دراسة ترجع ظهور الحصبة إلى عصور قديمة
قد يكون الفيروس انتقل إلى البشر عندما صارت المدن كبيرة بما يكفي للحفاظ على استمرار تفشي المرض
بقلم: كاي كوبفرشميت، برلين
ترجمة: صفاء كنج
في 3 يونيو 1912 توفيت فتاة في السنة الثانية من العمر بمستشفى شاريتيه الجامعي Charité University Hospital في برلين بسبب التهاب رئوي بعد إصابتها بالحصبة. في اليوم التالي استأصل الأطباء رئتيها ووضعوهما في الفورمالين وأضافوهما إلى مجموعة من العينات التشريحية التي بدأ بجمعها رودولف فيرشوف Rudolf Virchow، ولقبه “أبو علم الأمراض” Father of pathology. بقيت العينة هناك لأكثر من 100 عام حتى عثر عليها بالصدفة سيباستيان كالفينياك- سبنسر Sebastien Calvignac-Spencer، عالم الأحياء التطورية من معهد روبرت كوخ Robert Koch Institute، في قبو متحف برلين للتاريخ الطبي Berlin’s Museum of Medical History .
أخذ كالفينياك- سبنسر وفريقه عينة من الرئتين وعزلوا الحمض النووي الريبي، RNA، منها ثم جمعوا ما هو أقدم جينوم معروف لفيروس الحصبة. ساعدتهم المتواليات Sequence على تسليط الضوء على فترة مبكرة من تاريخ الحصبة. في دراسة أعدت لإيداعها في الأسبوع الأول من يناير 2020 على موقع بايوأركايف BioRxiv الذي يستقبل الأدبيات العلمية قبل طباعتها، خلص الفريق إلى أن الفيروس ربما انتقل إلى الجسم البشري في وقت مبكر يعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وليس في العصور الوسطى، كما اقترحت أبحاث سابقة.
يقول عالم الأحياء التطورية مايك ووروبي Mike Worobey من جامعة أريزونا University of Arizona: إن هذا العمل رائع «لمجرد القدرة على إخراج فيروس الحصبة من تلك العينات القديمة الرطبة. هذا يمهد الطريق لأعمال مختلفة مهمة جدا». وتصف مونيكا غرين Monica Green، مؤرخة الأمراض المعدية من جامعة ولاية أريزونا Arizona State University، في تيمبي التسلسل بأنه «ملفت حقاً»، لكنها تقول إن الدراسة تفتقر إلى نقاط بيانات كافية «لتوفير إجابات حاسمة» حول ظهور الحصبة. ويتفق معدو البحث معها ويأملون بأن تتوفر تلك الإجابات في يوم من الأيام، من متواليات جينوم من العصور القديمة محفوظ في أجساد محنطة أو مجمدة.
والحصبة التي قتلت ما يقدر بنحو 142 ألف شخص في عام 2017 هي من أكثر الأمراض البشرية المعدية. ولكن متى وأين وكيف صارت من مسببات الأمراض البشرية، فلا تزال موضع نقاش. إن أقرب قريب من فيروس الحصبة هو أحد الأمراض التي تسبب طاعون الماشية Rinderpest الذي كان يصيب الماشية والغزلان والجاموس والأنواع الأخرى ذوات الظلف الأثر قبل أن يُقضى عليه في عام 2011. ويعتقد معظم الباحثين أن كلا الفيروسين كان لديه سلف مشترك يصيب الماشية. تقول غرين: «التحدي هو أن … الحصبة تركت آثارًا قليلة جدًا في سجلات وصف الأمراض على مر التاريخ».
نظرًا لأن الحصبة تنتشر بسرعة كبيرة ولأن العدوى تمنح مناعة مدى الحياة، يقدر العلماء أنها تحتاج إلى عدد يتراوح بين 250 ألفاً إلى نصف مليون شخص لتجنب تلاشيها. ويعتقد المؤرخون أن أكبر المدن بلغت هذا الحجم في القرن الرابع قبل الحقبة الحالية (B.C.E). ولكن عندما استخدم الباحثون في اليابان الجينومات المتاحة للحصبة وفيروسات الطاعون البقري لبناء شجرة تطور السلالات Phylogenetic tree، الأمر الذي مكنهم من تأريخ الفروع، توصلوا في عام 2010 إلى أن الحصبة لم تظهر حتى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر.
ينبع عدم اليقين جزئياً من الافتقار المستغرَب إلى المتواليات عبر التاريخ. ولا تُعرف سوى ثلاثة جينومات من فيروسات الحصبة تعود إلى ما قبل عام 1990؛ الأقدم منها هو الذي عُزل في عام 1954 وتحول إلى أول لقاح للحصبة. لذا قصد كالفينياك-سبنسر متحف برلين الذي تمتلئ أرففه بآلاف الأنسجة والأعضاء الطافية في عبوات زجاجية مملوءة بالفورمالين، تشبه أحواضاً للبقايا البشرية.
يعمل الفورمالين على تثبيت الأنسجة بتشبيك البروتينات والجزيئات الكبيرة الأخرى، بما في ذلك الحمض RNA الذي يتكون منه جينوم الحصبة. لاستخراج الحمض RNA من مثل هذه العينات، استخدم العلماء تقنيات ابتكرها قبل نحو 10 سنوات باحثو السرطان المهتمون بالخزعات المثبَّتة بالفورمالين. يقول كالفينياك-سبنسر: «وضعناها على درجة حرارة 98 °س لمدة 15 دقيقة وذاك يكسر التشابكات». يؤدي هذا أيضًا إلى تكسير الحمض RNA، لكن الأساليب الحديثة تسمح للعلماء بترتيب الشظايا وإعادة تجميعها.
صاغ فريق كالفينياك-سبنسر شجرة سلالات جديدة باستخدام جينوم من عام 1912 وكذلك جينوم جديد من عام 1960، جُمعا معًا من عينة في مجموعة أخرى، وغيرها من الجينومات المتاحة. تشير الشجرة الناتجة إلى أن المرض ربما انتقل إلى البشر في وقت مبكر في عام 345 قبل الحقبة الحالية – في وقت قريب من وصول البشر إلى الحجم الحرج Critical size.
يعكس التاريخ السابق لظهور الحصبة النمذجات التي استخدمها الفريق لتحليل المتواليات الفيروسية. عند إعداد شجرة عائلة باستخدام الاختلافات في الجينوم، يجب على الباحثين تقدير السرعة التي تتباين بها الجينومات الفيروسية. في الماضي، كانت تقديراتهم في كثير من الأحيان مرتفعة جدا، لأن بعض الطفرات الضارة تميل إلى الاختفاء بمرور الوقت. لكن النموذج الجديد يأخذ بالحسبان هذا التأثير، المسمى الإنتخاب المُنقي Purifying selection. إنه يدفع بتاريخ التشعب التطوري Divergence اختلافات الحصبة والطاعون البقري إلى الوراء حتى من دون أخذ جينوم عام 1912 بعين الاعتبار. لكن الجينوم يعزز المخطط الزمني الجديد، كما يقول كالفينياك-سبنسر.
يقول ألبرت أوسترهاوس Albert Osterhaus من جامعة الطب البيطري في هانوفر University of Veterinary Medicine بألمانيا إن الباحثين لا يمكنهم استبعاد انتشار فيروس الحصبة في البدء بين البشر ثم انتقاله إلى الماشية، لكن هذا يبدو غير مرجح. فمن ناحية، يُرجح أن قطعان الماشية بلغت الحجم الحرج قبل وقت طويل من وصول البشر إلى ذلك. والقريب الأقرب إلى هذين الفيروسين، وهو أقدم منهما، يتسبب في ظهور طاعون المجترات الصغيرة Petits ruminants، وهو مرض يصيب الأغنام والماعز وربما عَبَر إلى الماشية بسهولة أكبر من انتقاله إلى البشر.
وأشارت دراسات مماثلة إلى أن فيروس نقص المناعة البشرية HIV وغيره من مسببات الأمراض قد ظهر أيضًا في أعقاب التغيرات الكبيرة في التركيبة السكانية البشرية، كما يقول ووروبي: «يبدو أن التغيرات في الإيكولوجيا البشرية تزامنت بالفعل مع نجاح هذه الفيروسات في الظهور».
يقول توماس شنالكه Thomas Schnalke، رئيس المتحف، إن القدرة على استخلاص الحمض RNA الفيروسي من عينات قديمة جدًا قد جدد الاهتمام بمجموعة فيرشوف. «لقد كان الأمر بمثابة ثورة عندما جاء الباحثون قائلين: عيناتكم تثير اهتمامنا من جديد». صنَّف كالفينياك-سبنسر عينات إضافية يرغب في دراستها باستخدام ملصقات برتقالية. ويقول عنها: «إنها كنز دفين. … نافذة إلى الماضي يمكننا فتحها الآن».
© 2020, American Association for the Advancement of Science. All rights reserved.