الهلاميات الذكية
الهلاميات الذكية
تستطيع أكداس جزيئات السلاسل الطويلة أن تنكمش
أو تنتفخ استجابة للمنبهات، ويمكن لها أن تشكل
أساسا لنوع جديد من المَكَنات.
<Y. أوزادا> ـ < B.S. روس-مورڤي>
تُصنع المنتجات الصناعية، بصورة عامة، من المعدن أو الخزف أو اللدائن (البلاستيك). وهذه المواد بطبيعتها متينة قاسية، يسهل استخدامها. ويتجنب معظم المهندسين المكونات «المبتلة»، مثل الموائع liquids والهلاميات gels. فالموائع لا تستطيع ـ البتة ـ الحفاظ على أشكالها، كما أن الهلاميات ضعيفة القوام وتنزع إلى التهاوي تحت تأثير الأحمال الصغيرة. وفي الحقيقة، قد تكون الهلاميات غير ثابتة كيميائيا، كما أنها تفقد كثيرا من خصائصها إذا ما تركت لتجف. ويقتصر، حاليا، استخدام الهلاميات في تطبيقات متخصصة قليلة، مثل الأطعمة والمواد الماصة والعدسات اللاصقة اللينة.
وعلى الرغم من هذا، فإن عددا متزايدا من الباحثين ـ الذين استوحوا أفكارهم من الطبيعة ـ بدأوا يجدون فرصا سانحة في هذه المواد. فالمنظومات البيولوجية تتألف في غالبيتها من مواد لينة ومبتلة. وفي الحقيقة، فإن كثيرا من الكائنات الحية يعيش من دون أي إطار قاس. فقثاء البحر(1) sea cucumberـ على سبيل المثال ـ يتكون أساسا من هلاميات منتفخة بالماء، تحوي أعضاء بدائية، وبالرغم من ذلك فهي تتغذى وتتوالد، بل حتى أنها تدافع عن نفسها ضد المهاجمين. ويستجيب قثاء البحر بسرعة لِلّمس، بتيبيسه لجسمه الذي يكون عادة مرنا. ولكن إذا ما عومل بخشونة فإنه يستطيع أن يحول جزءا من جدار جسمه إلى كتلة مائعة لزجة، تجعل الإمساك بها أمرا متعذرا.
ولإبداع مثل هذه المنظومات ذات المحاكاة البيولوجية، يستخدم الباحثون نوعا من المواد يعرف بالهلاميات المتبلمرة(2) polymer gels. وقد صُنعت في المختبرات (المخابر) الأكاديمية والصناعية أنواع من الهلاميات تستطيع أن تغير كلاً من حجمها وشكلها، محولة بذلك الطاقة الكيميائية ـ مباشرة ـ إلى عمل ميكانيكي. ويمكن استخدام مثل هذه المواد حيثما تكون القدرة اللازمة للتجهيزات التقليدية محدودة أو صعبة المنال: تحت سطح الماء مثلا أو في الفضاء أو في جسم الإنسان.
إن المَكَنات المبنية على أساس من الهلاميات والتي تم تصنيعها حتى الآن، هي على الأكثر مجرد ظل للمنظومات الحساسة ذات التنظيم الذاتي، الملحوظة في قثاء البحر، وبدرجة أقل بكثير في التشكل (الارتسام) الحركي(3)choreography المعقد للعضلات وللأوتار وللأعضاء الأخرى التي توجد في الأشكال (الصور) العليا للحياة. بيد أننا نعتقد بأنه في مستقبل ليس ببعيد، سيتم العثور على طرائق لبناء مكِنات «لينة» تستطيع أن تستجيب بأسلوب ذكي لعوامل البيئة المحيطة بها. وعلاوة على ذلك فإن متلمّسي ذلك السبيل قد ابتكروا بالفعل أنواعا من الهلاميات ذات استخدامات فورية في الكيمياء والهندسة الميكانيكية والطب.
وكما لاحظت الكيميائية < J. D.لويد>، منذ قرابة سبعين سنة، أن الهلاميات «أسهل في التمييز منها في التعريف». وعموما، يمكن القول على نحو آمن «إن الهلاميات تتألف من مكونين اثنين: مائع، وشبكة من الجزيئات المتبلمرة الطويلة». وهذه الشبكة تثبت المائع في مكانه وبذلك تعطي الهلاميات الصلابة التي تتسم بها.
ولكي نفهم كيف تتشكل الهلاميات، فإننا سنتناول محلولا يحوي جزيئات من پوليمر صنعي نمطي، مثل عديد الإستايْرين polystyrene مثلا. إن كل جزيء من جزيئات هذه المادة يتألف من نحو 10000 وحدة ترابطية من الإستايرين أحادي القسيم (مونومر)(4) monomer، بوزن إجمالي ربما يصل إلى مليون وحدة كتلة ذرية. وإذا ما تم مد (مط) هذا الجزيء فإنه سيبلغ نحو ثلاثة مِكْرونات طولا. أما الحيز الحقيقي الذي يشغله الجزيء فهو، على أي حال، أصغر بكثير مما يوحي به هذا الطول بسبب مرونة السلسلة. ويمكن القول، إحصائيا، بأن الحالات التي تكون فيها السلسلة ملتفة أو متجمعة، تفوق كثيرا الحالات التي تكون فيها السلسلة ممدودة. ولهذا فإن متوسط المسافة بين نهايتي السلسلة يقارب عُشْر طول السلسلة وهي ممدودة.
وفي المحلول المجفف dilute solution، تكون كل لفة متبلمرة polymer coil مستقلة في غالبيتها عن أي لفة أخرى، ولكن مع تزايد تركيز الپوليمرات، فإن الأماكن (الأحياز) التي تشغلها اللفات تبدأ في التراكب. ونظرا لأن الاحتكاك بين جزيئات الپوليمر يعوق الجريان السريع، فإن المحلول يصبح ثخينا ولزجا. وإذا ما استمر التركيز في الارتفاع، فإن اللفات ينضفر بعضها ببعض وينعقد، وذلك كما يحدث لخيوط السباگيتي. إن منظومة من هذا النمط، هي منظومة لزجة مرنة، بمعنى أن لها خواص كلٍّ من المحلول اللزج والجامد المرن. ويمكننا القول مجازا: إنه إذا حاول أحد الإمساك بواحد من هذه الخيوط وشده ببطء، فإن هذا الخيط سينسحب من الكتلة ليتحرر من السلاسل المنعقدة الأخرى. وبالمقابل، إذا ما تم سحب خيط واحد من الخيوط سحبا شديدا، فإن الكتلة بكاملها تستجيب وكأنها وحدة واحدة.
إن تعريف «بطيء» و«سريع» هنا يعتمد على ما يطلق عليه اسم زمن الارتخاء relaxation time للسلاسل الجزيئية الذائبة. إن هذا الزمن هو في حقيقة الأمر، مقياس للفترة التي يحتاج إليها الجزيء ليعود إلى الحالة الملتفة بعد أن يتم مدّه (بسطه). ويتم تعيين زمن الارتخاء، على الأغلب، بوساطة كتلة الجزيء المعنيّ. إن لكل جزيء من الجزيئات مجالا من أزمنة الارتخاء، وتحوي المحاليل الحقيقية جزيئات ذات أطوال متباينة، وبالتالي يكون لها توزع من أزمنة الارتخاء. وتسلك هذه المحاليل تدريجيا سلوكا يأخذ شيئا فشيئا في مماثلة سلوك الجوامد، وذلك مع تزايد السرعة التي تُدفع أو تُشدّ بها. كما أن طول سلاسل الپوليمر وتيبسها يؤثران أيضا في بدء ظهور السلوك اللزج المرن. إن كلا من هذين العاملين يزيد من الحجم المؤثر (الفاعل) الذي تحتله السلسلة المفردة، ويؤثر بالتالي في احتمال تداخل السلاسل بعضها في بعض.
المُتَمَعِّجات (المتلوِّيات) الهلامية gel loopersأدوات تشبه الدودة القيّاسة(5)inchwormlike ، تتحرك بأن تلتوي (تنثني) وتستقيم على نحو متكرر، وقد اصطنعها <أوزادا>. إن الجزيئات النشيطة السطح الموجودة في المائع المحيط بالمتمعجات الهلامية، تتجمع على السطوح العلوية للهلاميات بتأثير مجال كهربائي مما يتسبب في انكماش الهلاميات. وعندما تتغير قطبية المجال الكهربائي، تعود الجزيئات النشيطة السطح إلى المحلول من جديد. |
ولا يحدث، في ظروف معينة، مجرد تضفير لسلاسل الپوليمر الموجودة في المحلول، بل تنشأ بين هذه السلاسل روابط دائمة، مما يؤدي إلى تكوُّن سلاسل ضخمة ومتفرعة. وفي نهاية الأمر، قد يمتد واحد ـ على الأقل ـ من هذه الجزيئات الكبيرة الذائبة في كامل الوعاء الذي يستقر فيه. وهذا هو الانتقال من حالة محلول لزج مرن إلى حالة هلامية، وبعدها لن تنساب العينة المتهلِّمة كمحلول الپوليمر، بل ستحوز خصائص الجامد. وعلى سبيل المثال، إذا ما أثير جانب من جوانب العينة ميكانيكيا، امتد الاضطراب الناتج امتدادا مباشرا عبر السلاسل الجزيئية إلى الجانب الآخر.
وفي بعض أنواع الهلاميات، تكون الروابط التي تمسك بالشبكة الجزيئية بعضها إلى بعض روابط تكافئية تقليدية، تشترك فيها ذرتان في زوج من الإلكترونات، بيد أنها تكون في أنواع أخرى من الهلاميات، أكثر دقة. وتشمل روابط التصالب هذه قوى ڤان درڤالس التي تجذب الذرات المتجاورة معا، كما تشتمل على التآثرات (التأثيرات المتبادلة) interactions الكارهة للماء والتي تجلب معا أجزاء الجزيئات نفورة الماء، وكذلك الربط الهيدروجيني الذي يتماسك به جزيئان معا بوساطة ذرة هيدروجين.
وتكون هذه الروابط أحيانا غير محددة الموقع خلافا للروابط التكافئية، إنما تشكل عوضا عن ذلك، «مناطق وصل» ممتدة extended junction zones. وعلى مستوى أكثر تعقيدا من ذلك، تتماسك الپوليمرات البيولوجية معا بوساطة التآثرات التي تقع بين البنى الجزيئية كبيرة الحجم. وعلى سبيل المثال، يستمد الجيلاتين (حلوى الهلاميات) ـ تلك المكعبات زاهية اللون، سكرية المذاق، المستخلصة من هلاميات العظم ـ قوته الميكانيكية الرجراجة من الحلزونات الثلاثية المنضفرة للبروتين.
وليست شبكة من خيوط الپوليمر المتشابكة سوى مظهر واحد من مظاهر الطبيعة الأساسية للهلاميات. فهناك مظهر آخر، يضارعه أهمية من حيث المبدأ ولكنه يسوده كثيرا من حيث الحجم، ويتمثل في المذيب solvent الذي يتخلل الشبكة ويمنحها ضخامتها المميزة. وتتوقف كمية المذيب التي تحويها هلاميات ما على تآثرات معقدة تحدث بين مرونة شبكة الپوليمر (المكوثر) وبين تآلف ذرات الشبكة مع ذرات المذيب.
وإذا ما وضع جزيء متبلمر واحد في مذيب، فإن الجزيء إما أن ينتشر وإما أن يتكتل. وإذا تجاذبت قطع الپوليمر وذرات المذيب بعضها مع بعض، فإن متوسط أبعاد اللفة ينزع إلى الازدياد بغية وصول عدد التآثرات بين قطع الپوليمر وجزيئات المذيب إلى أعلى قيمة لها. وينتفخ الپوليمر ويكون المذيب «جيدا ثرموديناميكيا.» وعلى النقيض من ذلك، فإن قطع الپوليمر تميل في مذيب ضعيف إلى تجنب جزيئات المذيب، ويبدو الپوليمر وكأنه ينكمش.
|
إن الجزيئات ذات السلاسل الطويلة تجعل المحلول لزجا (a) لأن بعضها يتداخل في بعض في أثناء جريان المحلول. ومع تزايد تركيزها، تأخذ الجزيئات في التشابك مؤدية إلى سلوكٍ لزج مرن يشتمل على سمات جامدة ومائعة معا (b). وإذا ما ترابطت الجزيئات المنضفرة بعضها ببعض، كان الناتج هلاميا (c و d). |
وإذا ما وُضِعَتْ هلاميات ما في مذيب جيد، فإن أبعادها ستزداد حتى يصل امتداد شبكة الپوليمر إلى درجة تصبح فيها قوة المرونة الناجمة قادرة على إبطال تدفق جزيئات المذيب فيها. وتعتمد قوة المرونة على درجة الترابط التصالبي cross-linking (الذي يحدد أقصى امتداد لسلاسل الپوليمر). وهكذا فإن هلاميات قوية الترابط التصالبي ستنتفخ إلى درجة أقل من انتفاخ هلاميات ضعيفة الترابط التصالبي.
الصمامات الهلامية
إن الهلاميات التي تتمدد أو تتقلص استجابة للمنبهات، تستطيع أن تضبط جريان مائع liquid. وقد تم في هذا الطراز البدئي (في اليسار)، تثبيت غشاء هلامي على الحافة القاعية للوعاء. وتنتفخ الهلاميات في الظروف المعتادة (السوية) وتصبح غير منفذة «كتيمة» للمائع (في أعلى اليمين). ولكن عندما يمر تيار كهربائي عبر الهلاميات، تفتح مسامها الداخلية الواسعة (في أسفل اليمين) وتسمح للمائع أن يجري عبرها. وإذا كانت الهلاميات تامة التجانس فإنه يغدو بالإمكان ضبط أحجام مسامها ضبطا على درجة عالية من الدقة، بحيث تسمح بمرور الجزيئات الصغيرة، في حين تحصر الجزيئات الكبيرة.
|
وإذا كان الپوليمر، الذي صنعت منه الهلاميات، يحوي زمرا مشحونة (أي يتألف من جزيئات تتقبل أو تمنح الإلكترونات بسهولة) على طول عموده الفقاري، فإن تأثيرات إضافية يمكن عندئذ أن تفعل فعلها. وأول هذه التأثيرات يعرف بتأثير عديد الإلكتروليت (الكهارل)(6) polyelectrolyte effect. ففي الماء النقي، سينزع الپوليمر الذي يحوي زمرا مشحونة، إلى توسيع أبعاده بغية تخفيض قوى التنافر بين هذه الزمر إلى الحد الأدنى. وإذا ما تمت إذابة إلكتروليت بسيط مثل ملح الطعام في الماء، فإن الأيونات (الشوارد) ذات الشحنات المتعاكسة مع الشحنات المحمولة على الپوليمر تستطيع أن تعادل (تحايد) تلك الشحنات. وهكذا، فإنه مع تزايد القوة الأيونية يستعيد الپوليمر شكله الملتف. فالهلاميات عديدة الإلكتروليت ستنتفخ انتفاخا كبيرا جدا في الماء النقي أو في المحاليل الإلكتروليتية (الكهرلية) خفيضة القوة الأيونية. أما في المحاليل الإلكتروليتية عالية التركيز، فإن الهلاميات تنكمش. ويمكن تضخيم هذا التأثير بضبط مزيج (كوكتيل) الأنواع الأيونية بغية زيادة الحجب إلى أقصى حد.
وتنتفخ معظم الهلاميات أو تنكمش بتناسب صارم ـ إلى حد كبير ـ مع النوعية (الخاصة) الثرموديناميكية للمذيب الذي يتخللها، بيد أن بعضها يعاني تغيرا مفاجئا في أبعاده استجابة لتغير ضئيل نسبيا في نوعية المذيب. وعلى سبيل المثال، فإن هلاميات عديدة الأكريلاميد المشحونة جزئيا إذا غُمرت في مزيج من الماء والإيثانول (الكحول الإيثيلي)، فإنها ستنكمش انكماشا طفيفا مع تزايد كمية الإيثانول المضافة إلى المحلول، حتى نصل إلى نقطة تغدو فيها أي زيادة من الإيثانول ـ مهما كانت ضئيلة ـ سببا في انكماش الهلاميات إلى نسبة مئوية قليلة من حجمها السابق. وتضاهي هذه الظاهرة سلوك «السائل الحرج» critical fluid (مثل ثاني أكسيد الكربون عالي الضغط) الذي يكون قريبا من الطور الانتقالي بين المائع والبخار. ففي مثل ذلك الظرف، فإن تغيرا ضئيلا جدا في الضغط أو في درجة الحرارة يستطيع أن يحوّل المائع إلى طوره البخاري، أو أن يحول البخار إلى مائع [انظر: “Gels” by Toyoichi Tanaka; Scientific American, January 19811].
يتسبب الانتقال الطوري للهلاميات المتبلمرة الحساسة للحرارة في انهيارها عندما تزداد درجة حرارتها. ويمثل المخطط أعلاه المحتوى المائي كدالة (تابع) لدرجة الحرارة. فعندما تكون الهلاميات باردة، تكون الحالة المنتفخة مستقرة ثرموديناميكيا، ولكن ما إن تسخن الهلاميات حتى تتسبب التآثرات (التأثيرات المتبادلة) بين السلاسل الجزيئية في استقرار الحالة المنكمشة عوضا عن ذلك. |
ويعتمد الانكماش المفاجئ لهلاميات عديدة الأكريلاميد على تآثر دقيق، مثل تكور الثلج، بين ألفة الشبكة لجزيئات المذيب وبين قوى المرونة التي تمسك هذه الجزيئات معا. فالهلاميات تنكمش في البداية ببطء، ولكنها عندما تطرد مزيدا من المذيب يصبح التآثر بين سلاسلها الجزيئية أكثر قوة. ويؤدي هذا التآثر إلى طرد مزيد من المذيب معززا بذلك مزيدا من التآثر حتى تنكمش السلسلة متحولة إلى حالة محكمة التجمع. وإذا ما أضيف مزيد من الماء منقصا بذلك تركيز الإيثانول، فإن الأمور تجري في عكس اتجاهها، ويسترد الهلام حجمه السابق.
ويمكن لهذه القصة البسيطة، التي تعتمد على البنية الدقيقة للهلاميات، أن تنعقد بتأثير عدد من العوامل. ففي بعض الحالات تعمل الهلاميات كغشاء شبه منفذ (نصف نفوذ)، حيث إن التآثر بين أيونات المذيب وبين المواقع المشحونة على الهلاميات يتغلب على الانتقال بين الانكماش والانتفاخ. علاوة على ذلك، تتوقف دقة الانتقال هي الأخرى على يبوسة السلاسل المتبلمرة للهلاميات. وتؤدي الجزيئات المرنة ـ بصورة عامة ـ إلى حالات انتقال مستمرة، مثلما تفعل الجزيئات شديدة التيبس.
وخلال العقد الماضي، استطاع الباحثون في أصقاع العالم كافة، أن يطوروا هلاميات جديدة تنتفخ وتنكمش مستجيبة لكثير من المنبهات المختلفة ـ كدرجة الحرارة أو تركيز أيون الهيدروجين (pH) أو المجالات (الحقول) الكهربائية ـ ويتوقف ذلك على التركيب الكيميائي للهلاميات وللمذيب.
ويمكن للهلاميات المشتقة من عديد (N-أيزوپروپيل أكريلاميد) (poly (N-isopropylacrylamide أن تنكمش إلى 30 بالمئة من حجمها الأصلي عند تسخينها لدرجة حرارة تفوق درجة حرارة حرجة معينة. وهناك هلاميات أخرى مماثلة في حساسيتها للحرارة، وتتكون بالترابط التصالبي لمحلول مائي من عديد (إثير الميثيل الڤينيل) poly (methyl vinyl ether ، وهي تعاني انتفاخا وانكماشا سريعين وعكوسين عند درجة 37 سيلْزيّة (مئوية). وتنكمش لييفات الهلاميات من 400 مكرون طولا عند درجة 20 سيلزية إلى 200 مكرون عند درجة 40 سيلزية.
يدفع التقلص غير المتماثل (اللامتناظر) كلا من المتمعجات الهلامية و«مضرب كرة الگولف» الهلامي [انظر الشكل في الأسفل]. ويحدث التواء الهلاميات بسبب الجزيئات النشيطة السطح التي تنجرف عبر المذيب المحيط بالهلاميات بتأثير مجال كهربائي. فعندما يتم تشغيل المجال تنتقل (تهاجر) كريات الجزيئات المشحونة بشحنة موجبة، إلى المواقع المشحونة بشحنة سالبة على الهلاميات. ويؤدي هذا إلى استبعاد جزيئات الماء وإلى انكماش أحد جوانب الهلاميات. وعندما يُعكس المجال تنتشر الجزيئات النشيطة السطح إلى الخارج عائدة إلى المحلول، مما يؤدي إلى زوال التواء الهلاميات، واستقامتها. |
إن مجالا كهربائيا قوته نصف ڤلط فقط بالسنتيمتر سيسبب انكماشا مماثلا في هلاميات عديدة الأكريلاميد المغمورة في الأسيتون والماء. وتنكمش جسيمات الهلاميات أو تنتفخ بمعدل يتوقف على التيار الذي يجري عبرها، وعلى مربع حجومها. ويمكن ـ من الناحية النظرية ـ لمجال كهربائي قوته (استطاعته) 5 ڤلط بالملّيمتر أن يسبب انكماش مجموعة من الجسيمات الهلامية التي يبلغ قطر الواحد منها مكرونا واحدا، إلى 4 بالمئة من حجمها الأصلي خلال ملِّي ثانية فقط. ويمكن لهذه الاستجابة السريعة أن تجعل من الهلاميات مادة تصلح للاستخدام «كعضلة» للإنسالة (الروبوت) أو للأدوات الميكانيكية الأخرى أو حتى للأجزاء التعويضية (البديلة)(7) prostheses في الأجسام البشرية.
توضح لعبة الكولف الهلامي مقدرة هلاميات ذكية على التأثير في الوسط المحيط بها. إن أشرطة من الهلاميات صنعت من مادة المتمعجات الهلامية نفسها، تلتوي أولا في أحد الاتجاهات ثم في الاتجاه الآخر وذلك بتأثير مجال كهربائي. وتضرب الهلاميات في أثناء |
ولعل الاستخدام الأول واسع الانتشار للهلاميات الذكية لن يكون بديلا عن العضلات، بل بالأحرى خليفا متطورا لِلُصاقات الخردل mustard plaster أو مَرُوْخاتها(8) liniment. إن إيصال الدواء للأعضاء التي تحتاج إليه بجرعات معينة وفي لحظات محددة، ظل زمنا طويلا مشكلة طبية عويصة. ولقد استخدم أصحاب الصناعات الصيدلانية (الدوائية)، في السنوات الأخيرة، الأغشية شبه المنفذة لإطلاق (تحرير) العقاقير بمعدل ثابت. ويمكن للأدوات المبنية على الهلاميات الذكية أن تحسن هذه الأنظمة: ذلك أنه يمكن للهلاميات أن تتحسس الظروف في داخل الجسم، فتغير من سرعة التوصيل للحفاظ على مستوى ملائم من العقار في تيار الدم.
ولقد طور <.R A. سيگل> وزملاؤه (في جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو) نظاما بسيطا أساسه الهلاميات، وذلك لحماية الأدوية الحساسة للحموضةacid-sensitive medication من وسط المعدة غير الملائم. وتنكمش هذه الهلاميات عند تعرضها إلى تركيز منخفض من أيون الهيدروجين (pH)، ولكنها تتمدد في بيئة المِعَى الأكثر قلوية، وتصبح مُنْفِذة، مما يسمح بانتشار الدواء من الكبسولات (المَحافِظ) في الظروف الملائمة.
وقد طور الباحثون هلاميات تطلق العقاقير أو الجزيئات الحيوية، استجابة للتغيرات في المجال الكهربائي. فالأنسولين ينتشر خارجا من هلاميات صنعت من هلاميات عديدة الإلكتروليت ضعيفة الترابط التصالبي، عند مرور التيار فيها، بيد أن الجريان يتوقف فورا عند توقف مرور التيار. ويمكن للهلاميات أن تشكل أساسا لبناء مضخة أنسولينية غريسة خالية من أي أجزاء متحركة. وبالفعل، فإن فريقا من جامعة تروندهايم في النرويج، ومن مركز إدارة المحاربين القدماء لاغتراس الجزيرات Veterans Administration Islet Transplant Center في لوس أنجلوس، قد استغنى عن آلية المضخة بأن ضمّن هلاميات الألجينات خلايا منتجة للأنسولين. ويُؤْمل أن يكون هؤلاء الباحثون قد شرعوا في التجارب السريرية (الإكلينيكية) البشرية في أواخر العام 1993.
ويمكن للهلاميات، التي تتمدد وتنقبض بالتحكم الكهربائي، أن تُستخدم أيضا بمثابة «صمامات كيميائية» عامة الغرض. وتصنع الهلاميات على شكل غشاء مسامي، وتثبت حافاتها في مواضعها. فعندما تنقبض الهلاميات، تتسع المسام في الغشاء بقوة الشد، فتسمح بذلك للموائع وللجزيئات المذابة فيها بالجريان عبر الغشاء. وعندما تتمدد الهلاميات، تنكمش المسام ويتوقف الجريان. وبالحفاظ على التيار في مستويات متوسطة، يستطيع الباحثون ضبط أبعاد المسام ضبطا دقيقا فيعينون بذلك أي الجزيئات التي يمكن أن تمر عبرها. ويجري حاليا استخدام هذه الأغشية القابلة للتحكم لفصل مزيج من المذيبات يحتوي على جزيئات متباينة الحجوم.
ويمكن استخدام الهلاميات أيضا لاسترداد الجزيئات الكبيرة (الضخمة) من محاليل مائية مخففة، ويمكن لهذا التفاعل أن يكون مفيدا في شؤون التصنيع، فلقد وجد <L.E .كاسلر، جونير> وزملاؤه (في جامعة مينيسوتا) أن الهلاميات المنتفخة تمتص الماء بصورة تفضيلية، على حين تستبعد المواد المذابة فيه. فلقد غمروا الهلاميات ببساطة وتركوها تتشرب المائع تاركة خلفها الناتج المطلوب. ويمكن للهلاميات بعدئذ أن تنهار لطرد معظم المائع، وتعود للحالة المنتفخة مستأنفة بذلك عملية (سيرورة) الفصل.
وعلى الرغم من أن مسألة انتفاخ الهلاميات اللاطئة sessile وانكماشها قد برهنت حتى الآن عن عظيم فائدتها، فإن فكرة استخدام الهلاميات في إنتاج القوة المحركة قد استحوذت على تفكير الباحثين طوال أكثر من أربعة عقود. فلقد بنى<A .كاتشالسكي> (من معهد وايزمان للعلوم في رهڤوت) و <W .كوهن> (من جامعة بازل) أولى المنظومات «الكيميائية الميكانيكية» في عام 1950، وذلك بتغيير تركيز أيون الهيدروجين (pH) للوسط الحمضي لدى الهلاميات التي استخدموها، لجعلها تتمدد وتنكمش [انظر: “Muscle as a Machine”
by A. Katachalsky and S. Lifson
Scientific American, March 1954].
وحديثا طور واحد منا (أوزادا) مع زملائه، نظاما كيميائيا ميكانيكيا جديدا أطلقنا عليه اسم «مُتَمَعِّج هلامي» gel looper. ولقد عرضنا نموذجا مبكرا لهذه المتمعجات الهلامية في الشهر 1991/12، في الندوة الثانية للهلاميات المتبلمرة ومهرجان الحشرات الآلية Second Polymer Gel Symposium and Robo-bug Fest في تسوكويا باليابان. كما أن ثماني مؤسسات بحث يابانية عرضت أيضا مبتكرات كيميائية ميكانيكية متحركة.
وتتألف المتمعجات (المتلوِّيات) الهلامية من شريط هلامي يتحرك بتأثير مجال كهربائي متناوب، حركة شبيهة بالدودة القَيّاسة inchwormlike، على طول قضيب داعم. وتتدلى الهلاميات من قضيبها بوساطة خطاطيف معدنية، وهي مغمورة في محلول مائي، يحوي جزيئات نشيطة السطح (هي في الأساس نمط معقد لماء صابوني)، ويضبط حركتها قطبان (مسريان) كهربائيان متوازيان فوق المتمعجات الهلامية وتحتها.
وعند استعمال ڤلطية معينة عبر القطبين، تنتقل الجزيئات النشيطة السطح والمشحونة بشحنة موجبة، في اتجاه القطب السالب. وتصادف هذه الجزيئات في طريقها سطوح الهلاميات المشحونة بشحنة سالبة، فتعلق بهذه السطوح مسببة تقلص الهلاميات. وتحط جزيئات المادة النشيطة السطح تفضيليا على سطوح الهلاميات المقابلة للقطب الموجب. وبناء على ذلك، تتقلص الهلاميات بصورة أساسية على ذلك الجانب، وتلتوي على نفسها. وعندما تنعكس قطبية المجال الكهربائي، تتحرر جزيئات المادة النشيطة السطح وتستقيم الهلاميات [انظر الشكل العلوي في الصفحة السابقة]. ويضمن نمط منشاري الأسنان على قمة القضيب الداعم تحرك المتمعجات الهلامية إلى الأمام مع كل دورة من دورات الثني والتقويم.
وعلى الرغم من بساطة الفكرة، فإن المتمعجات الهلامية تبدي كل الخصائص الأساسية التي تضع حدا واضحا بين المنظومات (النظم) الكيميائية الميكانيكية «اللينة» وبين الأدوات التي تصنع من مواد أكثر صلابة. وخلافا للمحركات التقليدية وللمضخات، فإن الهلاميات رقيقة ومرنة، وتذكرنا حركاتها بالعضلات أكثر مما تذكرنا بحركات المكِنات الفلزية. وهذه الحركة الطيعة تلاحظ عادة في المنظومات البيولوجية فقط، كأجنحة الطيور التي تعدل من شكلها باستمرار كي تزيد قوة الرفع إلى حدودها القصوى.
وبما أن الهلاميات لينة، فإن بإمكانها منابلة manipulation مواد مرهفة من دون أن تلحق بها أي ضرر. والأهم من ذلك، على أي حال، أن الهلاميات لينة بالنسبة لأوساطها. إن المَكِنات المصنوعة من المعدن أو السيليكون تعمل كمنظومات مغلقة، فهي لا تتلاءم مع التغيرات التي تطرأ على ظروف تشغيلها، إلا إذا كان هناك نظام حساس مستقل أو مشغل بشري يقوم بضبط هذا التشغيل. وخلافا لذلك تعد منظومات الهلاميات «مفتوحة» ثرموديناميكيا: فهي تتبادل المواد الكيميائية مع المذيب المحيط بها، وتغير من حالتها الجزيئية في أثناء قيامها بالعمل. فإذا ما تمت إضافة طاقة حرة إلى المذيب على شكل مواد كيميائية جديدة، استردت المنظومات الكيميائية الميكانيكية حالتها الأصلية دونما تدخل تال. ونحن نعتقد بأنه سيكون من الممكن ـ في نهاية الأمر ـ استثمار هذه الخصائص بغية تركيب مَكَنات ذاتية الحساسية وذاتية التنظيم، وتستجيب استجابة ذكية إلى التغيرات التي تطرأ على أوساطها. وعلى الرغم من أنه ليس من المرجح على الإطلاق أن تحل المَكَنات اللينة محل المَكَنات القاسية، فإنه من الممكن «للتجهيزات المبتلة» wetware أن تأخذ مكانها سريعا في معجم المصمم، إلى جانب المكونات الحاسوبية والبرامجيات hardware and software.
المؤلفان
Yoshihito Osada – Simon B. Ross-Murphy
يدرسان سلوك الهلاميات وبناها الجزيئية. أوزادا أستاذ علم الپوليمرات (المكوثرات) في جامعة هوكايدو باليابان، حيث يقود هناك فريقا يقوم بتطوير أدوات ميكانيكية مبنية على الهلاميات. ولقد حصل على الدكتوراه من جامعة موسكو الحكومية (لومونوسوڤ) عام 1970، وقام بالتدريس في كلية الكيمياء بجامعة إيباراكي من عام 1973 حتى عام 1991. أما روس-مورڤي، فهو الآن أستاذ في كينگز كولج بلندن. عمل في الصناعة مدة عشر سنوات قبل أن يعود إلى العمل الأكاديمي عام 1989. كما أنه يترأس الفريق العامل على شبكات الپوليمرات للاتحاد العالمي للكيمياء البحتة والتطبيقية.
مراجع للاستزادة
GELS. Toyoichi Tanaka in Scientiflc American, Vol. 244, No. 1, pages 124-138; a January 1981.
PHYSICAL NETWORKS: POLYMERS AND GELS. Edited by W. Burchard and S. B. Ross-Murphy. Elsevier Science Publishers, 1990.
POLYMER GELS: FUNDAMENTALS AND BIO- MEDICAL APPLICATIONS. D. DCROSSl, K. Kajiwara, Y. Osada and A. Yamauchi. Plenum Press, 1991.
Scientific American, May 1993
(1) أنواع من الحيوانات شوكية الجلد، من أقرباء قنافذ البحر ونجوم البحر.
(2) الهلامي المتبلمر: پوليمر ذو خصائص هلامية، كاللزوجة والمرونة.
(3) هو الحركة الرقصية الناجمة عن تقلص پوليمر جزيئات الأكتين والميوزين وغيرهما الموجودة في العضلات وفي مغزل الانقسام الفتيلي والهيكل الخلوي، حيث يؤدي پوليمر التوبولين دورا بارزا.
(4) أحادي القسيم: جزيء واحد من عدد من جزيئات يرتبط بعضها ببعض لتشكل جزيئا كِبَرِيًّا (ماكْرويا). (التحرير)
(5) الديدان القيّاسة: هي الاسم الإنكليزي الشائع ليرقات أنواع من الحشرات من فصيلة geometridae، تمشي على فروع الأشجار بحركة تشبه من يقيس الأطوال بكفّه، ببسطها ثم ضمها. (التحرير)
(6) هو التأثير الناجم عن تغيير القوة الأيونية لمحلول يحوي أيونات: موجبة وسالبة. (التحرير)
(7) هي أدوات (أجزاء) صنعية تستطيع، من حيث الوظيفة، أن تحل في الجسم محل عضو طبيعي.
(8) المَروخ: جزء لين من اللصاقات الطبية، وبخاصة لصاقات الخردل. (التحرير)