كيف يتسبب سوء معاملتنا للطبيعة باندلاع جائحات مثل كوفيد-19
من تدهور الموائل إلى التعامل السيئ مع الحيوانات، يتضح دورنا في السماح بقفز الأمراض "حيوانية المصدر" إلى البشر
بقلم: آدم فوغن
ترجمة: د. عبد الرحمن سوالمة
بعد خروج بيتر داساك Peter Daszak من الحجر الصحي بفندق في ووهان Wuhan بالصين، في يناير2021 ، اتجه إلى سوق الحياة البرية التي رُبِطت بالحالات الأولى من التهاب الرئة الغامض في نهايات عام 2019. ففي وقت ظهور المرض كانت سوق هوانان Huanan لبيع المأكولات البحرية ممتلئةً عن آخرها بالأكشاك التي تبيع مأكولات بحرية، وأيضًا جميع أنواع الحيوانات المستأنسة والحيوانات البرية الغريبة، الحي منها ملاصقًا للنافق.
إلا أن السوق الآن عبارة عن هيكل فارغ، فقد أغلقت منذ ظهور المجموعة الأولى من الحالات لما تحول بعدها إلى جائحة كوفيد-19. وقد زار داساك، وهو عالم حيوان، السوق في وقت سابق من هذه السنة كعضو في فريق تدعمه منظمة الصحة العالمية World Health Organization، أرسل لتقصي أصل الفيروس المسبب للمرض، سارس-كوف-2 (SARS-CoV-2)، ولتقييم الدور الذي أدته السوق التي صارت الآن سيئة السمعة.
لا أحد يعلم بعد، وقد تحتاج النظريات إلى سنوات حتى تُمحّص. ولكن الواضح أن التفشي الحاصل في هوانان كان مجرد عَرِض للمرض، وليس سببًا فيه. فلعقدين من الزمن، تراكمت الأدلة المشيرة إلى وجود علاقة بين كيفية تعدينا وتدميرنا واستغلالنا لعالم الطبيعة من جهة، وخطر حدوث “الأمراض حيوانية المصدر” Zoonoses، وهي الأمراض الحيوانية التي تتعدى الحيوانات لتقفز إلى البشر.
ولا تزال بعض هذه الروابط غير واضحة، وهناك وجهات نظر متضاربة حول أهمية كل منها. إذ يقول كريستيان والزر Christian Walzer، من جمعية المحافظة على الحياة البرية Wildlife Conservation Society في نيويورك: “الأمر كبير ومعقد جدا، وهناك الكثير من المجاهيل”. ولكننا نعلم ما يكفي لنقول أمرًا واحدًا: إن لم نتصرف بناء على ما تعلمناه، ستظل الأثمان التي ندفعها من صحة البشر وكثرة الجائحات من مثل كوفيد-19 في ازدياد.
وهذه الحقيقة التي لا جدال فيها سببها بالأخص هو معرفتنا أن هناك الكثير من الأمراض المرشحة للتحول إلى جائحات في العالم ككل. ويقول والزر: “شهدت السنوات الخمس عشرة الماضية انفجارًا حقيقيًا في معرفة كمية الكائنات الممرضة المحتملة الموجودة”. كما توقع فريق مختص بالتنوع الحيوي تابع للأمم المتحدة في 2020 وجود 1.7 مليون فيروس غير مكتشف في الحيوانات. ولا تمتاز جميعها بالصفات الضرورية لإصابتنا بالعدوى (انظر: كيف تقفز الأمراض إلى البشر). ولكننا نكتشف نحو خمسة أمراض معدية للبشر كل سنة، و70% من الأمراض الناشئة تسببها ميكروبات ذات أصل حيواني.
أحد العوامل الرئيسية التي تؤدي إلى هذه التطورات هي تنامي عدد السكان وارتفاع مقاييس مستوى المعيشة. وكلا هذين الأمرين يدعمان الحاجة إلى الأراضي، ومن ثم يزداد تعدينا على الموائل الطبيعية Natural habitats. ومع كل طريق جديدة، أو منجم جديد، أو منطقة من الغابات تُخلى من أجل الزراعة، تزداد فرص اتصال البشر بأنواع حية تحمل أمراضًا تحتمل القفز إلى البشر. ويقول والزر: “حدود الدمار هذه هي مناطق مضطربة، وغالبًا ما تمتد إلى بضع مئات من الأمتار. وقد تنِصبُ الشراك، وتصطاد، وتجمع حطب النار، وقد تترك الدواب ترعى في المنطقة الداخلية. وهكذا، تخلق أنت هذه الواجهة، مما يزيد معدل الاتصال”. وبهذا المعنى، تصير مسألة زيادة خطر حدوث الأمراض حيوانية المصدر مسألة لعبة أرقام لا أكثر.
ووفقا لبحث داساك الذي يعمل في تحالف إيكو هيلث EcoHealth Alliance في نيويورك، وزملاء له، فإن المناطق ذات التنوع الحيوي العالي، والتي غالبًا ما يتغير فيها استخدام الأرض استخداما سريعا، تكون نقاطًا ساخنة للأمراض حيوانية المصدر الناشئة. وتحدث أغلب عمليات قفز الممرضاتPathogens إلى البشر حول بيوت الناس وفي حقولهم. وفي بعض الأمراض نعلم بقدر من التفصيل كيف ساعدت نشاطاتنا على حدوثها. وإحدى الحالات الموصوفة وصفا جيدا هي فيروس نيباه Nipah virus. فقد قفز من الخفافيش إلى الخنازير ثم البشر في 1998 بعد سنوات من تكثيف زراعة الخنازير وإزالة الغابات في ماليزيا، مما زاد من مساحة الواجهة بين الأنواع الحية. فليس هناك لقاح ضد فيروس نيباه الذي يقتل ما يصل لـ75% من المصابين به. ومثال آخر هو فيروس هيندرا Hendra virus في أستراليا، حيث ارتبطت إزالة الغابات بحمل الخفافيش للفيروس ووصولها إلى البشر والخيل. وكذلك هناك الفيروس سارس-كوف-2 (SARS-Cov-2)، والذي كان يُظَنُّ أنه نشأ في الخفافيش، وقد يضاف إلى القائمة يومًا ما.
ولكن الواجهة البينية المتنامية بيننا وبين حيوانات أخرى والتي خلقتها مدننا المتوسعة، ومزارعنا، وصناعاتنا الاستخراجية، ما هي إلا جانب واحد من جوانب القصة. وهناك جانب آخر، ربما أكثر أهمية، وهو كيفية تغيير التعدي البشري لتركيبة الأنظمة الإيكولوجية Ecosystems. ويقول دافيد ريدينغ David Redding من جمعية علم الحيوان في لندن Zoological Society of London: “الفكرة هنا هي كيف يتسبب تدهور الموائل بنشوء طبيعة مريضة”.
موائل متدهورة
تشير دراسات الحالات إلى أننا نُخِلّ بالموائل، ونغير مجتمع الحيوانات بطرق تزيد من احتمال نشوء الأمراض. فعلى سبيل المثال، هناك داء لايم Lyme disease، والذي يحمله القراد Ticks المنتشر عبر النصف الشمالي في الكرة الأرضية. فبزيادة تدهور الغابات، فإنها ستدعم عددًا أقل من الأنواع الحية ذات الجسد الأكبر والتي تعتبر أفضل في التخلص من القراد، بينما تزدهر الأنواع الحية الصديقة للقراد من مثل القوارض. وزيادة عدد المضيفين يعني زيادة عدد القراد الذي يعضنا، وكذلك زيادة احتمال انتشار المرض.
وعلى الرغم من هذه الأدلة المقنعة، كان ريدينغ في البداية متشككًا حول قابلية تطبيق نظرية الأراضي الطبيعية المريضة. ولكن في عام 2020 فحص هو وزملاؤه بيانات حول الأنظمة الإيكولوجية المختلة وغير المختلة عبر العالم، والتي جمعت كجزء من مشروع يبحث عن الأمراض الناشئة، ويعرف اختصارًا بــ بريديكت (تنبأ) PREDICT. وكان ما وجدوه كفيلًا بتبديد هذه الشكوك؛ فالأراضي الطبيعية المضطربة -من مثل المدن والمزارع الواسعة قد حلت محل غابات طبيعية- ترتفع فيها نسبة الأنواع الحية الحاملة للأمراض ، وهناك عدد أكبر من مثل هذه الأنواع أيضًا.
لم يستطع ريدينغ بعد تحديد مقدار ما يعنيه ذلك بالنسبة إلى خطر إصابة الناس بالعدوى. هذا وتشارك كيمبيرلي فورناس Kimberly Fornace ، من مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة London School of Hygiene & Tropical Medicine، في أحد الجهود الهادفة لمعرفة ذلك، وذلك باستخدام أطواق تعمل بتقنية تحديد المواقع GPS collars الموضوعة على نسانيس المكاك، وكذلك التتبع باستخدام GPS لمتطوعين من البشر؛ من أجل رسم خريطة لنشوء الملاريا حيوانية المصدر في الجزء الماليزي من بورنيو.
وتقول: “وجدنا أن التعرض للبعوض المصاب يكون غالبًا أكبر على حواف الغابات، حيث تتقاطع موائل البعوض والمكاك والبشر”.
ولكننا يجب أن نكون حذرين حيال الفكرة المبسطة القائلة إن الموائل المتنوعة حيويًا تعتبر مرتعًا للكائنات الممرضة التي تنتظر لتقفز علينا. إذ تقول فيليشيا كيسنغ Felicia Keesing، من كلية بارد Bard College في أنانديل بنيويورك: “المشكلة هي أن هذه القصة غير مقبولة، وهي خاطئة. وتفترض هذه القصة أن جميع عناصر التنوع الحيوي متماثلة من حيث خطرها علينا. إنها ليست كذلك”.
كما تقول كيسنغ إن هناك خمس مجموعات من الحيوانات تعتبر الأكثر احتمالا من حيث حملها لأمراض حيوانية المصدر يمكنها القفز إلى البشر. وهذه هي الجرذان والخفافيش والرئيسيات، وآكلات اللحوم من مثل القطط والكلاب، وذوات الحوافر المشقوقة من مثل الخرفان والماعز والأبقار والجمال. فقد كانت الجمال مصدر العدوى للفيروس التاجي المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية Middle East respiratory syndrome (اختصارًا: المتلازمة MERS)، والتي شهدت تفشيات Outbreaks فردية منذ ظهورها في 2012.
وأما عن السبب وراء هذه المجموعات الخمس؛ فهو أمر لا يزال قيد البحث. وبالنسبة إلى الرئيسيات، فإن السبب على الأرجح هو قرابتها الوثيقة منا وأن الكائنات الممرضة نفسها تستطيع أن تعدينا بسهولة أكبر. وبالنسبة إلى آكلات اللحوم وذوات الحوافر، فقد يعود السبب لأنها تعيش قريبة منا. وأما بالنسبة إلى الجرذان والخفافيش، فقد يكون السبب جزئيًا هو عددها الكبير.
“على الأغلب أن الكائنات الممرضة مرت بأكثر من حيوان واحد”
ومن الصعب إلقاء اللوم على حيوان أو مجموعة حيوانات واحدة كناقل للأمراض الحيوانية المصدر. فهناك الخفافيش، على سبيل المثال، والتي غالبًا ما تذكر على أنها المصدر الأساسي للفيروس سارس-كوف-2. تقول كيسنغ: “أخبروك قصة أن الخفافيش هي المجموعة الأكثر خطرًا”، على الرغم من أن “الغالبية العظمى من الكائنات الممرضة تأتي من الكثير من المضيفين”. وغالبًا ما يمر الكائن الممرض، ويتعرض للطفرات، في أكثر من حيوان واحد قبل أن يصل إلى البشر. وتلاقى الأنواع الحية المختلفة، أحيانًا بسبب البشر، هو السبب في زيادة احتمال المرض ازديادًا كبيرًا.
ولعل خير مثال على هذه النقطة هو الفيروس التاجي سارس-كوف-1، والذي سبب تفشي المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة Severe acute respiratory syndrome (واختصارًا: المتلازمة SARS) في 2002-2004. وقد تتبع العلماء الفيروس إلى خفافيش حذوة الحصان التي تعيش في الكهوف، ولكن لا يوجد دليل مباشر على الانتقال من الخفافيش إلى البشر. وأحد الاحتمالات الذي كشف عنها فريق باحثين من ضمنهم داساك في عام 2017، هو أن حيوان الزباد المقنع Masked palm civets في سوق للحياة البرية في غوانغدونغ بالصين، كان العامل الوسيط في الانتقال.
أعمال مريضة
تشير قصص الفيروسين سارس-كوف-1 و سارس-كوف-2 إلى أن تعدينا على مساحات الطبيعة ليس السبب الوحيد في زيادة احتمال الأمراض حيوانية المصدر، ولكن ازدياد معدلات تجارتنا ونقلنا للحياة البرية عبر مسافات شاسعة (انظر: مصادر آتية من الأسواق). ولذلك، فإن تحسين تنظيم التجارة العالمية الشرعية للحيوانات سيساعد على إيقاف خطر الجائحات Pandemics، وذلك وفقا لجون سكانلون John Scanlon، الرئيس السابق لسكرتارية معاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البري المهدد بالانقراض Convention on International Trade in Endangered Species of Wild Fauna and Flora (اختصارًا: المعاهدة CITES)، والتي تشرف على هذا النوع من التجارة. ويدعو سكانلون إلى تحسينات على المعاهدة CITES، والتي بدأ تنفيذها في عام 1975، بحيث تجعل صحة الحيوان مشمولة في صنع قراراتها، وكذلك لإيجاد اتفاقية عالمية جديدة لمعالجة مسألة التجارة غير الشرعية. ويقول سكانلون الذي هو الآن عضو في مبادرة إنهاء جرائم الحياة البرية End Wildlife Crime: “يمكن لامتداد الممرضات إلى البشر أن يحدث في أي دولة، وحتى ننجح علينا أن نتخذ إجراءات عالمية”.
وليس أي من هذه الأمور جديدًا؛ ففي بدايات تفشيات المتلازمة SARS، كتبت مجموعة من المهتمين بالحفاظ على البيئة وخبراء صحيون ما عرف بـ”مبادئ مانهاتن” Manhattan Principles، وهي قائمة من 12 توصية لمنع نشوء أوبئة مستقبلية من الأمراض حيوانية المصدر، وذلك بناء على حقيقة أن صحة البشر، والحيوانات الأخرى، والأنظمة الإيكولوجية متشابكة فيما بينها. وكان والزر جزءًا من فريق بدأ في عام 2019 بتحديث هذه المبادئ، ضمن إطار جهود سبقت كوفيد-19 بقليل فقط. وقد نتجت من ذلك ورقة علمية نشرت من وقت قريب جدًا، وكتبوا فيها: “مع أن الصياغة التي كتبت بها المبادئ قد تبدو تنبؤية الطابع، إلا أن هذه الجائحة كانت متوقعة وكانت متعذرة الاجتناب، وستحدث ثانية إن لم تكن هناك أفعال حاسمة”.
وإذا كان هناك أي بارقة أمل من جائحة كوفيد-19، فقد تكون أننا تعلمنا أن نأخذ على محمل الجد فكرة أن البشر ليسوا منفصلين عن البيئة الطبيعية، بل هم جزء منها، كما يقول ستيف أونوين Steve Unwin، من جامعة بيرمنغهام University of Birmingham، المملكة المتحدة. وهو طبيب بيطري يتعامل مع الحياة البرية التي تصاب باستمرار بكائنات ممرضة من البشر. ويقول: “غالبًا ما نضع البشر في نهاية السلسلة، ولكننا جزء من شبكة تمتد فيها الكائنات الممرضة بين أفراد هذه الشبكة. فالكائنات الممرضة لا تعرف الاتجاهات”. ويقول إن هذا الأمر مفهوم جيدًا في الدوائر العلمية، ولكننا سنحسن من قدرتنا على تقليل خطر الجائحات إن أدركت الحكومات أيضًا هذه الفكرة.
وفيما عدا ذلك، علينا أن نعيد التفكير جذريًا في تفاعلاتنا مع الحيوانات وكيفية تغييرنا لموائلها. ويقول ريدينغ: “لا يمكن التنبؤ بالطبيعة. وكما تعلم، نميل نحن إلى أن نكون ضيقي التفكير جدًا؛ إذ نقول إن علينا مكافحة الفيروس سارس-كوف-3. ولكن في الواقع، علينا أن نفكر تفكيرا أوسع في كيفية تفاعلنا مع الحيوانات وكيف نلحق الضرر بالمشهد الطبيعي”. وتشير أبحاثه إلى أن الاستجابات لجائحة كوفيد-19 والتي استهدفت ما لا يجب استهدافه، من مثل ردة الفعل العنيف ضد الخفافيش، والذي أدى إلى استهدافها بالقتل، سيلحق الضرر بالبيئات ويجعل الأمور أسوأ. ولكن، يمكن اتخاذ خطوة إيجابية، من مثل إيقاف قتلنا للمفترسات التي تضبط عدد الأنواع الحية الحاملة للأمراض كالقوارض مثلا.
“كانت جائحة كوفيد-19 متعذرة الاجتناب وستحدث ثانية إن لم تكن هناك أفعال حاسمة لحماية الطبيعة”
أما إعادة التأهيل الإيكولوجية Ecological restoration – فيهيئ مناطق أكثر حماية مما يتيح للغابات أن تنمو مجددًا- فهي أحد المفاتيح. إذ أطلقت الأمم المتحدة على هذا العقد اسم عقد إعادة التأهيل الإيكولوجي Decade on Ecosystem Restoration. ونحتاج الآن إلى أن تبذل الحكومات جهدًا مضاعفا وتتخذ أفعالًا لجعل ذلك حقيقة. وتقول كيسنغ: “أحد المجالات الجديدة الكبرى هي إلى أي مدى يمكننا إعادة تأهيل الموائل”.
ويمكن للقرارات التي يتخذها الأفراد في كل أنحاء العالم أن يكون لها تأثيرها أيضًا. وكما يشير داساك، فإن تعدي الناس على المناطق المتنوعة حيويًا هو في أغلبه لتغطية الطلب على السلع في الدول الأغنى، سواء أكان ذلك زيت النخيل من ماليزيا وإندونيسيا أم اللحوم من مزارع المواشي في أمريكا الجنوبية. ويقول ريدينغ: “نحن كمن يمشي خلال نومه في هذه الكوارث. ليس علينا إلا أن نفتح أعيننا حول القرارات التي نتخذها. إذ يتخذ المستهلكون قرارات تؤثر في احتمال امتداد الممرضات إلى البشر في المستقبل”.
ويقترح أن ننتقل إلى أنظمة غذائية أكثر اعتمادًا على النبات كأحد الخطوات التي يمكن للناس إجراؤها. ويقول دافيد كوامين David Quammen، أحد مؤلفي كتاب Spillover (امتداد الممرضات) الذي نشر عام 2012: “الأمر كله يتعلق بالخيارات التي نتخذها؛ ماذا نأكل، وماذا نلبس”. فهناك علامات على أن الحكومات في الدول الأغنى تتخذ خطوات في الاتجاه الصحيح، واضعة ضوابط أو فارضة حظرًا لاستيراد المنتجات التي تضر بالأنظمة الإيكولوجية. ففي نوفمبر 2020 أقرت المملكة المتحدة قانونًا بهذا الشأن. وهناك ضغوط على الاتحاد الأوروبي لتطبيق المثل.
هذا، وتتزايد وتيرة الأبحاث التي تنظر في الروابط بين تدميرنا للطبيعة والأمراض الناشئة. غير أن هذا الأبحاث جديدة النشوء وقد تتسمم بالفوضوية أحيانا. ويشبه ريدينغ هذا العلم بما كنا عليه في سبعينات القرن العشرين فيما يتعلق بالتغير المناخي. ولكننا لا نحتاج إلى الانتظار؛ فهناك الكثير من الأسباب الأخرى لحماية لموائل والتنوع الحيوي، بدءًا من المياه العذبة التي توفرها وانتهاءً بالكربون الذي يمكن لها تخزينه. بل هي أشبه برسمة كرتونية اشتهرت في عام 2009، حيث تساءل مندوب حكومي في قمة مناخية: “ماذا لو كان ذلك كله خدعة كبيرة، وانتهى بنا الأمر بصناعة عالم أفضل من أجل لا شيء”. وكما يقول ريدنغ: “ماذا سنخسر لو حاولنا تحسين حمايتنا للأنظمة الإيكولوجية ومحافظتنا عليها سليمة؟”# كيف تقفز الأمراض للبشر
والكائنات الممرضة التي تستضيفها الحيوانات الأخرى تشتمل على البكتيريا والفيروسات والفطريات ومختلف أنوع الطفيليات. ويمكنها الانتقال إلى البشر عن طريق المخالطة المباشرة، على سبيل المثال عن طريق تناول الحيوانات.
ولكن، غالبًا ما يؤدي مضيف آخر دور الوسيط. فقد تشير التحاليل الجينية -على الرغم من أنها بعيدة عن أن تكون مؤكّدة- إلى أن الفيروس سارس-كوف-2، الفيروس المسبب لجائحة كوفيد-19، قد يكون انتقل إلى البشر من خفاش أدى دور المضيف الأصلي نقل الفيروس إلى حيوانات شبيهة بآكلات النمل تسمى حيوانات البانغولين Pangolins.
وهذه المضيفات الوسيطة ّIntermediate hosts يمكنها أن توفر فرصة للكائنات الممرضة المحتملة تحصل من خلالها على صفات جينية تحتاج إليها كي تتمكن من إصابة البشر بالعدوى. فالفيروس الأكثر قرابة لسارس-كوف-2، وهو فيروس تاجي معروف بــ الفيروس RaTG13، والذي يصيب خفاش حذوة الحصان راينولوفوس أفينيس Rhinolophus affinis، ليس لديه البروتين الشوكي الذي يرتبط بالمستقبلات البشرية.
وإذا انتقل انتشر فيروس بالفعل إلى البشر، فإن الخطر يبدأ عندما ينجح في التضاعف في أجسامهم. ومن الجيد، أن أغلب فيروسات الحيوانات لا يمكنها فعل ذلك. وكي تكون لدى الكائن الممرض القدرة على إطلاق العنان لوباء، يجب أن يحصل على قدرة الانتقال من إنسان إلى آخر، وهو ما فعله سارس-كوف-2.
وفي النهاية، بمجرد أن يحصل على قدرة التضاعف في البشر، يمكن للكائن الممرض أن يتطور، كما حصل مع سارس-كوف-2 والسلالات الجديدة التي نشأت منه، أو فيروس فيروس نقص المناعة البشرية HIV ، حتى يصير في النهاية، كما يدل عليه اسمه، فيروسًا مقتصرًا على البشر.
مصادر آتية من الأسواق
لا بيئة أفضل من أسواق الحيوانات الحية لتوليد الأمراض بالقفز من الحيوانات للبشر مقارنة. والفيروسات التاجية، على وجه الخصوص، هي جيدة في إعادة تركيب نفسها، إذ يصيب فيروسان الخليةَ الحية نفسها فيحصلان على مادة جينية جديدة من بعضهما البعض. وهذا يساعدهما على القفز من نوع حي إلى آخر. وعند إبقاء الحيوانات الحية قريبة من بعضها في أقفاص، وبعضها مريض، ومُجهَد، فإنها تفرز كميات أكبر من الكائنات الممرضة نتيجة لذلك، وتفرز إفرازاتها وتعطس على بعضها البعض، و يزيد من احتمال حدوث ما ذكرنا من إعادة تركيب المادة الوراثية للفيروسات.
يقول كريستيان والزر Christian Walzer، جمعية المحافظة على الحياة البرية Wildlife Conservation Society: “أسواق الحيوانات البرية، والتي تُجلَب إليها الحياة البرية من مختلف أنحاء المنطقة وغالبًا من أصقاع العالم، هي خطرٌ متأصل. ومن الغباء إقامة مثل هذه الأسواق في هذه الأيام. ما خلقناه باستخدامنا لمثل هذه الأسواق هو الواجهات العملاقة لنشر العوامل الممرضة”.
كما تساهم سبل التجارة الموصلة للأسواق في ذلك. فتجارة الحياة البرية في الصين تخلط الحيوانات التي اصطيدت والمتاجر بها سواء كان شرعيا أم غير شرعي، وسواء تلك التي ربيت في مزارع أو التي اصطيدت في البرية. ويقول بيتر داساك Peter Daszak، من تحالف إيكو هيلث EcoHealth Alliance: “تستغل الفيروسات هذا السبيل خير استغلال، كما حصل مع المتلازمة SARS، وعلى الأغلب مع كوفيد”.
كما يبدو أن النقل البطيء، والطويل، وتزاحم الحيوانات الحية عبر سبل التجارة هو عامل اختطار كبير. فقد وجد داساك وزملاؤه أنه لم تكن هناك فيروسات تاجية في حيوانات البانغولين البرية في ماليزيا لما يزيد على عقد من الزمن. ولكن التعرف على الفيروسات في حيوانات البانغولين المهربة، والتي تشبه فيروس سارس-كوف-2 المسبب لكوفيد-19 يشير إلى أن اجتماع فيروسات الخفافيش وفيروسات حيوان ثديي آخر قد يكون حصل على مدار أشهر عند نهايات طرق التجارة، وليس في المزارع التي رُبِّيَت فيها.
والطريق الدقيقة لانتقال فيروس سارس-كوف-2 إلى ووهان في الصين لا تزال غير معروفة حتى الآن. وقبل شروعه في المهمة الأخيرة للمنظمة WHO إلي الصين قال داسات: “السيناريو الأكثر احتمالًا لظهور كوفيد-19 هو أن شخصًا له علاقة بتجارة الحيوانات البرية أصيب عن طريق الخفافيش في ريف الصين ونشر المرض من خلال شبكته الاجتماعية في تجارة الحياة البرية، وصولًا إلى سوق هوانان للمأكولات البحرية في الصين. أو ربما دخل الفيروس في أحد الأنواع الحية من الحيوانات البرية التي تربى في المزارع وانتقل من خلال شبكة التجارة إلى الحيوانات الأخرى”. وفي تصريح في 9 فبراير 2021 قال فريق من المنظمة WHO إنه من المرجح أن الفيروس انتقل من خفاش عبر حيوان وسيط إلى البشر. ولكن هذا الحيوان الوسيط غير معروف، وحتى الآن، لم تُظهر أي حياة برية في الصين نتائج فحوص إيجابية لسارس-كوف-2.
وبغض النظر عن تفاصيل أصل الفيروس، فإن التعامل مع أسواق الحياة البرية وسبل التجارة، وطريقة تربية الحيوانات أو اصطيادها، هي طريقة فعالة في تقليل احتمالات الجائحات المستقبلية. وقد تعهدت الصين وفييتنام بحظر شامل على تجارة الحياة البرية وأسواقها، ولكن المهتمين بالحفاظ على البيئة يخافون أن تنتقل المشكلة إلى دول أخرى.
كما أن ملايين الأشخاص في العالم يعتمدون على لحوم الغابات للبقاء، ومن ضمنهم السكان الأصليون، ويجب حماية حقوقهم وحاجاتهم، بحسب ما يقول والزر. فأحد الحلول قد يكون فرض حظر على التجارة المتركزة في المدن الكبيرة، حيث يكون أكل الحياة البرية شكلا من أشكال البذخ ولا يشكل حاجة غذائية.
© 2021, New Scientist, Distributed by Tribune Content Agency LLC.