أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
كتب

المُعاقَبون

"أطفالٌ صالحون، مدينةٌ سيّئة: قصّة عن العِرق والإدانة الجائرة في أمريكا"

“Good Kids, Bad City: A Story of Race and Wrongful Conviction in America”

بقلم: كايل سوينسون Kyle Swenson

289 صفحة. بيكدور Picador.

29 دولاراً أمريكيًّا

ترجمة: آية علي

الصحافيون الذين بدؤوا مسيرتهم المهنية في صحف المدن الصغيرة أو في مكاتب المدينة بصحف المترو التي تعرف بشأن بريد السجون الصغيرة يعتبرون محظوظين بقدرٍ كاف. فبين الحين والآخر تصل أظرفٌ تكاد من تكدّس محتوياتها تتمزق، تشمل خطابات مكتوبة بخط اليد، ووثائق داعمة تهدف إلى حث المتلقي على التحقيق في ادعاءات المُرسِل المُنفعلة بالبراءة. ومن الأمور التي ندمتُ عليها بشكل خاص بوصفي مراسلاً هي عدم فعل المزيد بشأن الرسائل التي حصلتُ عليها، لربما كان هناك احتمالات أخرى.

حصل كايل سوينسون على بعض تلك الرسائل أثناء وجوده في فريق عمل الصحيفة الأسبوعية البديلة للمدينة، كليفلاند سين The Cleveland Scene، في بدايات هذا العقد. وقد وصلته أيضاً مكالمة هاتفية، ليست من شخص في السجن، لكن من رجل يدعى كوامي أجامو Kwame Ajamu جرى الإفراج عنه إفراجاً مشروطا ًعام 2003 بعد أن قضى 28 عامًا بسبب جريمة قتل وقعت عام 1975 قال إنه لا علاقة له بها. بالعودة إلى الماضي، يعتقد سوينسون أن أحد الأسباب التي دفعته إلى أخذ ادعاءات أجامو على محمل الجد إلى تلك الدرجة هي أنّ أجامو كان ملتزماً بتكرار ادعاءاته عل الرغم من خروجه من السجن. فقد أراد تبرئة نفسه، والأهم من ذلك كلّه أنه أراد إطلاق سراح شقيقه وصديقه اللذين كانا لا يزالان خلف القضبان لجريمة القتل نفسها.

قرر سوينسون، وهو إنتاج لضواحي مدينة كليفلاند ولم يمض على تخرجه من الجامعة وقتٌ طويل، التنقيب في الأمر. ونتجت من ذلك مقالة نشرها في يونيو 2011، وهي مقالة مثلت خطوة كبيرة في طريق تبرئة هؤلاء الأشخاص. وبعد ثلاث سنوات، ملأوا صفحات كتب التاريخ بشرفٍ مُبهم؛ فمع قضائهم مجتمعين لـ 106 أعوام في السجن، يُحتمل أن يكون سجنهم أطول سجن جائر ينتهي بتبرئةٍ في تاريخ الولايات المتحدة.

هذه هي القصة التي يختار سوينسون إعادة سردها في كتابه، مع أنّه يوضح في البداية أنها ليست القصة الوحيدة التي سيرويها. وتواجه حكايات التبرئة بعد السجن الجائر بعض التحدّيات السردية الجوهرية. ومن ذلك أن النتيجة معروفة بالفعل: التبرئة التي طال انتظارها. أضف إلى ذلك أن هذه القصص تمثل موقفاً دراماتيكيًّا شاسعاً تصعب الإحاطة به وتصوره بالكامل، كابوس قضاء عقد أو عقدين أو ثلاثة مسجونا بسبب جريمةٍ لم تقترفها، في حين تكون في الوقت نفسه مبتذلة ومحدودة في تفاصيلها القانونية. إنّها ذلك النوع من القصص التي تكون أكبر من أن توضع في كتاب، وليست كبيرة بما فيه الكفاية، في الوقت ذاته. ولمعالجة المشكلة الثانية، أرفق سوينسون روايته لما حدث لهؤلاء الرجال الثلاثة بقصة المدينة التي جرى اعتقالهم وإدانتهم فيها.

يقترح سوينسون ارتباط مصائرهم بمصير مدينة كليفلاند، التي كانت لا تزال واحدة من أكبر المدن في الولايات المتحدة، في الفترة التي ولدوا فيها في خمسينات القرن الماضي، لكن بحلول الوقت الذي وُجِّهت إليهم الاتهامات فيه عام 1975، كان وضع المدينة في انحدار حاد نتيجة مغادرة البيض white flight وانحسار التصنيع وسحب الاستثمارات. إنّه يربط بين السجن الجائر للرجال وبين سلسلة من الإخفاقات المؤسسّاتية المستمرة في المدينة، من بينها إهمال القبض لسنوات على قاتل متسلسل خبأة جثث 11 امرأة في منزله بأحد الأحياء الشرقية الفقيرة، وكذلك الدمار الذي أحدثه مقرضو الرهانات العقارية على مدار العقد الماضي، والفساد الكاسح الذي تغلغل في أركان حكومة مقاطعة كوياهوغا Cuyahoga County التي تضم مدينة كليفلاند. ويكتب سوينسون: «إذا وصلنا إلى المرحلة التي لم نعد نتوقع فيها أن يقوم ضباط الشرطة لدينا بإيقاف القتلة المتسللين قبل أن يتضاعف تعداد الجثث… إذا اختفت الآن أحياء بكاملها تحت ثقل التفاصيل الدقيقة للرهونات العقارية، فيما كانت حكومة المقاطعة تشاهد القاعدة الضريبية وهي تُستنزف ببساطة، هل كان من الصعب، إذاً، الاعتقاد بقدرة النظام الجنائي على رمي الرجال الخطأ في السجن بتهمة القتل؟»

الإجابة عن هذا السؤال البلاغي هي «لا» بالطبع،ولكن تفاصيل الكيفية التي أخطأ فيها النظام في هذه الحالة لا تزال قادرة على صدمنا ومفاجأتنا. في 19 مايو عام 1975، كان هاري فرانكس Harry Franks، مندوب المبيعات الأبيض الذي يبلغ من العمر 58 عاماً، يجري جولاته لجمع النقود، عندما واجهه شابان خارج متجر صغير، وضرباه بأنبوبٍ معدني، وألقيا الأسيد على وجهه، وحاولا الاستيلاء على حقيبته الممتلئة بالمال. بعدها أخرج أحد اللصوص مسدساً وأطلق النار على فرانكس، مودياً بحياته، وتسبّب أيضا في جرح امرأة داخل المتجر.

وفي الأيام التالية حصلت الشرطة على معلومات بشأن العديد من المشتبه فيهم المحتملين. لكنّهم أخذوا بكلمة الصبي إدوارد فيرنون Edward Vernon البالغ من العمر 12 عاماً، الذي كان ضمن حشد الأطفال الذين تجمّعوا حول مسرح الجريمة، وعندما أتى ضابط للاستعلام عن شهود، تطوّع بتقديم نفسه بكل حماسة. وفيما بعد، حدّد ريكي جاكسون Rickey Jackson ذا الـ18 عاما على أنّه مطلق النار، وروني بريدغمان Ronnie Bridgeman ذا الـ 17 عامًا (الذي غير اسمه لاحقًا إلى كوامي أجامو Kwame Ajamu) على أنّه المُهاجم المشارك؛ زعمت الشرطة أن شقيق روني، وايلي بريدغمان Wiley Bridgeman البالغ من العمر 20 عامًا، كان يقود السيارة التي لاذوا فيها بالفرار. وكانت المحاكمات التي تلت ذلك للمدعى عليهم، الذين كانوا من أصل إفريقي مثل فيرنون، ممتلئة بإشارات تحذير كثيرة: أصرت فتاة مراهقة كانت بداخل المتجر على أن المهاجميْن لم يكونا ريكي وروني، وكثُرت أوجه عدم الاتساق في الروايات التي أعطاها إدوارد للشرطة وهيئات المحلّفين المختلفة، وشهادة الأطفال بأنّ إدوارد لم يغادر المدرسة مبكراً ذلك اليوم مستقلاً حافلة المدينة؛ وهو عنصر حاسم في روايته. وشهد أحد الصبية أنّه عندما سأل إدوارد في يوم حدوث الجريمة عن كيفية رؤيته للقاتل فيما لم يره الأطفال الآخرون الذين كانوا معه، أجاب قائلا: «لديّ عيون بأشعة إكس راي.» ومع ذلك، فقد صوّتت هيئة المحلّفين بإدانة الثلاثة جميعاً.

يبذل سوينسون قصارى جهده لاستحضار السنوات التالية التي يصعب تصوّرها، حيث جرى تفريق الرجال عبر نظام سجن أوهايو. يشهد ريكي ثلاث جرائم قتل واغتصاب جماعي، في حين يُشخَّص وايلي بالاكتئاب والفصام ويقضي نحو نصف وقته في وحدات الصحة العقلية.

طالت يد المعاناة فيرنون كذلك الذي تحولت حياته إلى دوّامة من إدمان الكوكايين، وقضى على إثر ذلك عامين خلف القضبان بتهمة المخدرات. وفي وقت لاحق يلتقي بوايلي الذي أفرج عنه إفراجاً مشروطاً، وذلك قبل إعادته إلى السجن بسبب انتهاكه للشروط، ويرفض مناشدته له للاعتراف بشأن القضيّة. يأتي الفرج أخيراً عندما يتمكّن قسٌّ محلّي من مواجهة فيرنون بأكاذيبه التي استمرت لعقود، فتنتج من ذلك موجة مفاجئة من الصدق المُخلّص للذات.

الآن فقط، وبعدما تدفقت الحقيقة من فيرنون، يصبح سياق الأكاذيب معروفاً: الضغط الذي مارسه عليه المحققون للاستمرار بادعاءاته بأنه شاهد على عملية القتل، وتماديهم في الامر إلى حدّ تهديده بتوجيه تهم بشهادة الزور. وكان دور هؤلاء الضّباط حاسمًا لدرجةٍ تجعل المرء يرغب في معرفة المزيد عنهم. ويرسم سوينسون صعود أيديولوجية الشرطة المشددة على الجريمة في سبعينات القرن الماضي، التي شكّلت خلفية تصرفات هؤلاء الضباط، ولكنّهم أفراد، مثلهم مثل فيرنون والمدّعى عليهم، وكان بمقدور دوافعهم ووازعهم الأخلاقي دفعهم لمعالجة القضية بطريقة أكثر شمولاً. كذلك تستبعد رواية سوينسون لسياق الحرب الجريمة الدور الذي أدته المطالب من داخل مجتمع السود للإطاحة بمروجي المخدرات.

ومن العيوب الأخرى في الكتاب الإفاضةُ، لا الغياب. لدى سوينسون ميل إلى استخدام اللغة المجازية التي تصيب أحياناً في أثرها الغنائي، لكنّها تسبب التشتيت في معظم الأحيان. ففي أول فصلين من الكتاب مثلاً، يصادف المرء عبارة «الطرق المتصدّعة كفاكهةٍ فاسدة»، و«رصيف مقوّس ككوع»، وغيرهما من الجمل المحمّلة بالمجاز والتشبيه.

يبدو الأمر كما لو أن سوينسون لا يثق تماما بقدرة مادته على تشكيل كتاب دون توظيف أسلوبه الجمالي. ولكنها قادرة على ذلك. إنّها قصة ظلمٍ فادح يقدّم إصلاحه الذي حلّ أخيرًا، حتى وإن متأخرًا، لكمةً عاطفيّة قوية. أما على نطاقٍ واسع؛ فهي قصّة عن الإهمال، وعن كل الطرق التي هجرت بها الحكومة والمجتمع ككل سكان مدينة كليفلاند.

هناك الكثير من الحديث في هذه الأيام عن النهضة العمرانية الكبيرة، لدرجة أن الصراعات المستمرة للمدن المغمورة غالبًا ما تتعرض للتجاهل. ويؤدي سوينسون خدمة بسيطة من خلال التقاط الإحباط اليومي الناتج من الوجود في مكان كهذا، حيث يقول: «كان من الصعب حصر الأثر الصافي الذي خلفته كل هذه الكارثة المؤسساتية على فرد عادي من سكان كليفلاند. عندما تتوقف أساسيات مدينتك -كإلقاء القبض على القتلة أو مساعدة الأطفال على تحصيل الشهادات أو تثبيت قاعدة ضريبية – عن العمل، يكون هنالك شعور بالنبذ من التيار الأمريكي الرئيسي.»

جزء كبير من هذا التخلي يشمل وسائل الإعلام: تتعرض المآزق التي تمر بها هذه المدن لخطر التجاهل المتزايد، وذلك لتناقص عدد المراسلين الصحافيين الذين يوثّقونها. ويعمل سوينسون الآن في صحيفة الواشنطن بوست The Washington Post. وتعتبر كليفلاند محظوظة لكون صحيفتها «ذا سين» ما تزال موجودة، فقدت العديد من المدن الأخرى صحفها الأسبوعية، لكن الصحيفة اليومية للمدينة The Plain Dealer أوهنتها الاقتطاعات. ولا يسع المرء إلا التساؤل عن حجم الظلم المدمّر للحياة الذي ربما لا يخضع للمعالجة في المستقبل بسبب عدم وجود مراسلٍ فضوليّ يردُّ على مكالمة أو يفتحُ مظروفاً.

https://www.nytimes.com/2019/02/21/books/review/exonerated-for-a-murder-they-didnt-commit.html

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى