ارتفاع مستوى مياه البحيرات في معظم أنحاء العالم، والتغير المناخي هو المذنب الرئيس
ارتفاع سريع ومخيف في مستويات المياه بالبحيرات في شرق إفريقيا، مما أدى إلى غرق المنازل والأراضي الزراعية وتشريد المواطنين؛ نتيجة غير متوقعة للاحترار العالمي تتكشف في معظم أنحاء العالم
بقلم غراهام لوتون
على ضفاف بحيرة بارينغو Baringo في كينيا، هناك كارثة آخذه بالتشكّل ببطء. على مدار العقد الماضي، ارتفع منسوب المياه بانتظام، فابتلع معه المنازل والمتاجر والمراكز الصحية والمراحيض وإمدادات الكهرباء والأراضي الزراعية والمنتجعات السياحية وغيرها. كما ازداد معدل الإصابة بالملاريا والكوليرا والتيفوئيد والدوسنتاريا. وصارت الحياة الفطرية في خطر، واندلع الصراع بين الناس والحيوانات، كما تجددت النزاعات القديمة بين الجماعات المجاورة مرة أخرى.
منذ أن بدأ المنسوب بالارتفاع، ازادت مساحة سطح بحيرة بارينغو بنسبة تفوق الضعف، لكن هذه ليست الحالة الوحيدة. فعبر الوادي المتصدع في شرق إفريقيا East African Rift valley، تتسلل مياه البحيرات لمستويات أعلى من رؤوس الحيوانات والبشر. وبينما تتصدر حالة شرق إفريقيا الموقف، فإن الكثير من الأماكن في العالم آخذه باللحاق بها. فالبحيرات العظمى في أمريكا الشمالية ترتفع هي الأخرى. وإجمالاً، فقد توسعت مساحة البحيرات في معظم أنحاء العالم لتشغل مساحة إضافية قدرها 46,000 كيلومتر مربع منذ عام 1984، أي ما يقرب من مساحة دولة الدنمارك.
عندما نتحدث عن المسطحات المائية الداخلية الآخذة بالتضاؤل كبحر آرال Aral Sea في آسيا الوسطى، فإن بحيرة تشاد في وسط إفريقيا والبحيرة المالحة الكبرى Great Salt Lake في ولاية يوتا أهم مثالين على هذا الأمر. لكن في الحقيقة، الاتجاه العالمي يبحث فيما هو خلاف ذلك. لسنوات عدة، نوقش سبب هذه الزيادات، وأخيراً استقرت جموع الآراء على الجاني الحقيقي: نحن. ربما تكون قلقاً بشأن الارتفاع الوشيك في مستوى سطح البحر، لكن مرحباً بك في قصة أخرى – لا تروى كثيراً – عن كارثة جديدة من صنع الإنسان آخذة بالتجلي: ارتفاع مستوى البحيرات.
ارتفاع مستوى البحيرات في شرق إفريقيا
يمتد وادي شرق إفريقيا المتصدع من إثيوبيا في الشمال إلى موزمبيق في الجنوب وعبر كينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا ورواندا وبوروندي وزامبيا وتنزانيا وملاوي. وهو يضم عشرات البحيرات، منها أكبر خمس بحيرات في إفريقيا: بحيرة فيكتوريا وتنجانيقا Tanganyika وملاوي وتوركانا Turkanaوألبرت Albert.
نمتلك أدق المعلومات عن ارتفاع مستوى البحيرات من كينيا، موطن بحيرة توركانا، أكبر بحيرة صحراوية دائمة في العالم، وجزء صغير من بحيرة فيكتوريا، وثماني بحيرات كبيرة أخرى، بما في ذلك بحيرة بارينغو، وسد توركويل جورج Turkwel Gorge dam. وتظهر كل هذه البحيرات معدلات ارتفاع تصاعدية تنذر بعواقب وخيمة على ملايين الأشخاص الذين يعيشون حولها.
يقول ماكسويل أونزير Maxwell Onzere من جامعة نيروبي بكينيا، متحدثاً عن بحيرة ناكورو Nakuru: «ما تراه أمامك هو منازل مغمورة بالمياه وانخفاض في معدل استقرار الأرض المحيطة بالبحيرة. لقد اضطر بعض الأشخاص إلى إيجاد أماكن جديدة للعيش فيها. على الرغم من اعتماد معظمهم في العيش على هذه البحيرة، كان عليهم أن يجدوا مصادر أخرى لكسب الرزق حين غمرتهم مياه البحيرة. حتى بوابة حديقة بحيرة ناكورو الوطنية غمرت بالمياه».
تم الإبلاغ عن كارثة طوفان كينيا للمرة الأولى في عام 2013 بواسطة سيمون أونويير Simon Onywere من جامعة كينياتا Kenyatta في نيروبي. فقد كان هو وزملاؤه يعملون على أخذ قياسات مشروع آخر عندما اكتشفوا صدفة أن جميع البحيرات الأربع في دراستهم، بارينغو وبوجوريا Bogoria ونيفاشا Naivasha وناكورو، قد ارتفعت بشكل مقلق في السنوات القليلة الماضية. وكان شط بحيرة نيفاشا بكاملها المكونة من ورق البردي وأشجار الأكاسيا مغمورة تحت الماء، كما اختفى تماماً طائر الفلامينغو، أحد الكائنات الجاذبة للسياح في بحيرة ناكورو.
دورات المناخ الطبيعي
اقترح أونويير أن ارتفاع منسوب المياه كان نتيجة لدورة مناخية طبيعية استمرت لـ 50 عاماً، حيث تم تسجيل فيضانات مماثلة في كينيا في عامي 1901 و1963 على الرغم من عدم وجود الوثائق الكافية. ولكن أونويير لم يستطع الحصول على سجلات من أي مكان آخر في المنطقة التي أغرقت طبقاً لفرضية دورة الخمسين عاماً تلك. في عام 1981، نشر جيف كايت Geoff Kite من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP في نيروبي دراسة تشير إلى أن بحيرة فيكتوريا قد ارتفعت بنسبة 2.5 متر بين أكتوبر 1959 ومايو 1964. بعد ذلك تراجعت قليلاً، لكنها بدأت بالارتفاع مرة أخرى في عام 1978 وكانت لا تزال آخذه بالارتفاع وقت نشر الدراسة. وينطبق الشيء نفسه على ثلاث بحيرات أخرى: ملاوي، وتنجانيقا، وألبرت.
درس كايت أسباب الارتفاع وخلص إلى أنه لا يمكن لأي نشاط بشري أن يكون السبب فيما حدث. لكنه اعترف بأنه لم يستطع تحديد سبب طبيعي أيضاً. ما إن نشر كايت دراسته، بدأت بحيرة فيكتوريا بالانحسار مرة أخرى. وبحلول عام 2007، انخفض مستوى المياه إلى أكثر من 3 أمتار مقارنة بذروة الارتفاع عام 1964 وكان هناك مخاوف من جفاف البحيرة إلى الأبد. لكن ذلك لم يحدث، وغيرت بحيرة فيكتوريا مسارها مجدداً وأخذت بالارتفاع منذ ذلك الحين، فيما عدا فترات صغيرة. وفقاً لتقرير نشر عام 2021 من قبل الحكومة الكينية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن مساحة البحيرة ازدادت بأكثر من 500 كيلومتر مربع وهو ما يعادل 13 % بين عامي 2010 و2020.
تتوسع البحيرات العشر الكبرى الأخرى في كينيا أيضاً. يصف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الوضع بأنه أزمة. فقد نزح أكثر من 380 ألف شخص وهم في أمس الحاجة إلى المساعدات الإنسانية بعد أن فقدوا سبل العيش والمدارس والمرافق والصرف الصحي، كما نفق العديد من أفراس النهر، والتي صارت تعيش الآن بالقرب من المستوطنات البشرية.
يقول كيرياكو توبيكو Keriako Tobiko، سكرتير مجلس الوزراء بوزارة البيئة وتغير المناخ والغابات الكينية: «لقد أدى ارتفاع منسوب مياه البحيرة والفيضانات المصاحبة لها إلى إثارة الذعر والقلق بين المجتمعات المحيطة حيث خلفت مياه الفيضانات دماراً واضحاً». كما عانت البيئة والحياة البرية.
ارتفاعات قياسية في المياه
يرتفع منسوب المياه في البحيرات في دول شرق إفريقيا الأخرى بسرعة هي الأخرى. تسجل تنجانيقا والتي تمتد بين تنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي وزامبيا، نسب ارتفاع تصاعدية منذ عام 2006 ووصلت إلى مستويات قياسية في عام 2021. وفي العام الماضي، سجلت بحيرة ملاوي الممتدة بين ملاوي وموزمبيق وتنزانيا أعلى مستوى لها منذ ثماني سنوات.
لطالما كان السبب الرئيسي وراء ارتفاع منسوب المياه محلاً للنقاش. فهناك ثلاث احتمالات لا تتعارض مع بعضها بعضا. أولاً، التقلب الطبيعي للمناخ، مع كون هطول الأمطار الغزيرة المحرك الرئيسي. ثانياً، النشاط الجيولوجي الطبيعي: نظام التصدع Rift systemis هو نظام ديناميكي تكتوني، ويمكن للألواح المتحركة تحت البحيرات أن تغير من مستويات المياه. وثالثاً، النشاط البشري، وخاصة الاحتباس الحراري، والذي يتسبب في زيادة بمعدل هطول الأمطار، وتغيير في استخدام الأراضي مما يؤدي إلى زيادة جريان المياه في البحيرات وزيادة معدلات الترسيب، مما يتسبب في ارتفاع قاع البحيرة ويمنع مجاري المياه الخارجة.
التغير المناخي هو المذنب الحقيقي
في الوقت الحالي، تشير أصابع الاتهام بقوة إلى النشاط البشري، وخاصة التغير المناخي. أثبتت دراسة أجريت في 2021 عن مستويات المياه في بحيرات كينيا: بارينغو، وبوجوريا، وناكورو، وسولاي Solai، وإليمنتايتا Elementaita، ونيفاشا أن التغير في معدل هطول الأمطار كافي لتفسير ارتفاع منسوب المياه. فعلى الرغم من أن الكثير من المناطق في شرق إفريقيا تعاني الجفاف، فقد شهدت منطقة البحيرات المتصدعة زيادة في معدل هطول الأمطار. يقول أونزير، المؤلف المشارك في دراسة أخرى إلى أن نحو 8 أمتار من ارتفاع مياه بحيرة ناكورو يعود إلى الاحترار العالمي.
ومع ذلك، لا يتفق الجميع مع هذا الرأي. يقول شون أفيري Sean Avery، مهندس واختصاصي الهيدرولوجيا في كلية كينجز بلندن King’s College والمقيم بكينيا: «كبش الفداء المفضل دائماً هو تغير المناخ، لكنني أرى أن التغير في الاستخدام البشري المنشأ للأراضي هو العامل الرئيسي في تغيير الدورة الهيدرولوجية».
كما أن النشاط التكتوني ليس مستبعداً بعد. وجدت دراسة حديثة عن بحيرة بيسيكا Beseka في إثيوبيا، والتي صارت تشغل مساحة تبلغ نحو خمسة أضعاف مساحتها في عام 1972، أن معدل هطول الأمطار قد انخفض خلال هذه الفترة. وفقاً للباحثين، فإن التفسير الأكثر منطقية هو النشاط التكتوني الذي مزق قاع البحيرة مما سمح للمياه الجوفية بالتسرب متسبباً في تكوين أحواض جديدة يمكن أن تتجمع فيها المياه.
ومع ذلك، فإن تقرير الحكومة الكينية واضح جدا فيما يتعلق بالمذنب الحقيقي: «السبب الرئيسي وراء ارتفاع منسوب المياه هو تغير المناخ».
وكما هو معتاد، فإن الجنوب العالمي يتحمل العبء الأكبر جراء تغير المناخ، إلا أن الدول الغربية المسؤولة بنسبة أكبر عن الانبعاثات ليست محصنة من الأضرار.
ففي النصف الآخر من الكرة الأرضية، هناك مسطحات مائية أخرى آخذة بالارتفاع. في عام 2013، كان مستوى بحيرة ميشيغان Michigan في الولايات المتحدة منخفض، لكنه بدأ بالارتفاع بسرعة فيما بعد ووصل إلى مستويات قياسية في عام 2021. كما سجلت البحيرات القريبة مثل سوبيريور Superior وإيري Erie وهورون Huron مستويات ارتفاع قياسية؛ كما سجلت آخر بحيرات أمريكا الشمالية الخمس العظمى، أونتاريو Ontario، نسبة أعلى بكثير من المتوسط أيضاً. وتراجعت المياه إلى حد ما منذ ذلك الحين، لكنها خلفت وراءها أضرار كثيرة جراء الفيضانات وتآكل السواحل. إذ يعيش نحو 40 مليون شخص بالقرب من شواطئ البحيرات العظمى في الولايات المتحدة وكندا.
العام الماضي في مؤتمر الهيدرولوجيا التابع للاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي American Geophysical Union (اختصارا: الاتحاد AGU) في سان خوان، ببورتوريكو، أكدت لورين فري Lauren Fry من مختبر البحيرات العظمى للأبحاث البيئية Great Lakes Environmental Research Lab التابع للإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي National Oceanic and Atmospheric Administration، على السبب نفسه. وقالت إن تغير المناخ يؤثر في العوامل الثلاثة التي تتحكم في مستويات البحيرة: الأمطار التي تسقط على هذه البحيرات، والجريان السطحي Runoff من الأرض، والتبخر.
لقد ارتفعت مستويات البحيرات وانخفضت بسرعة في الماضي، ولكن ليس بهذا المعدل. يقول رايلي باليكيان Riley Balikian من هيئة المسح الجيولوجي Geological Survey بولاية إلينوي أن هناك تغير سريع وتاريخي في كلا الاتجاهين.
مخاطر فيضان البحيرات العظمى
من المتوقع حدوث ارتفاعات مشابهة في المستقبل. وقد أظهر النموذج المقدم في مؤتمر الاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي الأخير في شيكاغو أن البحيرات العظمي قد ترتفع بمقدار نصف متر بحلول 2050، مما سيعرض الناس والطبيعة لأضرار جسيمة جراء العواصف والفيضانات.
أظهرت النماذج الأخرى نتائج أكثر حذراً. وفقاً لألكسندر فانديويه Vandeweghe Alexander من جامعة ميشيغان، لا يزال تأثير تغير المناخ في مستويات البحيرات في أمريكا الشمالية غير واضح؛ «فهناك تنوع كبير وعدم يقين». تظهر بعض النماذج زيادات كبيرة، في حين يظهر البعض الآخر انخفاضاً طفيفاً. ولكن ما نستطيع قوله على الأقل هو أن تقلب مستوى المياه في المستقبل سيكون بالقدر نفسه الذي كان عليه في الماضي، كما يقول فانديويه.
تتكرر قصة ارتفاع مستوى البحيرات في معظم أنحاء العالم. ففي العام الماضي قام فريق بقيادة ليان فينج Lian Feg من الجامعة الجنوبية للعلوم والتكنولوجيا Southern University of Science and Technology في شينجين Shenzhen بالصين بتحليل صور التقطت بالقمر الاصطناعي لمعظم بحيرات الأرض وخزانات المياه والتي تبلغ مساحتها 3.4 مليون منذ عام 1984 وحتى 2019. توصل الفريق إلى أن هناك توسعة تبلغ مساحتها 46,000 كيلومتر مربع قد تم تحديدها سابقاً، لكنهم اكتشفوا أيضاً أنه باستبعاد البحيرات التي تتضاءل، ستصل الزيادة إلى 167,000 كيلومتر مربع.
تشمل خزانات المياه ما يقرب من نصف تلك المساحة، والباقي كله بحيرات طبيعية. وهذا نذير سوء على المناخ. وتعتبر البحيرات بجميع أحجامها مصدر وفير لغازات الدفيئة Grenhouse gases، وذلك لأن تحلل المواد العضوية بها ينتج منه ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز. تقدر نسبة الانبعاثات العالمية من البحيرات بـ 20%.
وفقاً للدراسات، تسببت مساحة البحيرة الإضافية من انبعاثات الكربون بمقدار 4.8 مليون طن سنوياً خلال الدراسة، وهو معدل الانبعاثات السنوية نفسه في كينيا تقريباً.
وبالحديث عن كينيا، هناك مخاوف متزايدة حول ارتفاع منسوب مياه بحيرة بارينغو حيث قد تتسبب في كارثة بيئية على جارتها، بوغوريا، وهي موقع تراث عالمي ووجهة سياحية معروفة. فقد غمرت بالفعل عدة ينابيع ساخنة شهيرة في بوغوريا في السنوات الأخيرة كما شهدت نفوق أسراب ضخمة من طيور الفلامينغو. لكن إن اقتربت بارينغو أكثر فسنكون في مواجهة ما هو أسوأ. فبوغوريا بحيرة مالحة وقلوية، مما يجعلها جذابة لطيور الفلامينغو، في حين بارينغو بحيرة عذبة. إذا اندمجتا سوياً، سيتدمر النظام الإيكولوجي لبوغوريا. وتتشارك الاثنتان في الحوض نفسه وكان يفصل بينهما 20 كيلومتراً، لكنهما الآن على بعد 13 كيلومتراً فقط من بعضهما بعضا.
في المستقبل القريب، ستستمر البحيرات بالتوسع. يقول أونزير: «إذا واصلنا التعامل مع الأمور بالطريقة نفسها، فسترتفع مستويات المياه. ولن تعود البحيرات إلى طبيعتها إلا إذا صارت لدينا درجات حرارة طبيعية وكميات طبيعية من الأمطار». فالعالم لا يحترق فحسب، بل يغرق أيضاً.
© 2023, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC