نفاد دواء دفتيريا منقذ للحياة
نفاد دواء دفتيريا منقذ للحياة
وفاة طفلين في أوروبا تدعو إلى البحث عن مصادر جديدة للترياق
بقلم: كاي كوبفرشميدت
عندما نقلت طفلة صغيرة مصابة بالتهاب حاد في اللوزتين إلى المستشفى الجامعي بأنتورب في بلجيكا في 10 مارس 2016، اشتبه الأطباء بسبب غريب جدا وهو الدفتيريا (الخُناق) Diphtheria، الذي كان فيما مضى وباء دعي ب“الملاك الخانق للأطفال” وقتل مئات آلاف الأطفال سنويا، إلا أنه يكاد يكون مرضا غير مألوف في أوروبا في يومنا هذا بفضل اللقاح الآمن والفعال. لكن الطفلة ذات الثلاثة أعوام ابنة العائلة الشيشانية كانت غير ملقحة وكان لديها عَرَضٌ مميز وهو طبقة رمادية كثيفة من الخلايا الميتة والبكتيريا في الحلق تعرف بالغشاء الكاذب Pseudomembrane.
وفي السنوات الماضية، كانت ستُعطى مصلا مُضادا يعمل على تحييد السم المميت الذي تنتجه البكتيريا كورينيباكتيريوم دفتيريا (الخناق الوتدية) Corynebacterium diphtheria إضافة إلى إعطائها مضادات حيوية، لكن لم يتوفر مصل مضاد في بلجيكا وهو نادر الوجود في أوروبا. وفي تاريخ 15 مارس، عندما أكد مخبرٌ وطني مرجعيٌّ التشخيص الذي افترضه الأطباء، كان الأطباء لايزالون غير قادرين على فعل شيء، ثم في 16 مارس، بعد أن طلبوا المساعدة من المركز الأوروبي للسيطرة على الأمراض ومكافحتها European Centre for Disease Prevention and Control (اختصارا: المركز ECDC) في ستوكهولم، شُحِن الترياق من هولندا لكن بعد فوات الأوان، إذ توفيت الفتاة في اليوم التالي.
إن تلك الحالة نادرة لكنها ليست فريدة، ففي 2015، توفي طفل في إسبانيا في ظروف مماثلة، إضافة إلى أن انخفاض معدلات التلقيح في بعض الدول يزيد المخاوف من حالات أخرى جديدة. وفي الوقت الحالي، فإن مخزون الترياق الذي يُنتَج من الأحصنة قليل حول العالم على الرغم من أن منظمة الصحة العالمية WHO وضعته على لائحة “الأدوية الأساسية”، لكن سوق هذا الدواء صغير جدا ليجعل إنتاج هذا الدواء مربحا.
ويخطط المركز ECDC للإشارة إلى هذا النقص في تقرير متوقع صدوره باكرا هذا العام وسيناقش أيضا الإمكانية التشخيصية للدفتيريا في أوروبا، بينما يحاول الباحثون في الوقت الحالي صنع الترياق بالاستزراع الخلوي الذي قد يساعد على تأمين إنتاج الترياق ويحسن نوعيته.
وفي نوفمبر 2016، أعلنت جمعية المناصرين للمعاملة الأخلاقية للحيوانات People for the Ethical
Treatment of Animals (اختصارا: الجمعية PETA) أنها ستمول مثل هذا العمل لإنتاج الترياق بالاستزراع الخلوي الذي يقوم به مايكل هاست Michael Hust -باحث في جامعة براونشفايغ للتكنولوجيا Braunschweig University of Technology في ألمانيا، على أمل إنهاء استخدام الأحصنة كمصانع حية للترياق. كما تعمل شركة ماس بيولوجيكس MassBiologics، وهي مصنّع غير ربحي للقاح في الولايات المتحدة الأمريكية، على مشروع مماثل.
تبدأ الدفتيريا، التي ينتقل عادة عبر السعال، بحلق ملتهب وحمى، لكنه كثيرا ما يتطور إلى عدوى حادة يمكن أن تسدَّ الطرق التنفسية، وتقول آنيا تاكلا Anja Takla باحثة في معهد روبرت كوخ Robert Koch Institute في برلين: “ببساطة لا يستطيع الأطفال التنفس بعد ذلك.” في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كان المرض لايزال يقتل عشرات الآلاف من الأطفال كل عام في ألمانيا وحدها، اكتشف عالم الفيسيولوجيا إيميل فون بيرينغ Emil von Behring أن الخطر الأكبر يأتي من سم بكتيري يقتل الخلايا في الحلق ويمكنه أيضا أن يؤذي القلب والكبد.
لقد طعّم بيرينغ الفئران والأرانب بتلك المادة ثم جمع دماءها لإنتاج مصل مضاد. وبعد أن أظهر قدرة المصل على إنقاذ مرضى الخناق، بدأت شركة أويخست AG للدوائيات في فرانكفورت ألمانيا بإنتاج المصل من عشرات الأحصنة، مما أكسب بيرينغ أول جائزة نوبل في الفيسيولوجيا أو الطب عام 1901.
لقد خفّضت لقاحات الطفولة الروتينية عدد إصابات الدفتيريا بشكل كبير منذ ذلك الوقت وتناقص الطلب على الترياق بشكل كبير، وأغلقت العديد من منشآت الإنتاج أبوابها، وفي السنوات القليلة الماضية، توقفت شركات في أستراليا وبولندا وسويسرا عن إنتاجه. حتى مؤخرا، اعتمدت العديد من الدول الأوروبية على معهد علم المناعة Institute of Immunology في كرواتيا للحصول على الترياق، لكن إنتاجه توقف هناك أيضا، كما قد انتهت صلاحية زجاجات الترياق، وبقيت شركة بولبايو BulBio في بلغاريا المنتج الوحيد المتبقي في أوروبا، لكن “ليس لديها مخزون لتشاركه” حسب ما أشار تقييم للمخاطر أعده المركز ECDC في السنة الماضية.
لايزال الترياق يُنتَج في روسيا والهند والبرازيل لكن بكميات قليلة، إلا أن قوانين الاستيراد الصارمة لمنتجات الدم يجعل استخدامها صعبا جدا في الاتحاد الأوروبي. وأشار الباحثون في ورقة علمية عام 2014 إلى أن “الوضع الحالي في أوروبا يُعلِّم عودة إلى عصرٍ من دون تطعيم سلبي كما كان الوضع قبل 100 سنة مضت.”
إن الوضع في الولايات المتحدة بالسوء نفسه، فترياق الدفتيريا المرخص لم يعد متوفرا منذ 1997، إلا أن مراكز السيطرة على الأمراض ومكافحتها Centers for Disease Control and Prevention (اختصارا: المراكز CDC) في أتلانتا والتي يأتيها بالمتوسط ثلاثة طلبات بالسنة، تزود الأطباء بمصل مُضاد مُصنّع من قبل معهد بوتانتان Instituto Butantan في ساو باولو في البرازيل كـ “دواء تجريبي جديد” investigational new drug (اختصارا: الدواء IND). وقد أوقف المعهد الإنتاج عام 2009، وتستخدم المراكز CDC الآن مخزونا قديما، تختبره كل سنتين للتأكد من قدرته الدوائية، حسب ما كتب متحدث رسمي في بريد إلكتروني.
إن الترياق المُنتَج بالاستزراع الخلوي لا يمكنه فقط أن يزيد الإنتاج بل يمكنه أيضا أن يحل مشكلات أخرى، على حد قول هاست. ويتابع: “على سبيل المثال، كل حصان تُطعِّمه سينتج مصلا مختلفا قليلا، لذلك، فإن كل منتج مختلف عن الآخر،” ويمكن لزرع الخلايا أن يعطي “منتجا محددا سيكون هو نفسه كل مرة،” وسينهي ذلك أيضا مشكلة من مشكلات الأعراض الجانبية تُعرف بدوار المصل Serum sickness، إذ يطور الطفل استجابة تحسسية حادة لمصل الحيوان.
وبتوافر تمويل يقدر بـ 143000 يورو من جمعية المناصرين للمعاملة الأخلاقية للحيوانات، بدأ هاست بفحص مجموعة كبيرة من ملايين الأجسام المضادة وقال إنه تعرف على بضعة مرشحين محتملين من الأجسام المضادة، وتمثل الدراسات المختبرية المرحلة التالية لمعرفة ما إذا كانت الأجسام المضادة تمنع حقا السم من الارتباط بالخلية. كما يسعى هاست أيضا إلى تعرف الأجسام المضادة المحتملة التي ترتبط بأجزاء مختلفة من السم والتي يمكن جمعها في مزيج. بعد ذلك سيُفحَص المنتج الواعد منها في خنازير غينيا للتأكد من سلامته. ويقول هاست: “لنتجنب تعريض الحيوانات للمعاناة في المراحل النهائية، يتعين أن نجري بعض التجارب الحيوانية في البداية.” لكنه يعقب قائلا إن جمعية المناصرين للمعاملة الأخلاقية للحيوانات رفضت أن تموِّل تلك المرحلة من المشروع، وسيكون تمويل التجارب البشرية العقبة الأكبر إذ إنها ستكلف 10 ملايين يورو. ويشرح هاست: “لماذا ستهتم أي شركة دوائيات؟ فلا يوجد سوق لذلك المنتج.”
وتواجه شركةُ ماس بايولوجيكس -مقرها في بوسطن وجزءٌ من كلية الطب التابعة لجامعة ماساتشوستس- مشكلاتٍ مشابهة. ففي عام 2013 حدّد باحثوها جسما مضادا واعدا، وستنتهي التجارب على الحيوانات خلال 6 إلى 8 أشهر القادمة، كما تقول ديبورا مورلين Deborah Morline نائب المدير للشؤون الإكلينيكية. وستكون الخطوة التالية هي التقدم بطلب لرخصة “دواء تجريبي جديد” من إدارة الغذاء والدواء Food and Drug Administration (اختصارا: الإدارة FDA) ومن ثم اختبار الأجسام المضادة على البشر. وتقول مورلين: “بكل صراحة، إن أكبر تحد بالنسبة إلينا الآن” هو جمع المليون أو المليوني دولار التي نحتاجها لإنتاج الجسم المضاد بالمعايير العالية المطلوبة لاستخدامها في البشر، وتتابع: “لقد كنا نتكلم مع عدة وكالات ومؤسسات مختلفة لنرى إذا كان بالإمكان توفير المساعدة منهم.”
قد يصبح الأمر أسهل إن تزايد الطلب على الترياق، ويظن البعض أن ذلك سيحدث. فوفقا لمنظمة الصحة العالمية، في عام 2015 كانت أوكرانيا واحدة من 6 دول حول العالم التي كانت فيها معدلات التلقيح ضد الدفتيريا أقل من 50 في المئة، وهذا يضع الدولة في مواجهة خطر حدوث تفشٍ للمرض. تقول تاكلا: “قد تزداد الحالات في المستقبل القريب.” إن حصل ذلك فعلا، يأمل هاست بأنه سيكون هنالك علاج حديث من القرن الحادي والعشرين متوافرا لمساعدتنا على تجنب المزيد من الوفيات، ويقول: “من المحزن أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث في أوروبا اليوم.”