أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم النبات

غراميات النباتات


غراميات النباتات

صنف كارل لينيه النباتات تبعا لأجزائها

التكاثرية، وحدد حياتها الجنسية طبقا لقيم

القرن الثامن عشر في هذا المضمار.

<L. شيبِنْگر>

 

لقد نظم الخالق الأوراق الزهرية بشكل رائع كفِراش زوجي، وزينه بستائر فخمة وعَطَّره بروائح جميلة فوّاحة يستطيع العريس بوساطتها أن يحتفل مع عروسه برباط الزوجية برزانة ووقار عظيمين. وبعد أن يتم تحضير فراش الزوجية بهذه الفخامة والبهاء يكون قد آن الأوان للعريس أن يحتضن عروسه المحبوبة وأن يمنحها هداياه…، هذا ما ذكره كارل لينيه في المخطوطة Praeludia Sponsaliorum Plantarum عام 17299.

 

إن الباحثين منذ أرسطو حتى داروين ومن أتى بعده، شرّبوا الطبيعة بفكرة الجنسية sexuality والجنس gender وغرسوها فيها. وبذلك لا يكون المصنف السويدي العظيم <كارل لينيه> وحيدا في تصور النباتات وكأنها تحوي مهابلvaginas وأحاليل penises وأنها تتكاثر على «فراش زوجي». وعلى الرغم من أن علماء التاريخ الطبيعي قد مالوا للاعتقاد بأن الجنس هبة الطبيعة، فقد تبدلت الميزات التي نسبت إلى المتعضيات (الكائنات الحية) بتبدل مفاهيم الذكورة والأنوثة في الثقافة الغربية. فقد بين أرسطو أن الفَرس شَبِقَة وقادرة على إشباع رغبة «الحصان» الجنسية القوية من دون قيود. لكنه تبين في القرون التالية أن الإناث في الطبيعة ـ ما عدا أزهارَ لينيه الشبقة ـ تُظهر بوضوح نمطا من الحياء والاحتشام. حتى في أوساط الحشرات، لوحظ أن الإناث ترفض المحاولة [الجنسية] الأولى للذكر وتعافها،» وهي تقوم بذلك لاكتساب احترام خليلها (أليفها) ومودته.

 

لقد أثار العلمُ العقولَ وهيّج القلوبَ منذ عصر النهضة لتبشيره بأفكار واتجاهات محايدة تسمو على الحياة السياسية الرعناء المتدهورة والتي كانت سائدة في ذلك الوقت. ومع تقديم كل الاحترام للمرأة، فإن العلم ليس ثقافة محايدة. فالجنس، بما فيه من علاقات حقيقية بين الجنسين ومدلولات ثقافية لهذه العلاقات، قد شَكَّل التاريخ الطبيعي الأوروبي وبخاصة علم النبات. إضافة إلى ما سبق، فإن الأوروبيين الذين كتبوا عن الطبيعة في ذلك العصر كانوا من الذكور بشكل كلي تقريبا.

 

ومن سخرية القدر في هذا السياق، أن علم النبات قد اعتُبر فترة طويلة علما ملائما «للمرأة» بشكل خاص. وقد اشتهر علم النبات بأنه علم نِسَوي وفرع تزييني من العلوم يلائم «المرأة»، بحيث صار البعض يتساءل عما إذا كان بإمكان الشبان القادرين والمؤهلين أن يبحثوا في هذا العلم. وفي إحدى المرات قارن هيگل عقل المرأة بعقل النبات لأن كليهما في نظره هادئ بشكل أساسي. وقد اعتبر مجتمعُ القرن الثامن عشر علمَ النبات تسلية ملائمة لسيدات الطبقة الوسطى، لأنه يسمح لهن بالخروج إلى الهواء الطلق ويعلمهن نظاما تثقيفيا معينا. ويتمثل ذلك، جزئيا، بالارتباطات التاريخية بين علم النبات والمداواة بالأعشاب، وهو عالم نشطت فيه النساء عادة لقيامهن بالعمل كقابلات (مولدات)midwives.

 

وبذلك اعتُبر علم النبات أقل العلوم عدوانية وإزعاجا للروح المرهفة. وكما أشار روسو، فإن طالب التشريح كان عليه مواجهة الدم النازّ oozing blood والجثث النتنة، كما كان على عالِم الحشرات التعامل مع الحشرات التافهة الحقيرة، وكان على الجيولوجي مواجهة الأوساخ والقذارات. وبعد لينيه، أثارت دراسة النباتات الانتباه نحو الجنسية بشكل أكثر مما يلائم السيدات. لكن علم النبات مازال وباستمرار يُعتبر أكثر ملاءمة للنساء وبخاصة في إنكلترا باعتباره علما يؤدي إلى إدراك عظمة الخالق والكون.

 

ثمة توضيح بالطبع يتناول صدور توجيه هام للنساء ينص على أن طموحهن في علم النبات يجب ألا يتعدى حد الهواية. فقد حذر عالم النبات الإنكليزي <Th. مارتن> النساء بالابتعاد عن إتقان «السجلات الطويلة للكلمات اللاتينية»، وشجع «مواطناته» على تسلية أنفسهن بالتاريخ الطبيعي، فالدراسة الجدية للعلوم يجب أن تقتصر على الرجال. وقد اعتقد روسو وآخرون أن النساء يفتقرن لعبقرية معينة هي «الإلهام الرباني» الذي يوقد الروح والذي يتطلبه الابتكار والإبداع العلمييْن الحقيقيين. لقد كانت النساء في عهد روسو محرومات بشكل رسمي من دخول الجامعات والهيئات العلمية. واتجهت العالمات البارزات القليلات في الفترة الأولى من أوروبا الحديثة نحو الرياضيات والفيزياء والفلك والرسومات العلمية من خلال طرق ووسائل أقل رسمية من الجامعات مثل صالونات النخبة والمصنفين المحترفين. لكن هؤلاء النسوة استطعن أن يتعلَّمن وأن يدركن حدودا علمية معينة. فقد سافرت <ماريا سيبلا مريان> الرسامة النباتية المغامرة وعالمة الحشرات إلى مستعمرة سورينام الهولندية في أواخر القرن السابع عشر للبحث عن يرقات دخيلة. وقدمت ملاحظاتها في مجلدات حِرَفِيَّة متقنة، لكنها تركت مجال التصنيف النباتي لرفاقها الذكور.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H02_006868.jpg

يلهم إله الحب (كيوبيد) النباتات الحب في هذه اللوحة التي هي من أعمال <R. ثورنتون> Temple of Flora (لندن، 1805). أثارت الحياة الرومانسية للنباتات الاهتمام بعد أن حظي نظام لينيه الجنسي في تصنيف النباتات بالقبول والانتشار.

 

وعلى الرغم من الغزوات النسائية القليلة في عالم النبات، فقد بقيت النساء فترة طويلة على هامش الحياة الثقافية والعلمية. وكما سنرى، فإن المفاهيم الأوروبية الدينية عن الجنس وسلطته صارت مبادئ فعالة تُنظم التاريخ الطبيعي للقرن الثامن عشر، وهذا يعكس النظرة إلى الطبيعة كمجال منطقي يكمن فيه شعاع الأمل في الإصلاح الاجتماعي في ذلك العصر.

 

حياة النبات الخاصة

لم يعترف علماء الطبيعة الأوروبيون بالتكاثر الجنسي للنباتات حتى القرن السابع عشر. يجب أن لا نغفل أن العالم القديم كذلك كان له بعض المعرفة بالتمييز الجنسي لدى النباتات. فقد عرف عالِم التاريخ الطبيعي الإغريقي ثيوفراستوس عملية إخصاب النخيل القديمة العهد بوساطة تعليق الأزهار المذكّرة على أشجار النخيل المؤنّثة. وعرف أيضا المزارعون تمييز الجنس بين الأشجار مثل شجرة الفستق. لكن الجنسية النباتية لم تكن موضع اهتمام علماء التاريخ الطبيعي في العالم القديم. ولاحظ علماء القرن الثامن عشر أن القدماء كانوا يجهلون أسس تميز الجنسية النباتية (الجنس في النباتات) plantsexuality، فقد سمّوا النبات الحامل للبذور أحيانا بالنبات «المذكر» والعقيم «بالمؤنث.»

 

أدت رحلات المستكشفين وجامعي العينات بين عامي 1550 و1700 واتساع المستعمرات الأوروبية إلى تراكم العينات وتضاعف عدد النباتات المعروفة أربع مرات. وكان على النباتيين أن يبحثوا عن طرق جديدة لتنظيم هذا العدد الهائل الجديد من العينات النباتية. وفي أثناء بحث المصنفين عن مبادئ بسيطة تكون مقبولة عالميا في مجال التصنيف النباتي انتقل اهتمامهم من منحى الاستعمال الطبي للنباتات إلى منحى أكثر عمومية وهو التصنيف البحت.

 

وعندما تفجرت الجنسية النباتية في موضوع التصنيف النباتي تعدى الاهتمامُ في إعطاء دور للجنس في النباتات فهمَ موضوع الإخصاب النباتي، أو «جماع الخضروات» كما كانت تسمى في بعض الأحيان. إن عالِم التاريخ الطبيعي الإنكليزي <N. گرو> الذي طور نظريته حول الجنسية النباتية من معرفته بالحيوانات، عرَّف في البدء السداة stamen بأنها العضو الذكري في الزهرة وذلك في موسوعته تشريح النباتات التي صدرت عام 16822:

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H02_006869.jpg

دورة حياة نبات الزعفران saffron crocus كما بينها <J. ميلر> في شرح توضيحي لنظام لينيه التصنيفي الجنسي (عام 1770). يوضح الشكل أجزاء النبات وبخاصة الزهرة ذات الأسدية الثلاث (أعضاء مذكرة) والمدقة الواحدة (عضو مؤنث). يؤدي عدد الأجزاء الجنسية إلى تصنيف النبات وتسميته triandria monogynia (أي ثلاثي الأزواج «الأسدية» وحيد الزوجة «المدقة»).

 

فالنصل [أو السداة] لا يختلف عن الإحليل الصغير وهو مغطى بغمد كما هي [القلفة] prepuce… والأكياس (العليبات) تشبه الخصى الصغيرة المتعددة. والكرات الصغيرة [أي حبات الطلع (اللقاح) pollen] والجسيمات الصغيرة الأخرى الموجودة فوق النصل (أو الإحليل)… تشبه النطاف. وحال انتصاب القضيب، تسقط هذه النطاف النباتية على خباء البذور (أو الرحم)، فتلامسها وتؤدي إلى إخصابها.

 

تم إثبات علاقة الشبه بين الجنسية النباتية والجنسية الحيوانية في أوائل القرن الثامن عشر. وبيَّن لينيه في المخطوطة Praeludia Sponsaliorum Plantarumالعلاقة بين التعابير العلمية الجنسية في النبات والحيوان. فخيوط filamentsالأسدية في الذكور تقابل القناة الدافقة vas deferens. والمآبر anthers هي الخصى وحبات الطلع (اللقاح) التي تسقط منها هي السائل المنوي. أما في الإناث، فالميسم stigma هو الفرج والقلم style هو المهبل وأنبوب المدقة هو قناة فالوب، أما غلاف الثمرة pericarp فهو المبيض المخصب وتقوم البذور مقام البيوض. حتى أن الطبيب الفرنسي <O .J. دو لا متري> وبعض علماء التاريخ الطبيعي في عصره، ادعوا أن مخزون العسل الموجود في غدد النبات الرحيقية يماثل حليب الأم لدى البشر.

 

ومعظم الأزهار خنثوية، أي أنها تحتوي على الأعضاء المذكرة والمؤنثة معا. وكما قال أحد النباتيين في القرن الثامن عشر هناك جنسان: مذكر ومؤنث، لكن الأزهار النباتية توجد بثلاثة أشكال: مذكر ومؤنث وخنثوي. وعلى الرغم من أن معظم النباتيين قد تقبّل ازدواجية الشكل بحماس إلا أن تقبل الاعتقاد بخنثوية النباتات كان أكثر صعوبة: فلم يستطيعوا الاعتراف بنمط جنسي غير مألوف. وحتى بعد أربعين عاما، عندما صار تصنيف لينيه شائعَ الاستعمال فإن <W. سميلي> المؤلف الرئيسي للطبعة الأولى من الموسوعة البريطانية (عام 1771) رفض فكرة الجنسية النباتية بمجملها وأبعد نفسه عن تعبير «خنثوي» مشيرا عند استعمال الكلمة بأنه إنما يتكلم بتجرد عن «لغة النظام التصنيفي.»

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H02_006870.jpg

مفتاح لينيه لنظامه التصنيفي الجنسي، والمفصل في الجزء الأيسر من الشكل، مأخوذ من مؤلَّفه المجموعة الطبيعية Systema Naturae (طبعة عام 1759). أخذت الترجمة (في الجزء الأيمن من الشكل) من نظام الطبيعة العام، من خلال الممالك الثلاثة الكبيرة General system of Nature, Through the three Grand Kingdoms لمؤلفه <W. تورتون> (عام 1802). يشير الشكل إلى أن النباتات قد صُنِّفت تبعا لأنماط زواجها. فالنباتات ذات الأزهار المرئية علنية الزواج، أما النباتات الأخرى فزواجها سرِّي. إذا وجدت الأزهار المذكرة والأزهار المؤنثة على النبات نفسه فإن «الزوج» و«الزوجة» يتشاركان في المنزل (المسكن)، لكن إذا وجدت الأجزاء الذكرية والأنثوية في الزهرة نفسها فإن الزوج والزوجة يتشاركان في الفراش. يُحدد عدد الأزواج في الفراش الواحد صفوف النباتات، أما رتب النباتات فإنها تعتمد على عدد الزوجات، وهي غير موضحة في هذا الشكل.

 

الفراش الزوجي

استمر معظم علماء النبات الأوروبيين في إعطاء الأولوية من دون مبرر للتكاثر الجنسي في النباتات. فاهتم لينيه كليا بالتزاوج متغاير الجنس، معترفا بأن التركيب الفريد والوضع المميز للأسدية والمدقة جَذَبا انتباهه لمعرفة ما تخبئه الطبيعة فيهما. حتى أن لينيه ردَّ التكاثر الجنسي إلى «نباتاته التي تتزاوج سرّا» cryptogamia، وقَصَد بذلك الطحالب والسراخس والحزازيات (الأشنيات) والفطريات التي لم تُفهَم طرقها الجنسية في ذلك الوقت. وقد بينت حقيقةُ تسمية التكاثر اللاتزاوجي بالتكاثر اللاجنسي في النباتات التحيزَ لاعتبار التكاثر الجنسي هو الطبيعي.

 

لا تتصف نباتات لينيه بالجنس فحسب بل أصبحت في الواقع «أزواجا» و«زوجات.» وقد أدخل لينيه تعابير علمية جديدة في وصف الأزهار النباتية، فَرَفَض التعبيريْن القياسيّين المستعملين وهما «السداة» و«المدقة» واستعاض عنهما باللاحقتين andria وgynia اللتين اشتقهما من اللغة اليونانية وتشيران إلى الزوج (aner) والزوجة (gyne). إن «مفتاح لينيه للنظام التصنيفي الجنسي» الذي نشر في كتاب Systema Naturae عام 1737، بُني على nuptiae plantarum: أي الزواج في النباتات. فإذا وجدت الأزهار المذكرة والأزهار المؤنثة على النبات نفسه فإنها تتشارك بالمسكن نفسه (وحيدة المسكن monoecia)، لكنها لا تتشارك بالفراش نفسه. وإذا توضعت على نباتين منفصلين فإنها تعيش في مسكنين مستقلين (ثنائية المسكن dioecia). أما الأزهار الخنثوية hermaphroditic flowers  فتحتوي على الأزواج والزوجات في فراش واحد (وحيدة الفراش monoclinia).

 

تعتمد «صفوف» classes لينيه النباتية على عدد الأسدية المذكَّرة ونسبتها وموضعها، وتنتهي بالمقطع andria. «فوحيدة الرَّجُل» monandria، تعني وحيدة السداة (أو الزوج) في الزهرة الخنثوية. وتمثل كلمة diandria سداتين (أو زوجين)، وهكذا. وقسمت الصفوف إلى 65 رتبة order تقريبا بالاعتماد على عدد المدقات الأنثوية ونسبتها وموضعها، وتسمى وحيدة المدقة، ثنائية المدقة، ثلاثية المدقة، وهكذا؛ منتهية بالمقطع gynia. وبذلك فإن زهرة نبات الزعفران الحاوية ثلاث أسدية ومدقة واحدة تعرف تصنيفيا ثلاثيةَ الزوج أحاديةَ الزوجة triandriamonogynia. كما قُسمت الرتب إلى أجناس genera بالاعتماد على الكأس calyxوالزهرة وأجزاء أخرى من الثمرة؛ ثم قُسمت الأجناس إلى أنواع species بالاعتماد على الأوراق أو بعض الصفات الأخرى في النبات. وقُسمت الأنواع أيضا إلى أصناف (ضروب) varieties.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H02_006871.jpg

 

أكد لينيه على «تزاوج» النباتات الحية بقدرِ ما أكد على علاقاتها الجنسية. وقبل أن تمارس «زواجها القانوني»، ترتدي الأشجار والشجيرات «حلة الزفاف» فتتفتح بتلات petals الزهرة على شكل «فراش الزوجية» من أجل العريس قليل الخبرة وعروسه المدللة، وفي الوقت نفسه توفر ستائر التويج(1) corolla للعروسين المحبين العزلة والسرية. قسم لينيه العالم النباتي بالاعتماد على نمط الزواج الذي تتبعه، فمنها نباتات ذات زواج «علني» ونباتات ذات زواج «سرِّي.» (تتضمن المجموعة الأخيرة اللازهريات.) وقد عكس هذان النمطان من الزواج في الواقع عادات الزواج التي كانت سائدة حينذاك في معظم أنحاء أوروبا. واستمرت عادات الزواج هذه في إنكلترا حتى عام 1753 عندما صدر قانون اللورد هارويك الذي ألزم المتزوجين سرا باستصدار تصريح علني (كنسي banns) كي يُصبح مشروعا.

 

تجدر الإشارة إلى أن لينيه، وهو ابن أحد الريفيين السويديين، قد ركز على الزواج عندما فكر في الجنسية. وكانت عادات الزواج الأوروبية خضعت وقتذاك لتغيرات سريعة، حيث كانت التقاليد السائدة من قَبْل في طريقها إلى الزوال. فأفراد الطبقة العليا والفلاحون الموسرون نادرا ما كانوا يعتمدون في زفاف أولادهم على أسس المُلْكِيّة الخاصة التي تتمتع بها الأسرتان المتصاهرتان. وصار الحب والعاطفة سببيْن مشروعين للزواج بشكل متزايد. فكان زواج لينيه نفسه وفق هذا النمط الأخير، إذ غازل بمزيد من التعابير العاطفية المليئة بالحب والحنان خطيبته <سارا موريا> وهي ابنة طبيب سويدي ثري. وبعد الزواج، ترك لينيه إدارة المنزل كليا لزوجته المحبوبة في حين كرس نفسه للعمل في مجال الطبيعة وتفرغ له.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H02_006872.jpg

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N4_H02_006873.jpg

سافرت <S .M. ميريان> (في الأعلى) إلى مستعمرة سورينام الهولندية عام 1699، وكان عمرها (52) سنة، لرسم مجموعاتها النباتية والحيوانية. يمثل الشكل (في اليسار) زهرة الآلام passionflower وثمرتها. وعلى الرغم من أن ميريان كانت ملاحظة جيدة للحياة النباتية وحياة الحشرات فإنها لم تتجرأ وتجازف بالدخول في عالم الرجل، أي عالم التصنيف النباتي.

 

ربما تكون نباتاتُ لينيه قد احتفلت بزواجها، لكن معظمها لم تشترك في «زواج قانوني» مثالي. فقط صف واحد من النباتات، وهو وحيد الزوج ممثلا بالجنس القنّا Canna هو الذي يمارس «زواجا أحاديا» monogamy، أما النباتات في الصفوف الأخرى فإنها مزواجة polygamy، ويتراوح عدد «الأزواج» فيها بين 2 و3 و20 زوجا أو أكثر يتشاركون في فراش الزوجية (أي تويج الزهرة) مع زوجة واحدة فقط. فالسوسن الشائع مثلا ثلاثي الأزواج.

 

لم يُحدد <E. داروين> (وهو داعية لينيه في إنكلترا وجَدُّ شارل داروين المشهور) العلاقات الجنسية بروابط الزواج المقدسة. ففي كتابه غراميات النباتات (1789) أبدت نباتاته بحُرِّيَة كل شكل يمكن تصوره من الارتباط الجنسي المتغاير. فتُبادل زهرةُ نبات بقلة الأوجاع Collinsonia الحبَّ أخوين بالتناوب وتطارحهما الغرام. وتنحني زهرة نبات الربيع العطري Meadia  «للهواء المفعم بالمرح والابتهاج» ناظرة بعينيها السوداوين تارة باتجاه ما وتارة باتجاه آخر ومموجة شعرها الذهبي لإغواء عشاقها الخمسة وجذبهم إليها. وفي الأسطر التالية، صوّر داروين النتاج المأساوي لزهرة نبات الباهرة الهندية Gloriosa superba وهي ترفض بإصرار محاولات الاغتصاب والسفاح التي يقوم بها ابنها:

كان عنيفا في لياقته واستعداده، يحدق بغيرة،

ركع على ركبة واحدة، فاردا ذراعيه برغبة شديدة،

سرق نظرة عديمة البراءة نحو الفراش،

ثم تنفس من الشفاه المرتعشة وهمس آخذا على نفسه عهدا،

وحنى في النعيم طلعته الشاحبة غير نادم،

«وهكذا»، بكى، وأولج سهمه الغاضب المهتاج،

وقد امتزجت الحياة والحب بشكل متدفق من قلبه العاشق الولهان.

 

ربما يكون داروين قد استغل علم النبات واستخدمه غطاء دعائيا لحرية الحب الذي كان يمارسه بعد وفاة زوجته الأولى. لكنه ليس ثمة دليل عما إذا كان لينيه قد قصد برؤيته الجنسية لعلم النبات تقويض العادات الاجتماعية التي كانت سائدة في عصره. فقد ترعرع في أسرة ريفية مستقيمة كادحة، وكان محافظا في أفكاره الدينية (لقد احتفلت الطبيعة كلها بجلال خالقها وعظمته) وبموقفه من المرأة. فلم يسمح لبناته الأربع بتعلم اللغة الفرنسية لخشيته من تبنيهن العادات الفرنسية المتحررة. وعندما أرسلت زوجته ابنتهما (صوفيا) إلى المدرسة، استشاط غضبا وألزمها بترك المدرسة فورا ومنعها من التعلم الذي كان يعتبره «سلوكا أحمق»، (لكنه سمح لابنته الكبرى بتنمية اهتمام لا بأس به بعلم النبات. فقد أسهمت ابنته <E. كريستينا> في نشرة عنوانها «ملاحظات حول الظهور الواضح لنبات الرشاد الهندي» نشرت في محضر جلسة الأكاديمية الملكية للعلوم).

 

وبذلك يُعتَقد أنه من المستبعد أن يكون لينيه قد قدم تخيلاته الجنسية وطرحها لمجابهة حساسيات الطبقة الوسطى. وتمشيا مع العادات الاجتماعية في عصره، كان يرى ببساطة كل شيء أنثوي بأنه زوجة. فقد اعتبر <مادلين باسبور> ـ الرسامة النباتية المشهورة التي كانت تعمل في حديقة الملوك في باريس ـ زوجته الثانية. واعتبر «السيدة طبيعة» Nature زوجته الأخرى ورفيقته المساعدة الحقيقية. كما اعتبر زوجتَه الحقيقية «الزنبقةَ وحيدة السداة (وحيدة الزوج)» باعتبار أن الزنبقة بتولٌ ورمزٌ للعذرية.

 

كان نظام لينيه التصنيفي واحدا من عدة نظم تصنيفية مقترحة. وفي عام 1799 أي بعد عشرين سنة من وفاة لينيه نشر عالم التاريخ الطبيعي الإنكليزي <R. ثورنتون> نسخته المفضلة لنظام لينيه التصنيفي وأحصى (52) من النظم المختلفة لتصنيف النباتات. وقد اشتكى البعض من أن هذا «الجنون التصنيفي النباتي» كان «وبائيا» حقا. وقبل قرن من ذلك التاريخ ابتكر <J. راي> في إنكلترا وسائل لتصنيف الأجناس النباتية اعتمدت على الزهرة وكأسها والبذرة وغلافها. وفي فرنسا، عرّف <J. دو تورنفور> الأجناس النباتية بشكل رئيسي بالاعتماد على خواص التويج والثمرة. وفي القرن الثامن عشر، أشار المصنف السويسري <A. ڤون هالر> إلى أن الجغرافيا ضرورية لتفهم حياة النبات وأنه يجب تضمين أي نظام تصنيفي كل ما يتعلق بفترات تنامي النباتات وظهورها.

 

وعلى الرغم من تعدد النظم التصنيفية وتنوعها، بدا تصنيف لينيه بسيطا ومناسبا، لذا جرى تبنيه بشكل واسع وسريع في أوروبا وبخاصة في إنكلترا بعد عام 1740. لكن جدلا عنيفا شب مباشرة حول المدلولات العلمية والأخلاقية لتصنيف لينيه. لقد هاجم «معارضو التصنيف الجنسي»، عمل لينيه بادئين بذلك الخلاف والجدل الذي امتد طوال القرن التالي. فكيف يستطيع إنسان متعصب مثل <J. سيفسبيك> (وهو أستاذ في القديس بطرسبرگ) أن يعتقد أن الله بجلاله يقدم مثل هذا «البغاء الكريه» ـ الذي تعافه النفس وتستنكره ـ إلى المملكة النباتية؟ وفي عام 1790 استنكر سميلي حدوث هذا «الإغراء والاغتصاب الفاتنين» لدى الأفراد المتماثلة والمتناظرة اللذيْن اعتمدت عليهما الفرضية الجنسية، وأشار إلى عدم قدرة هذه الفرضية على الصمود أمام الحقائق التجريبية. فبيّن أن حيوانات كثيرة (مثل المرجان) تتكاثر من دون اتصال جنسي. فإذا كانت هذه النماذج الحية محرومة من «جميع ممارسات الحب والعشق والغرام» فكيف يمكننا أن نقبل أو نتصور أن شجرة كالسنديان أو فطرا من الفطور يمارس هذه الاتصالات الجنسية ويستمتع بها؟

 

إضافة إلى ارتيابه الخَلْقي، فقد استنكر سميلي قيام لينيه باستخدام التشابه والتناظر في «أمور أبعد من الحدود الأخلاقية»، مدعيا أن استعاراته كانت غير محتشمة وفاقت حدودَ أكثر «الكتابات الغرامية فُحْشا ودعارة.» لقد شاطر سميلي آخرون هذا الرأي. ففي عام 1808 كتب القس <S. گودانف> ـ الذي أصبح فيما بعد أسقف كارليل ـ إلى جمعية لينيه أن «الترجمة الحرفية لمبادئ لينيه الأولى في علم النبات كانت كافية لخدش حياء المرأة واحتشامها.» وبفضل هذه المعارضة لأفكار لينيه التصنيفية فإن الكتّاب الذين تبنوا نظامه التصنيفي وأيدوه في إنكلترا لم يستفيدوا كثيرا من تخيلاته الجنسية ولم يستعملوها باستثناء <E. داروين>.

 

وفي خضم الصخب الذي أحاط حماس لينيه لاستخدام الجنس في تصنيف النباتات، لم يلاحظ أحد أن تصنيفه قد بُني على المفارقات الجنسية المستوردة إلى النبات من المعتقدات الجنسية الأوروبية التقليدية. وكان لينيه من بين أول من سلَّط الضوء على الأهمية الحيوية للتكاثر الجنسي في النباتات. لكن نجاح نظامه التصنيفي لم يعتمد على أنه حقيقة «طبيعية» تتضمن قدرة الخالق في الطبيعة وهو ما كان يهدف إليه من دون أن يستطيع الحصول عليه. في الواقع اعترف لينيه أن نظامه التصنيفي كان صنعيا. لقد ركز على الملامح الشكلية البحتة مثل عدد المشاركين جنسيا. لكن عدد الأسدية والمدقات في الواقع يمكن أن يتبدل في الأزهار المختلفة للنبات الواحد، وهي حالات لم يقدم لينيه لها الحلول المناسبة. فكان يضع في بعض الأحيان النباتات ذات العدد المختلف من الأسدية في الصف نفسه جاعلا بذلك نظامه العددي تافها بلا معنى.

 

الجنسية التصنيفية

إضافة إلى ذلك، استنبط لينيه نظامه التصنيفي بشكل يحدد فيه عددُ الأسدية في النبات الصفَّ الذي ينتمي إليه. أما عدد المدقات فيحدد الرتبة. ويأتي الصف في مرتبة أعلى من الرتبة في شجرة التصنيف. وبذلك فقد أعطى لينيه الأعضاء الذكرية الأولويةَ في تحديد موضع النبات في المملكة النباتية من دون مبرر تجريبي. وبذلك يكون لينيه قد جلب المعتقدات التقليدية لسلطة الجنس إلى العلم. وعلى الرغم من أن تصنيفه للرتب النباتية الأعلى من الجنس genus قد تم التخلي عنه الآن فإن معظم الأجناس والأنواع النباتية التي وضعها قد كُتب لها البقاء.

 

لماذا أصبحت دراسة جنسية النبات من الأولويات لدى معظم علماء النبات في القرن الثامن عشر؟ فهناك طرق كثيرة ومختلفة لمعرفة الطبيعة. وقد يكون العامل الهام في جلب انتباه علماء التاريخ الطبيعي إلى جنسية النباتات والحيوانات هو مجرد الاهتمام بالفروق الجنسية لدى الإنسان. وقد طرح هذا العصر ـ عصر الصحوة الديمقراطية ـ «مشكلة المرأة»، أي مشكلة الحقوق الاجتماعية للمرأة وامتيازاتها. لكن البعض في ذلك العصر كانوا يعطون الفرق الجنسي وزنا كبيرا في عقولهم، وبخاصة عندما أصدرت أوروبا بعد نهضتها وتنوّرها المبدأ الذي ينص بأن «الرجال جميعا متساوون في الطبيعة.»

 

إذا لم تُمنح المرأة حقوقا متساوية مع الرجل في الدول الديمقراطية الجديدة (وفي واقع الأمر لم يتحقق لها ذلك)، فلا بد من وجود أسباب طبيعية تبرر استثناءها. وعلى افتراض أن لينيه وجد أن الجنسية في المملكة النباتية تؤكد التفرقة الجنسية التقليدية في أوروبا، فقد اهتدى المفكرون في ذلك العصر إلى الاعتقاد بأن خضوع المرأة للأب أو الزوج تمليه الطبيعة. وقد خاطب روسو الكثيرين عندما كتب أن على فلاسفة الطبيعة أن يقرؤوا في كتاب الطبيعة العظيم عن كل شيء يتلاءم مع تكوين المرأة من حيث النوع والجنس حتى تتمكن من القيام بدورها الأساسي الذي يعتمد على تكوينها الجسماني والأخلاقي.

 

فلو تشاركت المرأة في العمل مع مصنفي القرن الثامن عشر، هل كان ذلك سيؤدي إلى اختلاف الوضع؟ من الصعب أو المستحيل البت في ذلك. فيجب ألا يؤثر جنس العالم في نتائج علمه. لكن مجال العمل الحديث ـ الذي تبلور أثناء عصر النهضة وتَنَوُّر العالم والذي كان العلم مجالا من مجالاته ـ كان حكرا على الرجال. يقرأ الباحثون الطبيعة من خلال عدسات العلاقات الاجتماعية بطريقة تؤدي إلى جعل لغة علم النبات والعلوم الطبيعية الأخرى تشتمل على أمور أساسية من العالم الاجتماعي بالمقدار نفسه الذي تشتمل فيه على أمور من العالم الطبيعي.

 

لقد كان لنقد المرأة للعلم ـ ودخولها بشكل متزايد في صنع المعرفة أثناء العقود القليلة الماضية ـ تأثير هائل في العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الأخرى. وقد بدأت النسوة في الكشف عن عمق تأثير الجنس في الطبيعة. فالعرض التاريخي ليس كافيا بالطبع، لأن ما يُكشف عنه في الليل تُخفيه المؤسسات العلمية في النهار. ويجب أن يعي العلماء كيف يعتمد ظهور الأمور المدروسة (أو المهملة) على من أجرى الدراسة وعلى ما تنتهي إليه، إضافة إلى كيفية هيكلة الثقافة للعلم.

 

 المؤلف

Londa Schiebinger

أستاذة التاريخ والدراسات النسوية والمديرة المؤسِّسة لقسم النساء في معهد العلوم والهندسة بجامعة پنسلڤانيا الحكومية. حصلت على الدكتوراه من جامعة هارڤارد عام 1984. وهي عضوة نشيطة في الحركة المطالبة بزيادة عدد النساء والأقليات في ميادين العلم. وتؤلف كتابا عن دور المرأة في الثقافة العلمية المعاصرة، وسيصدر العام القادم ضمن منشورات جامعة هارڤارد.

 

مراجع للاستزادة 

FEMINISM AND SCIENCE. Edited by Nancy Tuana. Indiana University Press, 1989.

THE MIND HAS NO SEX? WOMEN IN THE ORIGINS OF MODERN SCIENCE. Londa Schiebinger. Harvard University Press, 1989.

MYTHS OF GENDER: BIOLOGICAL THEORIES ABOUT WOMEN AND MEN. Anne Fausto-Sterling. Basic Books, 1992.

SECRETS OF LIFE, SECRETS OF DEATH: ESSAYS ON LANGUAGE, GENDER AND SCIENCE. Evelyn Fox Keller. Routledge Press, 1992.

NATLIRE’s BODY: GENDER IN THE MAKING OF MODERN SCIENCE. Londa Schiebinger. Beacon Press, 1993.

Scientific American, February 1996

 

(1) هو الغلاف الداخلي المحيط بالأَسْدِيَة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى