اختبارات تنجح في كشف المعقل الأخير لفيروس نقص المناعة البشرية المكتسب
لا يمكن للعقاقير أن تصل إلى الفيروس HIV في الريبليكونات (النُّسخ المتماثلة)، لكن كريسبر يتمكن من ذلك
بقلم: جون كوهين
ترجمة: صفاء كنج
غيّرت العقاقير المضادة للفيروسات القهقرية Antiretroviral (اختصارا: المضادات ARV) عدوى نقص المناعة البشرية المكتسب (HIV) من حكمٍ بالإعدام إلى مرضٍ مزمن، لكن لهذه الأدوية فعالية محدودة. ففي معظم الأفراد تخفف هذه الأدوية بشكل روتيني مستوياتِ الفيروس HIV إلى درجة لا تكشف الاختبارات المعيارية فيها عن وجود الفيروس HIV في عينات الدم. مع ذلك، ولسبب غير مفهوم، فلا يزال الكشف عن الفيروس HIV في عينات الدم لدى نحو %10 من المصابين أمراً سهلاً، على الرغم من أنهم يتناولون أقراص الدواء بصورة يومية ولا يحملون نسخاً فيروسية طافرة مقاومة للأدوية.
واقترحت دراسة عُرضت في مارس 2019 خلال أكبر مؤتمر سنوي حول فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب/الإيدز في الولايات المتحدة الأمريكية حلاًّ لهذا اللغز يتمثل بالريبليكونات (النسخ المتماثلة) “repliclones”، وهي مجموعات من الخلايا تعيد نسخ نفسها وتُخبِّئ بداخلها جينوم الفيروس HIV. ويقول جورج بافلاكيس George Pavlakis، اختصاصي علم الفيروسات في المعهد الوطني للسرطان National Cancer Institute في فريدريك بولاية مريلاند: «إنه أهم عرض حضرته في المؤتمر.»
تسلط هذه الريبليكلوناتُ الضوءَ على قصور ربما يكون خطيراً في استراتيجية علاج الفيروس HIV المطبَّقة على نطاق واسع، وتلفت الانتباه مجدداً إلى مقاربة جذرية لاستئصال الفيروس العنيد ألا وهي استخدام مُعدِّل الجينوم كريسبر CRISPR لقطع جينات الفيروس HIV من الخلايا المصابة. وسجلت دراسة أجريت على النسانيس باستخدام هذا المقاربة وعرضت خلال المؤتمر نفسه علامات نجاح، وتأمل إحدى شركات التكنولوجيا الحيوية بالبدء بتجربة إكلينيكية.
أما عالم الفيروسات جون ميلورز John Mellors من جامعة بيتسبيرغ University of Pittsburgh في بنسلفانيا؛ فيقول إن الأطباء في كثير من الأحيان يشعرون بـ«السخط» عندما يعثرون على كميات صغيرة من الفيروس HIV في دم المصابين بالعدوى على الرغم من تناول المضادات ARVs. ونظراً لأنهم يفترضون أن الفيروس اكتسب مقاومةً للأدوية، يلجأ الأطباء في الغالب إلى تغيير نظام العلاج ويطلبون إلى مرضاهم إجراء العديد من الاختبارات الإضافية. ويضيف ميلورز إنّ «كلاًّ من هذه الإجراءات يولد قلقاً وآثاراً جانبية جديدة.» إضافة إلى ذلك، ربما لا تزال لدى هؤلاء الأشخاص أحمالٌ Viral loads مرتفعة من الفيروس بما يكفي لإصابة الآخرين.
وخلال مؤتمر الفيروسات القهقرية والالتهابات الانتهازية Conference on Retroviruses and Opportunistic Infections، الذي عقد في سياتل، وصف عالم الفيروسات إلياس هلفاس Elias Halvas الذي يعمل في مختبر ميلورز الكيفية التي حَلَّل وفقها بدقة فيروساتٍ معزولة عُثر عليها في خلايا دم ثمانية رجال وامرأة استمر لديهم – بصورة غامضة – على منخفض من الفيروسات في الدم على امتداد ثلاث سنوات، على الرغم من تناولهم المضادات ARVs. ولاحظ هالفاس وزملاؤه أمراً غريباً؛ ففي الحالات الاعتيادية، في كلَّ مرة يصيب فيها الفيروس خليةً يَنسِخ جينوم الحمض النووي الريبي (رنا) RNA الخاص به على شكل نسخة حمض نووي (دنا) DNA تندمج في مكان جديد من كروموسومات الخلية. لكن في كل واحد من هؤلاء المرضى، كانت جميع الخلايا المصابة قد دمجت الفيروس HIV في المنطقة نفسها من الكروموسوم (على الرغم من أن الموضع يختلف من شخص إلى آخر). وكان هناك تطابق كذلك في تسلسل الحمض النووي لفيروس نقص المناعة البشرية المأخوذ من خلايا مختلفة من الشخص نفسه.
ومنذ فترة طويلة يعرف الباحثون أن بمكان الفيروس HIV إنتاج نسخ جديدة من نفسه بطريقتين: في دورة النسخ الأساسية Basic replication cycle، يخلق الحمض النووي للفيروس HIV المدمج في كروموسوم فيريونات Virions، أو جزيئات فيروس، تنبعث من تلك الخلية ثم تصيب خلايا أخرى مكتسبة طفرات في كل مرة. وتعيق المضادات ARVs عدة خطوات في تلك العملية.
وفي المسار الثاني يحصل الفيروس HIV على رحلة مجانية لأنه يصيب خلية مناعية تستنسخ نفسها، ومن ثم تصنع المزيد من الخلايا التي تحمل الجينوم الفيروسي. فلا تستطيع المضادات AVRs عرقلة هذه العملية وينتهي الحمض النووى DNA الفيروسي في الموقع الكروموسومي نفسه في جميع خلايا السلالة دون اكتساب أي طفرة جديدة. ويمكن لهذه الكلونات (النسخ) أن تنتج بنفسها فيريونات جديدة، ولكن المضادات ARVs تمنع الفيريونات من إصابة خلايا جديدة. وبيَّن فريق ميلورز أن هذا المسار Pathway كافٍ بمفرده لشرح الأحمال الفيروسية المنخفضة ، لكن المستمرة لدى هؤلاء المرضى.
ويقول دانيال كوريتزكس Daniel Kuritzkes، اختصاصي فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز من مستشفى بريام وومان Brigham and Women’s Hospital في بوسطن، إن البيانات الجديدة تشير إلى أن الأطباء يجب ألا يشعروا بالقلق من انخفاض مستويات الفيروس لدى المرضى الذين يقولون إنهم يلتزمون بنظامهم العلاجي وليس لديهم أي تلف واضح في المناعة. ويضيف كوريتزكس الذي نشر مختبره في وقت سابق اكتشافاً مشابهاً في عينات مريض واحد، «في حالة عدم وجود ارتفاع في مستوى الفيروس في الدم، من الآمن الافتراض أنه لا داعيَ لتغيير» نظام العلاج الدوائي.
إذا لم نتمكن من القضاء عليها بأدويتنا، فلن تنفع مقاربة الركل والقتل
بيد أن النتائج تلقي بظلال من الشك على استراتيجية علاج شائعة: «ركل» (تحريض) Kicking الخلايا التي تؤوي الحمض النووي DNA للفيروس HIV في حالة كمون غير استنساخية وجعلها تَضخُّ نسخاً جديدة من الفيروس لتعرِّض نفسها للقتل. ويقول ميلورز إن هذه الريبليكلونات تنفث الفيريونات لكنها تكون في مأمن من المضادات ARVs أو الاستجابة المناعية للمريض. لذلك هناك حاجة إلى شيء آخر إضافي لقتلها، ويقول: «إذا لم نتمكن من القضاء عليها بأدويتنا، فلن تنفع مقاربة الركل والقتل.»
لكن طريقة أخرى قد تجدي: إزالة ما تبقى من الحمض النووي HIV DNA مباشرة من كروموسومات المريض باستخدام تقنية كريسبر لتحرير الجينوم. ويقول بافلاكيس: «إنها فكرة تنتمي إلى الخيال العلمي قد تكون ممكنة يوماً ما.» ويجادل في أن خطر أن يقص إنزيم Cas9 (من تقنية كريسبر) الحمض النووي DNA في المكان الخطأ خطر مرتفع، وليس من السهل توجيه إنزيم التحرير إلى الخلايا الملائمة، فكريسبر «لم يبلغ ذلك بعدُ في الوقت الحالي.»
وخلال المؤتمر وصفت اختصاصية علم الأعصاب والحميات تريشيا بوردو Tricia Burdo من جامعة تمبل Temple University في فيلادلفيا، خطوة أولى تقوم على استخدام إنزيم التحرير ليقص على الأقل بعضا من فيروس الإيدز لدى القرود SIV، من كروموسومات نسناسين. لقد أظهرت أعمال سابقة أن كريسبر قد يقطع الحمض النووي HIV/DNA الموجود داخل خلايا الفئران المُهندسة جينيًّا لتمتلك أجهزة مناعة شبيهة بأجهزة البشر. وفي الدراسة الجديدة أدخل الباحثون فيروساً غدِّياً Adeno-associated virus غير ضار يحمل الجينات التي يستهدفها مقص كريسبر الجزيئي في أوردة اثنين من النسانيس المصابة بالفيروس SIV. وكان النسناسان يُعالجان بالمضادات ARVs ولديهما مستويات منخفضة من الفيروس SIV.
أظهر تشريح الحيوانين المعالَجين أن كريسبر قصّ الحمض النووي SIV DNA في الدم والطحال والعقد الليمفاوية وخلايا الرئة، الأمر الذي أدى على ما يبدو إلى شل الفيروس. وليس بإمكان دم النسانيس المعالجة إصابة خلايا الدم البيضاء في تجارب أنبوب الاختبار بالعدوى، في حين كان الدم من حيوانات مجموعة التحكم (الضابطة) Control Group قادراً على ذلك. ووجد الفريق أيضاً إنزيم Cas9 في جميع الأنسجة الـ14 التي خضعت للفحص، الأمر الذي يشير إلى أن الفيروس الحامل للجينات انتشر في الجسم كما هو مقصود. ويقول جون كوفين John Coffin، عالم الفيروسات القهقرية من فرع جامعة تافتس Tufts University في بوسطن: «تظهر البيانات تأثيرات أقوى بكثير مما شوهد من قبل، لذا فهذه خطوة في الاتجاه الصحيح.»
وتقول بوردو إن فريقها سيوقف في تجربة لاحقة إعطاء النسانيس المعالجة بتقنية كريسبر المضادات ARVs للنظر فيما إذا كان الفيروس سيعاود الظهور. كما يخطط الباحثون لنقل الملايين من خلايا الدم من النسانيس المعالجة بكريسبر إلى حيوانات غير مصابة، وهي طريقة أخرى دقيقة لتحديد ما إذا كانت حتى كميات نزرة من الفيروس SIV تبقى سليمة ومتوارية.
يأمل الباحث المتعاون مع بوردو، عالم الأعصاب والحميات في جامعة تمبل كامل خليلي Kamel Khalili بتطوير نسخة بشرية من علاج كريسبر الجيني. ويقول خليلي إن شركته إكسيشون بيوثيرابوتيكس Excision BioTherapeutics في فيلادلفيا، تعتزم الحصول على الموافقات المطلوبة لبدء تجارب كريسبر لاستئصال الفيروس HIV لدى البشر بحلول نهاية هذا العام.
هذا، ولا يزال البعض متشككاً في قدرة كريسبر على استئصال جميع الخلايا المصابة بالفيروس HIV. ويلاحظ دوغلاس ريتشمان Douglas Richman، عالم الفيروسات في جامعة كاليفورنيا University of California بسان دييغو، أنه ربما يكون لدى الشخص الذي يحمل حملاً فيروسياً لا يمكن اكتشافه في عينات الدم نحو 100 مليون خلية تُخبِّئ الحمض النووي HIV DNA. ويقول ريتشمان إن «المشكلة في كل التدخلات العلاجية هي أنها تؤثر في أعداد قليلة من الخلايا. وهذا يعني أن كمية هائلة من الفيروس تظل موجودة. فإذا كنت تريد التخلص مما هو على هذه الدرجة من الخطورة؛ فعليك أن تقضي عليها جميعها.»