لماذا يجب أن نختبر بعض جوانب الواقع المادي حتى نعرفها
لن نعرف أبداً ما هو الألم واللون والحب بالنسبة إلى الآخرين - ناهيك عن الحيوانات الأخرى. هذا يعني أننا ربما لا نعرف أبداً إن كنا قد أنشأنا ذكاءً اصطناعياً واعياً
بقلم كلير ويلسون
تخيل لو أن هناك امرأة رُبِّيَت بطريقة ما منذ ولادتها داخل غرفة سوداء وبيضاء ورمادية، بحيث إن كل ما تراه أحادي اللون. ومع ذلك، تخيل أيضاً أنها قضت حياتها في دراسة علم الألوان. فتتعلم كيف تدرك العينان الأطوال الموجية Wavelengths المختلفة للضوء، وكيف يفصل الموشور (المنشور) Prizm الضوء الأبيض إلى طيف، وما إلى ذلك – لكنها لم ترَ أي شيء شخصياً سوى درجات من الأسود أو الأبيض. الآن، تخيل أنها تغادر الغرفة لأول مرة وترى العالمَ الحقيقي لوحةً نابضة بالحياة. يتفق معظمنا على أنه في تلك اللحظة، تتعلم المرأة شيئاً جديداً عن اللون.
كان المقصود من هذه التجربة الفكرية، والتي اقترحها الفيلسوف فرانك جاكسون Frank Jackson في عام 1982، أن تكون حجة ضد النظرية الفيزيائية Physicalism، وهي الاعتقاد بأنه لا يوجد شيء وراء الكون المادي. ولكنها تشير أيضاً إلى أن هناك أنواعاً من المعرفة لا يمكن اكتسابها من خلال القراءة أو القياس أو الاستنتاج. يجب أن تُعلَمَ هذه المعرفة من خلال التجربة المباشرة.
إن استحالة مشاركة ما يختبره شخص آخر على المستوى الشخصي لها عواقب على عالم الطب؛ حيث يصعب ذلك من معرفة ما يحدث عندما يعاني شخص ما الهلوسةَ مثلا، أو معرفة مقدار الألم الذي يعانيه شخص ما. نعتمد على أوصاف هذه الحالات، مع عدم وجود طريقة لمعرفة ما إذا كان «وجع» شخص ما هو «عذاب» بالنسبة إلى شخص آخر. ويقول ستيفن لاو Stephen Law الفيلسوف من جامعة أوكسفورد Oxford University : من المستحيل أن أشعر بألمك الفكرة «هي أن العقل عالم خاص، مختبئ خلف حاجز فائق من نوع ما. إنه ليس حاجزاً مادياً مثل جمجمتك؛ لأنه حتى ولو استطعنا الدخول جسدياً إلى رأسك، فمن المستحيل علينا اختراقه».
تجربة ذاتية
نتيجة أخرى لهذا الحد المفروض على المعرفة هي أنه لا يمكننا أبداً معرفة ما إذا كان إدراكنا للعالَم هو نفسه ما يدركه شخص آخر. فهناك الكثير من الأدلة التجريبية التي تبين أن الناس قد يختبرون لألوان وأصوات والروائح – وهلم جرا – بصور مختلفة. ولا يقتصر السبب في ذلك على أن أعضاء الحواس فيها اختلافات جسدية طفيفة، ولكن أيضاً لأن خلايا الدماغ قد تعالج هذه المدخلات معالجة مختلفة.
في عام 2015 اتضح هذا على نطاق واسع عندما انفجرت وسائل التواصل الاجتماعي في نقاش محتدم حول «الفستان»: صورة لفستان بلونين، رأى البعض أنه أبيض وذهبي، وقال آخرون إنه أزرق وأسود. «من الصعب أن نفهم أن الآخرين قد يرون العالم بشكل مختلف، حتى ترى أشياء غريبة مثل الفستان»، كما يقول أنيل سيث Anil Seth، عالم الأعصاب من جامعة ساسكس University of Sussex، في المملكة المتحدة.
وتركز أبحاث سيث وزملائه على تنوع التجارب الحسية البشرية مستخدمين تقنية إحصاء الإدراك Perception Census، وهو مسح عبر الإنترنت للكيفية التي يختبر بها الناس الألعاب والأوهام وغيرها من المحفزات البصرية والسمعية. ويقول سيث: «هناك اختلافات نعرفها ويمكننا تسميتها – فيمكننا تسمية عمى الألوان Colour blind عند المصابين به، على سبيل المثال. ولكننا نريد أن نفهم الاختلافات الموجودة عند غالبية الناس وليس عند الحالات غير الطبيعية (الشاذة)».
إن كان من الصعب معرفة عقول الآخرين حقً، فيمكن القول إنه من الأصعب الحصول على نافذة على عقول الأنواع الحية Species الأخرى ذات المدخلات الحسية المختلفة تماماً (انظر: ما هو شعور أن تكون «خفاشاً؟»). أو ماذا عما تختبره آلة ذكية ذات «عقل» Mind غير مصنوع حتى من المواد الأساسية نفسها التي تكوننا – لا شك في أن فهمه سيكون أصعب؟
هذا يؤدي إلى مشكلة خطيرة: كيف سنعرف إن كنا قد أنشأنا ذكاءً صناعياً واعياً؟ ربما يتحتم علينا أن نحكم على وعي الحاسوب ليس من خلال حساب عدد المعالجات التي يقوم بها، ولكن ببساطة من خلال ما إذا كان يبدو واعياً. قد يبدو هذا غير علمي إلى حد ما، لكنه الطريقة المستخدمة نفسها للحكم على وعي غيرنا من البشر. وفي النهاية، لا يمكننا أن نعرف على وجه اليقين ما إذا كان للآخرين وعي مثل وعينا، فنحن نفترض ذلك فقط بناءً على سلوكهم.
بغض النظر عن مدى قدرتنا على فهم الواقع من خلال العلم واستخدام المعادلات والنظريات والقياس التجريبي، سيكون هناك دائماً جانب مهم يظل جزئياً على الأقل خاصاً وغير معروف. يقول سيث: «هناك هذه المعرفة التجريبية Experiential knowledge المباشرة، والتي لا يمكن أن يمتلكها سوى كائن حي لديه دماغ معين».
ما هو شعور أن تكون خفاشاً؟
فكّر الفيلسوف توماس نيغل Thomas Nagel في هذا السؤال في سبعينات القرن العشرين من أجل أن يحاجج في أنه من غير الممكن فهم التجربة الواعية بناء على فهمنا المادي للعالم وحده. مهما كانت وجهة نظرك حول هذه المسألة، فإنه لا يمنع الآخرين من محاولة فهم الأشياء من منظور الحيوانات.
أحد الأمثلة المتطرفة هو المصمم توماس ثوايتس Thomas Thwaites، الذي حاول في عام 2016 أن يعيش كعنزة على تلٍ. فأعدَّ هيكلا خارجيا لمعزاة ومَعِدَةً خارجية لمساعدته على هضم العشب – لم تكن هذه مزحة.
في نهاية المطاف، وجد ثوايتس وآخرون أن هناك فجوة واسعة بين كيفية اختبارنا للعالم وكيفية اختبار بعض الحيوانات له. كيف لنا أن نفهم كيف تكون «رؤية» العالم من خلال تحديد الموقع بالصدى Echolocation؟ يقول ستيفن لو Stephen Law، الفيلسوف من جامعة أكسفورد Oxforsd University: «يمكنك تقطيع الخفافيش، يمكنك معرفة كل شيء عن تركيبها المادي وصولاً إلى الذرة الأخيرة، لكن سيظل إحساسها الخاص بالظواهر خفيَّا عليك».
لذا يصعب تكوين أحكام حول المعاملة الأخلاقية للحيوانات. وكلما اختلفت الأنواع عنّا، صار هذا أكثر صعوبة، كما يقول أنيل سيث Anil Seth من جامعة ساسكس University of Sussex، المملكة المتحدة. «قد نكون قادرين على تخيل ما سيكون عليه الأمر لو كنا قروداً أكثر مما لو تخيلنا أنفسنا أخطبوطات. ولكن، حتىولو تخيلنا أنفسنا قرودًا فإننا لن نقوم بذلك على أكمل وجه أيضاً».
© 2023, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC