لقد بدأنا للتو فهمَ أسباب الألم المُصْطَنَع
هـذا النـوع الجديد مـن الألم غـير مفهـومٍ فهماً جيداً، إذ لا توجد غـالباً عـلامـاتٌ على الإصابة، لكن كما يوضِّح غراهام لاوتون في هذه القصة الشخصية، فقد بدأنا أخيراً شق طريقنا نحو الفهم
أدركنا أن شيئاً غريباً كان يحدث حين أُعطيتْ زوجتي كلير Clare المورفين وريدياً في قسم الإسعاف. كانت تعاني آلاماً مبرحةً في القفص الصدري والظهر بدأَتْ قبل ذلك بأشهرٍ وتفاقمت. عندما كان الألم يصل ذروته، وصفَتْ أنّها تشعر كأن شخصاً غرز سيفين بين ضلعيها وصار يباعد كلاً منهما عن الآخر.
لكنّ المورفين لم يخفف الألم. فصار الأطباء في حيرةٍ من أمرهم. أُخضعت كلير لاختبارات طبية على مدى خمسة أيامٍ. خُرِّجَتْ في النهاية من المستشفى بتشخيص متلازمة مركب الألم الناحي Complex regional pain syndrome وكيسٍ من مضادات الاكتئاب القوية والحبوب المنومة والأدوية المضادة للقلق.
لم تكن تعاني متلازمة مركب الألم الناحي Complex regional pain syndrome. بحثْتُ في الأمر ولم يكن الألم في المكان الذي يجب أن يكون فيه. لكن الأمر استغرق ستة أسابيع أخرى لمعرفة ما كانت تعانيه فعلاً، وفي هذه الفترة تدهورت صحتها الجسدية والعقلية تدهوراً مقلقاً. أمّنْتُ في النهاية استشارةً مع فريق علاج الألم المركب في مستشفى الكليّة الجامعية University College Hospital في لندن London، الذي أخبرنا أنها تعاني ألماً مُصْطَنَعاً Nociplastic pain.
أوضح قائد الفريق فاوستو موريل دوكوس Fausto Morell-Ducos أنّ الألم المُصْطَنَع هو «النوع الثالث من الألم». الأول هو الألم بمستقبلات الأذية Nociceptive pain، والذي يستجيب لإصابةٍ أو التهابٍ Inflammation. والثاني هو ألم اعتلال الأعصاب Neuropathic pain الناجم عن تلف الأعصاب الحسية. يُنشِئُ الدماغُ كليهما ليكوِّن آليةً دفاعيةً ضد ازدياد الإصابات. يقيِّم الدماغ الإشارات الصادرة عن الجزء المتضرر من الجسم ويرسِل التعليمات إلى موقع الضرر الذي يولِّد مستوى مناسباً من الألم.
من الصعب تقدير الانتشار لأن عديداً من الأشخاص المصابين بالألم المُصْطَنَع يعانون أحد نوعي الألم الآخرَين
يحدث الألم المُصْطَنَعُ حين يضطربُ هذا النظام، وهي حالةٌ تُعْرَفُ باسم التحسس المركزي Central sensitisation. يصير مَرْكَز الألم في الدماغ شديد التنبه ويستجيب استجابةً غير متناسبةٍ للإصابات أو الالتهابات الطفيفة، مما يحوِّلها إلى ألمٍ مُبَرِّحٍ. في بعض الحالات لا ترسل مستقبلات الأذية إشارات الألم إلى الدماغ على الإطلاق، لكن الدماغ يستمر في إرسال إشاراتِ الألم الشديد. يمكن أيضاً أن تتحول الحالات العقلية السلبية، مثل القلق أو التعب، إلى ألمٍ. في حالة كلير، أدّى الألم إلى القلق، الذي أدى إلى مزيدٍ من الألم في حلقةٍ مفرغةٍ من العذاب.
إعادة تصنيف الألم
تأخَّرَتْ إضافةُ الألم المُصْطَنَعُ إلى تصنيف الرابطة الدولية لدراسة الألم International Association for the Study of Pain حتى العام 2017. هناك عديد من الفئات الفرعية، بما في ذلك الألم العضلي الليفي Fibromyalgia والآلام العضلية الهيكلية الأولية المزمنة Chronic primary musculoskeletal pain. هذا الأخير هو ما أصاب كلير.
من الصعب تقدير الانتشار Prevalence لأن عديداً من الأشخاص المصابين بالألم المُصْطَنَع يعانون أحد نوعي الألم الآخرَين أيضاً. لكن وفقاً لماري آن فيتزتشارلز Mary-Ann Fitzcharles من جامعة مكغيل McGill University في مونتريال Montreal بكندا، يمكن أن تصل النسبة إلى 15 % من عامة السكان، واحتمال إصابة النساء بهذه الحالة أكبر.
يعتقد اختصاصيو الألم أن هناك طريقتين لتَشَكُّلِ الألم المُصْطَنَع. الأولى هي من أسفل إلى أعلى، إذ يؤدي الألم «العادي» إلى تفعيلٍ هائلٍ غير متناسبٍ مع حجم الألم. بدأ الأمر مع كلير بهذه الطريقة، بإصابةٍ. الأخرى هي من أعلى إلى أسفل، وهنا لا يوجد مُحَفِّزٌ واضحٌ. تقول فيتزتشارلز: «في هذا السياق، نعتقد أن الشذوذ الأساسي يتركز في الجهاز العصبي».
وتقول إنَّ الأطباء غير مدركين بالألم المُصْطَنَعِ ويواجهون مشقةً في فهمه. «نود نحن الأطباء أن يكون في مقدورنا إجراء اختبارٍ يمكن أن يوجهنا إلى التشخيص. من الصعب فعلاً رؤية شخصٍ يبدو معافًى تماماً، فقد يكون الفحص طبيعياً بنسبة 100 %، لكن هذا الشخص يعاني في صمتٍ».
خيارات العلاج محدودةٌ. ليستْ هناك عصا سحريهٌ؛ لا يوجد دواءٌ أو جراحةٌ أو علاجٌ كلامي يمكنه عكس ذلك بسرعةٍ. وُصِفَتْ لكلير مضادات الاكتئاب، وهي الفئة الوحيدة من الأدوية التي يوصي بها المعهد الوطني للصحة وجودة الرعاية National Institute for Health and Care Excellence (اختصاراً: المعهد NICE) في المملكة المتحدة. ساعدتها هذه الأدوية، فترةً من الزمن.
تقول فيتزتشارلز: «ليس لدينا تدابير علاجية محددة». والتركيز الرئيسي للعلاج هو التدخلات غير الدوائية، مثل التأمُّل اليقِظِ Mindfulness meditation أو دفعاتٍ صغيرةٍ من الأنشطة التي تجلب السرور، مصمَّمةٍ لإعادة برمجة الدماغ المهووس بالألم إلى إعداداته الأساسية. يوصي المعهد NICE بالعلاج السلوكي المعرفي Cognitive Behavioural therapy وبالوخز بالإبر Acupuncture أيضاً.
مارسَت كلير اليقظة Mindfulness وحاولت أن تجد شيئاً من السرور. كانتْ تحب أن تكون في أحضان الطبيعة، وأن تذهب للسباحة وجلسات تدليك القدمين. فعلنا من هذه الأشياء ما أمكنها تحمُّله، لكن هذا أدى في كثيرٍ من الأحيان إلى اشتداد نوبات الألم. وعندما كان يحدث ذلك، تصبح طريحة الفراش، في ألمٍ مبرحٍ، تجتر محنتها. تحوَّلَتْ الحفرة التي وجدت نفسها فيها إلى هاويةٍ. اعتقدَتْ أنّه لا مجال لمساعدتها، وحاولَتْ الانتحار ثلاث مراتٍ. ونجحَتْ في ذلك في أغسطس.
هذه نتيجةٌ غير شائعةٍ لحسن الحظ – تقول فيتزتشارلز إنّ معظم الأشخاص يستعيدون الحد الأدنى من نوعية الحياة على الأقل، على الرغم من أن معظمهم يظلّ يعاني بعض الآلام ويصاب بنوبات اشتدادٍ. يفكِّرُ ما يصل إلى 20 % من الأشخاص الذين يعانون الألم المزمن في الانتحار، و5 إلى 14 % يحاولون الانتحار.
لقد فات الأوان بالنسبة إلى كلير، لكن الأمل لا يزال موجوداً. بدأ علماء الأعصاب يفهمون كيفية اختلال الدارات العصبية Neural circuits. تعمل الشركات الدوائية على تطوير الأدوية. تقول فيتزتشارلز: «يجري الآن كثير من العمل الرائع، الذي نأمل أن يؤدي إلى استراتيجيات علاجٍ جديدةٍ». فلنأمل أن يتحقق ذلك قريباً.
هل تحتاج إلى من يصغي إليك؟ منظمة ساماريتان Samaritans البريطانية: 116123؛ الخط الوطني لمنع الانتحار National Suicide Prevention Lifeline في الولايات المتحدة: 1 800 273 8255؛ الخطوط الساخنة في الكويت 22440904-22402401.
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC