أحافير آثار الأقدام تكشف عن الفرح والخوف في حياة العصر الحجري
موجة جديدة من الأبحاث الأركيولوجية تعيد بناء التفاصيل الحميمة لحياة أسلافنا من أحافير آثار الأقدام. إنها تقدم لنا لمحات عن كل شيء بدءاً من العلاقات بين الآباء والأبناء انتهاء إلى إثارة مطاردة كسلان عملاق
تكافح امرأة شابة عبر سهل موحل وبصحبتها طفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات تحمله على عجزها الأيسر. تنزل الطفل لالتقاط أنفاسها، لكنها تخشى التوقف لفترة طويلة. إنهما بمفردهما؛ هدف سهل للسنوريات ذات الأسنان السيفية Sabre-toothed cats التي تقبع مترصدة في مكان قريب. تلتقط الطفل مرة أخرى وتسرع، وتختفي في الأفق. يظل كل شيء هادئا لبعض الوقت. بعد ذلك يقطع حيوان كسلان Sloth أرضي عملاق الطريق الذي سلكته المرأة. يلتقط الحيوان رائحة المرأة ويبقى على أهبة الاستعداد على الفور، فيتراجع ويتلفت لمسح المشهد بحثاً عن صيادين من بني البشر.
كيف كانت الحياة في العصر الحجري؟ لابد أنه كانت هناك لحظات من الفرح، والخوف، والحب، والألم، وربما الدهشة بالنسبة إلى الأشخاص الذين سكنوا الأرض قبل عشرات الآلاف من السنين. ولكن العواطف لا تتأحفر، لذلك حُرِمنا من إدراك تلك اللحظات، التي يفصل بينها فترات طويلة من الزمن. بإمكاننا العثور على كل العظام والأدوات التي نود أن نعثر عليها، لكنها لن تخبرنا عن تجربة حياة أسلافنا القدماء.
لكن، قد تتفتح نافذة جديدة على حياتهم اليومية. ففي أثناء انشغال الناس بالمضي في حياتهم تركوا وراءهم عدداً لا يحصى من آثار الأقدام. وسجلت هذه الآثار سلوكهم بطريقة فريدة من نوعها، موثِّقة كل شيء بدءا من المراوغات المحتدمة وحتى سباقات السرعة العازمة [على تحقيق الهدف]. إضافة إلى ذلك، فإن المسارات ترتيب زمني، مما يعني أن الأحداث يمكن سردها مثل القصة. قصة المرأة والطفل وكسلان الأرض العملاق مثالٌ مفعم بالحياة وجدناها مكتوبة في مسارات قديمة – لكنها بالتأكيد ليست القصة الوحيدة. يكشف تفجر
من اكتشافات آثار الأقدام القديمة عن صور جديدة للماضي، من تقسيم العمل بين الجنسين Division of labour إلى سلوك الحيوانات المنقرضة منذ زمن طويل.
لقد عرف علماء الآثار منذ عقود أن آثار الأقدام يمكن أن تتأحفر. فعلى سبيل المثال، في عام 1976 اكتشف فريق بحثي آثار أقدام عمرها 3.7 مليون عام في «لايتولي» Laetoli، وهو موقع أثري في تنزانيا. وأدركنا أهميتها فورا لإثبات أن نوعاً مبكراً من الهومينين (أشباه البشر) يُدعى أسترالوبيثيكوس أفارينسيس Australopithecus afarensis -وأشهر مثال على ذلك هو أحفورة تُدعى «لوسي» Lucy- كان يسير على قدمين بدلاً من أربع أرجل، كما جادل البعض.
في ذلك الوقت، كان يُنظر إلى آثار الأقدام باعتبارها مصدراً مفيداً للأدلة على الحقائق التشريحية الأساسية لنوع Species ما، إضافة إلى مكان وزمن معيشته. ومع ذلك، فإن الاكتشاف في لايتولي لم يستحث اندفاعا لاستكشاف المزيد من الطبعات القديمة. يقول ماثيو بينيت Matthew Bennett من جامعة بورنماوث Bournemouth University بالمملكة المتحدة: «كان يُعتقد أنها كانت نادرة حقاً».
ويقول بينيت إنه من المؤسف أنه لم يبحث عن المزيد سوى عدد قليل من الباحثين، لأن آثار الأقدام القديمة شائعة بالفعل. لقد كانت تترك بكميات هائلة، ربما ما يعادل مليون خطوة لكل شخص سنوياً. لذلك على الرغم من أن نسبة ضئيلة منها فقط سينتهي بها الأمر كأحافير، فإن هذا العدد لا يزال كبيرا. يقول كيفين هاتالا Kevin Hatala من جامعة تشاتام Chatham University في بيتسبرغ، بنسلفانيا: «لدى عظامي فرصة واحدة لكي تدخل السجل الأحفوري. لكن مع كل الخطوات التي أخطوها كل يوم – تكون لدي فرصة هائلة للوصول إلى السجل الأحفوري بهذه الطريقة».
إحدى الطرق التي يمكن من خلالها الحفاظ على آثار الأقدام هي أن يمشي شخص على مساحة مغطاة بالرماد الناتج من ثوران بركاني، والذي يتماسك بعد ذلك مثل الخرسانة سريعة الجفاف عند التعرض للرطوبة. فهذه هي الطريقة التي تأحفرت بها آثار أقدام لايتولي، لكنها عملية نادرة. والشائع أكثر أن تُغطَى آثار الأقدام في الرمل الرطب أو الطين بسرعة بالرمل الجاف والغبار المتطاير بفعل العاصفة. بعد ذلك تُدفَن وتتأحفر، ومن ثم قد تدفعها العمليات الجيولوجية مرة أخرى إلى السطح.
على الرغم من أن آثار الأقدام القديمة كانت ذات أولوية أثرية متدنية لعقود، فإن الأمور آخذة بالتغير في الآونة الأخيرة. شهدت السنوات العشرون الماضية زيادة هائلة في عدد مواقع آثار الأقدام القديمة. يمكن العثور عليها في كل ركن من أركان العالم تقريباً – في إفريقيا وأوروبا وشبه الجزيرة العربية وأستراليا والأمريكتين.
تقفي الأثر
صار من الواضح أيضاً أن آثار الأقدام يمكنها رسم صورة حميمية مدهشة عن الماضي. فعلى سبيل المثال، فإن التجارب المختبرية توثّق توثيقا جيدا أن حجم وشكل قدم شخص ما يمكنهما التنبؤ بحجم جسمه بدقة. ونظراً لأن حجم الجسم يختلف عموماً بين الجنسين، يمكنك تقدير جنس الشخص صاحب تلك المجموعة من آثار الأقدام. من المعروف أيضاً أن طول القدم يبلغ نحو 15 % من طول الشخص الكلي، في حين تسمح لك المسافة بين آثار القدم نفسها بتقدير سرعة مشي أو جري شخص ما. إذ تقول الآركيولوجية آشلي وايزمان Ashleigh Wiseman من جامعة كيمبريدج University of Cambridge: «تعكس آثار الأقدام طولك وعمرك وجنسك وحتى وزنك».
اجتمعت كل هذه العوامل معاً خلال دراسة أجريت عام 2020 لأكثر من 400 أثر قدم في موقع في «تنزانيا» يسمى إنغاري سيرو Engare Sero. استخدم هاتالا وزملاؤه الاستنتاجات من الآثار لإعادة بناء مشهد وقع قبل ما يقرب من 12 ألف عام. ووجدوا أن الآثار تخص ما لا يقل عن 17 شخصاً من نوعنا البشري، هومو سابينس Homo sapiens، مما يجعلها أكبر مجموعة من الآثار البشرية القديمة التي عُثر عليها في إفريقيا. وخلص الباحثون إلى أن المجموعة ربما تكونت من 14 امرأة ورجلين وطفل. كان جميع أعضاء المجموعة يسيرون بالسرعة نفسها – نحو 1.2 إلى 1.5 متر في الثانية – مما يشير إلى أنهم كانوا يرتحلون معاً.
متسلحين بهذا النوع من الأدلة، يمكننا تصور تخمينات مستنيرة لما كان هؤلاء الأشخاص يقومون به. في المجتمعات الحديثة التي تعتمد على الصيد والالتقاط Hunter-gatherer communities، غالباً ما تعمل مجموعات من النساء معاً للبحث عن الطعام. ربما كانت هذا هي الحال في تلك المجموعة القديمة. إذا كان الأمر كذلك، فإنه يخبرنا شيئاً عن تقسيم العمل بين الجنسين في نهاية العصر الحجري. يقول هاتالا: «لا أعرف كيف يمكن أن ترصد هذا النوع من الديناميكا الاجتماعية باستخدام أي خط آخر من الأدلة الآركيولوجية».
عُثر على بعض الآثار الأكثر تشويقاً التي ظهرت حتى الآن في موقع يسمى منتزه وايت ساندز الوطني White Sands National Park بنيو مكسيكو. فهذه المنطقة المعزولة محاطة بمضمار إطلاق صواريخ، وتمتاز بكثبان مدهشة وسبخات ملحية تجعلها محببة لصانعي الأفلام. ويحتوي الموقع على حوض جاف Playa، أو بحيرة جافة، حيث عرفنا منذ فترة طويلة أن هناك آثار أقدام متأحفرة من الحيوانات القديمة. ففي عام 2017 اكتشف ديفيد بوستوس David Bustos -الذي يعمل في خدمات «منتزه وايت ساندز الوطني»- آثار أقدام بشرية. بعد ذلك بوقت قصير، سافر بينيت إلى هناك للبحث عن المزيد من الآثار. وهو يبحث بحثا مكثفا في الأمر منذ ذلك الحين.
يقول بينيت: «تشتمل معظم المسارات في وايت ساندز على شخصين بالغين ومجموعة من الأطفال». تتعرج مسارات الآثار عادةً عبر المشهد الطبيعي، وهو الشيء الذي تتوقعه من عائلة في نزهة بعد ظهر يوم الأحد. لكن مجموعة واحدة مما عثر عليه بينيت وبوستوس وزملاؤهم كانت مختلفة: مسار آثار شخص واحد يخطو في خط مستقيم. هذه هي الآثار التي تحكي قصة الشابة والطفل وحيوان كسلان الأرض. لكن بينيت وبوستوس لم يكونا يعرفان ذلك عندما انطلقا لمتابعة المسار.
وسرعان ما أدركا وجود مجموعتين من المسارات: أحدهما يتجه شمالاً لمسافة 1.5 كيلومتر على الأقل؛ اوالآخر على بعد أقل من متر، يسلك الطريق نفسه جنوبا. واستنتجا أن طبعات الأقدام الشمالية جاءت أولاً لأنها تقاطعت -وتشوهت بفعل- مع آثار أقدام خلفها حيوانان كبيران منقرضان الآن، ماموث وكسلان أرضي عملاق. على النقيض من ذلك، فإن الآثار البشرية الجنوبية كانت مطبوعة فوق آثار أقدام الحيوانات. وأظهر التحليل الإحصائي عدم وجود اختلاف واضح في حجم وشكل الآثار الشمالية والجنوبية، لذلك ربما تركها الشخص نفسه. إذ يقول بينيت إن حقيقة أن هذا الشخص لم ينحرف عن مساره في أي من الرحلتين أمر مهم. ويشرح قائلا: «إن هذا يعني أنه كان في مهمة».
من كان هذا الشخص؟ أثبت بينيت وفريقه أن الآثار تركها فرد نحيف، ربما امرأة شابة. ومن الواضح أيضاً أنها كانت في عجلة من أمرها. وبحساب الأرقام، سجلت وتيرتها بسرعة 1.7 متر في الثانية، وهو أسرع من متوسط سرعة المشي الحديثة. إنها وتيرة سريعة بشكل خاص وتشير إلى أن الظروف كانت صعبة – إذ تسجل آثار الأقدام الكثير من الأدلة على أن المرأة انزلقت وهي مسرعة في طريقها. يقول بينيت: «كانت هناك ضرورة ملحة للتحرك».
مهمة تسليم خاصة
ماذا كانت مهمتها؟ في رحلة الشمال، تظهر بعض الآثار من قدمها اليسرى زلة دورانية في الوحل الناعم، مما يعطيها شكل موزة. ويشتبه بينيت في أنها كانت غير متوازنة على يسارها لأنها كانت تحمل عبئاً على وركها الأيسر. في بضع نقاط على طول المسار الشمالي، نلقي نظرة على هذا الحمل: هناك حفنة من آثار الأقدام التي تخص طفلا لا يزيد عمره على ثلاث سنوات. ويبدو أن المرأة كانت تحمل الطفل وتضعه على الأرض أحياناً، ربما لتستريح أو لإعطاء الطفل فترة استراحة.
لا نعرف وجهة المرأة. تختفي الآثار الشمالية في مضمار إطلاق الصواريخ في وايت ساندز، وهو منطقة غير متاح للأبحاث. لكن لا توجد مؤشرات على أن المرأة كانت لا تزال تحمل الطفل في آثار الجنوب. أحد التفسيرات هو أنها كانت تسلم الطفل لشخص ما. سواء نجحت أم لا، فإنها عادت وحدها.
قصص مثل هذه تعني الكثير لـ كيم تشارلي Kim Charlie وبوني لينو Bonnie Leno. كلاهما فردان من أفراد مجموعة أكوما بويبلو Pueblo of Acoma بالقرب من مدينة ألباكركي في نيو مكسيكو، وهي إحدى مجموعات السكان الأصليين الذين تربطهم علاقة روحية مع وايت ساندز. تشارلي هي عضوة في اللجنة الإقليمية لمكتب المحافظة على التراث القبلي Tribal Historic Preservation Office، في حين أن أختها لينو هي مراقب قبلي مُعيَّن، مما يعني أنها تتعاون مع العلماء لمشاركة معرفتها بعادات وتقاليد المنطقة. زارتا كلتاهما وايت ساندز للاطلاع على الآركيولوجيين. تقول تشارلي: «إنه أمر رائع». «لا توجد كلمات لوصف ما تشعر به عندما تكون هناك بالفعل».
حقيقة أن «لينو» اكتشفت بعض آثار الأقدام بنفسها خلال الزيارة -آثار بشرية بالقرب من أثر تركه حيوان كسلان عملاق- زادت من الإثارة. بفضل معرفتها بالمنطقة، تمتلك لينو بالفعل إحساساً قوياً بالمكان الذي عاش فيه الناس في السابق والمكان الذي ارتحلوا إليه. تقول: «يمكنك القول إننا نرى أشياءً تتجاوز وجهة نظر الآركيولوجيين. وقد يرجع ذلك إلى أن هؤلاء كانوا أسلافنا». وكانت هناك أيضاً حالة واحدة على الأقل حيث ساعدت الشراكة بين الباحثين والأشخاص ذوي المعرفة بالعادات والتقاليد على تفسير معنى آثار الأقدام (انظر: كهف البيسون المقدس).
يؤكد بينيت أن هناك دائماً خطر الاندفاع في تحليل الأثر سعيا وراء قصة آسرة – ما يسميه الشعر القديم Palaeo-poetry. من المغري القول إن المرأة كانت مسرعة لأنها كانت قلقة من تجوال السنورات ذات الأسنان السيفيّة، لكننا لن نتأكد من ذلك أبداً. ومع ذلك، فإن آثار الأقدام تقربنا أكثر من أي وقت مضى من مشاعر الأشخاص القدماء.
تشير الأدلة بقوة إلى أن الخوف كان يملأ الهواء في ذلك اليوم، وربما في أكثر من نوع واحد من الحيوانات. تصرف كسلان الأرض العملاق بشكل غريب عندما عبر مسارات المرأة في الشمال. تظهر آثار أقدامه أنه مشى على رجليه الخلفيتين فقط وكان يدور في دائرة. الاستنتاج الواضح، حسبما يقول بينيت، هو أنه التقط رائحة المرأة، وكان قلقاً بشأن احتمال وجود صيادين، وكان يمسح المشهد الطبيعي. ويقول بينيت ربما كان هذا سلوكاً نموذجياً للكسلان. فهناك الكثير من مسارات كسلان الأرض الأخرى في مكان آخر في وايت ساندز. وتظهر هذه المسارات أن هذه الحيوانات البرية عادة ما تتجول في خط مستقيم تقريباً، كما يقول. لكن بعض المسارات مختلفة. يقول: «فجأة، تنقلب الآثار عن وجهتها وتتجه بزاوية مختلفة، وعندما ننظر إلى نقطة الانعطاف هذه، سنجد أثراً بشرياً».
مشهد طبيعي مخيف
إحدى مجموعات الآثار في وايت ساندز – التي وصفها بينيت وبوستوس وزملاؤهما في دراسة أجريت عام 2018 – تصور مطاردة حيوان الكسلان، حيث يسير البشر حرفياً فوق آثار أقدام الحيوان قبل الهجوم. ولكن إذا كان الكسلان يخاف البشر، فإن الشيء نفسه لا ينطبق على بعض الحيوانات الأخرى. لا تنحرف مسارات الماموث وحتى الجمال عند عبور المسارات البشرية، مما يخبرنا بأن لديها موقفاً أهدأ تجاه الأمريكيين الأوائل. يقول بينيت: «إنها حقاً تبعث الحياة في هذه الحيوانات».
آثار الأقدام في وايت ساندز لا تتعلق فقط بالصراع الشاق من أجل البقاء. في أحد الأعمال غير المنشورة، اكتشف بينيت وفريقه بعض الآثار التي يبدو أنها تسجل لحظة من الفرحة الغامرة. إذ وجد الباحثون فوضى عارمة في آثار أقدام لمجموعة من الأطفال لا يزيد عمر أكبرهم على ست سنوات. وتركز الآثار الصغيرة حول الانطباعات الكبيرة التي خلفها كسلان أرضي آخر. ويكون الاستنتاج المنطقي، كما يقول بينيت، هو أن الأطفال كانوا ينثرون الماء على بعضهم بعضا في البرك الموحلة المتبقية في آثار أقدام الكسلان العميقة. يقول بينيت: «لطالما أحب الأطفال القفز في البرك. مثل هذه القصص يمكنها ربط الناس بالماضي».
بغض النظر عن الحكايات الجميلة، لا تزال آثار الأقدام قادرة على إثارة المفاجآت عبر الجزء الأكبر من تاريخ البشرية. اتضح أن وايت ساندز قد ينتهي بها الأمر في قلب سؤال واحد يثير الكثير من الجدل: متى بدأ البشر لأول مرة العيش في أمريكا الشمالية؟
لعقود من الزمن، كان يُفترض أن المستوطنين الأوائل كانوا ذوي صلة بأسلوب من الأدوات الحجرية عُثر عليها لأول مرة في موقع آخر في نيو مكسيكو يُدعى كلوفيس Clovis. وهناك إجماع حاليا على أن ثقافة كلوفيس -التي يبلغ عمرها نحو 13,000 عام– ليست أول دليل على النشاط البشري في الأمريكتين. وبدلاً من ذلك، تشير الأدلة الآركيولوجية والجينية المقبولة إلى أن الناس بدؤوا العيش هناك منذ نحو 15,000 عام. ولكن هناك شكاً مزعجاً أن هذه ليست الإجابة النهائية. وجد عدد من الآركيولوجيين دليلاً يزعمون أنه يشير إلى أن البشر كانوا في أمريكا الشمالية قبل آلاف السنين، في ذروة العصر الجليدي الأخير. ومع ذلك، فإن هذه الأدلة متنازع عليها.
كما تقدم وايت ساندز أدلة جديدة. تتكون المنطقة بكاملها من طبقات صخرية من عصور مختلفة مكشوفة في أماكن متنوعة. في أحد الأيام، وجد بينيت وزملاؤه مجموعة من المسارات البشرية عبر التراب وتختفي تحت تل صغير. ويشير هذا إلى أن المسارات كانت أقدم من التل – وخاصة القديمة، في ذلك الوقت. والمهم هو أنه كان بإمكان الباحثين اختبار حدسهم، لأن التراب حول الآثار يحتوي على بذور عشبية يمكن تأريخها بالكربون المشع. وفي سبتمبر 2021 أبلغوا عن النتائج: آثار الأقدام الـ 61 أثرا ترجع إلى فترة تتراوح بين 21,000 و23,000 عام. إنه أكثر الأدلة التي لا جدال فيها حتى الآن على أن إعمار أمريكا حدث في وقت أبكر بكثير مما كنا نظن.
يقول سيبريان أرديلين Ciprian Ardelean من جامعة زاكاتيكاس المستقلة Autonomous University of Zacatecas في المكسيك، الذي عثر أيضاً على أدلة أثرية تشير إلى أن البشر كانوا في الأمريكتين قبل أكثر من 20,000 عام: «الرمال البيضاء اكتشاف رائع». لكنه لا يعتقد أن آثار الأقدام القديمة يجب أن تلقي بظلالها على الأركيولوجيا التقليدية القائمة على المصنوعات اليدوية. غير أنه كان قد أشار سابقاً إلى أن وايت ساندز قد يُنظر إليها على أنها محطة محورية في قصة الأمريكيين الأوائل.
هذا النوع من الإرث لا يهم بينيت. لكنه يأمل بأن يشجع العمل في وايت ساندز آركيولوجيين آخرين على البحث عن آثار أقدام في أماكن أخرى من المنطقة. لأن الجزء الأكثر روعة في هذه القصة هو أن وايت ساندز ربما لا تكون منطقة مميزة في المخطط الكبير للأشياء. إذ يقول بينيت: «هناك العديد من الأحواض الجافة الأخرى في الجنوب الغربي الأمريكي». هذا يعني أنه يمكن أن يكون هناك الملايين من المسارات البشرية المتأحفرة الأخرى، في انتظار سرد قصصها القديمة عما كانت عليه الحياة في الماضي البعيد.
كهف البيسون المقدس
إذا كنت ترغب في قراءة معلومات عن آثار الأقدام، فمن المفيد اللجوء إلى الخبراء. تعتمد بعض مجتمعات السكان الأصليين على قدرتهم على تتبع الحيوانات أثناء الصيد. هذه الحقيقة لم يغفلها العلماء. لأكثر من قرن من الزمن، احتار علماء الآثار بسبب آثار أقدام بشرية تعود لأكثر من 17,000 عام عُثر عليها في كهف «توك دوأُدوبير» في جنوب فرنسا. نتجت العديد من الآثار باستخدام الكعب فقط، مما أدى إلى اقتراح أنها قد تكون دليلاً على بعض الطقوس المرتبطة بنحتين نابضين بالحياة لاثنين من البيسون بالقرب من الآثار. في عام 2013 دعا فريق أوروبي ثلاثة متقصي آثر من شعب جو/هوانسي Ju/’Hoansi في ناميبيا لإلقاء نظرة. وقال دام ديبي (Dam Deb)، مقتفي أثر وأحد أفراد الفريق الثلاثي: «أخبروني أنه كان تحدياً». كانت آثار الأقدام أقدم بكثير من تلك التي يواجهها المتعقبون عادة. ومع ذلك، فقد توصلوا إلى تفسير جديد للأحداث التي وقعت في الكهف منذ آلاف السنين. الآثار لمراهق ورجل في الثلاثينات من عمره كانا منشغلين بجمع الطين من حفرة صغيرة في أرضية الكهف لصنع تمثال البيسون. لماذا سارا على كعبيهما؟ لأنه، كما قال مقتفو الأثر، يمكن للشخص المطلع التعرف على عضو في مجتمعه من أثر قدمه الكامل. والمشي على الكعبين غريب، ولكنه طريقة فعالة لشخص ما لإخفاء هويته – وربما كان ذلك مهما للنحاتين إذا كان للعمل الفني أهمية روحانية. وتقول ميجان بيسيلي Megan Biesele من صندوق شعوب الكالاهاري Kalahari Peoples Fund في أوستن بتكساس، التي شاهدت متقفي الأثر أثناء العمل في فرنسا: «أشعر بأن النهج الذي يستخدمه متقفو الأثر مشابه للطرق التي يستخدمها العلماء الغربيون».
بقلم: كولن بَراس
ترجمة: آمنة عُمر
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.