أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الآثار

العظام المعبِّرة في موقع


العظام المعبِّرة في موقع

«أبو هريرة» بشمال سوريا

لقد خلفت عمليات طحن الحبوب اليومية في مجتمع زراعي قديم

بالشرق الأدنى آثارا ظاهرة على الهياكل العظمية لأفراد ذلك المجتمع.

<Th.موليسون>

 

إن إعادة تصور كيف كان يعيش الناس في الأزمنة الغابرة تشبه أعمال التحري نظرا لأن الأدلة نادرة. فالاستدلال على ذلك لا بد من أن يعتمد على أدلة متفرقة مثل العظام والأدوات المعمرة وأطلال المساكن. وكوني متخصصة في علم المستحاثات في متحف التاريخ الطبيعي بلندن، علمت أن مجموعة من عظام بشرية من العهد النيوليتي المبكر (العصر الحجري الحديث) قد تم إحضارها إلى إنكلترا من حفريات في موقع «أبو هريرة» الذي يقع شمالي سوريا. ولقد قام بأعمال التحريات < T .M. مور> في العامين 1972 و 19733 قبل أن تغمر مياه سد الطَّبْقَة الجديد الموقع بمدة وجيزة، وذلك حين كان في جامعة أكسفورد [انظر: A Pre-Neolithic Farmers” , Village on the Euphrates” by Andrew M. T. Moore, Scientific American, August 1979].

 

لقد تم تعرف بقايا هيكلية لنحو 162 فردا من سبعة خنادق تم حفرها في «أبو هريرة» ـ (75) طفلا، و (87) يافعا (بالغا) منهم (44) أنثى و (27) ذكرا و (16) فردا لم يعرف انتماؤهم الجنسي. وتقدر فترة تراكم هذه البقايا بنحو 3000 سنة.

 

ولقد بدا لي ولزملائي أن هذه العظام تكشف عن تفصيلات تتعلق بالحياة اليومية لسكان موقع أبو هريرة وبالتالي بحياة مجموعات نيوليتية أخرى تحوَّل أفرادها من حياة تعتمد على الصيد والقطف (التحويش) إلى حياة تعتمد على الزراعة. إن آثار معاناة الحياة ـ بعضها نتيجة للأمراض وبعضها الآخر للأعمال اليومية ـ تترك بصماتها على عظام الهياكل والأسنان. وبالفعل فقد قادت التحريات إلى كثير من المعلومات التي لا يمكن اكتشافها بغير هذه الطريقة وبخاصة فيما يتعلق بمجتمع النساء.

 

لقد قطن أفراد من البشر موقع أبو هريرة في زمنين مختلفين، الأول كان منذ 1500 سنة إلى 000 10 سنة تقريبا، وهو الزمن الذي سبق مباشرة تطور الزراعة. وكان يجني سكان العهد ما قبل النيوليتي، الذين قطنوا هذا الموقع، أنواعا مختلفة من الحبوب البرية تتضمن العدس والقمح البري والجاودار والميس والفستق الحلبي. وكانوا يصطادون أيضا الغزلان التي كانت تهاجر إلى الفرات خلال فصل الربيع. وقد جاء الاستيطان الثاني بعد انقطاع زمني قدره 200 سنة. ولقد زرع شعب العهد النيوليتي المبكر من الاستيطان الأخير الكثير من الحبوب المدجنة مثل ضروب مختلفة من القمح البري والشوفان والحمص والعدس. وكل هذه الحبوب كانت تتطلب، قبل أكلها، تحضيرا يحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت.

 

ويمكن أن يكتشف سجل هذا الجهد في عظام سكان أبو هريرة. إن من أولى سمات الهياكل التي لاحظناها كانت تلك العلامات التي تدل على الإجهادات الإضافية والمفرطة الناجمة عن حمل الأثقال التي هي في معظمها حمل الطرائد والحبوب ومواد البناء. ولقد كانت هذه الشواهد أوضح ما يكون لدى الشباب، وإذا كان على المراهقين العمل فإنه يتوقع أن نرى تغيرات في أشكال فِقْراتهم (فَقاراتهم) العليا، وهذا ما وجدناه بالفعل. ومن المحتمل أيضا أن الأثقال كانت تُحْمَل على الرأس: لأن الأجزاء المعقوفة من فقرات الرقبة تبدو متسعة، مشيرة بذلك إلى وجود مساند داعمة على العظام، ولولا ذلك لتهاوت الرقبة تحت تأثير ثقل الأحمال. ولقد وجدنا في بعض الأفراد تغيرات تدل على تنكس فقرات الرقبة التي يمكن أن تكون قد نشأت من إصابات ساعد عليها حمل الأثقال.

 

ولكن هذه الحالات ليست شائعة؛ إذ يبدو أن صحة الناس كانت في الواقع جيدة باستثناء تشوه العظام الذي كان يحدث عرضيا وبشكل متكرر: مثل وهطcollapse الفقرات (وبخاصة الفقرة الظهرية الأخيرة) والتهاب شديد بمفاصل أباهم الأقدام. وكانت تترافق هذه الحالات من التشوه مع شواهد تدل على سواعد وأرجل بعضلات قوية، حيث تنم العظام بصورة واضحة على نشاط عضلي كان لا بد من تنفيذه وكان أيضا مجهدا.

 

ولقد فكرنا، حقيقة، لفترة من الزمن أن سكان أبو هريرة قد انهمكوا بشكل ما في الرياضة أو ألعاب القوى، ولكن لا يعقل ظهور راقصات باليه معلولات خلال العهد النيوليتي. ولقد بقينا متحيرين حتى لاحظ زميل لنا كان يقضي إجازته في مصر أن المتضرعين الراكعين المعروضة صورهم على جدر المعابد كانت أصابع أقدامهم منثنية إلى الأمام. ولقد أوحت لنا هذه الملاحظة أن بعض النشاطات التي تتطلب الركوع أدت إلى الإصابات التي لاحظناها بين سكان موقع أبو هريرة.

 

لقد وجد مور خلال الحفريات في غرفة المساكن، مجارش بشكل السرج هُجِرت بعد أن تم استخدامها للمرة الأخيرة (والمجرشة هي حجر طاحون بدائي لجرش الحبوب يدويا. وقد سميت بالمجرشة السرجية لأنها تشبه السرج من حيث الشكل.) وكنت مقتنعة أن عملية الركوع التي كانت تدوم ساعات طويلة كانت تكرس لطحن الحبوب باستخدام المجرشة السرجية. ولكن <G. هيلمان> (من جامعة لندن)، الذي عمل في دراسة بقايا نباتات أخذت من الموقع المدروس، لم يكن متأكدا من ذلك. إذ أشار إلى أن إزالة القشور الخارجية من الحبوب بعملية الدق بوساطة مدقة في هاون ـ وهو عمل يومي آخر يتطلب الركوع ـ قد تمثل الخطوة الرئيسة لتحضير الحبوب. ويحتمل أن كلا العملين كان لهما تأثير في تشويه الفقرات. ولكن ليس من المحتمل أن استخدام المدقة والهاون سبَّب تشوه أصابع القدم: لأن العامل يمكنه أن يغير مواضعه خلال عملية الدق بخلاف عملية الطحن.

 

وهكذا كان يمثل تحضير الحبوب للطعام نشاطات المستوطنة الأكثر إلحاحا والأشد جهدا، وهذا مازال مستمرا في كثير من الأمكنة. إذ يجب أن تقشر الحبوب كل يوم لتعذر حفظها بعد نزع القشور عنها. ويبدو أن عملية نزع القشور باستخدام الهاون  والمدقة وعملية الطحن التي تليها باستخدام المجرشة السرجية كانتا تستغرقان ساعات طوالا. لذا فإن ما وجدناه على العظام هو العلامات الدالة على ساعات العمل الطويلة التي كان يتطلبها مثل هذا العمل. كما كان واضحا علامات لإصابات ربما نتجت من استخدام المجرشة السرجية بأسلوب فيه الكثير من السرعة والحماس.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N5_H01_005043.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N5_H01_005044.jpg

إن طحن الحبوب على المجرشة السرجية، وهو عمل يومي لنساء موقع أبو هريرة، يشوه المفاصل. كانت المرأة تدفع وهي راكعة على ركبتيها حجر الفرك بشكل متكرر إلى الأمام ثم تسحبه إلى الخلف إلى نقطة الانطلاق. وهذه العملية التي كانت تستغرق عدة ساعات في اليوم، أثرت بصورة خاصة في العظام التي تظهر في الشكل: إبهام القدم والعمود الفِقْري (الفَقارة) والرجل، حيث يلاحظ فرط انثناء الإبهام وتلفه ووجود نتوءات عظمية على فقرات العمود الفقري: أما الِّرجل التي صورت بحيث يكون عظم الفخذ (femur (thigh bone في الأعلى وعظم القصبة (الظُّنْبوب) (tibia (shin bone أسفل منه فيلاحظ وجود مساند على طول قصبة الفخذ ونتوءات عظمية عند الركبة.

 

ويوحي وجود أحجار الفرك والمجارش في موقع أبو هريرة بكيفية حدوث مثل هذا التلف والضرر. كانت المجارش موضوعة مباشرة على الأرض وليس على وطيدة أو على أي مكان مرتفع كما اتُّبِع في أزمنة لاحقة (وتؤيد البقايا المحيطة بالمجارش ما تم استنتاجه بأن كل مجرشة وجدت في المكان الذي كانت تستخدم فيه). وهكذا كان على الفرد الذي كان يستخدم المجرشة أن يركع على ركبتيه للقيام بعملية الجرش.

 

لنتصور الآن العملية. تضع الطحَّانة الحبوب على المجرشة وتمسك حجر الفرك بكلتا يديها (نعم، كان هذا عمل المرأة كما سنرى) وتدفع، وهي في وضعية الركوع على ركبتيها وأصابع قدميها منثنية إلى الأمام، حجر الفرك نحو الناحية البعيدة من المجرشة منهية بذلك الشوط وجسمها الأعلى يوازي تقريبا الأرض وتكون ذراعاها في هذه الوضعية في مستوى رأسها أو بالقرب منه. وعند وصولها إلى النهاية البعيدة من المجرشة كان عليها أن تعود إلى وضعية الانطلاق. وأدعو هذا الجزء من عملية الطحن بالارتداد recoil. وتقوم العضلات الدالية في الكتفين بالحركة التي تدفع الذراعين عندما تدفع الطحانة حجر الفرك إلى الأمام. وخلال هذا الشوط تدور الذراعان أيضا نحو الداخل وهي حركة تقوم بها العضلات ذات الرأسين.

 

إنها تماما أمكنة ارتكاز (تثبيت) attachment العضلات الدالية على عظم العضد (وهو العظم الطويل في العضد). وأمكنة ارتكاز العضلات ذات الرأسين على عظم الكعبرة (أحد عظمي الذراع) التي تتنامى في هؤلاء الأفراد. ويدل فحص العظام أن فرط نمو العضلات كان متناظرا ومتساويا في كلا الطرفين العلويين. ويلاحظ، بكل وضوح، الأحدوبة الكعبرية على أذرع هؤلاء الأفراد وهي منطقة منتفخة من عظم الكعبرة حيث ارتكاز العضلة ذات الرأسين.

 

إن الركوع لساعات طويلة يجهد أصابع القدمين والركبتين في حين تلقى عملية الطحن إجهادا إضافيا على الوركين وبصورة خاصة على القسم السفلي من الظهر. ولقد وجدنا الإصابات المميزة على آخر فقرة ظهرية، حيث لوحظ تلف وتهشيم في القرص. ويمكن أن تكون هذه الإصابات قد حدثت عندما تتجاوز الطحّانة الشوط عند النهاية البعيدة من المجرشة السرجية في أثناء الدفع نحو الأمام أو الارتداد إلى وضعية الانطلاق بشكل سريع أو شديد.

 

يدور الجسم في أثناء عملية الطحن بشكل متناوب حول مفاصل الركبتين والوركين. وهذه الحركة تعرض عظمي الفخذ إلى إجهادات ثني شديدة. ولذلك يظهر على هذين العظمين نتوء واضح على طول الوجه الخلفي وذلك لمعادلة عزوم الانثناء الناجمة عن الورك والركبة عندما يتأرجح الجسم نحو الخلف والأمام عبر المجرشة السرجية. وتتلقى الركبة أيضا كثيرا من الضغط لأنها تُستخدم محورا للحركة. وبذلك تتوسع سطوح المفاصل ويظهر أثر كل هذه الحركات على مجموعة العظام التي درسناها. فعظام العضد كانت منحنية وذات نتوءات، وتبدي الركب امتدادات عظمية على سطوح تمفصلها.

 

كما أن الأقدام أيضا تعرضت إلى إجهادات شديدة عندما كانت تتم عملية طحن الحبوب باستخدام المجرشة. فأصابع القدم تنحني إلى الأمام لتوفر القوة التي تؤمن معظمَها أباهمُ الأقدام. ويبدو أن المفاصل المشطية الأولى في أصابع الأقدام في بقايا موقع أبو هريرة كانت متسعة وغالبا ما تكون مصابة. وهناك أيضا أدلة على تلف في الغضروف: إذ تشير سطوح مصقولة وملساء في المفصل المشطي إلى أن العظم كان يحتك مع عظم آخر. ويبدو في بعض الأفراد تنامي فصال عظمي osteoarthritis شديد. ويظهر في إحدى الحالات أن الإبهام الأيمن قد تأثر بشدة أكثر من الإبهام الأيسر. وعلى الرغم من أن الأصل الخمجيInfective لهذه الحالة لم يعرف تماما فقد يكون لمن اعتاد أن يطحن الحبوب ويبقي إحدى قدميه على القدم الأخرى تخفيفا للألم. وتظهر مثل هذه الوضعية في صورة لامرأة مصرية وهي تستخدم المجرشة، معروضة في كتاب <H .J.بريستد >: Egyptian Servant Statues.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N5_H01_005045.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N5_H01_005046.jpg

لقد ظهر شذوذ في عظام سكان موقع أبو هريرة نتيجة للنشاطات المبينة في الشكل. فحمل الأثقال على الرأس شوه أعلى العمود الفقري؛ ويشير وجود النُقَر على الفقرات إلى تلف القرص. إن عمليتي دق الحبوب بالمدقة والهاون وجرش الحبوب أدتا إلى ضخامة شديدة في عضلات الذراع يدل عليها الانتفاخ في عظمي العضد (أعلى الصورة) حيث ترتكز (تتثبت) العضلات الدالية، وفي عظمي الكعبرة (في الأسفل) حيث ترتكز العضلات ذات الرأسين. إن جلوس القرفصاء للراحة يجهد الركب، وهذا ما يفضي إلى هذه الرضفة المثلمة kneecap (notched patella). ويلاحظ تلف الفقرة الظهرية الأخيرة نتيجة العمل بالمجرشة. ويدل الانقراص والتنقر على تهشم القرص وتلفه. كما تأثرت عظام إبهام القدم, ويلاحظ هنا تآكل بالقرب من الطرف الأيمن لعظم إبهام القدم العلوي وفُصال عظمي osteoarthritis شديد بالقرب من الطرف الأيمن لعظم إبهام القدم السفلي.

  

إن التغيرات في عظام الذراع والورك وأصابع القدم التي لاحظناها أثرت في كامل شكلية العظام. وهذه النتيجة يمكن أن تحدث فقط فيما إذا استمر تطبيق الإجهادات على العظام لساعات عمل يومية طويلة عندما يكون الفرد في حالة نمو. ولقد لاحظ الرحالة، حديثا، مثل هذا النشاط حيث كتب<M.أسْتِر> في A Desert Dies: «بدت الحياة في الواحات الصحراوية وكأنها تطحن البشر فيها وفق إيقاعها الخاص. وهذا يصدق حرفيا على النساء لأنهن كُنَّ يقضين معظم أوقاتهن في طحن الحبوب باستخدام مطاحنهن اليدوية.. وغالبا ما راقبتُ حواء وهي تضع كمية قليلة من الحبوب على حجر الرحا لتسقط ببطء في أثناء طحنها ثم تكنس الطحين وتجمعه في وعاء كل بضع دقائق. وبعد ساعة من الزمن أو نحو ذلك تحل محلها ابنتها الصغيرة، التي يبلغ عمرها نحو تسع سنوات، وتبدأ عملية الطحن بكل نشاط. وقد يستغرق إنتاج كمية كافية من الدقيق لوجبة غذائية واحدة عدة ساعات من العمل.»

 

لقد أردنا أن نفرق فيما إذا كان أفراد من كلا الجنسين يطحنون الحبوب في موقع أبوهريرة. ولقد كانت الإجابة عن هذا السؤال صعبة. فالهياكل متفرقة لدرجة كان علينا استنباط طريقة لتحديد جنس الفرد من عظام معينة تبدي تغيرات نتجت كما اعتقدنا من استعمال المجرشة السرجية. فقد بينت القياسات لأول عظم مشطي في القدم أنه كان أكبر في الذكور بصفة عامة. وبهذه الوسيلة استطعنا أن نميِّز أن غالبية العظام التي تبدو عليها آثار استخدام المجرشة السرجية كانت من الإناث.

 

ولقد استنتجنا أن النساء والبنات في الأسرة هن اللواتي كن يحضّرن عادة الحبوب. وهكذا يظهر بين أناس العهد النيوليتي المبكر (الأسفل) تقسيم تقريبي للمهام المنزلية. ويبدو أن سكان موقع أبو هريرة كانوا قد اكتشفوا أن أفضل طريقة فعالة لتوفير الطعام كانت بتوزيع العمل. ويمكننا أن نفترض أن الرجال كانوا يصطادون، ثم بعد أن عرفوا الزراعة، أصبحوا يزرعون النباتات لطعامهم. أما نساء الأسرة فقد تخصصن في تحضير الحبوب، وهو عمل يتطلب جهدا كبيرا أو مجموعة من الأعمال تستغرق الكثير من ساعات النهار وتؤدي إلى إصابات في الظهر والركب وأصابع القدم. وهذه هي إصابات الإجهاد المتكرر للعهد النيوليتي. ولا حاجة أن نفترض أن هذا التوزيع في المهام يدل ضمنا على عدم المساواة بين الجنسين أو تمييز في المهام ـ وهذا ما سيأتي شرحه فيما بعد.

 

ليست النساء وحدهن اللاتي تعرضن للمعاناة من تحضير الطعام، لأن الطحن الخشن للحبوب له تأثير شديد جدا في أسنان الناس كافة. وأخذ الحذر يكون ضروريا بالنسبة إلى جميع منتجات الحبوب باستثناء الدقيق المغربل الذي تم فرزه بكل عناية لإزالة النوى الصلبة والحصى الصغيرة. ويمثل عدد الأسنان المكسورة لدى قوم (سكان) النيوليتي المبكر في موقع أبو هريرة أدلة على الفشل في عملية الفرز بشكل فعال، ويحتمل أن ذلك ناجم عن غياب الغرابيل. ولهذا السبب يبقى في الدقيق (الطحين) حسك السنابل وعصفاتها الناتجة من الغلاف الخارجي للحبوب والتي تعلق أحيانا بين الأسنان وتسبب خمج اللثة. ولكن يندر من جهة ثانية إصابة الأسنان بالنخر (تسوس الأسنان). ويظهر أن الدقيق لم ينخل كافيا أو يطبخ جيدا (فيما إذا كان يطبخ) لتأمين الوسط الملائم لتكاثر البكتيريا التي تسبب تكهف الأسنان.

 

لم يكن تكسر الأسنان إلا مشكلة واحدة، فالحبوب حتى بعد تقشيرها وطحنها كانت تعطي وجبة غذائية قاسية، كانت بمثابة مادة ساحجة إلى أبعد الحدود. فإلى جانب التلف الناجم عن ذرور الصخر الناتج من حجر الطاحون فإن الدقيق نفسه يحت الأسنان بسرعة. ولذلك فإن كثيرا من الناس كانوا يفقدون أسنانهم في أعمار مبكرة. وعلاوة على ذلك فإن صور الأسنان بالمجهر الإلكتروني الماسح من موقع أبو هريرة أظهرت نُقَرا مشابهة من حيث الحجم لنقر أسنان الرئيسات اللابشرية التي تحدثها نوى التمور والأجسام الصلبة الأخرى.

 

وكان لا بد من التفكير في شيء آخر فيما يتعلق بتآكل الأسنان المريع. لقد لاحظ علماء الآثار، بشكل عرضي في موقع أبو هريرة، انطباعات حُصُر منسوجة في الجبس تنتمي إلى مستويات لاحقة (أحدث) من المستوطنة. وهذه اللقى كانت الدليل على أن السكان في ذاك العهد كانوا قد برعوا في مهارات النَّسْج. إن اختراع الغربال، وهو تطبيق لمبادئ النسج، يعني ضمنا أنه كان بالإمكان غربلة الحبوب وفصلها عن الحصى الصغيرة والتبن الخشن. ويمكن لنساء الشرق الأدنى اليوم أن يقمن بعملية الغربلة بمهارة متناهية ينتج منها فرز ثلاثة أجزاء: الحصى والتبن والحبوب ثم يَنْقُفْن الحصى إلى راحة اليد. والنتيجة هي حالات أقل من تكسر الأسنان. ولا يوجد لدينا أي دليل على وجود الغرابيل في موقع أبو هريرة ولكن لوحظ أن تآكل الأسنان أصبح أقل شدة في الأزمنة اللاحقة.

 

وكان لا بد من إيجاد طريقة لتعبئة محصول الحبوب وذلك لنقله من الحقول. ويبدو أن السلال كانت الحل. لقد لاحظنا أخاديد غريبة على الأسنان الأمامية لأفراد عاشوا في المستويات الأحدث في موقع أبو هريرة. ولصناعة سلة لا بد من تحريك ثلاث قصبات في وقت واحد. وبسبب أن اليدين تكونان مشغولتين بإمساك العوارض الأولى من السلة، تستخدم الأسنان في توجيه القصبات المجدولة. ويصور <C .S.لارسون> (من جامعة كارولينا الشمالية في شابل هيل) كيف تمسك امرأة من هنود الپايوت Paiute  القصب بين أسنانها. إن هواية النسج بهذه الطريقة تكوّن أخاديد على سطح الأسنان الأمامية. وتتماثل الأخاديد تقريبا مع تلك التي لاحظناها على الأسنان من موقع أبو هريرة.

 

إن الأدلة على النسج وصناعة السلال نادرة بين العظام التي درسناها ويحتمل أن سبب ذلك هو أن مهارات هذه المهن كانت محصورة في مجموعة صغيرة من السكان. وهؤلاء الأفراد يمثلون قسما من المستوطنة وهذا ما يوحي بوجود منطقة حرفية. إن مثل هذا التخصص قد يمثل حصيلة طبيعية لأي تقسيم في المهمات. ويتيح هذا التخصص الوظيفي تنامي المهارة والسرعة وتحسين التقنية. وإذا تحررت خبيرة ما من الحاجة إلى إنتاج طعامها الخاص فيمكنها أن تصنع أكثر من كفايتها من الغرابيل والسلال لتزويد المجتمع، وأي فائض يمكن أن يستخدم في التجارة.

 

ولقد برزت أدلة على وجود مجموعة أخرى من النساء الحرفيات في جزء آخر من المستوطنة. إذ لاحظنا وجود عدة فكوك jaws اتسعت سطوح تمفصلها بدرجة  كبيرة، إضافة إلى تآكل شديد وغير منتظم للأسنان.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N5_H01_005047.jpg

كان تآكل الأسنان شديدا جدا بين قوم (سكان) العهد النيوليتي المبكر (الأسفل) بموقع أبو هريرة. فالدقيق (الطحين) الخشن الناتج من الطحن بالمجرشة كان يسحج الأسنان (في اليسار). وكان يؤدي سحب القصب خلال الأسنان في أثناء صناعة السلال إلى أخاديد عميقة (في اليمين).

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/11/SCI95b11N5_H01_005048.jpg

امتد تسلسل الأحداث في موقع أبوهريرة عبر استيطانين مختلفين للموقع على مدى أكثر من 4500 سنة. والمستوطنون الأوائل كانوا من قوم العهد (العصر) ما قبل النيوليتي الذين عاشوا عيشة بدائية، ولم يقوموا بأعمال زراعية. أما قوم العهد النيوليتي المبكر من الاستيطان الثاني فقد مارسوا زراعة المحاصيل وتدجين الحيوانات وبعض الحرف مثل صناعة الفخاريات والسلال.

 

ولوصول الأسنان إلى هذا النمط من التآكل لا بد وأن تكون قد تعرضت إلى قوى طحن هائلة أدت إلى انحتات (سحج) السطح الخارجي للأسنان السفلى وكذلك السطح الداخلي للأسنان العليا. ويمتد هذا التآكل في بعض الحالات حتى الجذور.

 

ولقد وجد <T. كامگاي> (من جامعة إيوات الطبية في اليابان) تغيرات مشابهة بين شعب الماؤوري Mauri الذين كانوا يمضغون سوق النباتات ليصنعوا منها خيوطا ليفية. وكان<J .D. جينينكز> (من جامعة يوتا) قد وصف منذ بضع سنين مُضْغات quids تمّ مضغها بأسنان متآكلة. ولقد وجد بموقع دنجر كيڤ Danger Cave في يوتا آلاف من المضغات لأفراد شعب عاصر مجتمع موقع أبو هريرة. وقد عثر في هذا الكهف على قطع من حبل مصنوع من السوق الممضوغة من نبات البَرْدِيّ bulrush، إضافة إلى حُصُرٍ نسجت بمثل هذه الحبال. وأعتقد أن هذه الحصر كانت قد صنعت بطريقة مماثلة في موقع أبو هريرة. وهي وجهة نظر يؤيدها ما عثر عليه من انطباعات للحصر خلال عملية الحفر في هذا الموقع.

 

ولقد أحدثت التقانة الجديدة في صناعة الفخار منذ 7300 سنة تغيرات جذرية في المجتمع. إذ استخدمت الأوعية الفخارية لنقع الحبوب وطهيها مما جعل الطعام المصنوع من الحبوب لينا وقلّل تآكل الأسنان بشكل واضح جدا، كما يلاحظ من صور الأسنان بالمجهر الإلكتروني الماسح.

 

إضافة إلى ذلك فإن الطعام من الحبوب المطبوخة هو أطيب مذاقا وأسهل هضما. وعملية الطبخ تحرر الكربوهيدرات (هيدرات الكربون) من الحبوب وتجعل امتصاصها أسهل في الجهاز الهضمي. ومن نتائج الطبخ كانت العصيدة التي أثرت تأثيرا كبيرا في بنية سكان المجتمع. إن ما يوضح هذه النتيجة وجود كسر غير مرمم في فك امرأة؛ إذ ليس من المحتمل أن تكون قد بقيت على قيد الحياة لو لم يتيسر لها وجود الثريد أو العصيدة. والشيء الذي كان له أهمية أكبر بعد أن أصبحت العصيدة متيسرة هو استبدالها في تغذية الأطفال عوضا عن لبن الأمهات. والأمهات أيضا كن يستهلكن غذاء غنيا جدا بالكربوهيدرات. ولقد كان للفطام المبكر للأطفال وللتغذية الأفضل تأثير في زيادة الخصوبة زيادة كبيرة وذلك بإنقاص الفترة الفاصلة بين الولادات.

 

ويمكن ملاحظة هذا التأثير في تلك النسبة الكبيرة من هياكل الأطفال التي وجدت في المستويات الفخارية مقارنة بنسب هياكلهم في الطبقات الأقدم، وهي نسبة عالية لدرجة توحي لنا أن الأطفال كانوا معرضين إلى خطر متزايد للموت من الأمراض، على ما يبدو، بسبب ارتفاع كثافة السكان الذي أعطى فرصة كبرى لانتقال الأمراض من فرد إلى آخر. فقد تبين وجود ثخانة وتنقر pitting  في محجري العينين لدى بعض الأطفال، ويعرف هذا المرض بالحجاج المنقر cribraorbitalia وربما كان نتيجة لفقر الدم الذي يتبع خمجا infection  مديدا بالطفيليات.

 

 ولقد وجدنا في المستويات الفخارية أدلة على نخر الأسنان. فالتغيير في تحضير الطعام والإصرار الشديد في الاعتماد على الحبوب المطبوخة التي صنع منها الخبز والعصيدة أدى إلى أطعمة لزجة تلتصق بالأسنان وتهيئ وسطا ملائما لنمو البكتيريا التي تسبب نخر الأسنان.

 

ولقد هجر السكان موقع أبو هريرة منذ 7000 سنة كما تم هجر الكثير من المواقع النيوليتية في الشرق الأدنى. ولم يعرف بالضبط سبب ذلك: ويحتمل أن يكون المرض والمجاعة والتغيرات المناخية. وعلى الرغم من أن مجتمع أبو هريرة كان مجتمعا منظما structured فقد بقي مجتمعا يعتمد على المساواة حتى النهاية، حتى فيما يتعلق بمراسم الدفن. ولكن يحتمل أن تكون المهام الأسرية قد أصبحت خلال العهد النيوليتي أكثر تحديدا وتقييدا.

 

وتعكس مراسم الدفن اندماج المهام الأسرية في بنية المجتمع. فقد كان الموتى يدفنون تحت أرضيات المساكن أو في حفر في الباحات خارج المساكن. وكانت النساء تدفن في غرفهن أكثر مما كان يدفن الرجال لأن هذه الغرف كانت تمثل مجالهن حيث كن يعشن ويعملن. ويظهر أنه كان للنساء أجزاء مخصصة من الأمكنة محصورة بحدود المسكن. وكانت منطقة نفوذهن تقع ضمن إطار نشاطاتهن.

ويرى  < J . غولد >  (من جامعة أكسفورد بروكس) أن هذه الإقليمية هي بمثابة تعبير أساسي عن تنظيم اجتماعي، فحدود المهام الأسرية، التي ترسخت في أثناء الحياة، استمرت بعد الموت. إن التغيرات التي طرأت على هياكل النساء والدالة على قيامهن بأعمالهن اليومية ـ كالطحن والغزل وصناعة السلال والحصر ـ تعكس التزامهن في تدبير المعيشة اليومية التي تمثل تخصصا في المهمات.

 

إن مجرد تقسيم المهمات يمكن أن يكون قد شجع الناس الذين لم ينهمكوا مباشرة في تحضير الطعام لتطوير الحرف. فزراعة المحاصيل قد أحدثت في الواقع متطلباتها الخاصة، إذ كان يجب نقل المياه لري النباتات؛ كما كان لا بد من إبعاد الحيوانات عنها خوفا من إتلاف المحاصيل؛ وكان لا بد بعد ذلك من نقل الحبوب المحصودة. وقد أثارت هذه المشكلات استكشافَ تقاناتٍ من أجل حَلِّها، ولذلك فقد ابتكرت أوعية وسلال وأسيجة، وأصبح بعض الناس خبراء في صناعتها.

 

إننا نرى في موقع أبو هريرة ارتقاء في التغيرات أمكن فهمها على ضوء هذه الابتكارات. وقد أحدثت عمليات التحسين مشكلات استدعت ابتكارات جديدة أخرى. فكان هناك ارتقاء متواصل نحو حياة أفضل، وهو نضال مازال مستمرا حتى الآن. ويمثل موقع أبو هريرة الخطوة الأولى على المسار نحو الحضارة. ولكن لم يُعْثر في هذه المستوطنة على ما يوحي بوجود ثراء وطبقية وأنماط اجتماعية راسخة خاصة بالنخبة. وتلك أمور يجب البحث عنها في مواقع أخرى.

 

 المؤلف

Theya Molleson

تعمل في قسم علم المستحاثات في متحف التاريخ الطبيعي بلندن، حيث أنجزت أبحاثا عن تأثير البيئة في الهيكل العظمي للإنسان: في أثناء الحياة وبعد الدفن. وهي أيضا تحاضر في علم العظام البشرية بكلية بيرْكْبك في جامعة لندن. ولقد درست مولسون الجيولوجيا في جامعة لندن وعلم الجنس البشري الاجتماعي في جامعة أدنبره.

 

مراجع للاستزادة 

THE EXCAVATION OF TELL ABU HUREYRA IN SYRIA: A PRELIMINARY REPORT. A.M.T. Moore in Proceedings of the Prehistoric Society, Vol. 41, pages 50-77; December 1975.

DENTAL MODIFICATIONS AND TOOL USE IN THE WESTERN GREAT BASIN. Clark Spencer Larsen in American Journal of Physical Anthropology, Vol. 67, No. 4, pages 393-402; August 1985.

SEED PREPARATION IN THE MESOLITHIC: THE OSTEOLOGICAL EVIDENCE. T. Molleson in Antiquity, Vol. 63,  356-362; June 1989.

DENTAL EVIDENCE FOR DIETARY CHANGE AT ABU HUREYRA. Theya Molleson and Karen Jones in Journal of Archaeological Science, Vol. 18, No. 5, pages 525539; September 1991.

DIETARY CHANGE AND THE EFFECTS OF FOOD PREPARATION ON MICROWEAR PATTERNS IN THE LATE NEOLITHIC OF ABU HUREYRA, NORTHERN SYRIA. T. Molleson, K. Jones and S. Jones in journal of Human Evolution, Vol. 24, No. 6, pages 455-468; June 1993.

Scientific American, August 1994

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى