أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحةالعلوم التطبيقيةعلم الإنسان

السهم الأمازوني المسمم الذي بدأ التخدير الحديث

الموت الطائر يصل أمريكا

كان العام 1932، وكان ريتشارد غيل  Ritchard Gill جاثمًا على أرضية غابة مطيرة. فقد كان يراقب شخصًا يرفع قِدْرًا بخارية عن النار، قِدرًا كانت تغلي ببطء لأيام، وهي الآن جاهزة. ويأخذ الرجل سهمًا بسُمْك السوط ثم يغمسها في الخلطة السوداء الكثيفة مثل القطران.  فيلتصق المعجون بسهولة بطرف السهم.

لقد كانت تلك المرة الأولى التي يشهد فيها غيل هذا الطقس الشعائري، ولكنها لم تكن لتكون المرة الأخيرة. وقد كانت وظيفته السابقة كبائع للمطاط هي ما جلبه إلى الإكوادور، وعندما وجد نفسه عاطلًا عن العمل بعد انهيار الاقتصاد في عام 1929، استخدم هو وزوجته روث Ruth مدخراتهما لشراء أرض في أنديز الإكوادور. وكان غالبًا ما يزور جيرانه من قبيلة “الكانيلو”. وبِطوله البالغ مترين، كان يعلو الكثير من السكان الأصليين، ولكنه كان متواضعًا وحريصًا على التعلم، وعمل جاهدًا للحصول على ثقتهم واحترامهم.

كان غيل مندهشا من طريقة حياة الكانيلو، وبالأخص استخدامهم للنباتات. وقد درس غيل الطب لفترة، ومع أنه قرر ألا يصير طبيبًا، إلا أنه حافظ على اهتمامه بالطب. وكانت بعض الأدوية قد وجدت طريقها إلى الخارج من الأمازون، وصارت تستخدم كدواء حديث، ومن ضمنها الكينين Quinine، والدواء المسبب للقيء “عرق الذهب” (إيبيكاكوانا) Ipecacuanha. وكان غيل يفكر في أنه لا بد من وجود نباتات عديدة أخرى. وكان يعلم أن العديد من النباتات أُدخلت القدر لإعداد المادة المستخدمة لطلاء السهام التي يطلقونها من قصبات نفخ طويلة، ومن المؤكد أن أحد عناصر الخلطة كانت له تأثيرات بيولوجية كبيرة؛ فعند استخدامها يتمكن الصيادون المهرة من صرع حيوان عن بعد 30 مترًا، وأسموها “الموت الطائر”. أما بالنسبة إلى العالم الخارجي، فقد كان يدعى بالكورار (كرير) Curare.

كتب غيل في كتابة المياه البيضاء والسحر الأسود White Water And Black Magic، المنشور عام 1940: “بمجرد وخزة للجلد من سهم محمل بالموت الطائر، فإن أي وحش في الغابة مناسب للصيد بهذه الطريقة سيموت دون ألم خلال ثوان.”

لقد عرف المستكشفون الأوروبيون الكورار دومًا منذ القرن السادس عشر. أما ألكسندر فون هومبولت Alexander von Humboldt، والذي راقب قبائل نهر الأورينوكو Orinoco river وهم يحضرونه عام 1832، فقد أدرك الإمكانيات الطبية لهذا المركب. فالمركبات الفاعلة هي أشباه القلويات Alkaloids التي تطورت لتردع الحيوانات آكلة الأعشاب، كما أنها تحصر المستقبلات Receptor الموجودة بين الأعصاب والعضلات الهيكلية Skeletal Musscles في الحيوانات. إذا كانت الجرعة عالية بشكل كاف، فإنها تسبب الشل؛ فتتوقف رئتا الحيوان عن العمل ويختنق، مع أن قلبه يستمر بالعمل.

استمتعت أسرة غيل بالحياة في تلال الأنديز في ظلال بركان تونغوراهوا، ولكنهم لم يبقوا هناك. وبعدها، في زيارة إلى الولايات المتحدة، وبعد فترة قصيرة من سقوط غيل عن حصانه، بدأ غيل يعاني أعراضا غريبة: رجفةً في يديه، وبعدها خدرانا في القدمين مصحوبا بتشنجات عضلية مؤلمة. وقد كتب: “صحوت من نومي صباح يوم ما ولم يكن جانبي الأيمن هناك. وفجأة، كنت عاجزًا كطفل صغير، ولوقت طويل.” وقد شخّص الطبيبُ المرضَ على أنه التصلب المتعدد Multiple Sclerosis ، واقترح استخدام دواء سبق وأن أظهر بشارات نجاحه في تجارب حديثة وقد يساعد على تخفيف الألم، ألا وهو الكورار.

كانت المشكلة في الوصول إلى الكورار؛ فلم يكن الكورار متوفرًا في الولايات المتحدة، ولم يكن معروفًا إلا من العينات الصغيرة التي جلبت من الأمازون. بل إن أحدًا لم يعرف أي النباتات بالتحديد كان جزءا من الخلطة، أو كيف يُعد بشكل صحيح. ومما يزيد من الالتباس أن كل عينة بدت مختلفة اختلافًا بسيطًا، وكان التحيز ضد العلاجات “البدائية” مثل هذه منتشرًا. فكتب غيل: “كان هناك بعض ذوي العلم المتشبثين بالطقوس والعادات، والذين كانوا مقتنعين بأن يبقى الكورارُ سرَّ الموت الطائر في الغابات المعتمة.”

أدرك غيل أن هذه المعرفة والتجربة وضعته في وضع مميز، فقرر أنه العودة إلى الغابة ويجلب إمدادًا من الكورار. ولكن لما أنه لم يكن يستطيع المشي، لم يكن ذلك اختبارًا سهلًا بالنسبة إليه.

ولكن مع البرنامج الذي فرضه على نفسه من العلاج الفيزيائي، بدأ غيل بالتحسن، إصبعًا فإصبع. وبعد سنتين صار بإمكانه المشي بشكل غريب، على عكازين. وفي تلك الفترة  نفسها، بينما كان عالقًا في الولايات المتحدة، وضع بعض الخطط، وحسب ما يحتاج إليه من أجل بعثه كبيرة إلى بعض أكثر المناطق تحديًا على هذا الكوكب. كما أقنع ساير ميريل Sayre Merrill، وهو رجل أعمال من ماساشوستس، بأهمية المهمة. بعد ذلك وافق ميريل على تمويل البعثة بالكامل.

وفي النهاية، دخل غيل الغابة الإكوادورية عام 1938 متّكئا على عصا، وكانت معه زوجته، و75 حمّالًا، و36 بغلًا، و12 قارب كانو، وكميات من المعدات والبضائع للاتجار بها. فقد توجهت البعثة شرقًا، عميقًا في حوض الأمازون. أحيانًا، كان عليهم عَصْب عيون البغال حتى يمروا من فوق جسور معلقة مترنحة، وأحيانًا أخرى، كان عليهم مواجهة المنحدرات النهرية ذات المياه الُمزبدة.

وفي النهاية أقامت البعثة قاعدتها بالتخييم قريبًا من قرية. وبما أن غيل كان معروفًا وموثوقًا به، وافق الناس على تحضير الكورار من أجله مقابل القماش والسكاكين والبضائع الأخرى. فقد رصد غيل أي النباتات كانت تجمع من أجل خليط الكورار، وأخذ عينات من كل منها، مع تسجيل معلومات عن نباتات أخرى ظن أنها قد تكون ذات فائدة طبية.

وبعد أربعة أشهر عادت البعثة بأكثر من عشرة كيلوغرامات من الكورار المعالَج. وأرسل غيل العينات النباتية إلى بورس كروكوف Boris Krukoff في الحديقة النباتية في نيويورك New Yourk Botanical Garden. وإحدى هذه العينات لا تزال جزءًا من المجموعة العشبية: لها أربع أوراق عريضة، وساق قوية، ومعها سهم نفخ. وكانت النبتة هي كوندروديندرون تومنتوسوم (غضروفيةُ الأغصان الوبراءُ) Chondrodendron tomentosum، والتي تعرف اليوم على أنها أحد الأنواع التي تحتوي على القلوانيات ذات الأثر الشبيه بالكورار.

كان غيل مفتونًا بالكانيلو، وعمل جاهدًا لنيل احترامهم.

جلب غيل معه كمية كافية من معجون الكورار للكيميائيين لدراسة خواصه وتفكيك البنية الجزيئية للمكون الرئيسي الفاعل فيه، وهو التوبوكورارين Tubocurarine. وقد  إنتوكوسترين Intocostrin. واستخدم الأطباء هذا الدواء لعلاج الشلل التشنجي Spastic paralysis ولمنع الكسور المتكررة عند المصابين بأمراض نفسية خلال العلاج بصدمة التخليج الكهربائي Electroconvulsive shock therapy.

ولكن أثره الأكبر كان في الجراحة. ففي عام 1942 نشر طبيب التخدير هاري غريفيث Harry Griffith ورقة محورية حول تجربته في إعطاء الإنتوكوسترين قبل جراحة البطن. لطالما كان من الصعب ضمان بقاء المريض ساكنًا تمامًا تحت التخدير، وكان ذلك يعني في العادة إدخالهم في حالات أعمق وأعمق من فقدان الوعي، وهي خطوة خطرة. أما بوجود الشلل الذي يوفره الكورار، فقد وجد الباحثون أنهم يستطيعون العمل بأمان أكثر عندما يكون المريض ساكنًا تمامًا. كما كان ذلك يعني أنهم يستطيعون استخدام جرعات أقل من المخدر.

وصار من الممكن القيام بعمليات كانت من قبل غير آمنة بسبب استهلاكها الكثير من الوقت. كما أن سكون المريض صار يعني أن العمليات متزايدة التعقيد، كعمليات العين والجراحات العصبية صارت ممكنة.

وخلال الحرب العالمية الثانية سمع أحد اختصاصيي التخدير الذي يدعى جون هالتون John Halton، والذي كان يعمل في ليفربول بالمملكة المتحدة، عن الإنتوكوسترين من طبيب أمريكي موجود في تلك البلد. وصارت تركيبته من المخدر ومسكن الألم ومرخّي العضلات مشهورة بـ”تقنية ليفربول” Liverpool technique. وبقيت هي حتى الآن الركن الأساسي في التخدير.

لا يذكر غيل ما إذا استخدم الكورار على نفسه. وقد أظهر التشريح المُجرى عليه بعد الموت عام 1958، عن عمر 57 سنة، أن التشخيص بالتصلب المتعدد كان صائبًا، مع أن أعراض غيل كان يبدو أنها أخف في نهايات حياته. كما أمضى غيل بقية حياته يروج للكورار كعلاج. ومع أنه لم يكن هناك اعتراف عام بأهمية مساعي غيل، إلا أن مساهمته لاحظها أولئك الذين أحسوا بأثرها؛ فقد كتب غريفيث لغيل عام 1943 في رسالة: “أود أن أعبر عن التقدير الكبير جدًا للجراحين، واختصاصيي التخدير، والمرضى للعمل المفيد جدًا الذي قمت به لإتاحة هذا  العقار لنا.” وبهذا دخلت الجراحة عصرًا جديدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى