جسم مصنوع من الزجاج: تاريخ شخصي جدًّا للوسواس المرضي
يعاني الملايين من الأشخاص أعراضًا يُهمشها العديد من الأطباء باعتبارها خيالية، ولكن لماذا؟ رواية كارولين كرامبتون المؤثرة تكشف عن الكثير
بقلم أل هنت
تخيَّلْ شخصًا مصابًا بالمراق (اضطراب قلق المرض/ التوهم المرضي/ هيبوكوندريا) Hypochondria. قد يكون صديقًا يحتفظ بقائمة جرد للأعراض والأمراض، ولا يغيب أبدًا عن موعد مع الطبيب، ويأتي مسلحًا بأحدث الأخبار من غوغل Google. يصف بعض الأطباء هؤلاء الأشخاص باستخفاف بأنهم «الأصحاء القلقون» Worried well، أولئك الذين يُنظر إلى أن طلبهم على الخدمات الطبية يفوق حاجتهم الفعلية. ولكنَّ هناك كتابًا جديدًا يتحدى تلك النظرة السائدة التي عفا عليها الزمن لاضطراب المراق – والآن صار من الشائع أن يُشار إليه بقلق الصحة Health anxiet، للتخلص من وصمة العار Stigma التي تلحق بمن يعانونه، ولصالح وجهة نظر أكثر تعاطفا، كما أن المصطلح الجديد يعكس – بشكل أفضل – الحدود الزلقة بين الجسد والعقل.
جسد مصنوع من الزجاج: تاريخ المراق A Body Made of Glass: A history of hypochondria، تأليف الصحافية ومقدمة البودكاست كارولين كرامبتون Caroline Crampton، يُوصف بأنه أول تاريخ اجتماعي لهذا النوع من القلق، ويعود تاريخ الحالة إلى أبقراط Hippocrates في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد أسهم استخدام المراق في الكوميديا الشعبية طويلا – كما هي الحال في أعمال الكاتب المسرحي الفرنسي موليير Molière والأفلام التي أخرجها وودي آلن Woody Allen – في تعزيز وصمة العار التي تلاحق هذه الحالة، وأولئك الذين يعانونها.
في أواخر القرن الرابع عشر بدأ الناس بزيارة الأطباء معتقدين أنهم مصنوعون من الزجاج
يشير عنوان كرامبتون إلى ظاهرة غريبة حدثت في أوروبا في أواخر القرن الرابع عشر، عندما بدأ الناس بزيارة الأطباء معتقدين أنهم مصنوعون من الزجاج، وتقول: «إنها سمة مناسبة للعقدة المعقدة من العواطف والأحاسيس» التي تشكل تجربتنا فيما يخص الصحة والمرض.
في هذه الأيام، نفهم بشكل متزايد أن الصحة العقلية Mental health تؤثر في الصحة البدنية والعكس صحيح، مثلا بفعل ميكروبيوم الأمعاء Gut microbiome، وتأثير الصدمة العاطفية Emotional trauma في الجسم؛ مما يجعل من الصعب أو حتى غير المجدي التمييز بين المرض «الحقيقي» والمُتخيَّل.
وعلى الرغم من أن القلق الصحي قد يتم تعريفه Defined أو رفضه Dismissed في بعض الأحيان باعتباره أمراضًا وهمية، فإن الشعور بالضيق المرتبط به لا يمكن إنكاره، بل وقد يكون مميتًا؛ إذ وجدت دراسة حديثة أجراها فريق في معهد كارولينسكا Karolinska Institute في السويد أن الأشخاص الذين يعانون قلق الصحة كانوا أكثر عرضة للوفاة، حيث يموتون أصغر بخمس سنوات في المتوسط من أولئك الذين لا يعانون هذه الحالة، ويموتون أساسًا لأسباب يمكن الوقاية منها.
إضافة إلى دراستها المستفيضة للتاريخ الثقافي لقلق الصحة، توضح تجربة كرامبتون الخاصة الألم الشخصي الذي ينطوي عليه الأمر. في سن السابعة عشرة، تم تشخيص إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية هودجكين Hodgkin lymphoma. بعد العلاج الكيميائي، ظلت متيقظة للتغيرات في جسمها، كما نصحها أطباؤها. وكانت يقظتها مبررة؛ فقد وجدت في النهاية ورمًا في رقبتها، مما استلزم المزيد من العلاج الكيميائي.
في سن الثانية والعشرين، أُعلن عن شفاء كرامبتون، لكن قلقها استمر. لأكثر من عقد من الزمن، عاشت في «منطقة شفق بين المرض والصحة»، حيث كانت تقوم بالفحص الإجباري بحثًا عن الأورام وتقفز إلى أسوأ السيناريوهات. وبطبيعة الحال، أثر هذا القلق سلبًا في صحتها بما يتجاوز المشكلات التي يمكن التحقق منها فيما يتعلق بصحتها البدنية. إن وصف كرامبتون المؤثر لضريبة ذلك يجب أن يضبط أولئك الذين يميلون إلى الاستخفاف بأعراض، والنظر إلى كرامبتون بأنها عصابية Neurotic. إنها مرعوبة من إضاعة وقت الأطباء. تاريخها مع السرطان يعني أنه يتم تمحيص أصغر التقارير. وأُحيلت كرامبتون ذات مرة إلى طبيب أعصاب بعد أن ذكرت لهم بأنها تشعر بوخزات دبابيس وإبر. وبروح الدعابة الساخرة، تعترف بالسخافة المتكررة لموقفها: «أتمنى أحيانًا أن يتم التعامل معي تعاملًا أقل جدية».
إنها كاتبة معبرة، قادرة على الوصف الأنيق والتحليل الذكي، وهي قادرة على تصوير الغموض والتناقضات المتعلقة بقلق الصحة. وكما هو الأمر في حالة كرامبتون، فإن قلق الصحة غالبًا ما ينجم عن ظروف جسدية يمكن التحقق منها ويوجد جنبًا إلى جنب معها، مما يزيد من تعقيد التصور الشائع لقلق الصحة على أنه يتعلق بأمراض خيالية تمامًا.
وبالمثل، خلص مؤلفو الدراسة السويدية إلى أن التفسير المحتمل لزيادة معدل الوفيات بين الأشخاص الذين يعانون قلق الصحة يمكن أن يكون تأثير العيش مع التوتر المزمن الناتج عن هذه الحالة.
في كتاب جسم مصنوع من الزجاج، تنطلق كرامبتون لمطاردة هذه الحالة عبر التاريخ. إنها لم تنجح فحسب، بل انتهى بها الأمر إلى طرح أسئلة مثيرة للاهتمام، ويحتمل أن تكون مهمة. إذا أدى العلاج إلى مضاعفات، أو إلى مرض جديد ومختلف، فهل يمكن اعتباره علاجًا؟ إذا كان العلاج يخفف من معاناتنا (كما فعل علاج إزالة حساسية حركة العين وإعادة معالجة الصدمة بالنسبة إليها)، فهل يهم إذا لم يمكن التدليل عليه علميًا؟ وإذا اقتنعنا بأننا مرضى، فما الفرق إذا لم يتم العثور على أي سبب؟
© 2024, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.