سادة البحار الجوراسية
سادة البحار الجوراسية(*)
لقد سادت زواحف سمكية الشكل، يطلق عليها اسم الإكثيوصورات،
المحيطات طوال الزمن الذي كانت تجوب فيه الدينوصورات أنحاء اليابسة.
ولكن علماء الأحافير(1) (الإحاثيون) لم يكتشفوا سر ذلك النجاح
الكبير لهذه المخلوقات إلا منذ عهد قريب.
<R. موتاني>
لقد تجولت الإكثيوصورات في محيطات العالم على امتداد 155 مليون عام. |
تخيلْ إحدى أمسيات الخريف المتأخرة قبل نحو 160 مليون عام خلال فترة العصر الجوراسي (الجوراويّ)(2) Jurassic، عندما استوطنت الدينوصورات القارّات. وكانت الشمس الغاربة لا تكاد تخترق السطح المتلألئ للمحيط الواسع الأزرق المائل للخضرة، عندما ينزلق شبح في صمت بين الجروف المظلمة والشديدة الانحدار لأحد الحُيود ridges البركانية المغمورة. وعندما يصعد الحيوان إلى سطح الماء ليحصل على جرعة من هواء المساء، يذكِّرنا بحوت صغير ـ ولكن هذا لم يكن احتمالا واردا، إذ إن أوّل حوت لم يكن ليظهر إلا بعد 100 مليون عام أخرى. وفجأة يستدير الشبح، والآن ينبسط لأكثر من ضعفي قامة أحد البشر. وتصبح تلك الصورة مرعبة على وجه الخصوص، عندما يندفع الشبح بسرعة، بخطمه (بوزه) الطويل والمملوء بالأسنان ليمزق سربا من مخلوقات شبيهة بالحبَّار.
إن هذا الحيوان العجيب هو الأفثلموصورس Ophthalmosaurus، وهو واحد من أكثر من 80 نوعا يُعرف في الوقت الحالي أنها كانت تشكل مجموعة من الوحوش البحرية تسمى الإكثيوصورات ichthyosaurs (أو العظايا السمكية fish lizards). ولم يقل طول أصغر هذه الحيوانات عن طول ذراع إنسان، أما أكبرها فقد جاوز طوله 15 مترا. ويقع الأفثلموصورس في المجموعة المتوسطة الحجم، ولكنه لم يكن بأية حال أكثر المجموعة شراسة. فقد كانت رُفقته أكثر لطفا من المخلوق الضاري المسمى تيمْنودُنتوصورس Temnodontosaurus (أو «العظاءة ذات السن القاطعة»cutting-tooth lizard)، الذي كان يأكل الفقاريات الكبيرة أحيانا.
لقد حيّرت أصول الإكثيوصورات علماء الأحافير ما يقرب من قرنين من الزمان. فقد أتى عليهم حين من الدهر كانوا يظنون فيه أنها ذات صلة وثيقة بكل شيء، من الأسماك إلى السلمندرات إلى الثدييات. ولكن يعرف حاليا أن الإكثيوصورات تنتمي إلى مجموعة يطلق عليها «ذوات الحفرتين» (الدياپسيدا) diapsids. وتدل التحاليل الحديثة على أنها تفرعت من ذوات حفرتين أخرى تقريبا في نفس الفترة التي تشعبت فيها الليپيدوصورات lepidosaurs والآركوصورات archosaurs إحداهما عن الأخرى ـ ولكن حتى الآن لا أحد يعرف أَظَهرت الإكثيوصورات مباشرة قبل هذا التشعب أو بعد ذلك بوقت قصير. |
وعندما كشف علماء الأحافير النِّقاب عن أول أحفورة من الإكثيوصورات في باكورة القرن التاسع عشر، تركتهم رؤى هذه الوحوش ـ التي اختفت منذ وقت طويل ـ وقد تملكتهم الرهبة. ولما لم تكن الدينوصورات قد اكتُشفت بعد، فإن كل صفة غير عادية للإكثيوصورات كانت تبدو غامضة مثيرة للاهتمام. لقد أوحى فحص الأحافير بأن الإكثيوصورات لم تنشأ عن أسماك، ولكن عن حيوانات كانت تقطن اليابسة قد انحدرت هي من سمكة قديمة. إذًا، كيف استطاعت الإكثيوصورات أن تعود ثانية إلى الحياة في الماء؟ وإلى أي الحيوانات كانت أكثر قربا؟ ولماذا طَورت صفات غريبة، مثل أعمدة فقارية(3) تبدو مثل كومة متراكِبة من الأقراص المطاطية التي تُستخدم في لعبة الهوكي، وعيون كبيرة الحجم مثل كرات لعبة البولينگ؟
وعلى الرغم من هذه الأسئلة المُلحة، فإن الفرصة لحل اللغز المبهم عن تحول زواحف تجوب اليابسة على غير هدى إلى ساكني البحر الطَّلْق (أو المُنْفَتح) opensea كان عليها أن تنتظر قرنين كاملين تقريبا. وعندما استحوذت الدينوصورات من أمثال إگوانودان Iguanodan على انتباه علماء الأحافير في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، تلاشت بدعة العظايا السمكية. ولم يبرز الاهتمام المكثف بسادة البحار الجوراسية إلا منذ بضع سنوات فقط، ويرجع الفضل في ذلك إلى الأحافير التي اكتشفت مؤخرا في اليابان والصين. ومنذ ذلك الحين برزت سريعا تبصرات جديدة حول الموضوع.
أصول غامضة(4)
ومع أن معظم الناس كانوا قد نسوا ما يدور حول الإكثيوصورات في أوائل القرن التاسع عشر، استمرت قلة من علماء الأحافير بالتفكير فيها خلال القرن التاسع عشر وما بعده. فالذي كان واضحا منذ اكتشاف الإكثيوصورات أن تكيّفاتها للمعيشة في الماء قد جعلتها ناجحة تماما. إن الأحقاب المديدة للأحافير أظهرت أن هذه الحيوانات سادت المحيطات من نحو 245 مليون إلى نحو 90 مليون سنة مضت ـ وهي تقريبا كل الحقبة التي سادت فيها الدينوصورات القارات. فقد عُثر على أحافير الإكثيوصورات في جميع أرجاء العالم، وهي علامة تدل على أنها هاجرت على نطاق واسع جدا، وهذا هو عين ما تفعله الحيتان في الوقت الحاضر. وعلى الرغم من المظهر السمكي للإكثيوصورات، فمن الواضح أنها كانت زواحف تتنفس الهواء الجوي. فهي لم يكن لديها خياشيم، وهيئة جماجمها وعظام فكوكها كانت بلا شك من طراز الزواحف. وما هو أكثر من ذلك أنه كان لها زوجان من الأطراف (وليس للأسماك أطراف على الإطلاق)، وهذا يعني أن أسلافها قد عاشت في وقت ما على اليابسة.
ولم يتوصل علماء الأحافير إلى تلك الاستنتاجات إلا بناء على فحص هياكل عظمية اختيرت بعناية للإكثيوصورات السمكية الشكل، التي ظهرت متأخرة نسبيا؛ إذ إنه لم يُعثر على كِسَر من عظام للإكثيوصورات الباكرة حتى عام 1927. ففي موضع ما على امتداد خط النسب اتجهت هذه الحيوانات الباكرة إلى اكتساب جسم سمكي واضح: ذي أرجل قصيرة ممتلئة تشكَّلت على هيئة مجاديف(5) flippers ووشيعة ذيلية tail fluke خالية من العظم، مع ظهور زعنفة ظهرية. ولم تكن الإكثيوصورات السمكية الشكل المتطورة قد تأقلمت للمعيشة في الحياة المائية فحسب، ولكنها كانت قد خُلقت للمعيشة في المحيط المُنْفَتِح openocean، بعيدا عن الشاطئ. إن هذه التكيفات المفرطة للمعيشة في الماء تعني أن معظمها قد فقد بعض صفاته الأساسية ـ مثل وجود عظام معينة في الرسغ والكاحل. وهذه كان من المحتمل أن تمكن من تعرف أبناء عمومتها البعيدين الذين كانوا يعيشون على اليابسة. فمن دون هياكل عظمية كاملة للإكثيوصورات الأولى الباكرة جدا، لم يكن أمام علماء الأحافير إلا أن يخمنوا أنها لا بد كانت تشبه عظايا مزودة بمجاديف.
وافتقار العلماء إلى الدليل في أول الأمر قد أربكهم، حتى إنهم رشحوا كل مجموعة رئيسية من الفقاريات تقريبا ـ وليست الزواحف وحدها (من أمثال العظايا والتماسيح)، ولكن البرمائيات والثدييات أيضا ـ كي تكون ذوات القربى الوثيقة الصلة بالإكثيوصورات. وفي أثناء القرن العشرين، عرف العلماء على نحو أفضل كيف يميطون اللثام عن أسرار العلاقات بين أنواع الحيوانات المتباينة. وبتطبيق المهارات الحديثة بدأ علماء الأحافير في الاتفاق على أن الإكثيوصورات كانت فعلا زواحف تنتمي إلى مجموعة الدياپسيدا Diapsida (أي: ذوات الحفرتين)(6) التي تشمل الثعابين والعظايا والتماسيح والدينوصورات؛ أما تحديد متى تفرعت الإكثيوصورات من شجرة النسب تحديدا دقيقا فقد ظل أمرا غير مؤكد، إلى أن تمكَّن علماء الأحافير في آسيا من العثور منذ عهد قريب على أحافير جديدة لأقدم الإكثيوصورات في العالم.
لقد ألقت الأحافير الحديثة للإكثيوصورات الأولى، بما فيها الشاوهوصورس Chaohusaurus (الشكل الأيسر)، الضوء على الكيفية التي تطورت بها هذه المخلوقات العظائية الشكل لتكون سادة المحيط الطلق، مثل الاستينوپتريجيوس Stenopterygius، الموضح في الشكل الأسفل والذي يُظهر وليدا خارجا من قناة الولادة. |
وكان أول هذه الكشوف وأكبرها على الشاطئ الشمالي الشرقي لهُنْشوHonshu، وهي الجزيرة الرئيسية في اليابان، حيث تسود الشاطئ متكشفاتoutcrops من الإردواز(7) slate، وهي صخور طبقية سود تُستعمل كثيرا في صنع لوحات ثمينة لكتابة الخط اليدوي الياباني بالمِداد. وقد ضمت هذه الصخور عظام أقدم أنواع الإكثيوصورات في العالم، أوتاتسوصورس Utatsusaurus. وتصلنا معظم عينات الأوتاتسوصورس في صورة كِسَر غير كاملة، ولكن مجموعة من الجيولوجيين [من جامعة هوكايدو Hokkaido] كشفت عن هيكلين عظميين كاملين تقريبا في عام 1982. وأخيرا أصبحت تلك العينات متاحة للدراسة العلمية، ويرجع الفضل في ذلك إلى تفاني <N. مِنورا> وزملائه الذين أمضوا ال15 عاما التالية يبذلون جهدا مضنيا في تنظيف العظام المغطاة بالأردواز. ولما كانت العظام هشة جدا كان عليهم أن يكشطوا الصخر عنها بكل دقة وعناية مستخدمين في ذلك إبرا دقيقة من مادة الكَرْبيد وهم ينظرون إليها من خلال المجهر.
لقد ساعدت الهياكل العظمية القديمة العلماءَ على تتبع كيف أن الأجسام النحيلة للإكثيوصورات العظائية الشكل (في الأعلى) قد ثخنت إلى شكل سمكي له زعنفة ظهرية ووشيعة ذيلية. |
وعندما قارب التحضير نهايته في عام 1995، دعاني مِنورا، الذي كان يعرف مدى اهتمامي بالزواحف القديمة، إلى الانضمام إلى فريقه البحثي. وبمجرد أن شاهدت الهيكل العظمي للمرة الأولى، عرفت أن الأوتاتسوصورس هو عين ما كان علماء الأحافير على مدى سنوات طويلة يتوقعون العثور عليه: إكثيوصور يشبه عظاءة مزودة بمجاديف. وبعدئذ، وفي العام نفسه، عرض عليّ زميلي <Y. هيلو> [الذي كان يعمل حينذاك في معهد علم أحافير الفقاريات وعلم أصول الإنسان القديم وتطوره (پاليوأنثروپولوجي Paleoanthropology) في بيچنگ Beijing] أحفورة أخرى اكتشفت حديثا ـ وهي أكمل هيكل عظمي في العالم على الإطلاق لشاوْهوصورس Chaohusaurus، وهو نوع آخر من الإكثيوصورات الباكرة. ويوجد الشاوهوصورس في صخور تنتمي إلى نفس العصر الذي تنتمي إليه الصخور المحتوية على بقايا أوتاتسوصورس، وهو أيضا عُثر عليه قبل ذلك على هيئة أجزاء وقطع صغيرة. لقد كشفت العينة الجديدة بوضوح مخطط جسم نحيل شبيه بالعظاءة.
وأخيرا ألقى الأوتاتسوصورس والشاوهوصورس الضوء على موقع الإكثيوصورات في شجرة النسب للفقاريات، لأنهما مازالا يحتفظان ببعض السمات الرئيسية لأسلافهما التي كانت تسكن اليابسة. وبحصولنا على هيئة الجمجمة والأطراف اعتقدتُ وزملائي أن الإكثيوصورات قد تفرعت مفارِقَةً بقية ذوات الحفرتين (الدياپسيدا) بالقرب من انفصال مجموعتين رئيسيتين من الزواحف التي تعيش في الوقت الحالي، وهي اللِّيپيدوصورات lepidosaurs (مثل الثعابين والعظايا) والآركوصورات archosaurs (مثل التماسيح والطيور). لقد كان إحراز التقدم في مناقشة شجرة النسب إنجازا عظيما، ولكن تطور الإكثيوصورات ظل سرا لا نعرف له حلا.
من أقدام إلى مجاديف(8)
ولعل النتيجة الأكثر إثارة للكشف عن هذين الإكثيوصورين الآسيويين هي أن العلماء صاروا الآن قادرين على رسم صورة نابضة بالحياة للتكيفات المتقنة التي مكَّنت خلائفهما من الازدهار في المحيط المنفتح. إن أبرز تحول للحياة المائية هو تحول الأقدام إلى مجاديف؛ فعلى نقيض العظام النحيلة في الأقدام الأمامية لمعظم الزواحف، فإن جميع العظام في «الأقدام» الأمامية للإكثيوصورات السمكية الشكل يكون عرضها أكبر من طولها. ولكن ما هو أهم من هذا أنها كلها متماثلة في الشكل. وفي معظم المخلوقات الأخرى من ذوات الأطراف الأربعة يمكن التمييز بسهولة بين عظام الرسغ wrist (فهي مستديرة بغير انتظام) وتلك التي في الراحةpalm (فهي طويلة وأسطوانية). والأمر الأهم أن عظام الإكثيوصورات السمكية الشكل تكون مرصوصة بإحكام ـ من دون وجود أي جلد بينها ـ لتكوِّن لوحا صلبا. ولكن إحاطة جميع أصابع القدم بغلاف واحد من النُّسُج الرِّخوة تعزز صلابة المجاديف، كما هي الحال في الحيتان والدلافين والفقم والسلاحف البحرية التي تعيش في الوقت الحاضر. إن هذه النُّسُج الرخوة ترفع أيضا الكفاءة الهدروديناميكية (الديناميكية المائية) للمجاديف، لأنها انسيابية في مقطعها العرضي ـ وهو شكل من المستحيل الاحتفاظ به إذا كانت الأصابع منفصلة.
لقد تغيرت أساليب السباحة ـ ومن ثم الموائل (الشكل الأعلى) ـ للإكثيوصورات، في حين تطور شكل فقارها. ويوحي العمود الفقاري الضيق للإكثيوصورات الأولى بأنها تموّج أجسامها مثل ثعابين السمك (الأنقَليس) (الشكل الأيسر). لقد سمحت تلك الحركة بالسرعة والقدرة على المناورة الضروريتين للاصطياد في المياه الضحلة. وفي حين ثخن العمود الفقاري في الإكثيوصورات المتأخرة، أصبح الجسم جامدا؛ وبذلك يمكنه أن يبقى ثابتا بينما يتموج الذيل أماما وخلفا (الشكل الأسفل). لقد أدى هذا الثبات إلى تسهيل الإبحار بكفاءة طاقية عالية، وهو الأمر اللازم للصيد في المحيط الطلق. |
ولكن فحص الأحافير التي تتراوح من صورة عظاءة إلى صورة سمكة ـ وعلى وجه الخصوص تلك التي للصور المتوسطة ـ أظهر أن التطور من زعانف إلى أقدام لم يكن تحورا بسيطا للأصابع القدم الخمس. وفي الحقيقة تُظهر تحاليل أطراف الإكثيوصورات وجود عملية تطورية معقدة فُقدت فيها أصابع وأضيفت وانقسمت أصابع أخرى. وعند رسم خريطة توضح شكل الهياكل العظمية للزعنفة على امتداد شجرة النسب للإكثيوصورات مثلا، تبين أن الإكثيوصورات ذات الشكل السمكي فقدت عظام الإبهام thumb التي كانت موجودة في الإكثيوصورات الأولى. ويبرز لنا دليل إضافي من دراسة الترتيب الذي تعظمتossified فيه الأصابع (أي: أصبحت عظمية) خلال أطوار نمو الإكثيوصور السمكي الشكل استينوپتريجيوس Stenopterygius، ولدينا منه عينات تمثل مراحل النمو المختلفة. وبعد ذلك، ظهرت أصابع إضافية على كل من جانبي الأصابع التي سبق وجودها، وشغل بعض منها موقع الإبهام المفقودة. وغني عن القول، إن التطور لا يتبع دائما مسارا منفصلا موجها من صفة إلى أخرى.
أعمدة فقارية مبنية من أجل السباحة(9)
والأحافير الحديثة العظائية الشكل أعانت أيضا على حل مسألة أصل البنى الهيكلية لخلائفها السمكية الشكل. فلتلك الخلائف أعمدة فقارية مكونة من فقار مقعَّرة لها شكل أقراص لعبة الهوكي. وافتُرض دائما أن هذا الشكل، مع أنه نادر بين ذوات الحفرتين، نموذجي لجميع الإكثيوصورات. ومع ذلك، فاجأت المخلوقات الجديدة من آسيا علماء الأحافير بأن أعمدتها الفقارية أكثر ضيقا، وتتكون من فقار أكثر شبها بشكل علب أفلام التصوير ذات ال35 مليمترا منها لأقراص الهوكي. ويبدو أن الفقار قد نمت نموا هائلا في القطر، وقصرت قليلا، في أثناء تطور الإكثيوصورات من شكل عظائي إلى شكل سمكي. ولكن لماذا؟
لقد كانت عيون الإكثيوصورات كبيرة بدرجة مذهلة. وتظهر تحاليل عظام العين الكعكية الشكل والتي يطلق عليها «الحلقات الصُّلْبِيّة» أن للأفثلموصورس أكبر العيون بالنسبة لحجم جسم أي حيوان فقاري بالغ، حيا كان أو منقرضا؛ وأن للتيمنودنتوصورس Temnodontosaurus أكبر العيون على الإطلاق. وتمثل الأرضية التي باللون البيج حجم الحلقة الصلبية للأفثلموصورس. وكذلك تبين الصورة الفوتوغرافية شكل حلقة محفوظة جيدا من الاستينوپتريجيوس Stenopterygius. |
لقد وجدت وزملائي الإجابة في أساليب السباحة لأسماك القرش المعاصرة. فالقروش، مثل الإكثيوصورات، توجد في أشكال وحجوم متباينة. فقروش القطcat sharks نحيلة وليس لها وشيعة ذيلية tail fluke طويلة (يطلق عليها أيضا اسم الزعنفة الذيلية caudal fin) عند مؤخراتها السفلى، كما هي الحال في الإكثيوصورات البدائية. وعلى نقيض ذلك، قروش الماكريل mackerel sharks (مثل القرش الأبيض الضخم great white) لها أجسام ممتلئة وزعنفة ذيلية هلالية الشكل تماثل تلك التي توجد في الإكثيوصورات السمكية الشكل المتأخرة. وتسبح قروش الماكريل بتحريك ذيولها فقط، في حين تموِّج قروش القط أجسامها كلها. وتستلزم السباحة التموجية جسما مرنا، وهي صفة اكتسبتها قروش القط بحيازتها عددا كبيرا من قطع العمود الفقاري، فلها في الجزء الأمامي من أجسامها نحو 40 فقارة ـ وهو نفس العدد الذي وجده العلماء في الإكثيوصورات الأولى الممثلة في الأوتاتسوصورس والشاوهوصورس (للزواحف والثدييات الحديثة نحو 20 فقارة فقط).
إن الكائنات السابحة التي تستخدم الحركات التموجية، مثل قروش القط، يمكنها أن تناور ببراعة وتزيد من سرعتها بكفاءة للقبض على فريستها في مياه ضحلة نسبيا فوق الرف (الإفريز) القاري. وأيضا تُموّج العظايا المعاصرة أجسامها من أجل السباحة، وإن لم يكن هذا بكفاءة المخلوقات التي تقضي كل وقتها في البحر. ومن المنطقي أن نستنتج، عندئذ، أن الإكثيوصورات الأولى ـ التي كانت تشبه قروش القط وانحدرت من سلف شبيه بالعظاءة ـ كانت تسبح بالأسلوب نفسه وعاشت في البيئة الواقعة فوق الرف القاري.
وتُمكِّن السباحة التموجية المفترِساتِ من المعيشة بالقرب من الشاطئ حيث يكون الطعام وفيرا، ولكنها ليست الاختيار الأفضل لحيوان عليه أن يرتحل مسافات طويلة للبحث عن وجبة طعام. فالمفترِسات التي تعيش بعيدا عن الشاطئ وتصيد في المحيط المنفتح (حيث يكون الطعام أقل تركيزا)، تحتاج إلى أسلوب سباحة أكفأ في استهلاك الطاقة. ولقد حلت قروش الماكريل هذه المشكلة بامتلاكها أجساما جامدة لا تتموج، في حين تتأرجح ذيولها أماما وخلفا. وتعمل زعنفة ذيلية هلالية الشكل كسطح انسياب مائي hydrofoil متذبذب، ومن ثم تحسِّن كفاءة ارتحالها في البحر. وللإكثيوصورات ذات الشكل السمكي مثل هذه الزعنفة الذيلية، ويوحي المظهر الجانبي الثخين لأجسامها أنها ربما كانت تسبح مثل قروش الماكريل.
لقد اتضح أن جزيرة صغيرة تقع شمال شرقي اليابان تضم هيكلين عظميين كاملين تقريبا لأقدم إكثيوصور على الإطلاق، إنه الأوتاتسوصورس Utatsusaurus. |
وبفحص مجموعة متنوعة من أنواع القروش يتضح أنه كلما زادت ثخانة الجسم من أعلى إلى أسفل، زاد قطر الفقار في جذع الحيوان. ويبدو أن القروش والإكثيوصورات قد حلت مشكلة المرونة الناتجة من وجود أعداد كبيرة من شدف الجسم body segments بوسائل متشابهة. فقد زادت ثخانة أجسام الإكثيوصورات بمرور الوقت، ولكن ظل عدد الفقار ثابتا تقريبا. ولإضافة دعم إلى جسم أكبر حجما، زادت ثخانة العمود الفقاري مرة ونصف المرة على الأقل على تلك التي كانت للإكثيوصورات الأولى. ونجم عن تلك الثخانة أن صار الجسم أقل مرونة، واكتسبت كل فقارة من الفقار مظهرها الذي يحاكي أقراص لعبة الهوكي.
الغوص نحو الأعماق(10)
إن غزو الإكثيوصورات للمياه المنفتحة لم يَعْنِ تغطية أوسع للمياه السطحية فحسب، ولكنه عَنَى أيضا اكتشافا أعمق للبيئة البحرية. فنحن نعلم من المحتويات المتحجرة لمكونات مِعَدِ الإكثيوصورات السمكية الشكل، أنها في الأغلب كانت تأكل مخلوقات شبيهة بالحبار squidlike تُسمى الرأسَقدميات الثنائية الخياشيم dibranchiate cephalopods. وتصطاد الحيتان آكلات الحبارsquid-eating whales في أي مكان من عمق يتراوح بين 100 و1000 متر، وأحيانا حتى أعماق تبلغ 3000 متر. وهذا المدى الواسع من العمق يجب ألا يثير الدهشة، لكون موارد الطعام متناثرة على نحو واسع عند أعماق تزيد على 200 متر. ولكن للصيد في أعماق أكبر، يجب على الحيتان ـ وغيرها من الكائنات الغواصة التي تتنفس الهواء الجوي ـ أن تذهب إلى هناك، ثم تعود مرة أخرى إلى السطح في نَفَس واحد، وهذه مهمة ليست سهلة. وتخفيض استخدام الطاقة في أثناء السباحة هو من أفضل الطرق للاحتفاظ بالأكسجين الثمين المخزون في أجسامها. وبناء على ذلك فلغوّاصي الأعماق في الوقت الحالي أشكال انسيابية تقلل من السحب المضاد drag، وهذا بعينه ما كانت تفعله الإكثيوصورات السمكية الشكل.
وتدل صفات أخرى، عدا الغذاء وشكل الجسم، على أن بعض الإكثيوصورات السمكية الشكل ـ على الأقل ـ كان من غواصي الأعماق. إن قدرة غواص يتنفس الهواء الجوي على أن يبقى مغمورا تحت الماء تتوقف على حجم جسمه تقريبا؛ فكلما كان الغواص أثقل وزنا أمكنه اختزان كميات أكبر من الأكسجين في عضلاته ودمائه وأعضاء معينة أخرى، وكان استهلاك كل وحدةِ كتلةٍ من جسمه للأكسجين أقل. ولقد أدّى تطور جسم ثخين جامد إلى زيادة حجم وكتلة الإكثيوصورات السمكية الشكل مقارنة بأسلافها. والواقع إن وزن أحد الإكثيوصورات السمكية الشكل يصل إلى ستة أضعاف وزن إكثيوصور عظائي الشكل له طول الجسم نفسه. وكذلك نمت الإكثيوصورات السمكية الشكل إلى أطوال أكبر، وقد أدى هذا إلى زيادة إضافية في حجمها. وتوحي حسابات بُنيت على أساس القدرات الهوائية لغواصي الوقت الحالي التي تتنفس الهواء الجوي (ومعظمها من الثدييات والطيور) أن حيوانا في وزن الأوفثلموصورس السمكي الشكل، الذي كان وزنه نحو 950 كيلوغراما، يمكنه أن يحبس نَفَسَه مدة لا تقل عن 20 دقيقة. وعلى هذا يوحي تقدير متحفظ بأن الأفثلموصورس كان يستطيع الغوص بسهولة حتى عمق 600 متر ـ وربما حتى 1500 متر ـ ثم العودة إلى السطح خلال تلك الفترة.
وقد أظهرت دراسات العظام أيضا أن الإكثيوصورات السمكية الشكل كانت غواصة أعماق. فعظام أطراف الحيوانات الأرضية ذوات الأربع وضلوعها لها قشرة خارجية كثيفة تعزز القوة اللازمة لدعم الجسم على اليابسة. ولكن تلك الطبقة الكثيفة ثقيلة. ولأن الفقاريات المائية قادرة على الطفو في الماء بدرجة معقولة، فهي ليست في حاجة إلى تلك القوة الإضافية التي توفرها لها. والواقع إن العظام الثقيلة (التي لا تساعد إلا قليلا على تخزين الأكسجين) يمكنها تعويق مقدرة غوّاصي الأعماق على العودة إلى السطح. وقد رسخت مجموعة من البيولوجيين الفرنسيين فكرة أن الثدييات الحديثة من غواصي الأعماق قد حلت تلك المشكلة بجعل القشرة الخارجية لعظامها إسفنجية وأقل كثافة. وهذا الطراز بعينه من الطبقة الإسفنجية يغلف أيضا عظام الإكثيوصورات السمكية الشكل، وهذا يعني أنها هي أيضا قد أفادت من تخفيف أوزان هياكلها.
ولعل أفضل دليل على اعتياد الإكثيوصورات المتأخرة الغوصَ إلى الأعماق هو عيونها الكبيرة على نحو لافت للنظر، وقد تصل في عرضها حتى 23 سنتيمترا في حالة الأفثلموصورس. وبالنسبة إلى حجم الجسم، كان لذلك الإكثيوصورس السمكي الشكل أكبر العيون على الإطلاق لأي حيوان عُرِف في أي وقت.
وحجم عيون تلك الحيوانات يوحي أيضا بأن القدرة الإبصارية optical قد تحسنت كلما ارتقت الإكثيوصورات صعودا في شجرة النسب. لقد بُنيت هذه التقديرات على قياس الحلقة الصُّلْبِيّة(11) sclerotic ring، وهي عظمة شبيهة بالكعكة المثقوبة doughnut كانت مطمورة في عيونها. (وليس للبشر مثل هذه الحلقة ـ فقد فُقدت في أسلاف الثدييات ـ ولكن لمعظم الفقاريات الأخرى عظاما في عيونها). وفي حالة الإكثيوصورات، من المحتمل أن تكون تلك الحلقة قد ساعدت على حفظ شكل العين ضد قوى المياه التي تمر بها في أثناء سباحة الحيوانات، مهما يكن العمق الذي تذهب إليه.
إن قطر الحلقة الصُّلبية يجعل في الإمكان حساب أدنى قيم للرقم «f» ـ وهو معامل لدرجة السطوع النسبي relative brightness لأي جهاز إبصاري، يستعمل لتقييم عدسات آلات التصوير. وكلما كان الرقم منخفضا، كانت الصورة أكثر سطوعا، ومن ثم يكون وقت التعريض المطلوب للضوء أقصر. وفي العدسات ذات النوعية المنخفضة تكون قيمة هذا المعامل 3.5/f وأكبر؛ أما العدسات ذات النوعية العالية فلها قيم تصل في انخفاضها حتى 1.0/f. وقيمة f للعين البشرية نحو 2.11، في حين يكون الرقم لعيون القطط الليلية النشاط نحو 0.9/f. وتوحي الحسابات بأن القط قد يكون قادرا على الرؤية عند أعماق تصل إلى 500 متر أو أكبر من ذلك في معظم المحيطات. وكذلك كان الحد الأدنى لقيمة f عند الأفثلموصورس يصل إلى نحو 0.9 أيضا، ولكن نظرا لأن عينيه أكبر كثيرا في الحجم، فمن المحتمل أنه كان يستطيع أن يتفوق على القط في هذا المجال.
ذهبتْ إلى الأبد(12)
ويبدو أن الكثير من صفات الإكثيوصورات ـ بما فيها هيئة أجسامها وأعمدتها الفقارية، وحجم عيونها، ومقدرتها الهوائية وموائلها وغذاؤها ـ تغيرت بأسلوب مترابط خلال تطورها، مع أنه ليس في الإمكان الحكم على ما هو السبب وما هي النتيجة. لقد مكنت مثل هذه التكيفات الإكثيوصورات من أن تسود 155 مليون عام. إن الأحافير الحديثة للصور الأولى من هذه الحيوانات البحرية، توضح في الوقت الحاضر بالضبط كيف أنها تطورت بنجاح كبير للعيش في الماء، ولكن لا أحد يعرف حتى اليوم السبب الذي أدى إلى انقراض الإكثيوصورات.
قد يكون فقد الموئل هو الذي حسم الزوال النهائي للإكثيوصورات العظائية الشكل، التي أدى أسلوب سباحتها المتموج وغير الكفء إلى حصرها في البيئات القريبة من الشاطئ. ولعل انخفاضا على نطاق واسع في مستوى البحر قد أطفأ شمعة حياة هذه المخلوقات مع كثير غيرها من الكائنات التي عمل على إزالة مواطنها البيئية niches في المياه الضحلة. وعلى الجانب الآخر، استطاعت الإكثيوصورات السمكية الشكل أن تحيا في المحيط الطَلْق، حيث كانت لها فرصة أفضل للبُقْيا. ولكن لأن موائلها لم تختف قط، فلا بد أن شيئا آخر قد أدى إلى زوالها. وتتوافق فترة اختفائها تقريبا مع الفترة التي ظهرت فيها القروش المتطورة، ولكن لم يعثر أحد على أي دليل مباشر لحدوث تنافس بين المجموعتين.
وقد لا يتاح للعلماء مطلقا أن يبينوا بالتحديد سبب انقراض الإكثيوصورات. ولكن مع استمرار علماء الأحافير وغيرهم من الباحثين في استكشاف تاريخها التطوري، فسوف نتعلم بالتأكيد قدرا أكبر كثيرا عن الكيفية التي عاشت بها هذه المخلوقات الرائعة.
المؤلف
Ryosuke Motani
وُلد في توكوياما باليابان، وهو باحث في قسم علم الحياة القديمة (الپاليوبيولوجيا) في متحف أونتاريو الملكي في تورنتو. عندما كان صبيا وجد أن الإكثيوصورات لا تثير الاهتمام («لقد بدت ذات مظهر اعتيادي أكثر مما يجب في كتبي المصورة،» على نحو ما تعود به ذاكرته). ولكن خلال سنوات دراسته في جامعة طوكيو تغيرت وجهة نظره، بعد أن سمح له أحد أساتذة علم الأحافير بدراسة أحفورة الزواحف المحلية الوحيدة التي كانت بحوزتهم: أحد الإكثيوصورات. وهو يقول في ذلك: «لقد وقعت بسرعة في حب هذه الوحوش النبيلة.» ولقد مضى موتاني ليكتشف تطور الإكثيوصورات عند تحضيره للدكتوراه من جامعة تورنتو في عام 1997. ثم مكنته منحة زمالة من معهد مِلَر Miller Institute من الذهاب إلى جامعة كاليفورنيا ببركلي، لمتابعة بحوثه لما بعد الدكتوراه، ثم رجع إلى كندا في الشهر 9/1999.
مراجع للاستزادة
VERTEBRATE PALEONTOLOGY AND EVOLUTION. R. L. Carroll. Freeman, San Francisco, 1987. DINOSAURS, SPITFIRES, AND SEA DRAGONS. Christopher McGowan. Harvard University Press, 1991.
EEL-LIKE SWIMMING IN THE EARLIEST ICIITHYOSAURS. Ryosuke Motani, You Hailu and Christopher McGowan in Nature, Vol. 382, pages 347-348; July 25, 1996.
ICHTHYOSAURIAN RELATIONSHIPS ILLUMINATED BY NEW PRIMITIVE SKELETONS FROM JAPAN. Ryosuke Motani, Nachio Minoura and Tatsuro Ando in Nature, Vol. 393, pages 255-257; May 21, 1998.
LARGE EYEBALLS IN DIVING ICHTHYOSAURS. Ryosuke Motanl, Bruce M. Rothschild arid William Wahl, Jr., in Nature, Vol. 402, page 747; December 16, 1999.
Ryosuke Motani’s Web site: www.ucmp.berkeley.edu/people/motani/ichthyo/
Scientific American, December 2000
(*) Rulers of the Jurassic Seas
(1) الپاليونتولوجيا (علم الحياة القديمة): علم يبحث في أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السالفة كما تدل عليها الأحافير الحيوانية والنباتية.
(2) هو ثاني أدوار حُقب الحياة الوسطى (الميزوزويّ) من الزمن الجيولوجي، ويُنسب إلى جبال جورا Jura غربي سويسرا.
(3) الفقارة تُجمع على فقار. وتجنبا للخطأ الشائع باستعمال «فَقْرَة» ـ والصواب أنها فِقْرة ـ فضلنا استعمال «فقارة». وقد شاع المصطلحان الصحيحان: الفَقاريات واللافقاريات.
(4) Murky Origins (التحرير)
(5) مصطلح يطلق على الأطراف الأمامية والخلفية للثدييات البحرية التي تحورت إلى ما يشبه الزعانف، وتحتوي على عظام الطرف، على نحو ما يوجد في الفقم والحيتان وغيرها. وهي تختلف عن «زعانف» fins الأسماك التي تخلو من هيكل عظمي داخلي.
(6) اسم تصنيفي يطلق على الزواحف التي توجد في منطقتها الصدغية حفرتان على كل جانب، كما هي الحال في الثعابين والعظايا والتماسيح والزواحف المنقرضة. (التحرير)
(7) هو اسم لمجموعة من الصخور الناشئة عن رواسب طينية، تحولت بفعل الضغط الشديد حتى صارت كالصفائح التي يصعب فصل بعضها عن بعض.
(8) From Feet to Flippers (التحرير)
(9) Backbones Built for Swimming
(10) Drawn to the Deep
(11) الصُّلبة (بياض العين): هي الغلاف الخارجي الصلب الذي يحيط بالعين.
(12) Gone for Good (التحرير)