محاربة التغيّر المناخ تعني تجنب عقلية التخويف بالهلاك وكذلك عقلية الإنكار
قد يكون من الصعب معرفة مدى القلق الذي يجب أن نشعر به بشأن التأثيرات المتزايدة للتغيّر المناخي، لكنّ تبني العلم الحديث الذي يبحث في أسباب التغيّر المناخي والنظر بعقلانية إلى التقدّم الذي أحرزناه سيساعدنا على اتخاذ المزيد من الإجراءات
مثل العديد من جوانب الحياة الحديثة، يبدو أن استجابتنا للتغيّر المناخي Climate change صارت مستقطبة بصورة متزايدة. فعلى أحد الطرفين، لدينا أناس يقولون إن ارتفاع درجات الحرارة يعني أن العالم كما نعرفه لا يفصله عن نهايته إلا عقود من الزمن، وليس هناك ما يمكننا فعله للحيلولة دون ذلك. وعلى الطرف الآخر، لدينا أولئك الذين يزعمون أن فكرة التغيّر المناخي بفعل النشاط البشري Human-made climate change بحدّ ذاتها هي مؤامرة دولية.
ولا يصمد أيّ من هذين الموقفين المتطرفين أمام التدقيق العلمي. إن التغيّر المناخي الذي يسبّبه البشر ليس نظرية مؤامرة، لكن من الصحيح بالقدر نفسه أن الكارثة العالمية ليست نتيجة حتمية.
الأمر المؤكد هو أن المستويات المتزايدة من غازات الدفيئة Greenhouse gas في غلافنا الجوي تؤدي إلى رفع درجات الحرارة في معظم أنحاء العالم، وستستمر هذه العملية حتى نتوقف عن إطلاق المزيد منها. بعبارة أخرى، التغيّر المناخي يحدث بالفعل، ويمكننا إيقافه إن قرّرنا ذلك. الأمر غير المؤكد هو ما سنفعله فعلا لمواجهته.
لذا، يتعين علينا أن نتعامل مع اليقين وعدم اليقين ــ «ما نعرف أنّنا نعرفه» و«ما نعرف أنّنا لا نعرفه»، بحسب تعبير وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد Donald Rumsfeld. ومع الأسف، فإن البشر، سواء على المستوى الفردي أم المجتمعي، غير مهيئيين للتعامل مع مثل هذا المزيج.
خذ ما نعلم أنّنا نعلمه أولا. إن نحيّنا المنكرين جانبا، فإن معظم الأشخاص يدركون أن التغيّر المناخي يحدث ويتعين علينا فعل شيء حيال ذلك. المشكلة هي أن هذا المعروف معروف جدا لدرجة أنّه صار جزءا من همهمة الحياة اليومية. قلّة قليلة منا قادرون على قضاء قدر يناسب ما يتطلبه الموقف من الوقت في القلق بشأن التغيّر المناخي، وذلك بسبب كلّ شيء آخر يطالبنا العالم بالاهتمام به – سواء أكان ذلك وظائفنا، أم عائلاتنا، أم تزايد التضخم، أم الفقر، أم حتى الحرب.
تقول كاثرين هايهو Katherine Hayhoe من جامعة تكساس التقنية Texas Tech University: «من الناحية النفسية، نحن غير مؤهلين على الإطلاق للتعامل مع المشكلات طويلة المدى المتزايدة باطراد». (انظر: التخويف بالهلاك المناخي قد يصعّب وقف الاحترار العالمي). ولأن المواقف العامة تتباين، فإن الإرادة السياسية لمعالجة هذه القضية تتباين أيضا: ففي الوقت الحالي، هناك عدد قليل جدا من الحكومات مستعد لإجراء محادثات صريحة مع الناخبين حول التكاليف، والمخاطر، والفوائد المترتبة على معالجة التغيّر المناخي، وذلك بما يتجاوز التعهدات الفضفاضة بالوصول إلى صافي انبعاثات صفري دون تحديد كيفية تحقيق ذلك.
استخدم نشطاء المناخ، بما في ذلك غريتا تونبرج Greta Thunberg وحركة توقفوا عن استخدام النفط Just Stop Oil في المملكة المتحدة، مجموعة متنوعة من أشكال الاحتجاج في محاولة لرفع الوعي بالتغيّر المناخي فوق مستوى ضجيج الحياة اليومية. ومع ذلك، على الرغم من جهودهم، وجد استطلاع لآراء البالغين أجرته مؤسسة يوغوف YouGov مؤخرا في المملكة المتحدة أنّهم يشعرون بأنّ البيئة ليست إلّا رابع أهمّ قضية تواجه البلاد، بعد الاقتصاد والصحة والهجرة. والمفارقة أنّ كل هذه القضايا سوف تتأثر تأثّرا هائلا باحترار العالم، الذي سيلحق الضرر بالإنتاجية، ويتسبب في الوفيات المبكرة، ويزيد الهجرة إذ سيسعى الناس إلى الهروب من أجزاء العالم التي ستصير غير قابلة للعيش على نحو متزايد.
جذبت الظواهر المتطرفة التي شهدناها في يوليو، وهو الشهر الأحرّ على الإطلاق (انظر: ما الذي جعل يوليو 2023 الشهر الأحرّ على الإطلاق؟) الانتباه أكثر مما فعلته التنبؤات بالمستقبل المظلم، لكن حتى في هذه الحالة كانت ردود الأفعال مختلطة. فعلى سبيل المثال، تحوّلت درجات الحرارة القياسية في وادي الموت Death Valley في كاليفورنيا إلى مصدر جذب سياحي، في صورة غريبة من صور لفت الأنظار الفضوليّة المناخية.
إحدى الطرق لتوضيح العلاقة بين مثل هذه الظواهر واتجاه المناخ على المدى الطويل هو العلم المزدهر لدراسات أسباب التغيّر المناخي Climate attribution study (انظر: لماذا معرفة كيف يسهم التغيّر المناخي في ظهور الطقس المتطرف أمر أساسي؟»). فقد اضطرنا سابقا إلى الحديث بصورة عامة، قائلين إن حدوث أنواع معينة من الظواهر سوف يصير أكثر شيوعا بسبب التغيّر المناخي، إلّا أنّه صار بوسعنا الآن أن نكون أكثر تحديدا. ووفقا لمبادرة أسباب تغيّر الطقس العالمي World Weather Attribution، فإن موجات الحر في الولايات المتحدة وأوروبا في يوليو هذا العام «تكاد تكون مستحيلة» في عالم يخلو من التغيّر المناخي الناجم عن النشاط البشري.
لننتقل الآن إلى المجهول المعروف. بالنسبة إلى الأشخاص الذين ربما يعانون بالفعل مخاطر التغيّر المناخي، فإنّ هذه هي أكبر الأمور التي تشغل بالهم. هل كان علينا أن نتوقع الطقس المتطرف في شهر يوليو؟ هل الاحترار العالمي أسوأ مما توقعنا؟ كيف سنتكيّف مع الحرارة اللاهبة (انظر: حرارة لاهبة: داخل البعثة التي ستستكشف كيف يمكن للبشر أن يتكيّفوا). هل هناك احتمال بأن نواجه «نقاط تحول» Tipping point متتالية تقود إلى احترار جامح؟ كل هذه أسئلة وجيهة، وقد حاولنا معالجتها (انظر: هل يتسارع التغيّر المناخي وهل هو أسوأ مما توقعنا؟) لكنّ التركيز عليها إلى حدّ شلّ العمل، كما يفعل بعض رسل الشؤم، مشابه لاستسلام شخص للمخاوف من وقوع حادث سيّارة مميت فلا يحرّك المقود لتفادي حادث سيّارة.
ثم هناك المجهول المتعلّق بأفعالنا. هل يمكننا إزالة الكربون بسرعة كافية لتجنب أسوأ السيناريوهات المناخية؟ هل سنكون قادرين على استخدام تقنيات غير مثبتة مثل احتجاز الكربون وتخزينه Carbon capture and storage؟ من الصعب الإجابة عن هذه التساؤلات وينطوي الأمر على الكثير من التخمين، لكن الخبر السار هو أن التحوّل إلى مصادر الطاقة المتجددة يحدث بصورة أسرع مما قد نتصور، إذ تتخذ كلّ من الولايات المتحدة والصين إجراءات حاسمة. في الواقع، ربما لا يفصلنا عن بداية نهاية الوقود الأحفوري إلّا بضعة أعوام (انظر: ثورة الطاقة المتجددة تحدث بوتيرة أسرع مما تظن).
وأخيرا، هناك المجهول في قلب كل قلقنا المناخي: إلى أيّ مدى يجب أن نقلق؟ لا تستطيع مجلة نيوساينتست New Scientist أن تجيب عن هذا السؤال إجابة مباشرة – فالقارئ في بلد ثريّ المتمتع بإمكانية الحصول على تكييف الهواء بسهولة سيكون أفضل حالا بكثير في العقود المقبلة من القارئ في دولة جزرية فقيرة مهددة بارتفاع منسوب مياه البحر. ما يمكننا فعله، وهو ما حاولنا في هذا العدد الخاص، هو أن نقدّم لك دائما تقييما واضحا ورصينا للعلم. لا الهلاك ولا الإنكار، بل الواقع كما هو.
بقلم نيو ساينتست
© 2023, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC