لقد توصلنا أخيراً إلى موقع أرض البنط التي زودت الفراعنة بنفائسهم
أرض البنط هي أرض غامضة ابتاع المصريون منها الذهب والبخور والمقتنيات الفاخرة، وأخيراً تم تحديد موقعها بفضل الحمض النووي المستخلص من مومياوات البابون
من أين تشتري هدية للفراعنة الذين يمتلكون كل شيء؟ كانت لدى المصريين القدماء الإجابة: في بلاد البنط (بلاد البونت) Punt توجد البضائع الفاخرة المناسبة. في تلك الأراضي البعيدة الغامضة يمكنك الحصول على جميع الذهب والبخور وصمغ المر التي قد يرغب بها الفراعنة. وإضافة إلى ذلك كله، يمكنك أيضاً أن تحصل على نسناس أو نسناسين من البابون.
النصوص الهيروغليفية غامضة بشكل لا يوصف حول مكان تلك الأرض الرائعة، مما يعني أن صيد البابون لا يزال واحداً من أكثر الألغاز غموضاً في علم المصريات
لقد علمنا منذ وقت طويل بوجود أرض البنط، وهي شريك تجاري للقدماء المصريين، حصلوا منها على المجوهرات الثمينة والبهارات والعاج والحيوانات. لكن النصوص الهيروغليفية غامضة بشكل لا يوصف حول مكان تلك الأرض الرائعة، مما يعني أن صيد البابون لا يزال واحداً من أكثر الألغاز غموضاً في علم المصريات. لكن الآن، وأخيراً، قد نستطيع تحديد مكانها بالضبط. والمثير للدهشة أن الدليل الحاسم لم يستنبط من خريطة قديمة اكتشفت حديثاً، بل حرفياً من فم أحد نسانيس البابون في بلاد البنط.
لقد بدأ المصريون القدماء بالإبحار نحو أرض البنط للمرة الأولى قبل 4500 سنة، واستمروا بزيارة تلك الأرض بصورة مستمرة لمدة 1300 سنة. في بلاد البنط، باع المصريون الحبوب والكتان والبضائع الأخرى مقابل شراء البخور والأخشاب الصلبة وكل المنتجات الغريبة التي كان من الصعب أو من المستحيل العثور عليها في مصر. ويقول ناثانيال دومينيNathaniel Dominy من كلية دارتموث Dartmouth في نيو هامبشاير New Hampshire إن: «بعض الدارسين يصفون التجارة بين مصر وأرض البنط بمصدر النظام التجاري العالمي المسالم، لذا فالأمر بتلك الأهمية».
ولكنّ هناك وجهاً آخر لبلاد البنط. خذ، على سبيل المثال، قصة الملاح التائه The Tale of the Shipwrecked Sailor وهي قصة مصرية قديمة تبلغ من العمر 4000 سنة وتعد أقدم عمل خيالي في العالم. فأحداث القصة تدور حول بحار تقطعت به السبل على جزيرة خيالية. وهناك يلتقي بأفعى عملاقة تعرف نفسها على أنها حاكمة بلاد البنط. في النهاية يُنقذ البحار، ولكن ليس قبل أن تمطره الأفعى بالهدايا (بما في ذلك نسانيس البابون) وتخبره: «لن ترى من هذه الجزيرة شيئاً بعد اليوم، فمصيرها إلى الأمواج كائن».
إضافة إلى بعض الإشارات الشعرية إلى بلاد البنط، تخبرنا تلك القصة بأن المصريين القدماء اعتبروا البنط أرضاً خيالية أو مكاناً من عالم آخر. ويقول بيتر دورمان Peter Dorman من جامعة شيكاغو: «كان يشار إلى البنط بأرض الآلهة؛ مكان خيالي بين هذه الأرض وبين عالم الآلهة». قد تكون هناك عدة أسباب وراء ذلك؛ فقد كانت بنط مصدراً رئيسيّاً للبخور التي اعتبرها المصريون القدماء وسيلة مهمة في التواصل مع الآلهة أثناء تأدية الشعائر في المعابد. ولكن المصريين لم يزوروا أرض البنط سوى قليلا، حيث كانت بعيدة جداً عنهم. تقول كاثرين بارد Kathryn Bard من جامعة بوسطن في ماساتشوستس: «هؤلاء الذين كانوا يعرفونها لم يعرفوا بالضرورة أي معلومة مباشرة عن مكانها. يبدو الأمر كأنها كانت كياناً أسطوريّاً».
خلال البحث الحالي عن بلاد البنط، التفت علماء الأثار إلى الدليل الذي تركه قدماء المصريين. فقد تمت أفضل رحلة استكشافية موثقة إلى بنط نحو عام 1470 قبل الميلاد في عهد الملكة الفرعونية حتشبسوت، وأرّخ المصريون الرحلة في سلسلة من النقوش التصويرية المنحوتة على جدران معبد بالقرب من الأقصر بمصر.
تظهر النقوش المصريين وهم يبحرون نحو بلاد البنط، وهم عائدون بالبضائع، ومن ثم وهم يقدمونها بعد ذلك إلى حتشبسوت. تُصوَّر بلاد البنط على أنها أرض غريبة من أشجار النخيل اليانعة، تتخللها مبانٍ مميزة على شكل عيش الغراب ومرفوعة على ركائز متينة ويمكن الوصول إليها باستخدام سلالم.
لاحظ العلماء ذوو البصائر الثاقبة أن القوارب المصرية كانت تفتقر إلى العارضة Keel، مما يعني أنها كانت عرضة للانقلاب بين الأمواج الهائجة. في أواخر التسعينات القرن العشرين، استنتجوا أن القوارب كانت غير مناسبة للإبحار. ولكن الجدال استمر؛ لا بد أن المصريين وصلوا إلى بلاد البنط عن طريق الإبحار عبر نهر النيل، مما يشير إلى أن بنط كانت تقع في المناطق الغنية بالموارد فيما يعرف الآن بغرب أوغندا أي على بعد نحو 4,000 كيلومتر جنوب مصر.
لكن منذ ذلك الحين، تراجعت الفكرة ولسبب وجيه؛ بين عامي 2001 و2011، أجرت بارد وزميلها الراحل رودولفو فاتوفيتش Rodolfo Fattovich عمليات تنقيب في مرسى جواسيس Mersa Gawasis على ساحل البحر الأحمر في مصر، وهو موقع يُعتقد أنه كان ميناءً قديماً بالفعل. في عام 2005، عثر الباحثان على لوح حجري وضع هناك لتخليد ذكرى رحلة تمت نزولاً على رغبة الفرعون أمنمحات الثالث في القرن التاسع عشر قبل الميلاد. كُتب على الحجر: «لقد أمرني جلالته بأن أذهب لأشرف على رحلة كبير الخدم الملكيين سنبف Senbef إلى بلاد البنط لأنني أسعُد قلب جلالته».
يقول دوميني إننا ندرك من ذلك بوضوح أن هذا هو الميناء الذي كان تقلع منه سفنهم إلى بلاد البنط، «إنه أمر مذهل؛ لا يمكنك الحصول على دليل أفضل من هذا».
أو ربما يمكنك ذلك! لأنه في مكان آخر بالموقع، اكتشف فريق بارد وفاتوفيتش 43 صندوقا خشبيا للبضائع يعود تاريخها إلى عهد خليفة أمنمحات الثالث وأمنمحات الرابع. تقول بارد: «كانت هناك نقوش بالهيروغليفية على اثنين منها تشير إلى أنها تحتوي على نفائس رائعة من البنط». كانت الصناديق فارغة، لكنها تعتقد أنها كانت تحتوي على بخور.
تقول بارد إن الاكتشافات في مرسى جواسيس وُصفت بأنها «تقضي تماماً على الفكرة القائلة إنهم كانوا يصلون إلى البنط عبر طريق نهري». ولكن على الرغم من عظمة الاكتشافات، لا تزال لا تخبرنا عن موقع البنط بالتحديد؛ فمن الناحية النظرية، قد
تكون في أي مكان على الساحل الإفريقي أو العربي للبحر الأحمر.
منذ نحو 20 عاماً، ظهر دليل آخر: نقش على جدار مقبرة مصرية قديمة من أوائل القرن السادس عشر قبل الميلاد. يخبرنا النقش كيف تعرض المصريون مؤخراً للهجوم من قبل الكوشيين Kushites، الذين نعلم أنهم عاشوا في جنوب مصر فيما يعرف الآن بالسودان. وكان جلياً أن الكوشيين قد استعانوا بمساعدة جيرانهم. طبقاً للنقش: »الحقير الكوشي…أثار قبائل الواوات Wawat، وسكان جزر خنتنيفر Khenthennefer والبنط». تقول بارد: »في رأيي، هذا دليل جيد على أن بنط كانت على الجانب الإفريقي من البحر الأحمر».
إضافة إلى ذلك، نقّب علماء الآثار الإيطاليون خلال العقود القليلة الماضية في موقع بالقرب من كسلا Kassala، بالقرب من الحدود الحالية بين السودان وإريتريا. وتقول بارد إنهم اكتشفوا الكثير من الأدلة على شظايا الفخار المصري القديم وغيرها من السلع التجارية، مما يجعلها موقعاً مرجحاً لبلاد البنط.
بسبب هذا الدليل، كتب فاتوفيتش في ورقة نُشرت بعد وفاته في عام 2018 أنه «قد تمَّ حل مشكلة موقع بلاد البنط». تتفق بارد مع تقييم فاتوفيتش، إنها تعتقد أن موانئ البنط تقع على الأرجح على طول ساحل ما يعرف الآن بإريتريا، وتقول: «ربما كانت تقع مناطق البنط النائية فيما يعرف الآن بمنطقة كسلا في شرق السودان، فهناك مصادر للذهب وكذلك أشجار البخور»
ومع ذلك، لم يحسم الأمر بعد. يقول جاك فليبيس Jack Phillips من مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية School of Oriental and African Studies (اختصارا: المدرسة SOAS) بلندن: «لا يزال يتعين علينا مناقشة الخيارات؛ الأدلة المصرية التي توضح موقع بنط تختلف وتناقض بعضها أحياناً مع مرور الوقت». ربما لأن بنط كانت عدة مواقع مختلفة. في بعض الأحيان، كانت تفصل بين الرحلات الاستكشافية المعروفة إلى البنط قرون من الزمن، لذلك لا يمكننا التأكد من أن المصريين كانوا يعودون إلى المكان نفسه بالضبط في كل مرة. وقد تكون بنط هو الاسم الذي أطلقه المصريون على أي مكان على طول ساحل البحر الأحمر حيث يمكنهم الحصول على المنتجات الغريبة.
وحتى لو أردنا الوصول إلى البنط، أو إلى نسخة واحدة منها، فلا يزال هناك شيء مفقود. ماذا حدث لـ «للنفائس الرائعة» التي حصل عليها المصريون القدماء هناك؟
نسانيس بابون من البنط
هنا يدخل البابون إلى المشهد. كانت هذه الحيوانات تعني الكثير بالنسبة إلى قدماء المصريين. وكرموها على أنها تجسيد لإله الحكمة المصري تحوت، كما تمت العناية بالبابون وتحنيطه بعد وفاته. وهو أمر مثير للفضول نظراً إلى أن الرئيسيات Primates ليست من الحيوانات الفطرية في مصر. إذن، من أين حصل المصريون القدماء على البابون؟
لمعرفة ذلك، حلّل دوميني وزملاؤه بقايا اثنين من البابون (بابيو همدرياس Papio Hamadryas)، كلاهما يتراوح عمره بين 3200 و3500 عام، تم العثور عليهما في مصر في القرن التاسع عشر وهما الآن في المتحف البريطاني في لندن.
ركز الباحثون على نظائر السترونشيوم isotopes of strontium في أسنان إحداهما، ونظائر الأكسجين في الفراء المحنط للحيوان الثاني. وأظهرت التحليلات التي نُشرت في عام 2020، أن كلا البابونين يحمل سمات نظائرية على عكس تلك المتوقعة من الحيوانات التي ولدت ونشأت في مصر، ولكنها تشبه تلك الخاصة بالحيوانات التي تأتي من أجزاء من الصومال ومعظم ما يُعرف حالياً بإثيوبيا وجيبوتي وإريتريا.
طبقاً لدوميني، النتيجة الجلية هو أن البابون جاءت من البنط. ولذلك يجادل دوميني في أن نسناسين البابون هذين هما أول كائنات نعرف أنها من بلاد البنط والتي تم العثور عليها في مصر. يقول: «هناك أشياء أخرى محيرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالبنط، ولكن على حد علمي، لا يوجد في الواقع أي عينة أخرى للمقارنة سوى نسانيس البابون هذه».
لا توافق بارد على أن نسانيس البابون هي أول كائنات بلاد البنط المعروفة، وتقول إن الحفريات في مرسى جواسيس كشفت عن شظايا سبج وخشب الأبنوس التي وجد علماء الآثار أن مصادرها من إريتريا. فعلى الرغم من هذا الخلاف البسيط، إلا أن بارد تحترم عمل دوميني كثيراً، تقول: «أحترم تحليلاته كثيراً».
في عمل منفصل على أنواع مختلفة من نسانيس البابون، حللت جيزيلا كوب Gisela Kopp من جامعة كونستانز Konstanz بألمانيا الحمض النووي القديم من مومياوات بابون من مصر، والتي يبلغ عمرها نحو 2700 عام. فقد كانت جميع الحيوانات تنتمي إلى فترة ما بعد تعامل المصريين مع البنط. لم يتضح بالضبط سبب انتهاء التجارة أو ما حدث لبلاد البنط، ولكن هناك إشارات في الحمض النووي على أن واحدة على الأقل من الحيوانات المحنطة تعود جيناتها إلى إريتريا؛ مما يشير إلى أن المصريين استمروا بالإبحار نحو البحر الأحمر على الأرجح لجمع نسانيس البابون حتى بعد اندثار بلاد البنط نفسها.
مما يتركنا مع لغز واحد فقط: لماذا كان قدماء المصريين يقدرون نسانيس البابون لهذه الدرجة؟ فعلى الرغم من شهرتها بتدمير المحاصيل وحمل الأمراض أحياناً.
كان دوميني مفتوناً باقتراح اقترح في أواخر سبعينات القرن العشرين: عندما صادف المصريون القدماء نسانيس البابون لأول مرة، لاحظوا أن لديها عادة التشمس في ضوء الفجر، وقد فسر المصريون هذا كدليل على ترحيب نسانيس البابون بإله الشمس، رع، مما أعطاهم شعوراً بأنها حيوانات ذات صلات إلهية.
يقول دوميني: «إنها فكرة مدهشة بالنسبة لي بصفتي عالم رئيسيات»، على الرغم من أنه لم تتم دراستها رسمياً حتى الآن.
ربما لا نعرف على وجه اليقين أبداً ما كان يفكر فيه المصريون القدماء عندما قرروا عبادة نسانيس البابون من البنط. على الصعيد الآخر، يشير دوميني إلى أنه لا يسعنا إلا أن نتخيل ما صنعه سكان البنط من هذه الممارسة. اعتبر قدماء المصريين بلاد البنط أرضاً غير عادية بسبب المنتجات التي يمكن الحصول عليها من هناك. وربما كان سكان بنط يقدّرون مصر القديمة بذات القدر بسبب العادة المحيرة للمصريين المتمثلة بتبجيل الرئيسات المزعجة.
© 2022, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.
بقلم كولين باراس