  3. المحيطات ثلاثية الأبعاد، ما يضيف إلى تعقيد رسم خرائط لها، وإدارة العمليات والتخطيط لها، والنشاطات التي تجري فيها.
  4. المحيط مائع، ومترابط، ما يتيح المزيد من السهولة لحركة الملوثات والأنواع الغريبة Alien species.
  5. تنتقل الأنواع البحرية مسافات بعيدة، ما يجعل إدارة الموارد وتعقبها أصعب.
  6. تغير الأنواع البحرية مواقعها بسرعة، لذا ربما لا تكون القياسات التي تُجرى في مكان ما لها فعالة بمرور الزمن.
  7. يمكن أن تجوب المغذيات والملوثات المحيطات لعقود، ما يصعب من عملية تقييم التأثير طويل الأمد للأنشطة البشرية.
  8. تفتقر معظم المحيطات إلى الملكية والمسؤولية تجاهها، ما يجعل تنظيم الأنشطة غير المصرح بها وإقصاءها أكثر صعوبة.
  9. لا يعيش البشر في المحيطات، ما يجعل من تطوير تكنولوجيات جديدة لاستغلاله وتطبيق القوانين أكثر صعوبة.

بقلم: غرايام لوتون

ترجمة: نجوى بيطار

© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى