أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فن

متى بدأ البشر بإنتاج الفن، وهل كان النياندرتال فنانين أيضاً؟

في زيارة لمشاهدة فن الكهوف القديم في إسبانيا، يستكشف مايكل مارشال سبب صعوبة حساب عمر الأعمال الفنية البشرية المبكرة وما إذا كان الهومينون الآخرون قد أنتجوا فنــّاً أيضاً.
عندما نفكر في الفن، فإننا نميل إلى التفكير في الماضي القريب نسبياً. غالباً ما يقال إن فن الكهوف الشهير في لاسكو Lascaux بفرنسا يعود إلى نحو 17,000 عام. ويحتوي الكهف الفرنسي الثاني، شوفيه Chauvet، على لوحات رائعة مماثلة تعود إلى 30 ألف عام أو نحو ذلك – لكن هذا التاريخ مثير للجدل، إذ يقول بعض علماء الآثار إن اللوحات جيدة جداً بحيث ربما لا تكون قديمة. عندما نأخذ نوعنا Species هومو سابينس Homo sapiens بعين الاعتبار فربما يكون عمره أكثر من 300 ألف عام، وجنسنا Homo ربما كان موجوداً منذ أكثر من مليوني عام، حينها تكون عشرات الآلاف من السنين تلك مجرد فترة زمنية قصيرة جداً. لماذا بدأ البشر بالرسم في وقت متأخر جداً في تاريخهم، ولماذا لم يفعل ذلك هومينين Hominin آخرون مثل النياندرتال Neanderthals؟
حسناً، من الممكن أننا أنتجنا فنّاً في وقت أبكر بكثير من ذلك، وأن النياندرتال ومجموعات أخرى مثل دينيسوفان Denisovans فعلوا الشيء نفسه. فهناك عائقان أمام إثبات ذلك: التحيز ضد فكرة أن الهومينين الآخرين يمكنهم أن يعبروا عن أنفسهم بشكل رمزي، والقضايا المتعلقة بالأدلة المادية.
في أوائل شهر يونيو 2022 قضيتُ بضعة أيام مع المصطافين، في «جولة نيوساينتيست للاسكتشاف» New Scientist Discovery Tour تركز على الفن الصخري في عصور ما قبل التاريخ في كهوف شمال إسبانيا. وكان محور الجولة هو كهوف ألتاميرا Altamira، أول مكان عُثر فيه على فن الكهوف الأوروبي في عصور ما قبل التاريخ – وذلك في عام 1879، قبل وقت طويل من اكتشاف لاسكو وشوفيه.

كم عمر فن الكهوف في أوروبا؟
كجزء من تحضيري، حاولت أن أكتشف بقدر ما أستطيع عن معظم كهوف في خط سير الرحلة. ولكنني ظللت أواجه المشكلة نفسها: معرفة إلى أي مدى كانت الأعمال الفنية قديمة. في ألتاميرا، يرجع سبب ذلك إلى أن اللوحات امتدت على فترة طويلة: يبلغ عمر إحداها 36 ألف عام، والأخرى 22 ألف عام، في حين أن القطع الأثرية في الكهف لا يتجاوز عمرها 14 ألف عام.
أما في حالات أخرى، فقد اختلفت تواريخ كل عمل فني. خذ كهف هورنوس دي لا بينيا Hornos de la Peña cave، على سبيل المثال. يحتوي على عدد كبير من نقوش الحيوانات المرسومة بدقة تشريحية مذهلة. يقول الموقع الرسمي للسياحة في إسبانيا إنَّ العمليين الفنيين رُسما على مرحلتين، يعود تاريخ إحداهما إلى ما لا يقل عن 18 ألف عام والأخرى منذ ما يقرب من 15 ألف عام. ومع ذلك، تورد دراسة نُشرت في العام 2014 أن تواريخ الأعمال الفنية تتراوح ما بين نحو 10 آلاف عام مضت إلى أكثر من 30 ألف عام مضت. فجزء من المشكلة هو أنه التدخل بما هو موجود بالكهف: فقد استُخدمه كمأوى في الحرب الأهلية الإسبانية، وتم تعديله فيما بعد لتمكين السياح من الزيارة. وبالمثل، يحتوي كهف إل بندال El Pindal على الكثير من صور الخيول وثور البيسون، مع إضافة سمكة وماموث فيها. مجددا​، لا يوجد تاريخ محدد. يبلغ عمر هذه المواقع السياحية الإسبانية ما بين 13 ألف و18 ألف عام، في حين يحدد فصل في كتاب نشر في العام 2007 كهف إل بندال كواحد من العديد من الكهوف في المنطقة حيث تشكِّل فيها تواريخ الأعمال الفنية إشكالية.
تحدثت إلى أليستير بايك Alistair Pike من جامعة ساوثهامبتون University of Southampton في المملكة المتحدة، الذي درس عصر فن الكهوف، لتوضيح تواريخ اللوحات. أخبرني بأنه تمَّ تأريخ «نسبة ضئيلة جداً» فقط من فن الكهوف.
بعض أسباب ذلك أسباب جيدة. حتى وقت قريب، كانت الطريقة الرئيسية لتحديد عمر قطعة من فن الكهوف هي التأريخ بالكربون المشع Radiocarbon dating. هذا مدمر بطبيعته – عليك أن تكشط عينة من اللوحة- ومن المفهوم أن القيّمين على الكهوف بطيئون في استصدار الإذن. إضافة إلى ذلك، لا ينفع التأريخ بالكربون إلا إذا كانت استخدمت مادة عضوية مثل الفحم في العمل الفني؛ أما في النقوش المحفورة وأي شيء مطلي بالمعادن فقط فلا فائدة منه.
مع الأسف، هناك أيضاً سبب سيء لعدم إجراء التأريخ بالكربون. يقول بايك: «كان الناس يفترضون أنهم يستطيعون معرفة عمر لوحات الكهوف من خلال الأسلوب الذي تم تصويرها به». منذ أن تم العثور على أول فن ما قبل التاريخ في أواخر القرن التاسع عشر، كان هناك شعور بأن الفن يجب أن يتطور خطياً: يجب أن تكون القطع الأقدم بسيطة جدا وتجريدية، وأن تكون الأعمال اللاحقة أكثر مهارة من الناحية الفنية والإبداعية. ومن هنا أُثيرت الشكوك حول شوفيه، على الرغم من أن اللوحات مؤرخة بالكربون.
تم نقض عن هذا الخط من التفكير نقضا شاملا في دراسة نُشرت في العام 2011 من قبل أبريل نويل April Nowell وجنيفيف فون بيتزينغر Genevieve von Petzinger، وكليهما من جامعة فيكتوريا University of Victoria في كولومبيا البريطانية، كندا. وبسؤال الخبراء في كل كهف حول سبب اعتقادهم أن الأعمال الفنية تعود إلى أعمار معينة، اكتشف نويل وفون بيتزنغر حلقة هائلة من المنطق الدائري Circular logic. كان من المفترض أن تكون الأعمال الفنية في الكهوف المنفصلة هي من العمر نفسه لأنها بدت متشابهة، لذلك كان فن «الكهف أ» يبلغ من العمر آلاف السنين لأنه بدا مثل فن «الكهف ب» – باستثناء أن الخبراء في «الكهف ب» كانوا يؤسسون تقديراتهم العمرية على «الكهف أ».
يقول بايك: «دار كل شيء في دائرة كبيرة حقاً. إنها واحدة من أروع الأعمال التي صادفتها على الإطلاق». إذا كانت العديد من الأعمار زائفة، فإن أفكارنا حول من صنع هذا الفن هي أيضاً زائفة.
لقد عاشت سلسلة متعاقبة من الهومينين في أوروبا الغربية، وربما نظريا تكون هي أنتجت فن الكهوف في المنطقة. فالبشر المعاصرون هم أحدث السكان، إذ استقروا بشكل دائم في المنطقة منذ نحو 45 ألف عام بعد الخروج من إفريقيا. قبل ذلك، استوطن النياندرتال أوروبا وغرب آسيا لمئات الآلاف من السنين. وقبل ذلك، كان هناك هومينين آخرون مثل أسلاف هومو.
إذا كان عمر كل فن الكهوف في أوروبا الغربية أقل من 30 ألف عام، فليس من الممكن أن يكون قد أنتج نوعاً غير نوعنا. ولكن في الحالات التي تمكن فيها باحثون مثل بايك من الحصول على تواريخ موثوق بها، لم يكن ذلك دائماً صحيحاً.
في عام 2012 أظهر فريق بايك أن النقط الحمراء على جدار كهف إل كاستيلو El Castillo cave في شمال إسبانيا كان عمرها 40,800 عام على الأقل. وكان هذا قديماً بما يكفي ليقع على الحد: كان النياندرتال لا يزال موجوداً، لذلك من المحتمل أنه رسم تلك النقط.
توصل الفريق إلى هذا باستخدام التأريخ باليورانيوم والثوريوم. هذا لا يعبر عن عمر الفن نفسه، بل عمر طبقة المعدن الرقيقة التي تغطيه. تتشكل هذه الطبقات عندما تتقاطر المياه على جدار الكهف، مما يؤدي إلى ترسيب المعادن التي تتراكم تدريجياً. تخبرنا تقنية التأريخ بوقت تكون الطبقة المعدنية، مما يعطي حداً أدنى لعمر الفن.
في متابعة عام 2018 أرّخ فريق بايك الأعمال الفنية في ثلاثة كهوف إسبانية أخرى. الأول كان كهف لا باسيجا La Pasiega، الذي يقع في التلة نفسها التي يقع فيها كهف إل كاستيلّو. وتبين أن رمزاً من الخطوط الحمراء يبلغ من العمر 64,800 عام على الأقل. والثاني هو كهف مالترافيسو Maltravieso في غرب إسبانيا، حيث أُثبت أن رسومات الأيدي المرسوم بالاستنسل Hand stencil لا يقل عمرها عن 66,7700 عام، مما يجعله أقدم فن كهوف معروف في العالم. أخيراً، تبين أن بعض الطلاء الأحمر على الصواعد Stalagmites في كهف أرداليس Ardales cave على الساحل الجنوبي لإسبانيا يعود إلى 65,500 عام على الأقل.
عندما ذكرت هذه التواريخ للمصطافين في شمال إسبانيا، شهقوا بصوت عالٍ. لقد كانوا جمهوراً واسع الاطلاع ومتفاعلاً، لكن هذه النتائج وأهميتها التحويلية لم تترسخ في الأذهان بعد. إذا كان الفن قديماً بالفعل، فإن التفسير الأكثر منطقية هو أن النياندرتال هو من أنتجها.
تمشيا مع هذا، يشير بايك إلى مواقع أخرى بها أدلة على سلوك النياندرتال سلوكا رمزيا، وهي تضرب في الزمن وصولا إلى عصور ما قبل التاريخ، ولكن تم رفضها سابقاً. في كهف برونيكيل Bruniquel cave في جنوب فرنسا، توجد دائرة حجرية مصنوعة من صواعد مكسورة يبلغ عمرها 175 ألف عام، وأصباغ على قواقع في كهف أفيونيه Aviones في جنوب إسبانيا عمرها 115 ألف سنة. وهناك أدلة على جمع نياندرتال المغرة -وهي صبغة حمراء غالباً ما تستخدم في لوحات الكهوف- في ماستريخت بلفدير Maastricht-Belvédère بهولندا منذ 200 ألف عام على الأقل.

قانون مارشال الأول
كافح فريق بايك لتأريخ المزيد من في السنوات القليلة الماضية، ويرجع ذلك جزئياً إلى جائحة كوفيد19- وجزئياً بسبب «أن الآركيولوجيين الذين لا يريدون للنياندرتال أن يرسم الأعمال الفنية منعونا أساساً من أخذ عينات». ومع ذلك، فهو يأمل بأن تحظى الفرق البحثية الأخرى بمزيد من الحظ، مما يؤدي في النهاية إلى بناء جدول زمني صارم لفن الكهوف. وهو يشك في أن إنتاج الفن قد يمتد إلى السلف المشترك Common ancestor المجهول الذي تشاركناه مع النياندرتال، منذ مئات الآلاف من السنين.
قد يكون الفن مثالاً آخر لما أطلق عليه -في مقالة سابقة- على نحو مبهج قانون مارشال الأول Marshall’s First Law: لا تتفاجأ أبداً عندما يتبين أن شيئاً ما أقدم مما كنت تعتقد. استخدمت دراسة حديثة الذكاء الاصطناعي AI لتحديد الأدلة الخفية على استخدام النار المـُــتحكم فيها في موقع بفلسطين يعود إلى مليون عام – أي بمئات الآلاف من السنين قبل انتشار الأدلة على استخدام النار المُتحكم بها على نطاق واسع. وسأراهن أيضاً على أن الرسم والتعبير الرمزي سيصبحان أقدم مما نظن، وسيتضح ذلك بمجرد أن نبدأ في البحث بشكل صحيح.
الصعوبة الأساسية التي نواجهها هي أن الفن هش. نجت الأشياء الموجودة في الكهوف لأنها كانت بيئات مستقرة جدا – بصورة خاصة إذا انهار المدخل، مما
أدى إلى إبعاد الناس لآلاف السنين. لكن ربما كان الناس يعبرون عن أنفسهم في كل مكان، كما يمكن رؤيته في وادي كوا Côa في البرتغال حيث توجد الآلاف من النقوش في الهواء الطلق منذ ما لا يقل عن 10 آلاف عام. ولا يعدو الأمر أن معظم الفن الخارجي قد تآكل منذ فترة طويلة. يقول بايك: «كانت رسومات المناظر الطبيعية مليئة بالرموز، ولم ينجُ منها سوى عدد قليل جداً».

بقلم مايكل مارشال

ترجمة Google Translate

© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى