أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
بيولوجيا

عالَم الفيروسات الزومبي قد يحمل مفتاحَ التطورِ نفسَه

سيئة السمعة بسبب إصابتها لنا بالمرض، فالفيروسات كائنات غريبة لا-ميتة؛ ولكنَّ رؤى جديدة تكشف أنها -في المقام الأول- ربما ولَّدت تعقيدَ الحياةِ الرائع.

بقلم: جوناثان آر. غودمان
ترجمة: د. ليلى الموسوي

تخيل مخلوقاً غريباً يطفو في الفضاء. وهو لا ينمو أو يتواصل أو يتحرك بقوته الذاتية أبداً. ومن دون مأوى يظل خاملاً. لا نعرف الكثير عن هذا المخلوق، غير أنه بمجرد أن يدخل الغلاف الجوي لكوكبٍ يناسبه، فإنه سيبدأ بالتكاثر. فهل هو حيٌّ؟ هل هو خطير؟
ربما لا يبدو وجود مثل هذا الكائن معقولاً، لكنه يصف – إلى حدٍّ كبيرٍ – الفيروساتِ التي هي أكبر بقليل من أجزاء من المادة الوراثية القادرة على التكاثر فقط عندما تكون داخل مضيفٍ Host. قد تبدو الفيروسات غريبة، لكنها الأكثر وفرة، ويمكن القول إنها أهم الكائنات الحية على الأرض. فقد عثرنا عليها في كل مكان تقريبًا، من المحيطات والغابات وصولاً إلى الأشخاص من حولكَ، وبالطبع في داخلك وعليكم أيضًا. وهذا العالَم من أشباه الكائنات الحية الغريبة أُطلِق عليه اسم الفيروسات، وهي كائنات غامضة – فنحن لا نعرف إلا القليل عنها مقارنة بأي شكل آخر من أشكال الحياة. لكن هذا يتغير بسرعة.

وبشكل عام، ينظر الناس إلى الفيروسات على أنها مُرادِفةٌ للعدوى، ولا شك في أنها تسبب بعضًا من أخطر الأمراض، بما في ذلك الجدري والإيدز والإيبولا والإنفلونزا. ومع ذلك، فإن الفيروسات أكثر بكثير من مجرد آلاتِ قتلٍ عشوائيةٍ. ففي السنوات الخمس الماضية تحسنت قدرتنا على فحص المواد الوراثية التي صُنعت منها، و تضاعف عدد الأنواع Species المُصنَّفة 20 ضعفاً. بل أكثر من ذلك، صار من الواضح بشكل متزايد أن هذه الكائنات الغريبة والمتنوعة تؤدي دوراً رئيسيّاً في التطور، بل ربما كانت حيوية لأصول الحياة.

لا توجد مجموعة أخرى من الكائنات الحية تماثل الفيروسات من حيث الوفرة. إذ تُقدِّر إحدى الدراسات أن عدد الفيروسات في المحيطات وحده يصل إلى 1030، في حين تقدّر دراسات أخرى مجموع تعداد الفيروسات على الأرض بعدد أكبر من ذلك، نحو 1031، أو أكثر من مليون ضعف العدد المقدَّر للنجوم في الكون. ووفقًا للأبحاث المنشورة عام 2019، يسقط كلَّ يومٍ نحو 800 مليون فيروس مرتبطٍ بحبيبات الغبار على كل متر مربع من سطح الأرض – ولا نعرف شيئًا تقريبًا عن معظمها.

حتى السؤال الأزلي حول ما إذا كانت الفيروسات حيةً أم لا ما زال مطروحًا. تقول مارلين روزينك Marilyn Roossinck من جامعة ولاية بنسلفانيا Pennsylvania State University: «اشرح لي ما معنى الحياة وسأخبرك بما إذا كان الفيروس حيّاً. والفيروس ليس شيئًا إلا في مضيفٍ. وليس من المهم أن نسأل عَمّا إذا كانت هذه الكيانات حيةً».

لكننا نعرف أن طول المدة التي يمكن أن تظل بها الفيروسات قابلة للحياة خارج مضيفها تختلف اختلافًا كبيرًا. فبعضها لا يبقى على قيد الحياة سوى ثوانٍ، في حين أن البعض الآخر يمكن أن يستمر لعقود عدة. ودرجة الحرارة عامل كبير. ففي البيئات شديدة الحرارة تميل الفيروسات إلى الموت بسرعة، وهذا هو السبب في أن التدفئة وسيلة فعالة لقتلها. وقد يفسر هذا أيضًا سبب قدرة الأفراد على تطوير الحُّمى استجابةً للعدوى. وفي درجات الحرارة الباردة يمكن للفيروساتِ البقاءُ على قيد الحياة لعدة أشهر أو حتى سنوات قبل أن تصيب المضيفَ بنجاحٍ. وفيروس الفاريولا، المعروف أيضًا بالجدري، قد يستمر لعقود عدة في درجات حرارة تتراوح بين أربع درجات مئوية وخمس درجات مئوية. والعوامل الأخرى التي تُقوِّض بقاء الفيروسات تشمل أشعةَ الشمسِ ووجودَ بعضِ المواد والكائنات الحية، وخاصة البكتيريا. فهي معرَّضة بشكل خاص للمعادن المطهِّرة مثل النحاس.

وبمجرد دخولها إلى المضيف، تبدأ الفيروسات العمل. ويمكن للمضيفين أن يكونوا أيَّ نوع من الكائنات الحية، أو حتى فيروسًا آخر، كما صار جليّاً قبل عقد من الزمن باكتشاف فيروس يسمى سبوتنيك Sputnik يعيش داخل فيروس عملاق ومعقد يُعرف بمامافيروس Mamavirus. وداخل الخلية يختطف الفيروسُ الآليةَ البيولوجيةَ التي يفتقر إليها ويستخدمها لنسخ المواد الجينية. وفي حالة سبوتنيك يتنافس الفيروس مع مامافيروس على عدد مرات الأيض. وتتكاثر الفيروسات بسرعة. وقد تبدأ العملية في غضون ساعات قليلة من الإصابة. وفي غضون أيام قد تنتشر الفيروسات في جميع خلايا المضيف.

وعلى الرغم من تصوراتنا المسبقة، فإن التفاعلات بين الفيروس والمضيف ليست كلها من جانب واحد: قد تكون الفيروسات مفيدة أو ضارة. خُذْ الفطريات المدمِّرة Pseudogymnoascus، التي تسبب مرضاً يسمى متلازمة الأنف الأبيض الذي أدى إلى نفاد أعداد الخفافيش بشدة في أمريكا الشمالية. عند الإصابة بفيروس تكون الفطريات أكثر نجاحًا، فتنتج جراثيمَ بأعدادٍ أكبر. ويستفيد البشر من بعض الفيروسات أيضًا.

وتساعد مجموعة تدعى بكتيريوفاجات Bacteriophages على إبقائنا في حالة جيدة عن طريق قتل البكتيريا المسببة للأمراض. وقد بدأ الباحثون باستخدام هذه الأكياس لعلاج الالتهابات البكتيرية. وقد تكون الفيروسات جزءًا أساسيّاً من الشيفرة الوراثية للمضيف، حيث توفر الجينات اللازمة للبقاء.

ويقدم مجال جديد للدراسة يُعرف بالإيكولوجيا الفيروسية نظرةً ثاقبةً للتفاعلات بين الفيروسات ومضيفيها. إنها مهمة هائلة. تأمل، على سبيل المثال، الميكروبيوم Microbiome البشري: مجموعة واسعة من الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش في كلِّ واحدٍ منا. تحتوي أجسامنا على المئات من أنواع الخلايا المختلفة – بما في ذلك الأنواع التي تتكون منها أجهزتنا المناعية المعقدة، والتي تحاول باستمرار محاربة الكائنات الحية الغريبة – والتي تتفاعل جميعها مع الآلاف أو حتى الملايين من أنواع الفيروسات والبكتيريا في ميكروبيومنا. إضافة إلى حقيقة مفادها أن هذه الميكروبات يمكنها المساعدة والتنافس معًا (انظر: «الحياة الاجتماعية للفيروسات»)، وقد يكون عدد التفاعلات المحتملة بلا حدود.

ومع ذلك، بدأنا نرى الصورة الأكبر للإيكولوجيا الفيروسية. فقد قدمت دراسة أجريت عام 2017 أولَ خريطةٍ لشبكات مضيف الفيروسات تغطي جميع الأنواع الفيروسية المعروفة آنذاك. نظر مؤلفو الدراسة في توزيع الفيروسات في بيئات مختلفة وتحركاتها بينها. وكشفت الدراسة أيضاً أن لدى معظم الفيروسات مجموعة ضيِّقة بشكل مدهش من الموائل، تصيب فقط نوعاً أو نوعين من المضيف. وسلطت دراسة أخرى أجريت عام 2017 الضوءَ على جزء غامض من الفيروس، وهو عالَم آخر كامل من الفيروسات التي تصيب نطاقاً من الكائنات أحادية الخلية تسمى البادِئة Archaea.

أنواع لا تعد ولا تحصى
هذا هو مجرد غيضٍ من فيض، ولكن. فقد كان شكُّنا منذ فترة طويلة في أن الفيروسات هي أكثر مجموعة متنوعة تنوعًا من الكائنات الحية على الأرض، ولا تزال لدينا فكرة غامضة عن عدد الأنواع الموجودة. وفي العقدين الماضيين تَمّ تحديد أنواعها أكثر من أي وقت مضى. وحتى عام 2003 لم نكن نعرف بوجود فيروسات عملاقة، تضم أكثر من 1000 جين، مقارنة بما لا يقل عن 10 في فيروسات صغيرة. واعتباراً من أبريل من العام الماضي، حدد الباحثون 195,000 نوعٍ من الفيروسات. وهذا يعادل نحو 20 مرة أكثر مما كان معروفاً في عام 2015. وبالنظر إلى أن الفيروسات تميل إلى أن تكون متخصصة بعددٍ قليل من المضيفين، فمن المرجح أن يكون تنوُّعها أكبر بكثير من جميع الأنواع الأخرى مجتمعةً.

وتَمَّ تمكين التطورات الحديثة في معرفتنا بالتنوع الفيروسي من خلال ظهور الميتاجينوميات Metagenomes. وهذا يسمح للباحثين بتحديد الجينات الفيروسية الموجودة في عينة بيئية دون الحاجة إلى عزل الكائنات الحية. ويقومون حرفيّاً بتجميع مياه البحر أو التربة وتحليلها لمعرفة مقدار المادة الوراثية الفيروسية التي تحتوي عليها. لكن هناك جانباً سلبيّاً. ويقول إدوارد هولمز من جامعة سيدني في أستراليا: «الشيء المحبط هو أن البيانات الميتاجينية تحتوي على الكثير من التسلسلات غير المحددة – ما نسميه «المادة المظلمة». وفي الوقت الحالي، فمن الصعب تحديد ماهية هذه المادة المظلمة بالفعل. ويكون تعيين الجينات لأنواع معينة من الفيروسات أكثر صعوبة بسبب المعدل المذهل الذي تتطور به هذه الكائنات. ويقول هولمز إنه لتحليل الفيروسات بشكل صحيح، نحتاج إلى أن نكون قادرين على «رؤيتها». وسيتطلب ذلك النظر في ميزاتٍ تتجاوز التسلسلات الجينية، مثل بنية بروتينات الفيروسات.

وثمة مشكلة أخرى في رسم خريطة للفيروس تتمثل في أن الباحثين غير متأكدين من كيفية تصنيف الفيروسات. وفي الوقت الحالي يستخدمون نظامًا مشابهًا للنظام المستخدَم لتصنيف جميع الكائنات الحية، مع فئات تتراوح من المملكة (Viriae) إلى الجنس والأنواع. وحتى الآن، صُنِّف أقل من 5000 فيروس بهذه الطريقة. إضافة إلى ذلك، هناك إدراك متزايد بأن لدى نظام التصنيف الحالي فجوات واسعة وخاطئٌ في بعض الأماكن. وهناك دافع لفعل شيء حيال ذلك، على الرغم من ذلك. وفي مارس الماضي طالبت اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات بوجود تصنيف كامل للفيروسات. وتعترف بأن هذه مهمة ضخمة، لكنها تجادل في أن الفوائد المحتملة كبيرة جدا. وكتبت اللجنة في مجلة نيتشر: «لا يمكننا أن نعرف ما قد تصل إليه مجموعة من الفيروسات» غير المهمة «حتى يتم فحصها». «تصنيف الفيروسات هو وسيلة مباشرة للمساهمة اليومَ في حل مشكلات الغد العالمية».

قد يبدو ذلك متكلفًا، لكنه مبرر. فالفيروسات ليست مجرد تهديد لصحة الناس وسبل عيشهم، بل هي أيضًا ضرورية للحياة على الأرض. وما بدأ علماء الأحياء التطوريون بإدراك أن ما يقدمونه هو الوصول إلى مواد وراثية جديدة قد تساعد الكائنات الحية على التكيف والبقاء على قيد الحياة. تتطور الفيروسات بسرعة أكبر بكثير من أي كيان معروف آخر – أسرع بمقدار مليون مرة مما نفعل – مما يمنحها إمدادًا ثابتًا بالمواد الوراثية الجديدة. ويمكنها مشاركة هذه الجينات مع مضيفيها في عملية تُسمَّى نقل الجينات الأفقي. فكر في الأمر على أنها لعبة تداول، حيث يمكن للاعبين تبديل البطاقات لتحسين وضعهم. قريباً سيكون هناك لاعبان حصلا على أفضل مجموعات ممكنة. ولكن إذا استطاعا التبديل مع لاعبين جديدين باستخدام مجموعات متغيرة بسرعة (فيروسات)، فيمكنهما النجاح أكثر. لذا، فإن معرفة المزيد عن العلاقات بين الفيروسات والمضيفين وبيئاتها يجب أن تمنحنا رؤى أساسية في تطور الحياة وحتى أصولها.

إضافة إلى ذلك، فقد تساعدنا دراسات البيئة الفيروسية على فهم نتائج التفاعلات بين الفيروسات ومضيفيها – وربما حتى التنبؤ بها في يوم من الأيام. ثمة فوائد واضحة عندما يكون هذا المضيف لنا. ويهدف مشروع واسع النطاق، يُعرف باسم فيروس الفيروم العالمي Global Virome Project، إلى «الكشف عن غالبية التهديدات الفيروسية غير المعروفة لكوكبنا»، للتنبؤ بالفيروسات التي قد تقفز من المضيفين وتصيبنا وربما تقتلنا. وهذا لن يكون سهلاً. يقول هولمز الذي عبَّر عن بعض الشكوك حول المشروع: «إن تسلسل الفيروس نفسه لا يخبرك شيئًا عن احتمالات ظهوره في البشر، هناك الكثير مما يجب فعليه، بما في ذلك الدراسات حول كيفية تصرف الفيروسات بالفعل».

«توجد فيروسات على الأرض أكثر بمليون مرة من نجوم الكون»

تاريخيّاً، كان النهج الذي نتبعه في إجراء أبحاث حول فيروسات الإنسان مُركَّزاً بالكامل تقريباً، حيث يركز بشكل أساسي على الفيروسات التي قد تضر بصحتنا أو رفاهيتنا الاقتصادية. وحالياً، يجادل علماء الفيروسات في أن الأمور يجب أن تتغير. ويجب أن نواجه نظرتنا المتحيِّزة للفيروسات باعتبارها خطيرة بطبيعتها، كما يجادلون. ونحتاج إلى فهمٍ أكبر لماهية الفيروسات الموجودة بالفعل، ومن أين تأتي وكيف تستمر بالتأثير في كل جانب من جوانب الحياة على الأرض.
إن فتح أعيننا على هذا العالَم الغريب سيسهم في كل شيء؛ من مساعدتنا على الوقاية من الأمراض إلى فهم أصول الحياة. وقد يقدم لنا نظرة ثاقبة حول الكيفية التي من المرجح أن يتغير العالَم الطبيعي وفقها في المستقبل.

الحياة الاجتماعية للفيروسات
قد تكون الفيروسات خاملة عندما تكون خارج مضيفها، لكن بمجرد دخولها، يكون سلوكها متطورًا بشكل مدهش. قبل عقدين من الزمن اكتشف الباحثون أن بعض الفيروسات تُرسل إشارات تساعدها على تقرير ما إذا كان عليها التنافس أو التعاون مع بعضها بعضا في نسخة فيروسية من لعبة معضلة السجين.

وتُظهر الاكتشافات الحديثة أن هذا التواصل يعتمد على بروتينات صغيرة تسمى الببتيدات لنقل المعلومات. وعُثر على مثل هذه الإشارات القائمة على الببتيد في مجموعة متنوعة من الفيروسات، بما في ذلك تلك التي تسبب الإنفلونزا والحصبة وشلل الأطفال. ومع ذلك، فقد أجريت معظم الأبحاث في البكتيريوفاجات، وهي مجموعة من الفيروسات التي تصيب البكتيريا. فهي تتواصل لتنسيق سلوكها، خاصة عندما تحتاج إلى تقرير ما إذا كانت ستهاجِمَ أو تنام. واتضح أن لدى أنواع الفيروسات المختلفة إشارات سرية خاصة بها. كما أنها قادرة على التنصت على الفيروسات الأخرى والأنواع المضيفة.

ويمكننا استخدام هذه الاكتشافات لصالحنا – لمكافحة الأمراض، على سبيل المثال. وفي الواقع، فقد صمم الباحثون في جامعة برينستون مكيدةً لقتل الفيروسات التي يمكنها استشعار الإشارات الفريدة من نوعها للميكروبات الأخرى، بما في ذلك الإشريكية القولونية E. coli والسالمونيلا Salmonella، ومن ثم الدخول إليها وتدميرها. وهذا يشير إلى أننا في يوم من الأيام قد نتمكن من معالجة البكتيريا لقتل أي بكتيريا عند الطلب. ومع زيادة مقاومة المضادات الحيوية في جميع أنحاء العالم، فقد يكون هذا علاجًا بديلاً وحاسمًا لبعض الأمراض الرئيسية.

@2020, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى