أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
الكيمياء الحيويةبيولوجيا

حيوانات محوّرة جينيا كمصانع للأدوية


حيوانات محوّرة جينيا كمصانع للأدوية

بإدخال جينات الإنسان الأساسية في الثدييات،

استطاع البيولوجيون تحفيز حيوانات لبونة

على إنتاج حليب يحوي بروتينات علاجية.

<H .W. ڤلاندر> ـ <H. لوبون> ـ <N .W. دروهان>

 

 بعد مرور سنة كاملة على مولد جيني، وهي أنثى خنزير شملتها تجاربنا، بدأت تُرضِع في دعة وهدوء سبعة من الخنازير الصغار الأصحاء من حليبها الذي يؤمن الغُذِّيات اللازمة لحياة هذه الصغار ونموها. ولكن جيني لا تشبه الخنازير الأخرى، لاحتواء حليبها على مادة يحتاج إليها بشدة بعض المصابين بأمراض خطرة، وهذه المادة هي البروتين البشري C. والطريقتان التقليديتان اللتان يتم الحصول بوساطتهما على هذا البروتين هما: معالجة كميات كبيرة من دم متبرع أو زرع عدد كبير من الخلايا في أوعية ضخمة في مفاعل فولاذي. لكن جيني أنتجت كميات وافرة من البروتين C  من دون مساعدة منظورة، وهي بذلك أول أنثى خنزير في العالم تنتج بروتينا بشريا في حليبها.

 

إن مقدرة جيني على تركيب عقار علاجي وفق الطريقة المذكورة في هذا المقال، هي نتيجة مشاريع بحثية تم تخيلها قبل نحو عقد مضى. لقد بدأنا التفكير في إمكانية تغيير تركيب حليب الحيوان بحيث يتضمن بعضا من المواد المطلوبة بصورة ملحة، وذلك بالتعاون مع علماء من الصليب الأحمر الأمريكي مختصين بتأمين أمثال بروتينات الدم هذه. ونظريا فإن مباشرة العمل في هذا الاتجاه تؤدي إلى إنتاج الكميات اللازمة من مختلف بروتينات الدم العلاجية والتي تكون دائما في حالة نقص.

 

ويأتي الطلب لمثل هذه العقاقير من أماكن وجماعات متعددة. وكمثال، قد يفتقر المَنْعُورون (المصابون بالناعور) hemophiliacs  إلى عامل من العوامل المختلفة الداخلة في سيرورة تخثر الدم، وبخاصة بروتينا دم يسميان العامل VIII  والعاملIX. ويحتاج أناس معينون، نتيجة عَوَز خِلْقي، إلى كميات إضافية من البروتين C(الذي يعمل على التحكم في التخثر) لدعم المخزون الضئيل في أبدانهم. كما يستفيد من هذا البروتين المرضى الذين سيخضعون لجراحة استبدال المفاصل. والمثال الثاني المهم والذي يدل على مدى الحاجة إلى بروتينات الدم العلاجية، أناس يعانون سكتات دماغية strokes أو نوبات (هجمات) قلبية heart attacks، وهي حالات تتطلب المعالجة السريعة ببروتين يسمى منشط نسيج الپلازمينوجين (مولد الپَلَزْمين) tissue plasminogen activator، وهي مادة قادرة على إذابة الخثرات الدموية. كما يعاني بعض الناس شكلا موهنا من النُّفَاخ emphysema، ويمكنهم التنفس بسهولة بوساطة التسريب خلال الوريد لنوع من البروتين يسمى ألفا-1- مضاد الترپسين antitrypsin.

 

إن جميع البروتينات التي أشرنا إليها فيما سبق، توجد في الدم بكميات صغيرة جدا. لذا يصعب حاليا إنتاجها؛ لأن تكاليفها تمنع أو تحد من استعمالها كعقاقير. وكمثال، فإن المعالجة بالعامل النقي VIII (وهي محدودة الاستعمال فيحالات نزيف المَنْعُورين) تكلف عادةً المريض عشرة آلاف دولار كل عام. والتبديل المستمر لبروتين الدم هذا للفترة نفسها (وهو مرغوب فيه ولكنه خيار نادرا ما يكون متاحا) تزيد كلفته على  100000 دولار أمريكي. 

 

تعكس تلك المبالغ الضخمة الصعوبات الجمة الناشئة عن استخلاص هذه البروتينات من الدم المتبرَّع به أو من طرائق إنتاج متخصصة تعتمد على زراعة الخلايا ـ وهو عمل يتطلب استثمار 25 مليون دولار أو أكثر لتأمين كمية معتدلة من نوع واحد من البروتين. ولكن تطوير حيوانات محورة جينيا مثل جيني (التي تحمل جينات من أنواع species  أخرى) يتطلب فقط جزءا يسيرا من تكلفة الاستثمار السابق. يضاف إلى ذلك أن هذه السلالات الجديدة تبسط الإجراءات بصورة هائلة وتنتج كميات كبيرة من بروتينات الدم البشرية. وهكذا تقدم الاستعاضة عن المفاعل الحيوي التقليدي بحيوانات محورة جينيا، فوائد اقتصادية ضخمة لا يستهان بها.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H05_006889.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H05_006890.jpg

إن المفاعلات الحيوية بصورتها النموذجية هي أوعية ضخمة من فولاذ لا يصدأ stainless-steelمزودة بتحكم معقد للمحافظة على مرق زرعي تنمو فيه أعداد هائلة من الخلايا الفردية. لكن الاستراتيجية الجديدة لإنتاج أدوية أساسها البروتينات قد أغنت عن مثل هذه المعدات المكلفة غالبا، وذلك باستخدام حيوانات محورة جينيا، مثل أنثى الخنزير التي في الصورة والمهندسة وراثيا من قبل المؤلفين لإنتاج بروتين علاجي في حليبها.

 

ونضيف إلى الفوائد السابقة أن تكوين بروتينات الدم على هذا النمط هو أفضل من الممارسات الحالية (تنقية البروتينات من دم المتبرع) بسبب تطويق مخاطر التلوث بالعوامل الممرضة. فعلى الرغم من أن بروتينات الدم المستمدة من پلازما الدم المُجمَّعة تعد الآن سليمة نسبيا لأنه يتم عادة فحص المتبرعين وتطبق عليهم معالجات تثبيط الڤيروسات، يلوح في الأفق خطر الإصابة ببعض العوامل الممرضة. فمثلا، ثمة تخوف من انتشار الڤيروس HIV  (العامل المسبب للإيدز) وڤيروس الالتهاب الكبدي C  اللذين دفعا الباحثين إلى إيجاد بدائل للعقاقير المستمدة من دم البشر. والشيء نفسه يقال عن الاهتمام الحالي بالمرض كروتسفلت-جاكوب Creutzfeldt-Jacob (وهو يسبب تَنَكُّس degeneration  الجهاز  العصبي) الذي كان السبب في سحب بعض منتجات الدم من الأسواق في الولايات المتحدة وأوروبا. وسيتم تجاوز هذه المصاعب بإنتاج بروتينات الدم البشرية بوساطة حيوانات محورة جينيا وخالية من هذه الأمراض.

 

إن المكاسب الكثيرة الناتجة من استخدام حيوانات محورة جينيا وتعمل كمفاعلات حيوية، تعطينا سببا كافيا للاستمرار في مراقبتنا لمرابط حيوانات سليمة صحيا وحاملة لبعض الجينات (المورثات) البشرية. لكننا مع بدء العمل واجهنا بعض العوائق الفنية في استيلاد حيوانات محورة جينيا وحول تجميع كميات مفيدة من البروتين من حليبها. ولحسن الحظ، كنا قادرين على التقدم بسرعة، مستفيدين من حجم البحوث التي أجريت حتى الآن ومهدت الطريق لنا.

 

تجارب سابقة على الفئران

في عام 1981 أوضح <W .J. كوردن> وزملاؤه (في جامعة يال) أن الجنين المخصّب fertilized embryo  لفأر يستطيع أن يدمج مادة جينية غريبة (الدنا) في صبغياته ـ وهي المستودع الخلوي للمادة الجينية. وبعد فترة قصيرة تلاهم <E.T.  واگنر> ومساعدوه (من جامعة أوهايو) الذين برهنوا أن الجين (وهو شُدْفة من الدنا تحمل رموزا لبروتين معين) المأخوذ من الأرنب يمكن أن يؤدي وظيفته في الفأر. فقد ابتكر هؤلاء الباحثون طريقة لحقن شدفة من دنا الأرنب في جنين فأر وحيد الخلية وذلك باستخدام أنبوب زجاجي دقيق وذي أبعاد مكروية (مجهرية). ومن المدهش أن الدنا المحقون غالبا ما يتكامل integrate  مع صبغيات الفأر، ويحتمل أن تكون الخلية ميَّزته على أنه قطعة مكسورة من الدنا الخاص بها والذي يحتاج إلى ترميم.

 

وقام هؤلاء الباحثون بزرع هذه الأجنة المحقونة في أمهات فئران بديلة، فوجدوا أن بعض الفئران المولودة للأم البديلة تحمل جين الأرنب في جميع نسجها (أنسجتها). والحقيقة أن هذه الفئران المحورة جينيا قامت بدورها بنقل الجين الغريب إلى مواليدها بصورة طبيعية وفق قوانين مِنْدِل الوراثية. ووجد أن الجين المضاف يعمل بصورة طبيعية ضمن عائله (ثويّه) الجديد، حتى أن هذه الفئران أنتجت هيموگلوبين الأرنب في دمائها.

 

وفي عام 1987 ظهر اكتشاف هام آخر يتعلق بالحيوانات المحورة جينيا التي تعمل كمفاعلات حيوية. فقد قام كل من <L. هينيگهوزن> (من المعهد الوطني للكُلْيَة وأمراض الهضم) و <J .A. كلارك> (من معهد فسيولوجيا الحيوان والوراثة في محطة أبحاث أدنبرة في اسكتلندا) بالتعاون مع زملائهما، بابتكار وسائل لتنشيط الجينات الغريبة في الغدة الثديية mammal gland  للفأر. كان من نتيجتها تكوين جزيئات بروتينية غريبة وإفرازها في حليب الفئران المحورة جينيا، حيث أمكن الحصول عليها وتجميعها بسهولة. وأنجز هؤلاء الباحثون هذا العمل الفذ عندما جمعوا الجين الغريب والمرغوب مع قطعة صغيرة من دنا تُستخدم عادة لتنشيط جين بروتين حليب الفأر.

 

وبينما نجد أن فئران هينيگهوزن أنتجت البروتين البشري المرغوب (وهو في هذه الحالة، منشط نسيج الپلازمينوجين) بتراكيز منخفضة مخيبة للآمال، فإن فئران كلارك أنتجت 23 غراما من بروتين في حليب الغنم (معروف باسم بيتا لاكتوگلوبولين) في كل ليتر، وهذا يوازي تقريبا كمية البروتينات الرئيسة لحليب الفأر. ولكن بيتا لاكتوگلوبولين لا يعد بروتينا بشريا شحيحا، كما لا تعد هذه الفئران الضئيلة الحجم الوسيلة الملائمة لإنتاج كميات كافية من الحليب. لذا قام كلارك وزملاؤه بحقن أجنة الغنم بدنا يضم جينات بشرية مهمة للمعالجة الطبية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H05_006891.jpg

 

لقد استعملوا الجين الذي يكوّد codes لعامل تخثر الدم (العامل IX) مع قطعة من دنا الغنم التي تقوم عادة باستهلال إنتاج بيتا لاكتوگلوبولين في الغدة الثديية. وبعد عامين أفرزت أغنام كلارك المحورة جينيا العامل IX  في حليبها، ولكن بمستويات يمكن الكشف عنها بصعوبة. وهنا بدأنا ندرك أهمية هذا العمل الرائد، وبدأت محاولاتنا وقررنا المغامرة والبدء باستراتيجية جديدة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H05_006892.jpg

يُصنع البروتين البشري C ضمن الخلية في خطوات متعددة. تبدأ الآلة الخلوية عند تصنيعه بربط 461 حمضا أمينيا بعضها ببعض وفق كود موصوف في جين البروتين C (وتعرف هذه الخطوة بالترجمة). وبعد حدوث الترجمة ينطوي جزيء البروتين الوليد بترتيب فضائي مميَّز مشكلا عدة مناطق بارزة (المناطق الملونة). ويخضع البروتين حتى يقوم بوظيفته بصورة صحيحة إلى تعديلات تعرف باسم تعديلات ما بعد الترجمة. وتشمل هذه خطوات إضافية من قطعٍ وإزالةٍ لأجزاء معينة من البروتين، كما تترافق بإضافة مجموعات كيميائية خاصة في مواقع محددة على سلسلة الحموض الأمينية.

 

بينما اختارت مجموعات الباحثين الآخرين إجراء التجارب على الغنم والمعز والأبقار كحيوانات لبونة ملائمة لإنتاج البروتينات البشرية، فقد اخترنا الخنازير لأنها تتمتع بميزات مثل: دورات حمل قصيرة (أربعة أشهر) وزمن نسل قصير (12 شهرا)، إضافة إلى العدد الكبير من المواليد (عادة 10 – 12 مولودا). وهكذا فإن إنتاج خنازير محورة جينيا أسرع نسبيا مقارنة بالحيوانات الأخرى. كما أن الخنازير على الرغم من عدم اعتبارها حيوانات لبونة، فهي تنتج كميات كبيرة من الحليب؛ إذ تعطي نحوا من 300 ليتر في السنة. ويبقى السؤال الحقيقي البارز أمامنا هو: هل لهذا الاختيار غير التقليدي للحيوانات المحورة جينيا، أن يعطي عمليا كميات كافية من البروتين البشري في الحليب.

 

عزمنا على تحقيق ما انتهينا إليه، وهو استعمال قطعة دنا مكونة من جين بشري مع ما يسمى مُحَضِّض promoter  لبروتين رئيسي في حليب الفئران (يسمّى بروتين المصل الحمضي whey acidic protein)، ميّزه هينيگهوزن وزملاؤه. وقد تمكن هؤلاء الباحثون عبر حَقْن مجموعة الدنا هذه في أجنة الفئران من زيادة صبغيات الفأر بصورة مكنت هذه المخلوقات من إنتاج بروتين بشري مرغوب في حليبها. ولجني فوائد هذا الاتجاه، شكلنا شدفة دنا تضم جينا بشريا للحصول على البروتين المطلوب (وهو في حالتنا، البروتين C)، مع مُحَضِّض (منشط) فأري الأصل متخصص بجين بروتين المصل الحمضي. وتم حقن هذا الدنا في مجموعة من أجنة الخنازير.

 

وبزرع هذه الخلايا المخصَّبة في أمهات بديلة من الخنازير استطعنا أن نميز ـ بعد مضي أربعة أشهر من الانتظار العصيب ـ مولودا جديدا هو أنثى خنزير صغيرة، تحمل الدنا الغريب في جميع خلاياها. وعلى الرغم من هذا الإنجاز تحتَّم علينا الصبر سنة أخرى، حتى تنضج أنثى الخنزير المحورة جينيا واسمها جيني، وعندها فقط نستطيع أن نرى ما إذا كانت جيني، حقيقة، قادرة على إنتاج البروتين البشري في حليبها. وكان من المبهج لنا أن احتوى حليب جيني على البروتين C. ومع أن البروتين البشري لم يكن موجودا بكميات غزيرة كبعض بروتينات حليب جيني، إلا أنه كان موجودا بشكل معقول ويقدر بنحو غرام واحد من البروتين C في كل ليتر من الحليب، وهذا يعادل 2000 ضعف تركيز هذا البروتين في پلازما دم الإنسان السليم. لكننا كنا قلقين أيضا على معرفة ما إذا كان هذا البروتين البشري المصنوع في الخنزير فعّالا من الناحية البيولوجية.

 

إن اهتمامنا بفعالية البروتين ناتج من أن تفاصيل اصطناع البروتين داخل الخلايا مازالت غامضة إلى حد ما. إن معظم عمل الآلة الخلوية لقراءة الكود الجيني وترجمته إلى معلومات على هيئة تسلسل من الحموض الأمينية (وهي أحجار البناء لجزيئات البروتين) معروف جيدا من قبل البيولوجيين، ولكن يبقى بعض المعالجات (المنابلات) الدقيقة التي يجب أن تُجرى في الخلايا بعد انضمام الحموض الأمينية بعضها مع بعض، حتى تعطي هذه المعالجات ـ التي تسمى تعديلات ما بعد الترجمة post-translational modifications ـ جزيء البروتين  الوليد شكله النهائي وفق التركيب الكيميائي اللازم ليعمل بصورة صحيحة. وتتضمن تعديلات ما بعد الترجمة عمليات خلوية معقدة تشمل قَطْع أجزاء من البروتين ولصق مختلف المجموعات الكيميائية كما هي متجمعة في الجزيء. ويبقى التساؤل: هل تقدر خلايا نسيج الثدي في جيني على تنفيذ هذه التعديلات بصورة كافية لصنع نسخة فعّالة من بروتين دم بشري؟

 

ما الأفضل من أجل خنزيرة تسمى جيني

أدى ظهور تقنيات التحوير الجيني واستخدامها في الحيوانات إلى بروز اهتمامات حقيقية حول صحة ورعاية الحيوانات المحورة بهذه الطريقة غير المألوفة. فبعد زرع هذا النوع من هندسة “التحوير الجيني” في أجنة الخنازير ليصبح في النهاية جزءا من كل خلية من خلايا الحيوان الناضج، برز تساؤل حول النتيجة التي يؤدي إليها عمل الجين المدخل بطريقة غير سليمة وإنتاجه بروتينا غريبا بطريقة تؤدي إلى تخريب النسيج المحيط به؟

تلك المخاوف جعلت هذا العمل شيئا هاما وخطيرا، فنحن نصمم معالجاتنا الجينية بشكل يجعل الجين الغريب يعمل فقط في الغدة الثديية، لأنها مهيأة طبيعيا ضمن هذه النسج لإنتاج وإفراز البروتين من دون أن تؤذي نفسها أو عائلها (ثويها). وقد توقعنا إنجاز هذا التحكم الهادف إلى إنتاج البروتين في الخنازير المحورة جينيا لاستعمالنا مُحَضِّضًا من جين الحليب milk gene  ـ وهو مفتاح جيني  موجود في جميع الثدييات.

ومع ذلك أدركنا أن الجينات ـ حتى المعروفة بسلوكها الجيد ـ  يمكن أن تُظهر نشاطات مختلطة. فالجينات المدخلة إلى الخنازير، كمثال، أنتجت أيضا في الغدد اللعابية كميات صغيرة من البروتينات الغريبة. فالنسج اللعابية من حيث التركيب تشبه تماما النسج الثديية. وقد توقعنا هذا الإنتاج الجانبي، إلا أننا كنا متأكدين من أن هذا التأثير الجانبي البسيط لا يؤذي الخنازير بأية طريقة كانت.

يُعدّ غياب التأثيرات الجانبية المؤذية شيئا هاما ليس فقط للحيوانات المستخدَمة بل ولنجاح هذه الطريقة الرائدة. فأحد الأسباب الأساسية لتطوير حيوانات محوّرة جينيا لتأمين بروتينات بشرية هو الحدّ من احتمال نقل الأمراض إلى متناولي هذه العقاقير. وإنتاج هذه المواد باستخدام كل حيوان متاح عدا الحيوانات السليمة، قد يزيد من قابلية هذه الحيوانات للإصابة بمرض ما، كما يحتمل أن تنقل هذه الحيوانات عن غير قصد بعض العوامل الممرضة غير المعروفة. فعندما يكون الهدف إنتاج عقاقير سليمة وبكميات وفيرة فإن الحيوانات التي أضعفتها الهندسة الوراثية تبرهن في النهاية على أنها تهزم نفسها بنفسها.

 

للإجابة عن هذا التساؤل، علينا التعامل مع صعوبة جديدة وهي عزل بروتين بشري من حليب الخنزير. قمنا أولا بإزالة دهن الحليب بالتثفيل (النّبذ)centrifugation، بعدها قمنا بتنقية المصل الباقي باستخدام طريقة لاستخلاص الجزء الفعّال بيولوجيا من البروتين البشري. ولدهشتنا بلغت كمية هذا المكوَّن نحو ثلث كمية البروتين C الموجودة. ولم يسبق أن أُنتج بروتين C  فعّال وعُزِل بمثل هذه المستويات العالية من حيوان محور جينيا، أو حتى من مفاعل حيوي تقليدي. وبهذا اجتازت جيني اختبارا رئيسيا، وهذه هي التجربة العلمية الأولى لإنتاج بروتين بشري في حليب الدواب livestock.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H05_006893.jpg

يحوي نسيج الثدي لأنثى خنزير خضعت للهندسة الوراثية مجموعة كثيفة من خلايا (الأرجواني) تنتج بروتينا بشريا علاجيا. وتسمح بنية الغدة الثديية بإنتاج البروتين البشري الذي ينساب عبر قنوات الإفراز (الأبيض) مع المكونات الأخرى الموجودة في حليب الحيوان.

 

نموذج العام القادم

لقد كرّسنا عدة سنوات لدراسة جيني وكثير من مواليدها الموجودة. وبعدها بدأنا نركز الجهد على رفع مستوى البروتين البشري الفعّال في حليبها. وكان هدفنا التغلب على محدودية نسج الثدي في القيام بتعديلات ما بعد الترجمة. من حيث المبدأ، فإن اقتحام هذه العوائق النهائية يمكن أن يضاعف ثلاث مرات كمية الناتج من جزيئات البروتين المفيدة.

 

وبإجراء بحوث في غاية الجهد والعناية لحل هذه المشكلة، اكتشفنا أن معظم ما تبقى من البروتين C غير ناضج وغير فعّال، لعدم توافر كمية كافية ضمن هذه الخلايا من إنزيمٍ معالجٍ (رئيسي) يسمى فورين furin ـ وهو بروتين معقد. وفي  الحال تساءلنا فيما بيننا، هل يمكن تحسين الوضع بإدخال جين غريب آخر، وهو جين يسمح باصطناع المزيد من الإنزيم فورين.

 

لاختبار هذا الاحتمال بسرعة، حولنا جهودنا مؤقتا من الخنزير إلى الفأر، فهو أسرع الحيوانات إنْسالا كما يشكل الدعامة لمعظم تجارب الثدييات المحورة جينيا. ونجحنا عام 1995 في هندسة سلالة من الفئران المحورة جينيا والتي تضم جينين بشريين، أحدهما للبروتين C  والثاني للفورين. وقد دبرنا أوامر تشغيل هذين الجينين المنقولين في الغدة الثديية بوصلهما إلى محضّض للدنا سبق وأن أدخل إلى جيني.

 

وبعد شهور من الجهد المضني في المختبر،غمرتنا نشوة عندما وجدنا أن هذه الفئران أفرزت في حليبها الصورة الناضجة mature form من البروتين C. ولهذا بدأنا في تطوير خنازير محورة جينيا تضم جينات بشرية للبروتين C وللفورين. وتوقعنا أن نرى قريبا خنزيرا ينتج بروتين C  فعّالا بمعدل أعلى ثلاث مرات مما قامت به جيني. وتوقعنا كذلك أن الباحثين الآخرين المتخصصين في حقل الحيوانات المحوّرة جينيا قادرون على تطويع التعديلات الجينية المسؤولة عن اصطناع كل من إنزيمات الإعداد والبروتين المستهدف.

 

رؤى خيالية

إن فكرة الحصول على كميات غير محدودة من بروتينات الدم البشرية النادرة بكلفة معقولة، بدت منذ فترة وجيزة وكأنها مجرد خيال جامح. لأنه ولمدة تفوق العقدين، عمل علماء البيولوجيا الجزيئية ومهندسو الكيمياء الحيوية على التغلب على مشكلات الكميات الضئيلة المنتجة من بروتينات البشر وذلك باعتمادهم على تسهيلات كبيرة في زرع الخلايا. ويبدو الآن أن القَدَر كتب على صناعة المواد الصيدلانية بالطرق البيولوجية (ضمن أوعية فولاذية ضخمة بدءا من خلايا محوّرة بالهندسة الوراثية) أن تبقى صناعة عويصة ومكلفة.

 

إن بناء مفاعلات حيوية كهذه يكلف مبالغ هائلة، كما ثبت عند تشغيلها أنها شديدة الحساسية للتغيرات الطفيفة في درجات الحرارة ولتركيبات مرق الزرعbroth الذي تنمو فيه الخلايا. وبخلاف المفاعلات الحيوية السابقة نجد أن المفاعلات الحيوية في الحيوانات المحورة جينيا يمكن أن تنشأ فقط عن تناسل واستيلاد مزيد من الحيوانات. ولا تحتاج الحيوانات المحورة جينيا إلا إلى رقابة روتينية لظروف حياتها وللغذيات التي تزود بها، حتى توفر بسهولة البروتينات المرغوبة بتراكيز أعلى من نظيراتها المنتجة في المفاعلات المعدنية.

 

وعلى الرغم من وجود بعض المخاطر من العوامل الممرضة التي يمكن نقلها من الحيوانات إلى الإنسان، فإن الإجراءات المنهجية المتاحة تؤمن حيوانات خالية من الأمراض المعروفة. وفي الحقيقة إن وجود حيوانات خالية من العوامل الممرضة هو أمر أساسي في الصناعة الزراعية. يضاف إلى ما سبق، أن استخدام الخنزير ـ خلال العقود الماضية ـ لإنتاج الإنسولين الطبي لمرضى الداء السكري، أعطانا الثقة بأن الخنزير يخدم مباشرة كمفاعل حيوي لإنتاج بروتينات بشرية علاجية من دون التسبب بخطر لاحق.

 

وكسائر الأدوية الجديدة، مازالت البروتينات البشرية المنتَجة بهذه الطريقة تحتاج إلى اختبار دقيق لمعرفة سلامتها وفعاليتها قبل سماح الحكومة باستعمالها. ومنذ عدة أشهر، بدأ اختبار المثال الأول منها بإجراء تجارب سريرية (لبروتين مضاد للخثرة يسمى مضاد الثروموبين III، وتصنعه الشركة جينْزيم للتحوير الجيني باستخدام المعز).

 

ويحتمل أن يكون الفرق الدقيق بين خلايا الإنسان والحيوان هو في الطريقة التي تتم فيها تعديلات ما بعد الترجمة، والتي يمكن أن تؤثر في أداء البروتين لوظيفته لدى البشر. وكمثال: تؤدي تعديلات معينة إلى زوال البروتينات بسرعة من الدم بوساطة الكبد، لذا نظن أن بعض الفروقات بين الشكلين البشري والحيواني لهذه البروتينات يمكنها في الحقيقة أن تكون منصبة على تحسين طريقة قيام هذه المركبات بوظيفتها كعقاقير معالجة تستمر مددا طويلة.

 

من المغري أن نرى تطور استخدام الحيوانات المحورة جينيا كمفاعلات حيوية على أنه نصر تقاني، وبخاصة أن تاريخ علم المفاعلات الحيوية يوضح محدودية العمل الذي يمكن للناس إنجازه عند استعمالهم المعدات المتقدمة. ومن جانب آخر، فقد تم رفع كفاءة الغدة الثديية لتحافظ على كثافة عالية من الخلايا، ولتزود هذه الخلايا بفائض من الغذيات، ولتوجه إنتاج البروتين القيّم بحيث يسهل جَنْيُهُ. وبهذا برهنت النسج الثديية على تفوقها غير المحدود على أي جهاز لزراعة الخلايا حتى ولو استخدمت فيه هندسة الوراثة لإنجاز أهدافه. ونضيف أيضا أنه بالرغم من جميع الجهود لتحسين إمكانات زراعة الخلايا على نطاق صناعي، فقد اتضح أن جيلا من مهندسي الكيمياء الحيوية كانوا غير قادرين على مضاهاة القدرات المتوافرة في جهاز صناعة البروتينات الذي سبق أن صممته الطبيعة.

 

المؤلفون

W. H. Velander – H. Lubon – W. N. Drohan

لمدة عقد تقريبا، عملوا معا على تطوير العقاقير النادرة من الحيوانات المحوّرة جينيا. ڤلاندر أستاذ هندسة الكيمياء الحيوية في معهد فرجينيا للتقانات وجامعة الولاية. وقد حصل على الدكتوراه من جامعة ولايةپنسلڤانيا في العام 1987. ونال لوبون الدكتوراه من الأكاديمية الزراعية في بولندا عام 1981، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة عام 1990، وعمل في معهد الصحة الوطني وفي مختبر <H .J. هولاند> التابع للصليب الأحمر الأمريكي، وهو الآن ضمن هيئته العلمية. أما دروهان فقد حصل  على الدكتوراه في العام 1974 من مدرسة الطب التابعة لجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس. وبعد عمله في الصناعة وفي المعهد الوطني للصحة NIH، انضم إلى مختبر <H .J. هولاند> في العام 1987، ويشغل الآن منصب مدير قسم مشتقات الپلازما.

 

مراجع للاستزادة 

THE REGULATION OF NATURAL ANTICOAGULANT PATHWAYS. Charles T Esmon in Science, Vol. 235, pages 1348-1352; March 13,1987. T

RANSGENIC ANIMALS. Rudolf Jaenisch in Science, Vol. 240, pages 1468-1474; June 10, 1988.

THE EXPRESSION OF THERAPEUTIC PROTEINS IN TRANSGENIC ANIMALS. Rekha Paleyanda, Janet Young, William Velander and William Drohan in Recombinant Technology in Hemostasis and Thrombosis. Edited by L. W Hoyer and W N. Drohan. Plenum Press, 1991.

THE PORCINE MAMMARY GLAND AS A BIOREACTOR FOR COMPLEX PROTEINS. Tulin Morcol, Robert M. Akers, John L. Johnson, Barry L. Williams, Francis C. Gwazdauskas, James W Knight, Henryk Lubon, Rekha K. Paleyanda, William N. Drohan and Willam H. Velander in Recombinant DNA Technology, Vol. 2: Special issue of Annals of the New York Academy of Science, Vol. 721, pages 218-233; May 2, 1994.

Scientific American, January 1997

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى