أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الطب وصحة

خَمَج)

خَمَج(1) الدودة الشِّصِّيَّة(2)

إنه خمج يعوق النمو البدني والعقلي لدى ملايين الأطفال.

ومع ذلك، ما زال الباحثون يهملون شأنه إلى حد كبير. وتبشر النتائج الجديدة

 بإمكانات ممتازة للتوصل  إلى لقاح مضاد لهذا الخمج.

<J .P. هوتز> ـ <I .D. پريتشارد>

 

لو أتيحت اليوم الفرصة لفحص كل إنسان في العالم، لوجد أن ما يُقدّر ببليون شخص ـ أي نحو خمس سكان هذا الكوكب ـ يُؤْوون في أمعائهم الدقيقة الديدان الشصية hookworms،  وهي طفيليات تنهمك بعملٍ سِمَتُه السرقة الغادرة. فهذه اللصوص التي يبلغ طولها  نصف بوصة تتمسك بأسنانها الحادة بالطبقات السطحية وتحت السطحية من الجدار المعوي وتمص الدم. وتفرغ كل دودة ما يعادل جزءا من ملعقة صغيرة من دم الدورة الدموية كل يوم. ولكن عندما تصرف 20 دودة أو 100 أو حتى 1000 دودة هذا الدمَ كله وفي الوقت ذاته (وقد تستجر في نهاية الأمر قرابة فنجان من الدم)، فعندئذ يمكن أن تكون العواقب وخيمة.

 

إن الدم هو الذي يوصل الحديد والبروتينات والغُذَيّات nutrients الأخرى إلى النُّسُج. فإن لم يكن العائل (الثوي) host  قادرا على تعويض المواد المفقودة بالسرعة الكافية (الأمر الذي ينطبق غالبا على  الأطفال، والنساء في أثناء الحمل، وعلى الأفراد سيئي التغذية) فقد تكون النتيجة حدوث فقر دم بعوز الحديد وسوء تغذية بنقص البروتين، وهما السمتان المميزتان للانتقال من الخَمَج المعتدل إلى المرض الصريح. إن فقر الدم وسوء التغذية بنقص البروتين اللذين يحدثان معا في نسبة تصل إلى 20% من الأفراد المخموجين بهذه الدودة يؤديان إلى نُوام lethargy  وضعف بالغيْن. والأسوأ من ذلك هو أن نقص كل من الحديد والبروتين يمكنه أن يسبب  إعاقة وخيمة في النمو البدني، كما قد يُضْعِف النمو السلوكي والمعرفي والحركي لدى الأطفال المخموجين ـ على نحو مزمن ـ بعدد من هذه الديدان، وهو أمر غير عكوس irreversible  أحيانا. وقد يكون داء الدودة الشصية مميتا في بعض الأحوال، وعلى وجه الخصوص بين  الرضع.

 

ومن الممكن معالجة داء الدودة الشصية المنتشر على أشده في البلدان النامية الواقعة في المناطق المدارية. ولكن قد لا تتوافر الأدوية أو يصعب الحصول عليها في العديد من الأماكن التي تشيع فيها هذه الحالة ـ والأدوية المعنية هنا هي العوامل agents القاتلة للطفيليات، وأحيانا مكملات الحديد iron supplements  ـ  ولهذا السبب وغيره تبرز الحاجة ملحة إلى وجود لقاحات تستطيع منع الديدان الشصية من أن تُوطِّن في الأمعاء مجموعاتٍ نشيطة منها. ولكن من المؤسف حقا أن داء الدودة الشصية قد تجاهلتْه غالبية جهات البحث العاملة في حقل الطب الحيوي في السنوات الخمس والعشرين الماضية. والأسباب الأساسية واضحة جدا؛ فالإعانات التي تبتغي تمويل استقصاء الاضطرابات التي غالبا ما تصيب سكان العالم الثالث هي إعانات ضئيلة. كما أن الحفاظ على الديدان الشصية في المختبر أمر صعب. ونتيجة لذلك، فإن دراسة خمج الدودة الشصية لم تَجْنِ فائدة من ثورة التقانة الحيوية biotechnology  التي أدت إلى تحقيق خطوات هائلة من التقدم في مجال فهم الاضطرابات الأخرى التي  تداهم البشر وفي مجال معالجتها كذلك.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N2_H04_005717.jpg

 

ونحن نحاول الآن أن نعكس اتجاه ذلك التيار. ولهذا فقد شرعت مختبراتنا، ومعها بعض المختبرات الأخرى، بتطبيق الطرائق الجزيئية الحديثة في دراسة الجنسيْن genera الرئيسين للديدان الشصية وهما: المَلْقُوَّة Ancylostoma  والفتّاكةNecator. وتمكنت الجهود المبذولة خلال السنوات القليلة الماضية من تعيين هوية عدد من بروتينات الدودة الشصية التي يحتمل أن تستخدم كلقاحات واقية. كما ظهرت مفاجآت سارة غير متوقعة؛ إذ تبيّن أن العديد من هذه البروتينات يحمل الأمل الواعد بإمكان استعماله كعقاقير تفيد في معالجة الاضطرابات المناعية والقلبية الوعائية الشائعة في البلدان الصناعية.

 

طريق للخمج مثير للانتباه

في السابق وضعت الولايات المتحدة وبلدان أخرى داء الدودة الشصية في مقام رفيع ضمن جدول أعمال بحوثها. وفي عام 1880 غدا المجتمع الطبي على علم وافٍ بخطورته الكامنة، إذ لوحظ حينذاك أن الوباء الذي كان يدعى «فقر دم عمال المناجم» قد أصاب العمال الإيطاليين الذين كانوا يعملون في بناء نفق سانت گوتارد للسكة الحديدية في جبال الألب السويسرية. وقد وُجِّهَت التهمة في إحداث تلك الحالة إلى الملقوة العَفَجِيّة (الاثني عشرية) A. duodenale  التي  هي أحد النوعين اللذين يحملان المسؤولية الأكبر عن داء الدودة الشصية عند الإنسان. ومع حلول عام 1902 تم تحديد هوية النوع الثاني أيضا وهو الفتاكة الأمريكية N. americanus. كما تم التوصل إلى معرفة تفصيلات كثيرة حول كيفية انتقال الديدان الشصية من فرد إلى آخر. وبعد مدة قصيرة وُجد أن الخَمَج بالنوع الثاني من الدودة الشصية متفشٍّ في جنوب شرق الولايات المتحدة. وردًّا على ذلك، أقدم رجل النفط <D .J. روكفلر> على تأسيس لجنة روكفلر الصحية كي تعمل على استئصال الداء من ذاك الإقليم. كما دعم حملة لمكافحة خمج الدودة الشصية في أقطار ما وراء البحار. وقد أدت تلك الجهود إلى إيجاد معالجات جديدة وإرساء دعائم عمل مهمة للتقدم الذي تحقق اليوم.

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N2_H04_005718.jpg

من الديدان الشصية هناك المَلْقُوَّة العفجية (في اليمين) والفتاكة الأمريكية (في الصفحة السابقة) وهما النوعان الأساسيان اللذان يصيبان البشر. وتستجر الديدان الشصية غذاءها بالتثبت على جدار الأمعاء الدقيقة وسحب الدم.

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N2_H04_005719.jpg

إن المناطق المدارية هي أكثر المناطق في العالم التي تنتشر فيها الديدان الشصية من نوع المَلْقُوَّة العفجية والفتاكة الأمريكية (انظر الخريطة). ويشير اللونان الأحمر والأزرق إلى غلبة أحد النوعين في إقليم ما، كما قد توجد الأنواع الأخرى في بقع محددة. ويبين الجدول المرافق السمات البارزة للملقوة العفجية والفتاكة الأمريكية. ويمكن القول بأن إجمالي الدم المفقود يوميا بسبب هذه الديدان يعادل مجموع دم 1.5 مليون نسمة في العالم.

 

ولكن، وحتى قبل أن يسهم روكفلر في هذا المجال، كان الباحثون قد توصلوا إلى الكشف المذهل الذي يبين أن طريق وصول الخمج إلى الإنسان هو طريق غير مباشر، وأنه يتطلب وجود بويضات ويرقات صغيرة تعيش زمنا في التربة خارج جسم العائل (الثوي). وفي كل يوم تطرح الدودة الأنثى المكتملة النمو آلافا من البويضات الملقَّحة التي تخرج من جسم العائل مع برازه. وتحتاج اليرقات الصغيرة إلى ظروف مواتية من الحرارة والرطوبة والتربة المعرَّضة للهواء والمحجوبة عن أشعة الشمس كي تبقى على قيد الحياة وتنمو. ويغلب أن تتوافر هذه الشروط في المناطق الريفية المدارية، ولا سيما الأماكن التي تؤمن المحاصيل فيها ظلا كثيفا، أو التي تتم زراعة المحاصيل فيها تحت الأشجار العالية. ولهذا فإن أشد الأخماج (التي تشمل 100 دودة أو أكثر) تحدث بين الناس الذين يعيشون في مناطق زراعة أشجار جوز الهند والكاكاو وحبوب البن والشاي وقصب السكر والبطاطا الحلوة والتوت.

 

وبعد أن تقضي البويضات في التربة يوما، تفقس وتخرج اليرقات المِكْرَوِيّة (المجهرية) microscopic، وتبدأ هذه بالتغذي بمخلَّفات المواد العضوية وبالبكتيريا (الجراثيم) قبل أن تغير إهابها مرتين وتصل إلى الطور الخامج infective. ولا تتغذى اليرقات الخامجة، بل تنتقل إلى سطح التربة كي تكون على تماس مع عائل ما. وهي في مسعاها هذا تُظهر ما يمكن تسميته سلوكا باحثا؛ إذ تتسلق ورقةَ نبات أو عشبة أو ذرات تراب، وتقف على ذيلها وتتمايلومن الوجهة النمطية، فإن اليرقات التي تُرى ـ بالكاد ـ بالعين المجردة تتسلل إلى جسم الإنسان بِثَقْبِها جلد الساق أو القدم، علما بأن ابتلاع يرقات الملقُوّة العفجية عن طريق الفم قادر على إحداث الخمج أيضا. إن هذه الرحلة التي تقوم بها اليرقة عبر الجلد تُحرِّضُ استجابة التهابية بسيطة ظاهريا وفيها تتجمع كريات الدم البيض في النسيج المصاب. ولسبب ما، فالكريات البيض عموما لا تقضي على الديدان. ومع ذلك، فقد يولّد الالتهاب في تلك الأثناء حكة حارقة شديدة. وفي الواقع، حدث تفشٍّ فاحش لـ «حكة الأرض» ground itch  ـ وهو اسم هذا التفاعل ـ في شمال الهند عام 1978 بعد أن بدأت زمرة من الرجال  ممارسة لعبة شائعة تدعى kabaddi،  وفيها يتم الإمساك بالخصم وإيقاعه على الأرض. ولم يكن اللاعبون يعرفون أن  الحقول الموحلة ملوثة بيرقات الدودة الشصية الخامجة إلى أن أجبرتهم الحكة المروعة التي تنتشر في أجسادهم على الهرب في بحث يائس للشفاء منها.

 

ويرى بعض الباحثين أن الوصول إلى الأمعاء الدقيقة أمر سهل بالنسبة إلى اليرقات التي تُبْتَلَع عن طريق الفم؛ إذ إنها تستطيع أن تهاجر مباشرة إلى وجهتها النهائية المقصودة. أما اليرقات التي تدخل الجسم عن طريق الجلد فعليها أن تبذل الجهد كي تثقب البشرة وتصل إلى الأدمة تحتها، ومن ثَمّ إلى الأوعية الصغيرة في جهاز الدورة الدموية (الدوران) أو الجهاز اللمفي. وبعد وقت قصير من اختراقها هذه الأوعية، تحملها الدورة الدموية الوريدية إلى القسم الأيمن من القلب وإلى الرئتين. وهناك تغادر الدورة الدموية وتصل إلى المسالك الهوائية (القَصَبات) حيث تنطلق مع السعال ثم تُبْتَلع. إن اليرقات التي ربما بدأت نضجها في الجلد ووصلت إلى الأمعاء الدقيقة، تتطور حتى تصبح في نهاية المطاف ذكورا وإناثا مكتملة النمو. وهنا تبدأ بالتزاوج والتغذي، كما تشرع الإناث عادة بطرح البويضات خلال شهرين تقريبا من وصولها إلى الجسم كيرقات.

 

ومن الغريب أن هذه الدورة المستمرة تتوقف أحيانا في منتصف الطريق. وقد بيَّن <A .G.  شاد> وزملاؤه (في جامعة پنسلڤانيا) أن يرقات الملقوّة العفجية تستطيع البقاء  هاجعة في جسم الإنسان أشهرا قبل أن تصل إلى الأمعاء. ولا يعرف أحد على وجه الدقة أين تقبع أو كيف تصل إلى مخبئها. ولكن <T .K.  لي> و <D .M. ليتل> والراحل <C .P. بيفر> وزملاءهم (في جامعة تولين) تعرفوا يرقات الدودة الشصية في ألياف عضلية حيوانية وبشرية. إذًا، يمكن للنسيج العضلي أن يكون أحد مستودعات اليرقات الهاجعة.

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N2_H04_005720.jpg

طفل من الهند ظهرت صورته في تقرير لجنة روكفلر الصحية عام 1919. لقد بدا نحيلا وضعيفا قبل المعالجة (في اليسار) بسبب إصابته بداء الدودة الشصية المزمن. ولكن ازداد وزنه كما ازدادت كتلة العضلات لديه بعد أن طردت المداواة الطفيليات من أمعائه (في اليمين). ولسوء الحظ، إن بعض التأثيرات المحتملة للخمج المزمن غير عكوس أحيانا، ومثالها تعوّق النمو الفكري، كما أن معاودة الخَمَج infection أمر شائع.

وفيما يتعلق بالدودة، فإن دخولها حالة الهجوع قد يكون معقولا من حيث طول بقائها على قيد الحياة (بُقْياها). فلو نضجت اليرقات فورا في أثناء الفصول الجافة من السنة، لطرحت الإناث بويضاتها في تربة غير مضيافة. أما إن تمكنت هذه اليرقات من أن تنظم بطريقة ما زمن وصولها إلى الأمعاء كي يتزامن إنتاج البويضات مع حلول الفصل الرطب، فستتاح للبويضات فرصة أكبر كثيرا للنمو والبقاء. ويبدو أن اليرقات تمتلك حقا مثل هذه القدرة. فقد توصل فريق <شاد> حينما كان يعمل في غربي البنغال بالهند أواخر الستينات إلى أن اليرقات الخامجة للملقوّة العفجية تتوقف عن التطور والنمو في النُّسُج خلال الأشهر الحارة والجافة من السنة، وبعدئذ تنمو حتى يكتمل نضجها وتصبح قادرة على وضع البويضات قبل فصل هبوب الرياح الموسمية مباشرة. وبهذا، توضع البويضات في تربة رطبة كما هو مطلوب لها.ولئن كانت فترة الهجوع مفيدة للديدان الشصية، فقد تكون مسيئة للعائل. فالعقاقير الطاردة للديدان الشصية الناضجة من الأمعاء قد تعجز عن القضاء على اليرقات. وعلى هذا فالمرضى الذين يُعالَجون بنجاح ظاهري قد يقعون فريسة المرض مرة ثانية بعد أشهر، حتى وإن أفلحوا في تجنب التعرض له مرة أخرى.

 

ومما يثير القلق أيضًا وجود بعض الأدلة على أن يرقات المَلْقُوَّة العفجية المتوقفة عن النمو قادرة على الدخول إلى لبن الأمهات المرضعات، مسببة بهذا خمجا وخيما عند الوليد. وتُستمد بعض هذه الأدلة من حدوث انتقال من هذا النوع عند الكلاب. وإضافة إلى ذلك فإن <Y. سِن-هاي> و<Sh. وي-كسيا> (من معهد الأمراض الطفيلية في شنغهاي) تعرَّفا مؤخرا عددا من الأطفال حديثي الولادة المصابين بأخماج وخيمة سببتها الملقوة العفجية. وإن إمكان انتقال الداء عن طريق لبن الثدي لمبعثُ قلق شديد لأن الوليد الذي يعاني أخماجًا وخيمة قد يتعرض للموت بسبب فقدان الدم الناجم عن ذلك.

 

مشكلة المداواة

بعد معرفة دورة حياة الديدان الشصية شرع كلُّ منا بالعمل مستقلا عن الآخر لتعيين هوية الجزيئات التي تجعل هذه الديدان قادرة على ثقب الجلد والنضج والبقاء حية في جسم الإنسان. وقد اعتقدنا أننا إن استطعنا عزل (استفراد)isolation  تلك الجزيئات، فقد نتمكن من استخدام بعضها كلقاحات. وركَّز أحدنا (هوتز) عمله  على جنس الملقوّة التي تضم عددا من الأنواع، في حين ركَّز الآخر (بريتشارد) على جنس الفتاكة التي تشمل الفتاكة الأمريكية بصفة خاصة. وقد اتجهت معظم أعمال هوتز نحو الملقوَّة الكلبية A. caninum  كممثلة لجنسها؛ إذ إن الحفاظ على هذا النوع في المختبر أسهل من الحفاظ على  الملقوة العفجية. وكما يفهم من الاسم، فالملقوَّة الكلبية تخمج الكلاب بشكل أساسي، بيد أنها قد تصيب البشر أيضا، وهو ما أظهره مؤخرا <P. پروسيف> من جامعة كوينزلاند في أستراليا، و<J. كروز> من مستشفى تاونسفيل العام في أستراليا أيضا.

 

كان اهتمامنا منصبا على إيجاد لقاحات، ويعود السبب في ذلك إلى حد كبير ـ وكما ذكرنا ـ إلى أن الحصول على المداواة يُعدُّ مشكلة يصعب حلها في أقاليم عديدة من العالم. كما أن اليرقات الهاجعة قادرة على إحداث أخماج جديدة بعد أشهر من اكتمال المعالجة. وتتضاعف هذه الصعوبات وتكبر حينما نعلم أن البشر الذين يُبتلون بخمج الدودة الشصية الأوَّلي لا يكتسبون ـ كما هو واضح ـ مناعة وقائية قوية ضد الأخماج المستقبلية. وهذا يخالف ما يحدث في أمراض أخرى كالحُماق chickenpox  مثلا؛ إذ يكتسب المناعةَ أولئك الذين يصابون به مرة واحدة. ونتيجة لذلك، فالناس  الذين يعيشون في مناطق تسود فيها الديدان الشصية سوف يتعرضون للإصابة ثانية وينخمجون دوما ويحتاجون إلى تكرار دورات المداواة بالعقاقير ـ وهو أمر مستحيل بالنسبة إلى أكثر ضحايا هذا الداء. وفضلا عن ذلك، إن استعمال العقاقير بصفة متكررة لا يعدّ حلا مثاليا لمشكلة الدودة الشصية. فقد كشف الباحثون في معهد الأمراض الطفيلية بشنغهاي ـ الذين درسوا حالات عدد كبير من المرضى ـ أن هذه الأشكال من المداواة ليست فعالة دوما، كما كان يظن.

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N2_H04_005721.jpg

إن بعض أقسام دورة حياة الملقوة العفجية (الأسهم الحمراء) ودورة حياة الفتاكة الأمريكية (الأسهم الزرقاء) متماثلة. ويمكن القول إن كلتا الدورتين تبدأ بالنمو الأولي لليرقات في التربة (1-4). وبصفة عامة تدخل اليرقات الخامجة infective إلى الجسم عن طريق الجلد (55) وتتبع طريقا غير مباشر لتصل إلى الأمعاء الدقيقة (6-99). وهناك تنضج ويكتمل نموها وتتزاوج كي تنتج بويضات ملقحة تنتقل إلى التربة مع البراز (10 و 11). قد تتمكن يرقات الملقوة من إحداث الخمج في الأمعاء الدقيقة بعد دخولها الجسم عن طريق الفم (5a). وتشير قرائن أخرى إلى أن يرقات الملقوة قد تدور دورات غازية (السهم الأحمر في اليمين). وقد تظل كامنة في النسيج العضلي قبل أن تتوجه إلى الأمعاء، وقد تدخل إلى الغدد اللبنية للأمهات الحوامل حيث تصل إلى الرضع عن طريق لبن الثدي.

 

ومما لا ريب فيه أن أفضل وسيلة للوقاية هي تحسين التصحاح (تطبيق القوانين الصحية) sanitation  إلى الحد الذي يستحيل فيه على المرض أن ينتقل. ويُعتقد أن الفضل الكبير في  استئصال داء الدودة الشصية من الإنسان في جنوب شرق الولايات المتحدة يعود إلى تطبيق تلك الطريقة المثلى. ومع ذلك، فمن غير المرجح إنشاء نظم تصحاح ملائمة في معظم أقطار العالم النامي في المستقبل القريب. كذلك ليس من المرجح أن يرتدي الناس الذين يعيشون في المناطق المدارية الحارة ملابس واقية أملا في الإقلال من التعرض للداء. إذًا، إن أفضل الخيارات وأكثرها منطقية في الوقت الراهن هو التطبيق الواسع للقاحٍ يُصمَّمُ لدعم وسائل دفاع العائل.

 

وبإمكاننا تخيل نمطين مختلفين من اللقاحات. ففي أحدهما، وهو الذي يمثل الطريقة التقليدية المضادة للخمج، تُعطى جزيئات ـ أو كائنات (عُضَيّات)organisms  كاملة، ميتة أو مُضْعَفة ـ لتحريض استجابة مناعية تستهدف جزيئا واحدا ـ أو أكثر  ـ موجودا على سطح هذه الطفيليات. وحينما تكون الطريقة ناجحة، فإن إثارة الاستجابة تُمَكِّن جسم الإنسان من القضاء على هذا الكائن فور دخوله إليه.

 

ومع أن خمج الدودة الشصية الطبيعي لا يبدو أنه يُولِّدُ مناعة كبيرة واقية، فإن التلقيح قد يمنح الوقاية. ومنذ أكثر من 30 سنة، استطاع <A .T. ميلر> (من جامعة گلاسگو) إحداث مناعة في الكلاب عن طريق تلقيحها بيرقات الملقوّة الكلبية الحية بعد تعريضها للإشعاع وهي في الطور الخامج. ولكن اللقاح البشري الذي يحوي يرقات حية قد يُخْفِق في الحصول على الموافقة الحكومية. ومع هذا، فإن ما حققه ميلر من نجاح مع الكلاب يمكن إعادة تحقيقه في البشر عن طريق إعطاء بروتينات يرقية ـ أو شُدَف (كِسَر) fragments  من هذه البروتينات ـ تتم هندستها وراثيا. فإن أدى اللقاح عمله، فسيمنع اليرقات  من البقاء حية في جسم الإنسان أو من النضج فيه.

 

ونحن أيضا بصدد البحث عن أنواع جديدة من اللقاحات، ندعوها اللقاحات المضادة للمرض. وانطلاقا من أن الديدان الشصية لا تتكاثر في العائل، فإن كل شيء يقلل الدم الذي تستنزفه يجب أن يقلل الضرر الذي تحدثه. ونحن نرى أننا إن استطعنا تعرّف الجزيئات التي تفرزها الديدان الشصية ولا يصنعها جسم الإنسان، فإن إدخال تلك الجزيئات قد يولّد استجابة مناعية مضادة لها. وعلى الرغم من أن هذه الاستجابة المناعية قد لا تقتل الديدان مباشرة (لأن المواد المنطلقة من الدودة تنتشر بعيدا عن جسمها) فبإمكانها أن تعدل neutralize  فعل  الإفرازات التي تجعل الدودة قادرة على النضج وسحب الدم والهروب من مجابهة هجوم تشنُّه أجزاء أخرى من الجهاز المناعي.

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N2_H04_005722.jpg

تخمج الملقوّة السيلانية الناس في بعض أجزاء آسيا، ولكنها أقل انتشارا في أرجاء العالم من الملقوة العفجية والفتاكة الأمريكية.

 

وكجزء من جهودنا الرامية إلى تعيين هوية الجُزَيْئات التي قد تفيد في الحصول على لقاحات، عمدنا إلى دراسة الأحداث الكيميائية الحيوية التي تتم بعد أن تتثبت الدودة الشصية على الجدار المعوي. إن هذا الطفيلي عقب تثبته يلصق بلعومه العضلي في جدار الأمعاء ثم يأخذ في المصّ من الغشاء المخاطي ومن المادة الواقعة تحته, مكونًا ما يسمى «السدادة» plug. وفي الوقت نفسه يفرز إنزيمات (إنظيمات) قوية قادرة على تفكيك النسيج.

 

ولقد تمكنت مختبراتنا، وكذلك مختبرات <J .P. بريندلي> في معهد كوينزلاند للبحوث الطبية في برسبين بأستراليا، من تَعرُّف بعض هذه الإنزيمات. وهي تحوي بروتيازات تُدَرِّك degrade  بروتينات العائل، كما تحوي الهيالورونيداز الذي هو مركب يفكك حمض الهيالورونيك  ومركبات الأمعاء البنيوية الأخرى. إن توليفةcombination هذا الاعتداء الميكانيكي الكيميائي لا تكتفي بتحرير مكونات الجدار المعوي التي قد يكمن فيها الغذاء وتقديمه إلى الدودة، بل تمزق أيضا الأوعية الدموية الصغيرة في السدادة. ومع أن الدودة تبتلع الكثير من الدم المتحرر، فإن كمية كبيرة منه تُهدر كذلك.

 

وَيَردُّ العائل البشري على هذا الاعتداء بإعداد دفاع ذي قسمين. يهدف القسم الأول إلى تخثير الدم في موقع الأذية الوعائية؛ إذ بإمكان التخثر أن يمنع المزيد من فقدان الدم وأن يُثَبِّطَ تغذي الديدان الشصية. أما القسم الآخر فهو مناعي، ويشمل تنشيط (تفعيل) activation كريات الدم البيض، بما في ذلك العَدِلاتneutrophils والحَمِضات eosinophils.  وتحاول الكريات البيض القضاء على الطفيليات بتوليد جذور حرة free radicals  وهيدروبيروكسيدات شحمية، وهي  كلها شديدة التفاعل والتخريب.

 

ويقتضي الدفاع المناعي أيضا إرسال جزيئات ضدية قادرة على العمل بانسجام مع الكريات البيض. ومن هذه الأضداد ما هو من نمط الغلوبلينات المناعية (IgE)، وهو النمط الذي يقوم بدور كبير في الاستجابات الأَرَجِيّة(3). وتشير الدراسات التي أكملها حديثا بريتشارد وزملاؤه (في بابوا غينيا الجديدة) إلى أن التفاعلات المتواسطة بالغلوبولين IgE  قد تكون قوية في بعض المرضى (ربما في أولئك الأكثر عرضة للأرجيات)، كما تبدو  قادرة على إضعاف تغذي الديدان. ومع ذلك، فمن الواضح أنها لا تقتل العديد منها فورا.

 

الديدان الشصية مصانع كيميائية

تواصل الديدان الشصية بقاءها لأنها استنبطت طرائق تعوق بها وسائل الدفاع الوعائية والمناعية. وعلى سبيل المثال، إن هذه الطفيليات تتدخل في مكونيْن على الأقل من مكونات السيرورة (العملية) التي تؤدي إلى تشكل الجُلْطةclot. فحينما يتضرر وعاء دموي صغير، تطرح الخلايا الوعائية بروتينا سكريا يعرف باسم عامل النسج tissue factor  يتحد مع بروتين جائل في الدورة الدموية هو العامل السابع factor VII. ويُطلِق المعقَّد الناتج شلالا من الأحداث تبلغ أوجها في تنشيطها جزيئا ثالثا هو الإنزيم الذي يدعى العامل العاشر. وهذا العامل العاشر المفعَّل (المعروف بالعامل Xa) يقلب بدوره بروتين البروثرمبين (طليعة الثرمبين) إلى إنزيم الثرمبين الذي يقلب بروتينا آخر هو الفبرينوجين (مولد الليفين) إلى خيوط لا ذوّابة من الفبرين (الليفين). وحينئذ يتجمع الفبرين كشبكة على جدار الوعاء مشكلا أساس الجلطة. وغالبا ما تُوقِع هذه الشبكة في شَرَكِها صفيحات ومواد أخرى أيضا.

 

وقد عرف الباحثون منذ قرابة قرن أن الديدان الشصية تُنْتِجُ عاملا واحدا مضادا للتجلط على أقل تقدير؛ بيد أن طبيعته كانت لغزا غامضا. وقد تبين لنا أن الديدان الشصية تنتج مادة تمنع تكدّس aggregation  الصفيحات في أنبوب الاختبار. كما توصلنا مع غيرنا إلى معرفة أن هذه الديدان  تفرز بروتينا يعمل باكرا في أثناء تشكل الجلطة ويحصر نشاط العامل Xa، كما يعوق بعدئذ كل الخطوات التالية الضرورية لتشكل الجلطة. وقد تم الآن عزل (استفراد) ذاك البروتين من الملقوة الكلبية من قبل <M. كابيلو> في مختبر هوتز بالتعاون مع <P .G. فلاسوك> من مؤسسة CORVAS الدولية في سان دييگو بكاليفورنيا.  إن هذا الجزيء الذي دعي AcAP  (پپتيد الملقوة الكلبية المضاد للتخثر) هو بروتين صغير نسبيا، ولكن قدرته  كبيرة، كما لم تسبق رؤيته في الطبيعة إطلاقا ـ وهي خصائص تعني كما سيُرى إمكان الإفادة منه كعقار يستعمل في أمراض ليس لها علاقة بخمج الدودة الشصية.

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N2_H04_005723.jpg

إن الدودة الشصية المكتملة النمو في الأمعاء الدقيقة (صورة مجهرية وتخطيط مفصل) تمص الطبقات السطحية من الجدار المعوي وتخرب النسج والأوعية الدموية لتحصل على غذائها. إنها تضمن لنفسها ذخيرة مستمرة من الدم وتحمي ذاتها من هجوم الجهاز المناعي عن طريق إفرازها مجموعة كبيرة من المواد الكيميائية (الكرات في الصورة التخطيطية المفصلة)، ذكر بعضها في الجدول المرافق. إن الإفرازات التي تصدر عن الدودة المكتملة وعن اليرقات قد تستخدم يوما ما كلقاحات مضادة لداء الدودة الشصية أو كعلاجات للاضطرابات القلبية الوعائية والاضطرابات المناعية. وقد وُجدت الدودة التي تظهرها الصورة المجهرية عند تشريح جثة طفل مات بسبب خمج بالدودة الشصية لم يتم الكشف عنه.

 

إن طريقة الدودة الشصية الرامية إلى تجنب قضاء الجهاز المناعي عليها، تعتمد أيضا على إطلاقها مواد كيميائية. وقد عزل الباحثون في المؤسسةCORVAS  من الدودة الشصية الكلبية إحدى هذه المواد ودعوها العامل المثبط للعَدِلات.  وهذا العامل يثبط نشاط العدلات والحَمِضات، ويتم ذلك جزئيا عن طريق منعها من إطلاق المواد الكيميائية شديدة الأكسدة.

 

وقد أظهر بريتشارد وزميله <M .P. بروفي> أن الفتاكة الأمريكية استنبطت دفاعا شبيها بذلك. فهي تفرز إنزيمات مضادة للتأكسد (ومثالها فوق أكسيد الديزموتاز وغلوتاثيون-S-ترانسفيراز) تعدّل فعل الجذور الحرة وما شابهها. ولتوفير المزيد من الحماية تنتج الملقوّة الأمريكية إنزيما يدرِّك الأستيل كولين: الناقل (الموصل) العصبي الصادر عن العصبونات (الخلايا العصبية) neurons الموجودة في الجدار المعوي. فإن تمكن هذا الناقل من أن يعمل بشكل حر، فإنه سيساعد على تنشيط (تفعيل) الكريات البيض ضد الطفيلي.

 

وأخيرا، نجد أن المواد الكيميائية التي تستعملها الدودة الشصية لتخريب النسيج في السدادة plug  الملتهَمة تسهل عليها أيضا مراوغة الجهاز المناعي وهروبها من تحطيمه لها. فأحد  البروتيازات التي تصنعها الفتاكة الأمريكية يُذيب (يحل) الأضداد، كما أن الهيالورونيداز الذي تصنعه بصفة خاصة أنواع من الملقوة يعزز الانتشار الموضعي للإفرازات المختلفة. وهذا الانتشار يضمن للديدان الشصية إحاطتها بترس كيميائي واق.

 

فمن نواحٍ متعددة إذًا، تقوم الدودة الشصية الناضجة في الأمعاء بوظيفة مصنع دوائي مستقل بنفسه، يُنتِج جزيئات مصمَّمة لتثبيط كل من تجلط الدم والاستجابات المناعية عند العائل. ومع ذلك، فليست الدودة الناضجة هي الوحيدة التي تنتج مواد كيميائية ذات شأن مهم؛ إذ إن اليرقات تقوم بمثل هذا الفعل أيضا. وعلى سبيل المثال فقد أثبت <M .J. هودن> الذي يعمل في مختبر هوتز، أن يرقات الملقوة الكلبية الخامجة تنشئ بروتينين على أقل تقدير: أحدهما بروتياز ويُفترض أنه يساعد هذه الطفيليات على ثقب الجلد، والآخر بروتين ذو وظيفة مجهولة. وهذا البروتين الثاني الذي يدعى ASP (Ancylostoma secreted polypeptide: عديد الپپتيد الذي تفرزه الملقوة)، قد يكون له دوره في نضج اليرقات ووصولها إلى طور التغذي.

 

مصادر متعددة للقاح

إن الكشف عن توليد الديدان الشصية لعدد كبير من البروتينات في أثناء دورة حياتها يوحي بأفكار مثيرة للاهتمام حول إمكان التوصل إلى لقاح. فمثلا، قام مؤخرا هودن و F.B>. جونز> من مجموعة هوتز بتنسيل (كَلْوَنَة) cloning  جين البروتين ASP وتحديد متوالية (متتالية) sequence  الحمض الأميني للبروتين الذي يكوِّده (يرمزه). إن أحد أجزاء هذا البروتين ينقلب  ليصبح شبيها جدا بشُدْفة (كِسْرة) بروتين موجود في سَمَم (سَمّ) venom  الحشرات اللاسعة. ويثير هذا البروتين السَّمَمي استجابة قوية من الجهاز المناعي  البشري. وعلاوة على ذلك، إن الأضداد التي تستجيب لمكون السَّمَم تستجيب كذلك للبروتين ASP  حينما  تمتزج به في أنبوب الاختبار.

 

وتقدم هذه النتائج أسسا للتفكير بأن البروتين ASP قد يصلح للعمل كلقاح قادر على توليد استجابة ضدية يمكنها أن تحطم اليرقات  الخامجة أو تعوق نضجها. وقد غدت كميات كبيرة من هذا البروتين متوافرة الآن من خلال الهندسة الوراثية. وعما قريب سيعمل هوتز المسلح بهذا العتاد بالتعاون مع باحثين من معهد الأمراض الطفيلية في شنغهاي، على اختبار هذا البروتين كلقاح يعطيه لحيوانات التجربة. كما أن المنتجات الأخرى للدودة الشصية التي ورد ذكرها آنفا ـ ونخص منها البروتين AcAP  والعوامل الأخرى المضادة للتجلط ومضادات التأكسد وعامل تثبيط العَدِلات ـ هي  أيضا قيد الدراسة لاختبار ما إذا كانت تصلح كلقاحات.

 

لقد أرشدتنا الدراسات التي أجراها <A .E. مُن> وزملاؤه (في معهد بابراهام بإنكلترا) إلى جزيء آخر يستحق مزيدا من التقييم. فقد أظهر هؤلاء االباحثون أن لقاحا مؤلفا من إنزيم تصنعه دودة المعدة في الخروف (وليس الدودة الشصية) يمكنه أن يقي الخرفان من خمج ثانٍ بذاك الطفيلي. كذلك بيّن بريتشارد وزملاؤه أن الفتاكة الأمريكية تصنع إنزيما مشابها؛ الأمر الذي يوحي بأن زرق (حقن) إنزيم الدودة الشصية يمكنه أن يثير استجابة واقية ضد خمج هذه الدودة لدى الإنسان.

 

وقد تبرز إمكانات الحصول على لقاح أيضا من الاستقصاءات التي تركز على المحدِّدات determinants  الوراثية لقابلية التأثر بخمج الدودة الشصية. ومنذ بضع سنوات لاحظ شاد ـ ومعه <M .R. أندرسن> الذي يعمل الآن في جامعة أكسفورد ـ أن الناس الذين يصابون في البدء بأخماج شديدة تكون إصابتهم الثانية كما يبدو بأخماج شديدة كالأولى، في حين أن الأفراد الذين تكون الأخماج لديهم خفيفة في المرة الأولى يعاودون الإصابة بأخماج خفيفة في المرة الثانية. وهناك بعض الإشارات االتي تلمح إلى أن هذه الأنماط تحكمها جينات العوائل. فإذا كان هذا صحيحا، فإن تعيين هوية الجينات التي تؤثر في الاستعداد سيقدم دلالات clues  إضافية تساعد على الوقاية من الأخماج الوخيمة. وتشير أعمال بريتشارد ودراساته  في پاپوا غينيا الجديدة إلى أن الجينات المتعلقة بالأَرَجِيّة تستحق متابعة خاصة.

 

إن آمالا كهذه هي آمال شهية وصعبة المنال في آن واحد؛ إذ إن هناك عقبة كَأْداء لا تزال ماثلة. فالمصنعون الصيدلانيون يشمئزون من استثمار جهودهم في تهيئة لقاحات للعالم الثالث. والسبب في ذلك هو انعدام السوق الغني؛ الأمر الذي يعني أن الشركات لن تسترد التكاليف التي سخرتها [انظر: Better Than a

 Cure, by T. Beardsley; Scientific American, January 1995].

وما لم تتوافر مبالغ كبيرة من المال فسوف يتباطأ حقا تطوير اللقاحات المضادة للدودة الشصية.

 

ومما يدعو للسخرية أن بروتينات الدودة الشصية التي تم تعرفها حتى الآن قد تجد تطبيقات أولية لها، لا كلقاحات بل كعلاجات لاضطرابات لا علاقة بها بخمج الدودة الشصية. وكحالة في صدد هذا الموضوع نذكر أن العامل AcAP المضاد للتجلط قد يُثبت فائدته في معالجة أمراض قلبية وعائية.

ويجب ألا يغيب عن الذهن أن العامل AcAP يتدخل في نشاط العامل Xa الذي يقوم بدور ذي أهمية كبرى في الشلال المفضي إلى تجلط الدم في الأمعاء.  ويبدو أن هذا العامل مهم كذلك في تشكل جلطات الدم التي تسبب الهجمات (النوبات) القلبية. إن هذه الحقائق ـ مقترنة بتفرد بنية العامل AcAP  ـ تقتضي إمكان وجود فائدة لهذا البروتين تسمح باستعماله بديلا من العقاقير  الموجودة المضادة للتخثر لدى بعض المصابين بالمرض القلبي الوعائي. وقد يكون العامل AcAPمفيدا مثلا في منع انسداد ثان لشرايين فتحت بالرأب الوعائي angioplasty (توسيع الشريان بـ «البالون» لإزالة الانسداد).

 

ويحمل العامل المثبط للعَدِلات وغيره من المواد الكيميائية الحاصرة للمناعةimmune-blocking  أملا يبشر أيضا بإمكان معالجة أمراض شائعة في البلدان الصناعية. وتُجرى الآن  دراسات لتقرير ما إذا كان من الواجب تطوير هذه المواد كي تغدو علاجات للأمراض المنيعة للذات autoimmune  أو لرفض الغرساتtransplant أو للربو asthma وغيره من الأرجيات allergies.

 

الأطفال أولاً

إن احتمال كون الجزيئات الموجودة في الدودة الشصية ذات تطبيقات متنوعة، لأمر يدعو إلى الغبطة. بيد أن التطبيقات العلاجية التي تخدم العالم الصناعي لا تأتي في مقدمة أولوياتنا. إن ما يدفعنا إلى العمل الدائب هو الأمل في إيجاد طريقة ما لاستئصال داء الدودة الشصية.

 

في عام 1911 وصف <L .C. بريدجن> ـ وهو طبيب كان يعمل في نورث كارولينا ـ الحالة المُجزعة التي كان يعانيها فتى في الخامسة عشرة من العمر وقد ابتُلي بالديدان الشصية، فقد كتب في التقرير السنوي الثاني للجنة روكفلر الصحية ما يلي:

«بدا الصبي حالة نمطية. لقد كان جلده مهزولا كجلد جثة لا حياة فيها.. وظهر غير مهتم بالمحتشدين حوله.. أسلم جسده للفحص الطبي وقد غشيه شعور باللامبالاة. ولما انتهى الفحص استدار حالا، من غير أن ينتظر سماع نتيجة التشخيص، ومضى نحو كتلة متبقية من جذع شجرة وجلس وقد بدت عليه علائم الإعياء الشديد.. (وقال الأب) كان الولد دوما كشيء غير ذي شأن.. كان يستلقي على الشرفة وكأنه كلب. وكان خموله يزداد وهمّته تفتر يوما بعد يوم. كذلك كان من المتعذر استنهاضه للعمل أو للعب.

 

وبالمعالجة تحسنت حالة الصغير على نحو مذهل. واستشهد بريدجن في تقرير آخر له بكلمات الأب إذ قال: «حينما غادرتُ البيت كان الصبي يتبع المحراث ويصيح بالبغل بطريقة تجعلك تعرف مدى سعادته بالحياة.»

 

لقد كانت الظروف مواتية أمام هذا الفتى الذي انخمج مرة ثانية وعاد نُواميًّا (شديد الميل للنوم) lethargic. فلو كان يعيش في أحد أقطار العالم الثالث لما استطاع الحصول على المعالجة كلما احتاج إليها. إن الأمل يحدونا في أن نتمكن يوما ما من إنتاج لقاح بسيط قادر على منع حدوث مثل هذا النُّوام الشديد ـ وما هو أسوأ ـ لدى ملايين الأطفال في العالم.             

 

المؤلفان

Peter J. Hotez – David I. Pritchard

تتمركز غالبية الأعمال العلمية لهذين الباحثين في استقصاء المظاهر الجُزَيْئية لخمج الدودة الشصية. وهوتز أستاذ مشارك في قسم طب الأطفال والوبائيات ومدير المختبر الطبي للديدان في كلية طب جامعة ييل. وقد تخرج وفق برنامج الدكتوراه المشترك لجامعتي كورنيل وروكفلر قبل أن يُكمل تدريبه كمقيم في مستشفى ماساتشوستس العام. وفي سنة 1989 انضم إلى أعضاء هيئة التدريس في جامعة ييل. أما بريتشارد فهو معيد في علوم الحياة في جامعة نوتنغهام بإنكلترا. وقد حصل على الماجستير في علم الحيوان من جامعة ويلز وعلى الدكتوراه في المناعيات من جامعة برمنغهام. وعمل فترة في الصناعة الصيدلانية، ثم انتقل عام 1981 إلى نوتنغهام.

 

مراجع للاستزادة 

HOOKWORM DISEASE: CURRENT STATUS AND NEW DIRECTIONS. Edited by G. A. Schad and K. S. Warren. Taylor and Francis, 1990.

IMMUNITY TO HELMINI’HS: READY TO TIP THE BIOCHEMICAL BALANCE. P. M. Brophy and D. I. Pritchard in Parasitology Today, Vol. 8, No. 12, pages 419-422; 1992.

PARASITIC DISEASES, third edition. D. Despommier, R. Gwadz and P. J. Hotez. Springer-Verlag, 1995.

MOLECULAR PATHOBIOLOGY OF HOOKWORM INFECTION. P. J. Hotez, J. Hawdon, M. Cappello, B. Jones and D. I. Pritchard in Infectious Agents and Disease, Vol. 4, No. 2; June 1995 (in press).

Scientific American, June 1995

 

(1) الخَمَج infection هو غزو الجسم من قبل أحياء مكروية (مجهرية) مُمْرِضة وتكاثرها فيه؛ ويُميز عن العدوى contagion  التي هي انتقال العامل الممرض من كائن إلى آخر بتماس مباشر أو غير مباشر. أما الالتهاب inflammation  فهو حصيلة استجابة دفاعية من قبل النُّسُج تجاه عوامل مغايرة لبُنيتها  الطبيعية.

(2) hookworm ويقال دودة صنّارية (كلابية).               (التحرير)

(3) أرجية allergy، حساسية sensitivity، تحسّس sensitization.                  (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى