أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
فلك وعلم الكونيات

الانفجارات الهائلة في المجرات


الانفجارات الهائلة في المجرات

إن التدفقات الضخمة من الغاز المنبعث من مراكز المجرات القريبة منا قد تمكننا في

نهاية المطاف من تفسير كل من تكون النجوم و الوسط الموجد بين المجرات.

< S .ڤِيُّو> ـ< G.سيسيل> ـ <J. بلاند-هوثورن>

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N5-6_H03_005962.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N5-6_H03_005963.jpg

تتميز المجرة M82 ( a وb)، التي تبعد عن الأرض نحو 10 ملايين سنة ضوئية، بتدفق من غاز متوهج صادر عن المنطقة المحيطة بقلبها (c). وقد استنتج الفلكيون أن هذا الجَيَشان ناجم عن التكون السريع للنجوم قرب نواة المجرة. وتؤدي الحرارة والإشعاع الناتجان إلى دفع الغبار والغاز الصادرين عن قرص المجرة نحو الفضاء الكائن بين المجرات. ومن الممكن أن يكون الدافع لنشاط المجرة هو التفاعل مع جارتها M81.

 

تتلألأ الملايين من المجرات في السماء ليلا. وما يجعل معظمها مرئيا هو تجمع الضوء الصادر عن البلايين من نجومها. بيد أنه في بعض المجرات يكون سطوع منطقة صغيرة جدا في مركزها أشد كثيرا من سطوع باقي المجرة، وتفاصيلُ مثل هذه المولِّدات المجرِّية هي من الصغر بحيث يستحيل تحليلها حتى بالاستعانة بمقراب هابل الفضائي. ولحسن الحظ، فإن الأنقاض الناجمة عن هذه الانفجارات الهائلة ـ والتي تتكون من غاز حار يتوهج حين تكون درجة حرارته أعلى كثيرا من مليون درجة ـ تظهر أحيانا خارج القلب المتراص (المكتنز) للمجرة بمقاييس تسمح برؤيتها مباشرة من الأرض.

 

إن الأنماط التي تشكلها هذه المادة المسخنة إلى حد مفرط خلال الغاز والغبار الموجودين بين النجوم واللذين يحيطان بموقع الانفجار تزودنا بحلول هامة للألغاز التي تكتنف طبيعة وتاريخ القوى الهائلة التي تعمل داخل نواة المجرة. ويستطيع الفلكيون في هذه الأيام تحديد نوع مسببات حركة هذه المولدات وآثار تدفقاتها الضخمة في الوسط الكائن بين المجرات.

 

فضلا عن ذلك، ولأن هذه الجوائح كانت تحدث، على ما يبدو، في مرحلة مبكرة من تاريخ الكون، فمن المؤكد تقريبا أنها أثرت في البيئة التي نشأت وتطورت فيها مجرتنا. وفهمُنا للكيفية التي تتم بها مثل هذه الأحداث في هذه الأيام قد يُلْقي الضوء على توزيع العناصر الكيميائية الذي يؤدي دورا حاسما في تكوُّن نجوم مثل الشمس.

 

وقد اقترح الفلكيون آليتين مختلفتين جدا للمولدات المجرية، أولاهما من بنات أفكار <.J.Mريز> من جامعة كمبردج و<D.R.  بلاندفورد> الموجود حاليا في معهد كاليفورنيا للتقانة. ففي أوائل السبعينات عكف هذان الباحثان على تفسير الضيائية luminosity  الهائلة ـ التي تكبر آلاف المرات ضيائية درب التبانة ـ و”الدفقات (النفثات) الراديوية” radio jets  الضخمة (وهي تيارات شديدة التركيز من مادة طاقية energetic) التي تنتشر مسافات تقدر بملايين السنين الضوئية منطلقة من مراكز بعض المجرات الفتية النشيطة على نحو مفرط والتي تسمى كوازارات quasars. وقد تقدَّما بفرضية مفادها احتمال أن يكون ثقب أسود ذو كتلة فائقة ـ ليس أكبر كثيرا من الشمس إلا أن كتلته قد تفوق كتلتها مليون مرة ـ هو الذي يزود الكوازار بالطاقة.

 

لا يُصدِر الثقب الأسود نفسه أساسا أي ضوء، لكن قرص المادة المتناميةaccreted التي تتخذ سبيلا لولبيا نحو الثقب يَسْخُن ويشع مع ازدياد كثافتها. ويولد الجزء الداخلي الأشد حرارة في القرص فوتونات أشعة سينية وفوق بنفسجية طاقاتها موزعة على نطاق واسع، ويمتص الغاز المحيط نسبة ضئيلة منها ثم تُبَثّ ثانية على شكل خطوط طيفية من الضوء فوق البنفسجي والمرئي. وفي الأعوام التي تلت اقتراح ريز وبلاندفورد لنموذجهما، أخذ الفلكيون يدركون أن ثقوبا سوداء مماثلة قد تكون هي المسؤولة عن الطاقة الناتجة في المجرات القريبة النشيطة.

 

وفيما تزداد حرارة القرص، فإن حرارة الغاز القريب منه تصل إلى درجات تقدر بالملايين ويتمدد الغاز نحو الخارج انطلاقا من نواة المجرة بسرعة عالية. إن هذا الجريان (السريان)، الشبيه بالريح الشمسية التي تتدفق من الشمس أو من نجوم أخرى، يمكن أن يكتسح في طريقه غازات أخرى واقعة بين النجوم ويطردها من النواة. ويمكن لموجات الصدم الساطعة الناتجة أن تنتشر آلافا من السنين الضوئية ـ وهذا قريب من الأبعاد المرئية للمجرات ذاتها ـ كما أنه يمكن دراستها في مراصد فضائية أو مقامة على الأرض. ويُصْدر بعض هذه المجرات دفقات راديوية، وهي تيارات دقيقة من الغاز المتحرك بسرعة والذي يبث أمواجا راديوية خلال عبور هذه التيارات حقلا مغنطيسيا قد يكون موجودا داخل قرص التنامي accretion disk.

 

ليست الثقوب السوداء هي الوحيدة التي تثير الحوادث العنيفة في المجرات. ومن الواضح أن بعض المجرات تمر بحوادث عرضية تسفر عن تكون نجوم بسرعة في قلوبها، وتسمى هذه الحوادث الانفجارات النجمية النووية nuclearstarbursts. ويولِّد العدد الضخم من النجوم الجديدة رياحا نجمية عاتية، كما يولّد لدى كبر النجوم في السن (أي نموها) سلسلة متلاحقة من المستعرات العظمى (العملاقة) supernovae. كما أن الغاز المنطلق بسرعة والذي تنفثه المستعرات العظمى يرتطم بالغبار والغاز الموجودين بين النجوم ويرفع حرارتهما إلى ملايين الدرجات.

 

ويشكل ضغط هذا الغاز الحار تجويفا يشبه فقاعة بخار في ماء يغلي. وفيما تتمدد الفقاعة، يتراكم الغاز والبخار الأقل حرارة في قشرة كثيفة في حواف الفقاعة مما يؤدي إلى إبطاء تمددها. إن الانتقال من الجريان الحر داخل الفقاعة إلى ما يقرب من الركود في محيطها يولد منطقة دوامية تُرى بسهولة من الأرض. وإذا ما كانت الطاقة المحقونة في التجويف كبيرة بقدر كاف، فإن الفقاعة تخرج بعنف من قرص المجرة الغازي وتقذف بشظايا القشرة والغاز الساخن إلى هالة المجرة أو إلى أبعد منها بمسافة تقدر بآلاف السنين الضوئية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N5-6_H03_005964.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N5-6_H03_005965.jpg

قد يكون الانفجار النجمي، وهو نبض مفاجئ في تكون النجوم، هو السبب في نشاط المجرة NGC 3079 (الشكل العلوي) على الرغم من وجود ثقب أسود في مركز هذه المجرة. وتكشف نظرة عن كثب إلى المنطقة المجاورة للنواة (الصليب الأبيض) حدود فقاعة ضخمة أُطلقت إلى الفضاء الكائن بين النجوم بفعل حرارة النجوم الآخذة في التكون في مركز المجرة.

لقد قام<R. تيرليڤيك> (من مرصد گرينيتش الملكي) ومعاونوه بإجراء أحدث بحث حول تحديد ما إذا كان بإمكان الانفجارات النجمية وحدها أن تُحدِث تدفقات الغاز الساخن التي تتميز بها المجرات النشيطة. ففي عام 1985 قام تيرليفيك و<J.ميلنيك> (الذي يعمل حاليا في المرصد الجنوبي الأوروبي) بإيراد الحجج على أن كثيرا من هذه المجرات تحوي نجوما غير عادية سمياها “المسخِّنات” warmers ـ وهي نجوم حارة جدا درجات حرارتها تتجاوز000  100 درجة وذات رياح نجمية عاتية. وقد ذهب هذان العالمان إلى أن مثل هذه النجوم تنشأ بصورة طبيعية حين يحدث انفجار نجمي في منطقة مُخصَّبة بالعناصر الكيميائية الثقيلة من مستعرات عظمى سابقة. ويؤكد تيرليڤيك وزملاؤه أن نموذجهم يفسر الأطياف والعديد من الخصائص الأخرى لبعض المجرات النشيطة.

 

تحديد المحرك

على الرغم من أن كُلاً من تفسيري الانفجار النجمي والثقب الأسود يبدو مقبولا، فإن ثمة فروقا جوهرية بينهما يمكن من خلالها تَبَيُّن من منهما الفعال في مجرة ما. فالثقب الأسود يمكن أن يحوِّل ما يعادل 10% من المادة الداخلية فيه إلى طاقة. وبالمقابل فإن الانفجارات النجمية تعتمد على الاندماج النووي الذي لا يمكنه تحرير سوى 0.1% من المادة المتفاعلة. ونتيجة لهذا، فإن هذه الأخيرة تتطلب كمية من المادة أكبر 100 مرة على الأقل، والجزء الأكبر من هذه المادة يتراكم على شكل وقود غير محترق. وقد تصل الكتلة الكلية المتراكمة في نواة المجرة، خلال عمر الكوازار المزوَّد بالطاقة نتيجة للانفجارات النجمية، إلى 100 بليون مرة من كتلة الشمس، وهذا يعادل كتلة نجوم مجرة درب التبانة مجتمعة.

 

وكلما ازدادت الكتلة قرب النواة، تعيَّن على النجوم السابحة في مداراتها التحرك على نحو أسرع. هذا وإن الأرصاد التي يُحصل عليها من مقاريب ضوئية، والتي يَحُدُّ من فاعليتها ضباب الغلاف الجوي للأرض، لم تتمكن من وضع حدود دقيقة يتراوح بينها تركيز الكتلة في مراكز المجرات. بيد أن مكتشَفات حديثة عن طريق المقاريب الراديوية أظهرت قرصَ تنام نصف قطره الداخلي يعادل نصف سنة ضوئية يدوم (يلف) بسرعة حول كتلة تقدر بعشرين مليون مرة من كتلة الشمس وتقبع في مركز مجرة لولبية قريبة تسمى NGC 4258.

 

وتقوم حاليا عدة مجموعات بحثية بقياس توزعات الحركات الناجمة عبر نوى المجرات، وذلك باستخدام المطياف المثبت على متن مقراب هابل الفضائي. واكتشاف أن الغاز في القلب الداخلي للمجرة النشيطة M28 يدور على نحو منسجم مع قرص تنام لثقب أسود هو أمر يبشر بنجاح مثل هذه التقنيات، كما أن الآلة ستصبح أكثر فعالية بعد أن يُحسِّنها رواد الفضاء عام 1997.

 

تختلف أيضا الانفجارات النجمية عن الثقوب السوداء في أطياف معظم الفوتونات الطاقية التي تتولد عنها. فقرب ثقب أسود يقوم اتحادُ حقلٍ مغنطيسي قوي وقرصِ تنامٍ كثيف بتوليد سحابة من جسيمات سريعة جدا يصطدم بعضها ببعض وبفوتونات، وهذا يولِّد أشعة سينية وأشعة غاما. وبالمقابل، فإن الانفجار النجمي يولد معظم إشعاعه ذي الطاقة العالية من التصادمات بين مقذوفات مستعر أعظمي وما يحيط به من غاز وغبار مجريين. وتسفر هذه التصادمات عن تسخين الغاز إلى ما لا يزيد على بليون درجة تقريبا، ومن ثم فلا يمكنها توليد أي إشعاع طاقته أعلى من طاقة الأشعة السينية، وتدل الأعداد الكبيرة من أشعة غاما المنبعثة من بعض الكوازارات والتي كشفها منذ عهد قريب مرصد كومبتون لأشعة غاما، على أن الثقوب السوداء موجودة في مراكز الكوازارات هذه [انظر: “The Compton

 Gamma Ray Observatory,”  by N. Gehrels – C. E. Fichtel – G. J. Fishman – J. D. Kurfess – V. Schonfelder; Scientific

 American, December 1993].

 

ثمة فرق أخير بين الثقوب السوداء والانفجارات النجمية يتجلى في القوى التي تُوجِّه جريان الغاز المندفع خارجا. فخطوط الحقل المغنطيسي المرتبطة بقرص التنامي حول ثقب أسود توجِّه المادة المتدفقة على طول محور دوران القرص في تيار دقيق. أما المادة التي تُطْرَد من قبل فقاعة انفجار نجمي فإنها، ببساطة، تسلك مسارَ أقلِّ مقاومةٍ في البيئة المحيطة. ويقوم الانفجار النجمي القوي في مجرة لولبية بنفث غاز باتجاه عمودي على مستوي قرص المجرة المكون من نجوم وغاز، لكن الجريان يوزَّع داخل منطقة شبيهة بساعة رملية ذات فتحة واسعة. هذا وإن الاندفاعات الراديوية، التي تمتد ملايين السنين الضوئية والصادرة عن قلب مجرة نشيطة، توحي بجلاء بوجود ثقوب سوداء.

 

إن كل ما نعرفه عن المجرات ـ النشيطة وغيرها ـ يأتي من الإشعاع الذي تبثه. وتزودنا أرصادنا بالبيانات (المعطيات) التي يُمكن لعلماء الفيزياء الفلكية استخدامها لاختيار الملائم من بين النظريات المتنافسة. ركز ثلاثتنا على الضوء المرئي الذي يمكِّننا من تحديد درجات حرارة وضغوط وتركيز الذرات المختلفة في الغاز الذي تهيجه انفجارات المجرات. ونحن نقوم بمقارنة الأطوال الموجية والشدات النسبية لخطوط الإصدار (الانبعاث) emission lines من الذرات المهيجة (المثارة) أو المؤينة بتلك التي قيست في المختبرات (المخابر) الأرضية أو التي استُخلِصت من الحسابات النظرية.

 

البصمات الطيفية

Spectral Signatures

يتغير تردد وطول موجة الضوء إذا تحرك المصدر الذي يصدر عنه، ويعرف ذلك بإزاحة دوپلر Doppler shift. وهذه الظاهرة نفسها توضح أن التحليل السابق يعطينا أيضا سرعة تحرك الغاز. فالغاز المقترب يصدر ضوءا منزاحا نحو الطرف الأزرق من الطيف، في حين يُصدر الغاز المتراجع ضوءا منزاحا نحو الطرف الأحمر منه.

 

وحتى عهد قريب، كان الفلكيون يتعرَّفون سلوك الغاز بالاستعانة بأسلوبين متكاملين: تصوير خطوط الإصدار، والتحليل الطيفي للشقوق الطويلة long-slitspectroscopy. يولِّد أحدهما صورا خلال مرشح يصطفي ضوءا ذا طول موجي خاص يصدره عنصر مثل الهيدروجين. وغالبا ما تُظهر هذه الصور الأنماط الخيطية للانفجارات على نحو مثير، لكنها لا تنبئ الراصدين بأي شيء عن سرعة حركات الغازات أو اتجاهها، ذلك أن المرشح لا يرقى إلى درجة من التمييز تمكِّنه من قياس الانزياحات (الإزاحات) الحمراء أو الانزياحات الزرقاء كل على حدة. أما المقاييس الطيفية للشقوق الطويلة التي تحلل الضوء إلى الألوان المكونة له، فتزودنا بمعلومات مفصلة عن حركات الغاز، ولكن في منطقة صغيرة فقط.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N5-6_H03_005966.jpg

يصبح تدفق الغاز دوّاميا بسرعة في هذه المحاكاة الحاسوبية لمجرة نشيطة نجمت عن انفجار نجمي. وتبين خريطة حرارية (في اليسار) كيف يزيح الغاز الساخن المنبعث من النواة غاز المجرة البارد المحيط بها. وتَظهر الصدمة الناتجة بوضوح في خريطة لكثافة الغاز (في اليمين).

 

وقد كانت مجموعتنا، طوال قرابة عقد من الزمن، تستخدم جهازا يستفيد من ميزات كل من هذين الأسلوبين دون أي مشكلات تذكر. فمقياس تداخل فابري-پيرو للتصوير في هاواي Hawaii Imaging Fabry-Perot Interferometer  HIFI  يزودنا بمعلومات طيفية مفصَّلة على طول ساحة رؤية شاسعة. ومقاييس الطيف من هذا النوع، والتي سُمِّيت باسم المخترعيْن<C. فابري> و<A. پيرو> اللذين عاشا في أواخر القرن الماضي، وجدت مجال تطبيقات واسعا في علم الفلك. ويوجد في قلب المقياس صفيحتان زجاجيتان توضعان متوازيتين تماما بحيث تكون المسافة الفاصلة بينهما أقل من عُشر الملّيمتر. إن للسطحين الداخليين لهاتين الصفيحتين انعكاسية reflectivity عالية، ومن ثم فإن الضوء الذي يجتاز الصفيحتين يُحجَزُ بينهما بانعكاساته المتكررة. إن الضوء بجميع الأطوال الموجية باستثناء طول موجي معين ـ يُحدَّد بالفصل المضبوط بين الصفيحتين ـ يتم توهينه بتداخل هدام destructive interference، أثناء تحرك الأمواج الضوئية جيئة وذهابا من صفيحة إلى أخرى. وبتعديل المسافة الفاصلة بين الصفيحتين، يمكننا توليد سلسلة من الصور التي هي في جوهرها شبكة من الأطياف يحصل عليها مقياس التداخل في كل بقعة من ساحة الرؤية.

 

ويقوم مقياس فابري-پيرو بالتقاط صوره على قمة بركان ماوناكيا الخامد في جزيرة هاواي الذي يرتفع000 14 قدم عن سطح البحر، وذلك باستعمال مقراب قطر مرآته 2.2 متر تملكه جامعة هاواي ومقراب آخر قطر مرآته 3.6 متر تملكه كندا وفرنسا وهاواي. وبسبب هدوء جريان الهواء على قمة الجبل، فإن الصور تكون واضحة. وتقوم أدوات قرن شحني(1) شديدة الحساسية للضوء الخافت، بتجميع الفوتونات. ويمكن لهذه المجموعة الجبارة أن تولد في ليلة واحدة سجلات لأطياف قد يصل عددها إلى المليون عبر النطاق الكامل لمجرة.

 

المجرات النشيطة القريبة

استعملنا المقياس HIFI لاستكشاف 1068 NGC ، وهي مجرة لولبية نشيطة تبعد عنا 466 مليون سنة ضوئية. ولأنها تمثل بين المجرات اللولبية المرئية في نصف الكرة الشمالي أقربها منا وأشدها سطوعا، فقد دُرِست على نحو مستفيض. وفي الأطوال الموجية الراديوية، فإن المجرة 1068 NGC  تبدو مثل كوازار مصغَّر مكوَّن من نافورتين تمتدان 900 سنة ضوئية من القلب وذي بث متناثر صادر عن مناطق بعيدة منه. ومن المحتمل جدا أن يولد البث من الپلازما الغازية المتحركة بسرعات نسبوية relativistic  النافورتين الراديويتين، وأن ينشأ “الفصّان الراديويان”، حيث تقابل الپلازما مادة من قرص المجرة. وكما هي الحال في الطائرات الأسرع من الصوت، فإن الحافة الأمامية من النافورة الشمالية الشرقية تولد جبهة صدم شبيهة بالحرف V.

 

وتقوم المناطق نفسها أيضا ببث مقادير كبيرة من الضوء المرئي والضوء فوق البنفسجي. ومع ذلك، فقد وجدنا أن 10% فقط من الضوء يأتي من النواة. وتأتي كمية أخرى قدرها 5% من غاز قرص المجرة الذي تراكم على الحافة الممتدة من الفص الراديوي الشمالي الشرقي. ويأتي الباقي كله من مروحتين مكونتين من غاز ذي سرعة عالية خارج من المركز بسرعات تصل إلى 1500 كيلومتر في الثانية.

 

يتدفق الغاز نحو الخارج ضمن منطقتين مخروطيتين، ومن المحتمل أن يكون مؤلفا من خيوط كثيفة من المادة اكتُسحت بفعل الريح الساخنة الصادرة عن قرص التنامي. هذا وإن محورَ مَخروطَيْ الريحِ المتدفقة خارجا يميل فوق مستوي المجرة، ولكنه لا يتجه نحو القطبين.

 

إن آثار النشاط السائد في داخل النواة تصل إلى مسافات تقدر بعدة آلاف من السنين الضوئية، متجاوزةً الفصَّين الراديويين بقدر كبير. إن درجة حرارة الغاز المنتشر بين النجوم عالية على نحو غير عادي، مما يجعل نسبة كبيرة من الذرات تفقد واحدا أو أكثر من إلكتروناتها وتصبح مؤينة. وفي الوقت نفسه، يبدو أن الحوادث التي تأخذ مجراها في القرص تؤثر في النواة. وتُظْهِر الصور تحت الحمراء قضيبا متطاولا من النجوم يمتد أكثر من 3000 سنة ضوئية انطلاقا من النواة. وتوحي قياسات السرعة التي نُفِّذت باستخدام المقياس HIFI أن هذا القضيب يشوه المدار الدائري للغاز في القرص، وهذا يؤدي إلى توجيه المادة نحو مركز المجرة. وهذا الجريان للمادة نحو الداخل قد يزود الثقب الأسود بالوقود.

 

ثمة انفجار هائل آخر حدث في قلب واحدة من أقرب المجرات إلينا وهي M82التي لا تبعد عنا أكثر من بضعة ملايين من السنين الضوئية. وخلافا لما حدث في المجرة NGC 1068، فإن هذه الجائحة تبدو حدثا من نمط بدائي نتج من انفجار نجمي. وتبيِّن الصور التي عُرضت من خلال مرشح يمرِّر الضوء الأحمر من ذرات الهيدروجين المتكونة نسيجا من الخيوط الممتدة خارجا نحو قطبي المجرة. كذلك فإن الشبكات الطيفية للإصدار من الخيوط العمودية على قرص المجرة تظهر كتلتين رئيسيتين من الغاز، إحداهما تتراجع والأخرى تتقدم. ويتزايد الفرق بين سرعتيهما فيما يتحرك الغاز خارجا من القلب، وتبلغ قيمته 350 كيلومتر في الثانية على بعد 3000 سنة ضوئية منه. وعندما يصبح البعد من القلب 4500 سنة ضوئية، يتقلص الفرق بين السرعتين.

 

وتحدث في قلب المجرة M82 عملية تكوُّن كثيف للنجوم، وقد يقدح زناد هذه العملية مواجهةٌ جرت حديثا بين هذه المجرة وجارتيها 3077،M81 NGC. وتُعادل شدة ضيائيتها تحت الحمراء 30 بليون مرة الضيائية الكلية للشمس، وفي قلب هذه المجرة رصد العاملون في علم الفلك الراديوي بقايا عدد كبير من المستعرات العظمى. وينجم النسيج الخيطي المرئي من الأرض عن فقاعتين متطاولتين موجهتين على نحو عمودي تقريبا على قرص M82، وتقع النواة بينهما. وقد كشفت مراصد الأشعة السينية في الفضاء الريح الساخنة التي تنفخ الفقاعتين. ومن المحتمل أن يكون مظهرهما الرغوي ناشئا عن عدم الاستقرار في الغاز الحار أثناء تبرده.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N5-6_H03_005967.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N5-6_H03_005968.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/12/SCI96b12N5-6_H03_005969.jpg

يُمكن للقوى الهائلة في مركز مجرة نشيطة أن تُشْعِر بوجودها على بعد نصف مليون سنة ضوئية أو أكثر بدفقات (بنفثات) من الغاز المتحرك بسرعات نسبوية وتشق طريقها إلى الفضاء الكائن بين المجرات مولدة موجة صدم هائلة (1). وقريبا من مركز المجرة (1 و 2) يقوم قرص استوائي كثيف من الغبار والغاز الجزيئي بضخ مادة في النواة النشيطة في حين يتدفق الغاز الساخن والإشعاع على طول المحور القطبي. وينجم عن الكثافة العالية للغاز الساقط في نطاق يمتد بضع عشرات من السنين الضوئية في المركز تكوُّنٌ كثيف للنجوم (4). وحتى لدى الاقتراب من المركز على نحو أكبر (5)، فإن القرص، الذي يتوهج في الأطوال الموجية فوق البنفسجية والسينية، يستدق طرفه نحو الداخل ليغذي ما يعتقد الفلكيون بأنه ثقب أسود يحوي ملايين من الكتل النجمية، ولكنه يبقى مع ذلك صغيرا جدا بحيث تستحيل رؤيته في هذا المقياس.

 

نشاط غامض

ولسوء الحظ فإن هوية المصدر الرئيسي للطاقة في المجرات النشيطة ليس واضحا دائما. وفي بعض الأحيان يظهر انفجار نجمي مصحوب بثقب أسود. وكما هي الحال في المجرة M82، فإن كثيرا من هذه المجرات تبدو ساطعة على نحو غير عادي في الأطوال الموجية تحت الحمراء وغنية بالغاز الجزيئي، وهو المادة الأولية للنجوم. بيد أن الإصدار الراديوي والأطياف المرئية الشبيهة بنظائرها في الكوازار توحي بأنه قد يوجد هناك أيضا ثقب أسود.

 

إن مثل هذه الغموض يشوش التفسيرات المطروحة لسلوك المجرة القريبةNGC 3079. وكما هي الحال في المجرة M82. فإن المجرة 3079 NGC ساطعة على نحو استثنائي في الأطوال الموجية تحت الحمراء، كما أنها تحوي أيضا قرصا ضخما من الغاز الجزيئي يمتد 8000 سنة ضوئية حول قلبها. وفي الوقت نفسه، فإن القلب ساطع على نحو غير عادي في الأطوال الموجية الراديوية، كما أن الشكل الخطي للمناطق ذات البث الراديوي قرب القلب يوحي بتدفق خارجي ذي مسارات متوازية. وفي مقياس أوسع، يكون شكل البث الراديوي معقدا ويمتد مسافة تتجاوز 6500 سنة ضوئية في كل من وجهي قرص المجرة.

 

وتُظهِر الصور المأخوذة في ضوء الهيدروجين الأحمر حلقة دائرية تقريبا قطرها 3600 سنة ضوئية واقعة شرق النواة. وتؤكد قياسات السرعة التي أُجريت باستعمال مقياس تداخل فابري ـ پيرو للتصوير في هاواي أن هذه الحلقة تعيِّن تخوم حافة فقاعة على النحو الذي تُرى فيه من جانبها. وتشبه الفقاعة بيضة نهايتها المستدقة قابعة في النواة ومحورها الكبير مواز للمحور القطبي للمجرة. وهناك فقاعة أخرى في الجهة الغربية من النواة، لكن معظمها محجوب خلف قرص المجرة الغباري.

 

وتدل أرصادنا الطيفية على أن الطاقة الكلية لهذا التدفق الخارجي العنيف قد تعادل عشرة أمثال طاقة الانفجارات في المجرة NGC 1068أوالمجرة M82. ويترتب على التوازي بين محور الفقاعة الكبير والمحور القطبي للمجرة المضيفة أن غبار وغاز المجرة، وليس ثقبا أسود مركزيا، هما المسؤولان عن التدفق الخارجي في حزم متوازية. ومع ذلك فإن الشواهد واضحة إلى حد ما بأن المجرة3079 NGC تحوي ثقبا أسود ضخما في قلبها.

 

تُرى، هل الانفجار النجمي النووي هو المسؤول الوحيد عن هذا الانفجار المروع؟ لقد حاولنا الإجابة عن هذا السؤال بتحليل الإشعاع تحت الأحمر الوارد من منطقة الانفجار النجمي. إن معظم إشعاع النجوم الفتية المطمورة في السحب الجزيئية يُمتص ويعاد بثه في الأطوال الموجية تحت الحمراء. ومن ثم فإن ضيائية نواة المجرة NGC 3079 قد تكون مؤشرا هاما على معدل السرعة التي تضخ بها المستعرات العظمى والرياح النجمية الطاقةَ في مركز المجرة. وحين نقارن تنبؤات نموذج الانفجار النجمي بأرصادنا، نجد أن المقذوفات النجمية قد تملك قدْرا من الطاقة يكفي لنفخ الفقاعة. وعلى الرغم من أن الثقب الأسود، الذي يُفترض وجوده في قلب المجرة 3079 NGC قد يسهم في التدفق  الخارجي، فليس من الضروري افتراضه منبعا للطاقة.

 

كيف تتكون المجرات النشيطة

على الرغم من أن الفلكيين صاروا الآن يدركون المبادئ الأساسية لكيفية عمل المحركات التي تسيِّر المجرات النشيطة، فإن العديد من التفاصيل مازال بعيدا عن الوضوح. ويدور الآن جدل عنيف حول طبيعة العمليات التي تقدح زناد الانفجار النجمي أو تُكوِّن ثقبا أسود مركزيا. فما هو حزام الناقل conveyor belt  الذي ينقل الوقود إلى النواة الشبيهة بالنقطة؟ والأكثر احتمالا هو أن التفاعلات التثاقلية مع المجرات الغنية بالغاز تعيد توزيع الغاز في المجرات المضيفة. وربما تم ذلك بتشكيل قضيب من النجوم مثل ذاك الموجود في المجرة NGC 10688. ويبدو أن المحاكيات الحاسوبية تشير إلى أن القضيب الذي تكوَّن ذات مرة قد يكون مستقرا تماما [انظر: “Colliding Galaxies,” by: J. Barnes – L. Hernquist – F.Schweizer; Scientific American, August 1991]. (وفي الحقيقة، إن القضيب يجب أن يكون مستقرا لأنه لا يوجد حاليا للمجرة1068 NGC  رفيق قريب منها.)

 

وينقسم الباحثون أيضا حول تحديد ما يحدث أولا: هل هو الانفجار النجمي أم الثقب الأسود؟ ومن المحتمل أن يكون الانفجار النجمي مرحلة مبكرة من مراحل تطور المجرات النشيطة، ثم يضعف بعد ذلك مخلِّفًا حشدا من بقايا النجوم التي تلتحم بسرعة مكونة ثقبا أسود ضخما.

 

ومن المؤكد تقريبا أن جريانات الغاز غير العادية في المجرات التي رصدناها ورصدها آخرون غيرنا ليست سوى أمثلة بارزة على عمليات واسعة الانتشار، لكن غامضة، تجري في عدد كبير من المجرات. إن المجرات تحت الحمراء المتألقة هي من المجرات الشائعة، وثمة أدلة متزايدة تدفع الفلكيين إلى الاعتقاد بأن كثيرا من قلوبها هي أيضا مقار للانفجارات. ومن شأن هذه الحوادث أن تؤثر تأثيرا قويا في تكوين النجوم في كل مكان من البقاع المجاورة للمجرات. وعلى سبيل المثال فإن الفقاعة في المجرة NGC 3079 ممزقة جزئيا في أعلاها، ومن ثم يُحتمل أن تُسرِّب مادة في الهالة الخارجية للمجرة أو حتى في الفضاء الشاسع بين المجرات. وتقوم التفاعلات النووية في وابل المستعرات العظمى التي تحررها الانفجارات النجمية بإثراء هذه الرياح الحارة بعناصر كيميائية ثقيلة. ويترتب على ذلك ألا يقتصر تأثير الرياح في تسخين ما يحيط بها فحسب بل إنها تغير أيضا التركيب الكيميائي لهذا المحيط.

 

ومن الصعوبة بمكان إجراء تقييم دقيق للتأثير الكامل “لحوض الفقاعة الكونية” هذه على مدى تاريخ الكون، ذلك أننا لا نعلم حاليا سوى القليل للغاية عن أحوال المجرات البعيدة. وستسهم صور المجرات البعيدة التي التقطها مقراب هابل الفضائي في الإجابة عن بعض هذه التساؤلات. وفي الواقع، فحين يصل الضوء الذي انطلق من تلك المجرات منذ بلايين السنين إلى آلاتنا، فقد نشهد إذ ذاك زمن ما قبل تاريخ مجرتنا مسجَّلا في مكان آخر من هذا الكون.

 

 المؤلف

S. Veilleux – G. Cecil – J. Bland-Hawthorn

التقوا خلال عملهم في المراصد المقامة في هاواي وجذبهم اهتمامهم المشترك بالمجرات الغريبة إلى التعاون معا في هذا المجال. يعمل ڤيو أستاذا مساعدا في علم الفلك بجامعة ماريلاند، وقد حاز الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز. وحصل سيسيل، الأستاذ المشارك في علم الفلك والفيزياء بجامعة كارولينا الشمالية في شاپيل هيْل ومدير مرصد مُورْهِيدْ هناك، على الدكتوراه من جامعة هاواي. أما بلاند-هوثورن فنال الدكتوراه في علم الفيزياء الفلكية من جامعة سَسِكس ومرصد گرينيتش الملكي. ويعمل حاليا باحثا فلكيا في المرصد الأنگلو أسترالي بمدينة سيدني.

 

مراجع للاستزادة 

LARGE-SCALE B1POLAR WIND IN M82. Jonathan Bland and R. Brent Tully in Nature, Vol. 334, pages 43-45; July 7, 1988.

IMAGING SPECTROPHOTOMETRY OF IONIZED GAS IN NGC 1068, Part 1: KINEMATICS OF THE NARROW-LINE REGION. G. Cecil, J. Bland and R. B. Tully in Astrophysical Journal, Vol. 355, pages 70-87; May 20, 1990.

RELATIONSHIPS BETWEEN ACTIVE GALACTIC NUCLEI AND STARBURST GALAXIES. Proceedings of the Taipei Astrophysics Workshop, 1991. Edited by Alexei V. Filippenko. Astronomical Society of the Pacific, 1992.

THE NUCLEAR SUPERBUBBLE OF NGC 3079. S. Veilleux, G. Cecil, J. Bland-Hawthorn, R. B. Tully, A. V. Filippenko and W. L. W. Sargent in Astrophysical Journal, Part 1, Vol. 433, pages 48-64; September 20, 1994.

DISSECTING COSMIC EXPLOSIONS. R. B. Tully, J. Morse and P. Shopbell in Sky and Telescope, Vol. 90, No. 1, pages 18-21; July 1995.

Scientific American, February 1996

 

(1) أدوات قرن شحني charge-coupled devices: هي أدوات شبه موصلة (ناقلة) مرتبة على نحو يجعل الشحنة الكهربائية في خَرْج إحداها كحافز دخل للأداة التالية. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى