أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
ملف خاص

كشف أسرار المومياءات من الجرار القديمة

العلماء اكتشفوا المواد الكيميائية المستخدمة على الجثث في ورشة تحنيط عمرها 2700 عام

بالنسبة إلى المصريين القدماء، كان التحنيط Mummification عملية روحية مشبعة بالمعنى العميق. وتشير النصوص القديمة إلى أن الأمر استغرق 70 يوماً، إضافة إلى طقوس وصلوات محددة بعناية، لإعداد المتوفى للحياة الأبدية. كما تطلب مهارات متخصصة، وقوائم طويلة من المكونات، وفئة محترفة من المحنطين ضاربة في المعرفة الدينية والكيميائية.

ولكن ما تمت إضافته – أو مسحه، وأو تمشيطه، أو لفه – إلى الأجساد المحنطة نفسها ظل في الغالب مجرد تخمين من جانب العلماء المعاصرين. يقول فيليب ستوكهامر Philipp Stockhammer، الآركيولوجي من جامعة لودفيج ماكسيميليان Ludwig Maximilian University في ميونيخ: «لا يوجد دليل نصي تقريباً… كيف يعمل هذا، وكيف يتم خلط المواد، وما كانت أسماؤها – فكل هذا غير معروف».

غير أن ذلك تغير مع دراسة نشرها ستوكهامر وزملاؤه في دورية نيتشر Nature الأسبوع الأول من فبراير 2023. فمن خلال تحديد المخلفات في الجرار الموسومة بعلامات والموجودة في ورشة التحنيط المصرية القديمة، تمكن الباحثون من اكتشاف العملية التي تنطوي على كيمياء معقدة ومكونات غريبة، بما في ذلك الراتنجات (الصمغ) Resins التي تم الحصول عليها من قارة بعيدة. تقول باربرا هوبر Barbara Huber، الآركيولوجية من معهد ماكس بلانك لأنثروبولوجيا الأرض Max Planck Institute for Geoanthropology والتي لم تشارك في البحث: «يمكنك في الواقع النظر إلى الأوعية ورؤية الذي لا يزال موجودا بداخلها».

ظهر الدليل الجديد من مجمع دفن Burial complex عمره 2,700 عام (664 – 525 قبل الميلاد) جنوب القاهرة يسمى سقارة. في عام 2016، عثر رمضان حسين، الآركيولوجي من جامعة تيوبنغن University of Tübingen، الذي توفي في ربيع عام 2022، على حُفر ضحلة فوق الأرض حيث كان من الممكن أن يغطى الموتى بالناترون Natron، وهو خليط ملحي يستخدم لتجفيف الجسم بعد الموت. وفي قعر بئر Shaft مجاورة كانت هناك غرفة تحت مستوى سطح الأرض مجهزة بكوات حجرية مسطحة لحفظ الجثث – ورشة عمل لإعداد المومياوات. يقول ستيفن باكليStephen Buckley ، الآركيولوجي من جامعة يورك: «إنه أول دليل مادي على الأماكن التي عملوا فيها». في أسفل البئر، وعلى عمق 30 متراً، كانت هناك غرف الدفن. 

كان من الممكن دفن الجثة التي بدأت عملية تحنيطها في الجزء العلوي من «منزل الجنازة» Funeral home مباشرة تحته، على الأرجح بعد قضاء أسابيع قليلة في تحضيرها في الغرفة الموجودة تحت الأرض. يقول ستوكهامر: «كانت ورشة تحنيط محلية للطبقة العليا من المجتمع».

كانت البئر مملوءًة بالتراب والصخور – وعشرات من أوعية التحنيط التي يبدو أنه تم التخلص منها بشكل طقسي بعد أن استخدمها العمال. وقال حسين في مقابلة قبل وفاته: «لقد حولوها إلى مخبأ للأدوات… فقد وجدنا أكوابا وأوعية وأطباقا ومباخر عليها أسماء زيوت وموادَّ تستخدم في التحنيط».

استخدم الباحثون مثقاب طبيب الأسنان لإزالة شظايا بحجم عملات معدنية بسمك بضع ملليمترات من داخل الحاويات، ثم حللوا تركيبها الكيميائي باستخدام التحليل الكروماتوغرافي الغازي Gas chromatography – مقياس الطيف الكتلي Chromatography-mass spectrometry. وكانت الدراسات السابقة قد حللت المومياءات من مجموعات المتاحف وحددت المواد الكيميائية للتحنيط بما في ذلك راتنجات الأشجار والبيتومين (القار). ولكن هذه هي أول دراسة تفحص الأوعية الموجودة في سياق ورشة التحنيط.

كشف التحليل عن آثار للدهون الحيوانية، وشمع العسل، والزيوت النباتية، والبيتومين، إضافة إلى راتنجات نباتية متعددة – المكونات التي ربما كانت تُخلط وتُسخن لتكوين المراهم. وبفضل خصائص هذه المواد كان من السهل استخلاصها من الأواني الفخارية حتى بعد آلاف السنين. يقول ستوكهامر: «كلما كانت البقايا دهنية ولزجة، كانت النتائج أفضل». «كان المواد محفوظة حفظا عضويا جيدا، وكانت لدينا بقايا محفوظا جيداً أيضا».

بعد غمر الجثث في النترون، كانت الجثث تُعالج بمخاليط لزجة لعزل الجلد ومنع النخر والتحلل بفعل البكتيريا. ويقول ستوكهامر: «المواد التي وجدناها لها وظيفة مضادة للبكتيريا… إنه الجزء الأكثر تعقيداً في العملية، حيث تبدأ الكيمياء حقاً». ربما كان بعض المراهم تمسح مباشرة على الجثث؛ ربما وضع البعض الآخر منها على ضمادات الكتان، والتي ربما غُمِست مباشرة في أوعية -مثل «وعاء السمك» Goldfish bowl- ذات فتحات واسعة.

فبعض الأواني لا تزال عليها بقع من الخارج من الانسكابات ورذاذ السوائل المتساقط من أوشحة المومياء الرطبة. كما تحمل العديد من الأواني أيضاً ملصقات موسومة بأسماء مكونات معينة -مثل أنتيو Antiu أو سيفيت Sefet – أو تعطي أوصافاً أكثر عمومية، مثل «لجعل رائحته لطيفة» و«علاج الرأس». يقول هوبر: «لأول مرة، لديك علاقة مباشرة بين النص وبقايا معينة… لا أعرف ما إذا كانت هناك دراسة حالة أفضل من العثور على المواد والنصوص معاً».

قد تتطلب الاكتشافات إعادة تقييم النصوص المصرية القديمة. فكلمة أنتيو Antiu، على سبيل المثال، تظهر آلاف المرات في المصادر المصرية، ولأكثر من قرن اعتقد علماء المصريات Egyptology أنها تشير إلى المُرّ Myrth، وهو مادة صمغية من شجرة شوكية معينة. لكن الأواني التي كُتب عليها Antiu في ورشة التحنيط تحتوي على مواد أخرى – وعلى الأخص مشتقات من شجرة الأرز Cedar، التي كان مصدرها في ذلك الوقت من جبال لبنان. قال حسين قبل وفاته: «من المحتمل أن تكون Antiu مجرد كلمة عامة للراتنج». أما كلمة سيفيت Sefet، الموصوف بأنه أحد «الزيوت المقدسة السبعة» في العديد من النصوص القديمة، تبين أنه خليط من مستخلصات شجر السرو Cypress أو راتينج العرعر Juniper والدهون الحيوانية.

حدد الباحثون أيضاً المزيد من المكونات الغريبة، بما في ذلك الراتنجات المستخرجة من الأخشاب الصلبة التي تعيش في الغابات المطيرة في جنوب شرق آسيا على بعد آلاف الكيلومترات من مصر القديمة. في ذلك الوقت، كان الأَرْز والفستق يستوردان من جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط، والبيتومين من البحر الميت. ويقول ستوكهامر: «تقريباً جاءت جميع الأشياء التي يحتاج إليها المحنطون من خارج مصر… وأنت بحاجة إلى الكثير من هذه المواد لإعداد المومياء وتحنيطها، وليس فقط بضعة غرامات. حتى لو كان مجرد بضعة آلاف من الأفراد في العام يتمتعون بمكانة عالية بما يكفي لتحنيطهم، فلا يزال هناك الكثير من المواد التي ينبغي استيرادها. التحنيط هو الذي دفع العولمة».

ربما تم اختيار المواد نفسها على وجه التحديد لأنه كان من الصعب الحصول عليها. إذ يقول باكلي: «ربما تم استخدام بعض المواد ليس لأنها كانت أكثر فاعلية، ولكن لأنها كانت غريبة، ‘انظر إلى حجم عالمي لدرجة إنه يمكنني الحصول على أي شيء من مكان بعيد جداً’».

يحذر بعض العلماء من أن مركبات التحنيط يمكن أن تتحلل وتتغير بمرور الوقت، مما قد يؤثر في نتائج التحليل. فكما تقول كيت فولشر Kate Fulcher، عالمة التراث في المتحف البريطاني British Museum: «ربما يكونون قد ذهبوا بعيداً قليلاً في تفسير ماهية المواد التي عثروا عليها… لم يقم أحد بتجربة متحكم فيها Contorled تترك الراتنج ليُعمّر مدة 3 آلاف عام ورأينا كيف تدهورت هذه المواد- لا نعرف كيف تبدو هذه المركبات الكيميائية بعد وقت طويل كهذا الوقت».

لكن الفن الكيميائي وراء البقايا المتبقية على الأواني لا لبس فيه، ويعكس المعرفة الدقيقة بالمكونات ودرجات الحرارة وأوقات الطهي على مدى مئات، إن لم يكن آلاف السنين. يقول ستوكهامر: «أمضى المصريون القدماء أكثر من ألفي عام في محاولة تحسين الحفاظ على جسم الإنسان – أي ألفي عام في محاولة تحسين سير العمل… والمعرفة الكيميائية التي لا بد أنها كانت لديهم في ورشة العمل هذه كانت مذهلة».

© 2023, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved

بقلم أندرو كوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى