أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
العلوم البيئية

تقانة من أجل زراعة مستدامة


تقانة من أجل زراعة مستدامة

من الضروري أن تكون الثورة الخضراء القادمة على درجة من

التطور تجعلها قادرة على زيادة الغلات مع حماية البيئة أيضا.

<L .D. پلاكنيت> ـ <L .D. وينكلمان>

 

سيتعين على المزارعين أن يجابهوا تحديات هائلة في مضمار تعلم إدارة تقانات يتزايد تقدمها باستمرار. وعليهم تحقيق ذلك بطرق تكفل زيادة إنتاجية مواردهم مع حماية البيئة في الوقت نفسه. وهذه الغاية المعقدة يفترض أن تكون في متناول البلدان الغنية، حيث (وهنا تكمن المفارقة) الغذاء متوافر وبأسعار ميسورة والنمو السكاني بطيء وآليات موجودة يمكنها على الأقل حل بعض من المشكلات البيئية المرتبطة بالزراعة. ولكن من المؤكد أن إدراك هذه الغاية سيكون مهمة شاقة في البلدان النامية، حيث يزيد عدد السكان بنحو بليون نسمة في كل عقد وحيث يعاني، فعلا، مثلُ هذا العدد تقريبا من البشر سوءَ التغذية وحيث رأس المال الاجتماعي socialcapital اللازم لحماية البيئة محدود جدا.

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N12_H02_006505.jpg

إن إدارة مكافحة الآفات تعني بالنسبة لمزارع كثيرة استخدام مبيدات آفات كيميائية قوية المفعول (في اليسار)، ولكن البدائل بدأت تظهر. فزارعو الفراولة (الفريز) في كاليفورنيا، مثلا، يمكنهم استخدام فرّاغات هواء مركبة على جرارات (الأسفل) للتخلص من بعض الحشرات.

 

وكثرة من مناطق الكرة الأرضية الأقل نموا حالتها حرجة بالفعل. ففي أشد البلدان فقرا تشغل الزراعة الآن ما يصل إلى 80 في المئة من القوة العاملة، وينفق ما يقرب من نصف ميزانية الأسرة العادية على المواد الغذائية. ولا يمكن أن يزيد الدخل في تلك البلدان إلا بزيادة الإنتاجية الزراعية. ومن ثم أصبح التقدم في مجال الزراعة شرطا مسبقا لتحقيق جميع الأهداف الاجتماعية تقريبا ـ ومن بينها هدف إبطاء النمو السكاني.

 

لقد كانت التقانة هي القوة التي يمكن الاعتماد عليها أكثر من غيرها لدفع الزراعة نحو زيادة الإنتاجية طَوال هذا القرن. والتقانات الزراعية الكثيرة التي تُستخدم حاليا انبثقت جميعها من البحوث العلمية. لذا فإن من المعقول التساؤل عما سيقدمه العلم إلى الجيل القادم من المزارعين والمستهلكين، وكيف يمكن تحديدا أن تساعد البحوث ـ التي ستُجرى في العقود القادمة ـ أشد البلدان فقرا، حيث كثيرا ما يتسبب الفقر في جعل المزارعين يُعرِّضون للخطر سلامة البيئة؟ الإجابة، ببساطة، هي تشجيع ممارسة الزراعة المستدامة (القابلة للاستمرار).

 

وفيما يخصنا هنا، نعرّف الزراعة المستدامة، كما يفعل . < P. كروسون>الذي يعمل في منظمة موارد من أجل المستقبل، بأنها الزراعة التي تلبي الحاجات المتزايدة في المستقبل غير المحدود بتكاليف اقتصادية وبيئية وبتكاليف اجتماعية أخرى تتناسب مع ارتفاع الدخل. كما أن الزراعة المستدامة موضوع واسع إلى حد كبير؛ ونحن نركز هنا على بضعةٍ فقط من جوانبه الأكثر اتساما بالطابع التقاني.

 

مكافحة الضرر

حيثما ُتمارس الزراعة تندس الحشرات والأمراض وتُهدَّد المحاصيل. كما أن كل حقل مزروع في العالم يؤوي أعشابا ضارة، يلزم لمكافحتها قدر ضخم من العمل، كثيرا ما يكون من جانب النساء والأطفال. ومنذ الخمسينات من هذا القرن كانت معالجة المحاصيل التي تعاني هذه الآفات تتمثل أحيانا في الاستعمال العشوائي لمواد كيميائية قوية المفعول. ولكن الحرص على المعايير البيئية في البلدان الغنية أخذ يؤدي إلى تناقص استخدام هذه المواد. حتى إن بعض مبيدات الآفات المأمونة والأكثر استخداما سرعان ما ستصبح غير متاحة، ذلك أنه بانتهاء أمد براءات اختراعها قد يتبين عدم جدوى الاستمرار في إنتاجها، لأن تكلفة الامتثال للقوانين البيئية في تسويق هذه المنتجات قد تفوق قيمة الأرباح التي كان يمكن أن تؤول إلى صُنَّاعها. ومن حسن الحظ أن هذه المواد الكيميائية ليست الأسلحة الوحيدة المتاحة في هذه المعركة. فمن الممكن الاستعانة بعدد كبير من التدابير البديلة على سبيل الدعم. ومصطلح «الإدارة المتكاملة لمكافحة الآفات» integrated pestmanagement  يُعبِّر عن هذا المفهوم، فهو يشير إلى الجمع بين: استخدام نباتات قادرة على مقاومة الآفات وتناوب المحاصيل وممارسات فلاحة الأرض والمكافحات الحيوية، مع القدر الأدنى من مبيدات الآفات.

 

وتعتمد الإدارة المتكاملة لمكافحة الآفات على المعرفة البيولوجية الأساسية التي يجمعها المتخصصون في علم النبات وعلم الحشرات. ولقد تم بالفعل تعريف وتركيب مئات المواد الجاذبة للحشرات (الفيرومونات)، التي يمكن استخدامها لعرقلة الدورة التناسلية المعتادة للآفات الشائعة ـ مثلا، عن طريق حث الحشرات على التلاقح قبل الأوان أو على نحو غير ملائم. ويوجد حماس أيضا لدى الباحثين بشأن إمكان استخدام ڤيروسات الحشرات لقمع الآفات بكفاءة من دون إيذاء مفترساتها الطبيعية أو ترك فضلات كيميائية غير مرغوبة. ولا ريب في أن خطوات التقدم المقبلة ستجعل مثل هذه التقنيات المصممة بعناية لمكافحة الحشرات متاحة على نطاق أوسع للمزارعين ذوي الدراية، الذين يستطيعون وقتئذ أن يُدخلوا هذه التقنيات في الممارسة الروتينية.

 

ومع نمو المعرفة العلمية في القرن القادم سيواصل الباحثون ابتداع طائفة من المخترعات الذكية التي يمكن أن تتحدى مبيدات الآفات التقليدية. ولكن نجاح التدابير البديلة سيقتضي أيضا وجود فهم واضح للممارسات الزراعية. فعلى سبيل المثال، قد يتسنى ـ من حيث المبدأ ـ الحد من مشكلات الحشرات والآفات والأعشاب الضارة عن طريق زيادة فلاحة الأرض أو عن طريق إزالة بقايا المحاصيل من بعض الحقول. ولكن هذه الأفعال قد تؤدي أيضا إلى زيادة التحات erosion، ومن ثم فإن الإدارة المتكاملة لمكافحة الآفات ستختبر بشكل متزايد مهارات كل من الباحثين والمزارعين فيما يتعلق بالتكهن بهذه التأثيرات والموازنة بين ما يمثل في بعض الأحيان أهدافا متناقضة. وعلى الرغم مما سيقتضيه ذلك من جانب المزارعين من زيادة العناية في مجال الإدارة، فإننا متفائلون بأن الجهود التي ستُبذل في المستقبل ستوافر مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات العملية للمكافحة الفعالة للآفات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N12_H02_006506.jpg

تُنْتج الباسيلوس ثورينجينسيس، وهي بكتيريا عصوية الشكل، بروتينا ساما بالنسبة لليساريع (يرقات الفراشات) التي تتغذى بالأوراق. ويستخدمها من يمارسون الزراعة العضوية، منذ عقود، كمبيد حشري طبيعي. وقد تسنى إدخال الجين الذي يحمل كود الذيفان (التوكسين) بوساطة الهندسة الوراثية في محاصيل عديدة خلال العقد المنصرم (تُظهر التواريخ الإثبات التجريبي إلى جانب التواريخ المتوقعة للتسويق التجاري التي ترد بين أقواس).

 

النباتات القوية

إن نجاح الزراعة المستدامة يتوقف أساسا على جعل النباتات أكثر كفاءة في تحويل ضوء الشمس والمغذيات والماء إلى منتجات من الغذاء والألياف. والأساليب التقليدية لاستيلاد النباتات(1) تزيد الآن الغلات بنسبة 1 في المئة  تقريبا سنويا. وفي السنوات المقبلة يمكن أن نتوقع من التقانات الحيوية (البيوتكنولوجيا) أن تزيد من كفاءة عملية استيلاد النباتات. فعلى سبيل المثال، إن البحوث التي تُجرى على الدنا DNA في كائنات متنوعة الأساس  الجيني ستكشف عن خصائص كثيرة تشمل القابلية للإصابة بالأمراض والحشرات والتركيب الكيميائي الحيوي (البيوكيميائي) والقيمة الغذائية. وسيتمكن مُنَسِّلو breeders النباتات من استخدام اختبارات وعلامات جينية لتعرّف الخصائص المستترة المرغوبة في محاصيلهم بسهولة أكبر. وتفتح التقانات الحيوية الباب أيضا لتهجينات جديدة تماما عن طريق إتاحة التهجين بين نباتات قد لا تتمكن أبدا من ذلك بشكل طبيعي. علاوة على هذا فإن استخدام علم البيولوجيا الجزيئية الحديث سيتيح «هندسة» الخصائص المرغوبة بإدخالها مباشرة في سلالات المحاصيل.

 

ونحن نتوقع أن يعزز التلاعب الجيني عمليات الاستيلاد التقليدية عن طريق التمكين أولا من نقل جينات منتقاة (مختارة) نقلا مباشرا إلى محاصيل غذائية موجودة في أقاربها البرية wild. ومن خلال هذه المقاربة سيحدث تقدم مستمر في الهندسة الحيوية لنباتات شتى، مثلا لمجابهة الأمراض أو الآفات [تحسين «مقاومة النبات العائل (الثوي)»]، وكذلك لمقاومة الإجهاد الناجم عن ارتفاع حموضة التربة أو الجفاف أو العناصر السامة. ولدينا تفاؤل بأن تؤدي هذه التقنيات إلى زيادة غلة المحاصيل الغذائية. وهي قد تساعد، بوجه خاص، على زيادة إنتاجية بعض الأراضي الهامشية في العالم النامي.

 

الموجة القادمة: الزراعة المائية

توجد المزارع المائية اليوم في مختلف أنحاء العالم. يشاهد هنا قبالة شاطئ موناكو مزارعون ينتجون أنواعا بحرية داخل أحواض عائمة.

إن الاستهلاك العالمي من الأسماك هو الآن في أعلى مستوياته المسجلة، ومازال بازدياد. وهناك طلب كبير على مختلف الكائنات المائية، من الأسماك الزعنفية إلى القشريات crustaceans. وبالمقابل ـ يلاحظ العلماء وخبراء الأسماك تدهورا في المجتمعات المائية بطيئا ولكنه مثير للقلق. وتبدو المحيطات الآن معرضة لخطر الاستنفاد بسبب أساليب الإدارة السيئة التي ترسّخت منذ عقود، وبسبب التقانات التي تمكِّن من الصيد الجائر.

يمكن للزراعة المائية aquaculture ـ وهي استيلاد (تربية) حيوانات أو نباتات مائية معينة في مزارع خاصة على الأرض أو في البحر ـ أن تقدم حلا جزئيا، في أقل تقدير، لمسألة تقلص الإمدادات. ويشير معهد المراقبة العالمية في العاصمة الأمريكية واشنطن إلى أن المزارع هي الآن أسرع مصادر الأسماك نموا. ففي عام 1993 وفّرت الزراعة المائية نحو 22 في المئة من الكمية الكلية التي أمكن الحصول عليها والبالغة 86 مليون طن، حسب دراسة حديثة للبنك الدولي. ويأتي من المزارع أكثر من 25% من أسماك السلمون salmon والرُّبيان(1) shrimp. لقد جعلت هذه النجاحات من الزراعة المائية صناعة قيمتها حاليا 26 بليون دولار. ويقدر البنك الدولي أن بإمكانها تأمين 40 في المئة من الطلب العالمي على الأسماك بعد 15 سنة إذا قامت الحكومات بالاستثمارات اللازمة في البحث العلمي والتقانات.

إن إمكانات الزراعة المائية معروفة للكثيرين خارج الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. ومزارع الأسماك شائعة في أقطار عديدة لتربية البلطي tilapia  (وهو من أسماك المياه العذبة من الفصيلة المشطية cichlidae) وكذلك الرُّبيان. ومن بين أكبر المنتجين الصين واليابان والنرويج والهند والإكوادور وتايلاند وتايوان. ولبعض هذه البلدان «خبرة نحو عشرين عاما من البحث والتطوير والاستثمار»، كما يقول <C .M. روبينو> وهو شريك في المزرعة المائية «پالميتّو» (وهي مزرعة للربيان في ولاية جنوب كارولينا) واستشاري في الرابطة المالية الدولية. ويضيف روبينو: «تستغرق الأنواع نحوا من 20 سنة لتقطع المسافة من حياة الطبيعة إلى سوق السمك، إذا صحّ التعبير». وتتركز الجهود الأمريكية على استيلاد سمك السِّلّور catfish، وبخاصة في الجنوب، وكذلك المحارات oysters والسلمون.

إن على ممارسي الزراعة المائية أن يتكيّفوا مع عدد من المشكلات التي تواجه أي مزارع: الأمراض والتلوث والمكان. فعندما تتساكن آلاف من الحيوانات ـ سواء كانت أسماكا أو طيورا ـ في حيّز ضيق، تصبح شديدة القابلية للإصابة بالبكتيريا والڤيروسات التي يمكن أن تُفني مزرعة بكاملها. إضافة إلى ذلك، يتضرر الإنتاج إذا ما كانت مصادر الماء غير نظيفة. فعلى سبيل المثال، وحسب <R. روزنبيري> من مجلة أخبار الربيان الدولية، نقص إنتاج الصين من الربيان بنسبة 70 في المئة بسبب التلوث الصناعي والإدارة السيئة للمياه، وبلغت الخسارة ما قيمته نحو بليون دولار أمريكي. ويمكن أيضا للمزارع المائية أن تسبب التلوث إذا ما كان دوران الماء غير كاف. فقد يتراكم براز الأسماك وطعامها ويؤدي إلى زوال المجتمعات القاعية benthic communities اللازمة لتنقية الماء.

لقد أدى التلوث الصادر عن هذه المواقع وكذلك انتقال الأمراض عبر المنظومات البيئية إلى انصراف بعض علماء البيئة عن الزراعة المائية. وليس التلوث في نظرهم هو المشكلة الوحيدة، فقد أسهمت الزراعة البحرية في تدمير الأراضي الرطبة الشاطئية. كما يخشى العديد منهم أن تتسرب من المزارع أسماك محسّنة وتتزاوج مع الأنواع البرية الموجودة في الطبيعة، وهذا يهدد التنوع الحيوي biodiversityويستنزف المخزون الجيني gene pool.

ومع ذلك، فإن هذه المثالب يمكن أن تصحح بمزيد من التأكيد بأن الزراعة المائية، كأي شكل آخر من الزراعة، يجب أن تصبح مستدامة sustainable. إن قدرة الزراعة المائية على تخفيف ضغط الطلب على أسماك المحيطات ومخزونها الطبيعي المتناقص تبدو راجحة على الهموم البيئية التي تثيرها، بل إنها أزالت هذا الضغط فعلا ـ كما يقول روزنبيري ـ فيما يخص الرُّبيان.

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N12_H02_006507.jpg

توجد المزارع المائية اليوم في مختلف أنحاء العالم. يشاهد هنا قبالة شاطئ موناكو مزارعون ينتجون أنواعا بحرية داخل أحواض عائمة.

 

(1) يسمى « جمبري » في مصر و«قريدس» في بلاد الشام  (التحرير)

 

والجهود التي تُبذل لتعزيز مقاومة النبات العائل ستستفيد أيضا من الرؤى الجديدة في البيولوجيا الجزيئية للڤيروسات. لقد أدخل العلماء بالفعل جينات من الڤيروسات النباتية في التكوين الجيني لمحاصيل منتقاة، وهذا أوجد مقاومة متأصلة لهذه الأمراض الڤيروسية في النباتات التي تم تعديلها (تغيير خصائصها). وفي غضون القرن القادم سيحدث تطوير واسع النطاق لمثل هذه التقنيات ـ التي يتم فيها إدخال جينات غريبة في المحاصيل الشائعة.

 

إن من أولى عجائب التقنيات الحيوية المستقبلية إدخال جين من البكتيريا باسيلوس ثورينجينسيس Bacillus thuringiensis في التركيبة الجينية لمحاصيل متنوعة. ويحمل الجين الدخيل كودَ ذيفانٍ (توكسين) يمنح النباتات القدرة على مقاومة بعض اليساريع (يرقات الفراشات) التي تتغذى بالأوراق. إن نقل الخصائص عبر سلاسل (خطوط النسب) linesالأنواع هو مثال أولي للطريقة التي يمكن للتقانة أن تُحسِّن بها غلة محاصيل شتى من دون أن تُحْدِث تغييرا سلبيا أو تدهورا في البيئة التي ينمو فيها النبات.

 

ونتوقع أن تصبح الهندسة الوراثية genetic engineering إبان العقود القليلة القادمة إضافة قوية للاستراتيجيات التي ثبتت جدواها في استيلاد النباتات. ولكن إذا كان المراد للباحثين في القرن القادم أن يكونوا قادرين على مزج جينات وتوليفها لإنتاج محاصيل أفضل، فإنهم سيحتاجون إلى مجموعة واسعة التنوع من المواد الطبيعية لكي يعملوا بها.

 

التنوع الحيوي التطبيقي

يلقى الحفاظ على التنوع الحيوي biodiversity اهتماما متزايدا باستمرار. ويرجع ذلك، جزئيا، إلى تأثيره المباشر في الزراعة. لقد احتفظ الباحثون بعناية ـ في «بنوك للمصادر الوراثية» ـ بمجموعات من المادة الجينية لأنواع مدجَّنة domesticated وبرّية (طبيعية) من النباتات ذات الصلة بمعظم المحاصيل المهمة اقتصاديا. وتوافر هذه الودائعُ ضمانا جيدا لإمكانية العثور على الجينات المناسبة وإدخالها في النباتات المزروعة عندما تنشأ تحديات جديدة.

 

ومع أنه من الممكن حفظ غالبية المحاصيل ذات القيمة الاقتصادية عن طريق الاحتفاظ ببذورها الجافة مبرَّدة في درجة حرارة تبلغ نحو- 10 درجات سيلزية، نجد أن نحو 10 في المئة من النباتات التي تستخدم الآن في الزراعة، إلى جانب نسبة كبيرة من «الأقارب البرية» لهذه المحاصيل، لا يمكنها أن تتحمل ظروف التخزين هذه. فحفظ هذه الأنواع يتطلب الإبقاء على النبات بأكمله في ما يشبه بيئته الطبيعية. وهذا الحفظ «في الموقع»in situ قد يلزم أيضا حيثما كان عدد أنواع النباتات ذات الأهمية كبيرا ـ مثلا في الحفاظ على النباتات التي تعيش في أراضي السهوب أو في الغابات المدارية. كما تحافظ هذه الاستراتيجية على الأنواع التي تؤدي أدوارا تعايشية symbiotic أو ترابطية associative ـ وهي تفاعلات قد تَثْبُت جدواها الاقتصادية أيضا.

 

سيرحِّب المزارعون في القرن القادم ـ ربما أكثر من أية فئة أخرى ـ بالتنوع الحيوي، لأن تطبيقاته العملية قد تكون وشيكة، بحيث تُستخدم في موسم الزرع التالي. ولكن إذا تسنى لهم الانتفاع بالأصناف المستنبطة حديثا إلى أقصى مدى، فإن عليهم أن يرعوا أيضا سلامة البيئة التي تنمو فيها المحاصيل الغذائية.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/13/SCI97b13N12_H02_006508.jpg

ازدادت مساحة الأرض الموفّرة spared في الهند مع تحسن غلة أصناف القمح. يمثل الخط العلوي (البرتقالي) المساحة المتزايدة التي كان يجب تخصيصها للزراعة، بافتراض أن الغلات ظلت عند مستوياتها في عقد الستينات. أما الاستعمال الفعلي للأرض على مدى ثلاثة عقود فهو المبين باللون الأخضر.

 

بيئة عمل جيدة

في الماضي، تحقق نصف التحسينات المذهلة في الغلة عن طريق استخدام المزيد من الأسمدة والمزيد من مبيدات الآفات والمزيد من الري. ولكن موالاة زيادة هذه الإضافات ليست صيغة يمكن اتباعها إلى ما لانهاية. إن على المزارعين في القرن الحادي والعشرين أن يكتسبوا مفهوما جديدا في إدارة أرضهم وكذلك المغذيات والمادة العضوية التي تحويها. هذه التوصية صحيحة بصفة خاصة للمزارعين في البلدان النامية، الذين تحكم الارتجالية معظم قراراتهم عادة.

 

أما في البلدان المتقدمة ذات المناخ المعتدل فإن كثيرا من الباحثين الزراعيين لديهم تفاؤل مشوب بالحذر، بأن المزارعين يستطيعون الحد من استخدامهم للمواد الكيميائية وخفض تكاليفهم عن طريق تحسين إدارة نباتات التربة وحيواناتها. فبإمكانهم، عن طريق المعلومات الصحيحة والرعاية المناسبة أن يسرّعوا تراكم المادة العضوية، وربما استطاعوا تحسين التنسيق بين دورات المغذيات واحتياجات محاصيلهم. ولكن المزارعين في البلدان النامية ذات المناخ المداري يواجهون مشكلات أكثر حدة في إدارة مواردهم الطبيعية. وينشأ هذا التحدي عن أن الفقر، خاصة، يحد من اهتمام المزارعين بالعواقب في الأمد الطويل، كما أن درجات الحرارة الدافئة وكثرة هطول الأمطار تزيدان أصلا من صعوبة حماية الأرض والمياه. فمثل هذه المناخات تميل إلى تشجيع الأمراض والآفات التي تصعب عادة مكافحتها من دون استخدام مواد كيميائية ذات طيف واسع التأثير ـ أي مواد قد تُعرِّض البيئة للخطر في نهاية المطاف.

 

باستطاعة البحوث أن تساعد في هذا الصدد عن طريق إيجاد فهم أفضل للبيولوجيا والإيكولوجيا في المزارع المدارية ـ أي ما يخص نباتات التربة وحيواناتها واحتياجات النباتات من المغذيات والتآثرات (التأثيرات المتبادلة) مع الحشرات والكائنات المسببة للأمراض. وينبغي أن تؤدي نتائج هذه البحوث إلى اقتراح ممارسات مستدامة بشكل أكبر. فعلى مر الزمن، من المحتمل أن يصبح مدى التقدم الممكن من خلال العلم هائلا. بيد أن من يزرعون الأرض قد يكونون في حالات كثيرة على درجة من الفقر تجعلهم غير قادرين على تقبل أي أسلوب جديد بسهولة.

 

تحتاج المجتمعات المهتمة بحماية البيئة إلى إيجاد الطرق المناسبة لزيادة ما يقدم إلى المزارعين من حوافز تشجعهم على استخدام تدابير يمكن أن تحفظ الموارد. فمزيد من الدعم المالي والإداري مثلا، قد يعطي المزارعين الحافز اللازم لتبني الأساليب المستدامة. وستؤدي مثل هذه التغيرات إلى تحسن كبير في الاحتمالات المتوقعة للزراعة في البلدان النامية. ولكن الاستثمارات الاجتماعية هناك يلزم أيضا أن تقترن ببحوث مستمرة: لأن التحديات التي تواجه العلم فيما يتعلق باستنباط الممارسات الملائمة والفعالة لإدارة المزارع في العالم النامي مازالت هائلة.

 

الأدوات الزراعية الجديدة

ستشهد الزراعة في القرن الحادي والعشرين طائفة من الأدوات المميزة الجديدة التي تنقل قوة العلم الحديث إلى جميع مستويات صنع القرار. وينبغي أن تصبح أدوات الاختبار البيولوجي الفوري متاحة لتحديد الڤيروسات وغيرها من الأمراض، وهذا ينقل التقانات الحيوية المتطورة إلى حقول المزارعين مباشرة. ومع أن هذه الابتكارات ستظهر أولا في البلدان ذات الدخل المرتفع، فإننا سنشهد فرصا آخذة في الاتساع لتطبيق تلك الابتكارات في البلدان الفقيرة أيضا، سواء لتوجيه البحوث أو ـ في نهاية المطاف ـ لمساعدة المزارعين على إدارة محاصيلهم.

 

ستمثل النُّظُم الحاسوبية الخبيرة expert computer systems تقدما جديرا بالذكر في مجال التقانات الزراعية، وهي تجمع بين معارف مستمدة من تخصصات علمية كثيرة لتساعد على توجيه أفعال المزارعين. وهناك الآن عدة «نظم لدعم القرار» decision support systems من هذا القبيل في طور الاستحداث لكي تساعد المزارعين فيما يتعلق بإدارة التربة. والأكثر تقدما بينها هي نظم معالجة نقص الفوسفور وارتفاع درجة الحموضة، ولكن هناك نظما أخرى وشيكة الظهور. والتطبيقات الحاسوبية هذه لا تقدم مجرد تحليل خبير لما هو معروف وللأثر الذي قد ينتجه نهج معين في الإدارة، وإنما تستطيع أيضا تحديد الثغرات المهمة في المعرفة، والتي يمكن معالجتها بالمزيد من جمع البيانات.

 

وتكمن قوة النظم الخبيرة في أنها قادرة على الجمع ما بين المبادئ العلمية والمعارف الزراعية المحلية الموروثة. ومن نواحي الضعف فيها أنها قد لا تقدم أجوبة موثوقة عن الأوضاع التي تتطور بسرعة. وثمة مقاربة أخرى تتعلق بنُظُم المحاكاة الرقمية numerical simulations التي يمكن أن تتعامل بشكل أفضل مع التأثيرات التي تتغير باستمرار، مثل الطقس. والهدف الآن هو تحقيق التكامل بين النظم الخبيرة ونماذج المحاكاة. وباستكمال ذلك سيستخدم المزارعون استخداما متزايدا الأدوات المعتمدة على الحاسوب لكي تساعد على مكافحة الآفات والحد من استهلاك المياه وإدارة أنواع كثيرة من المحاصيل.

 

وبابتداع أدوات جديدة للمزارعين، سيكون لدى العلم الكثير مما يقوله عن كيفية ممارسة الزراعة المستدامة خلال عقود عديدة قادمة. وفي البلدان المتقدمة، سيحقق التقدم العلمي زيادة في الإنتاجية وانخفاضا في التكاليف، وسيساعد على حماية الأرض والمياه، موفرا بذلك مخزونا كافيا من الغذاء والألياف للقرن القادم. أما في البلدان الفقيرة فمما لا شك فيه أن إدخال التقانات المعتمدة على العلم سيكون أصعب. ومع ذلك، ستكون لهذه التقانات في نهاية الأمر أهمية أكبر في التصدي للإنتاجية الزراعية الهامشية، وفي التصدي لتدمير البيئة ـ وفي التصدي كذلك للفقر ذاته.

 

 

 المؤلفان

Donald L. Plucknett – Donald L. Winkelmann

لقد كرسا حياتيهما المهنية للنهوض بالزراعة في شتى أنحاء العالم. كان پلاكنيت، من عام 1960 إلى عام 1980، أستاذا لعلم الزراعة وعلم التربة في جامعة هاواي، حيث قام بدراسة مشكلات الزراعة المدارية. وقد عمل في وكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتحدة وفي البنك الدولي، وهو الآن رئيس شركة البحوث والتطوير في المجال الزراعي وهي شركة استشارية. أما وينكلمان فقد كان أستاذ الاقتصاد بجامعة ولاية أيوا قبل التحاقه في عام 1971 بالمركز الدولي لتحسين الذرة والقمح (CIMMYT) في المكسيك، حيث كان مديرا عاما لهذا المركز بين عامي 1985 و1994، وهو الآن رئيس اللجنة الاستشارية التقنية (TAC) التابعة للمجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية (CGIAR).

 

مراجع للاستزادة 

EX SITU CONSERVATION OF PLANT GENEIIC RESOURCES: GLOBAL DEVELOPMENT AND ENVIRONMENTAL. CONCERNS. Joel I. Cohen, J. Trevor Williams, Donald L. Pluclmett and Henry Shands in Science, Vol. 253, pages 866-872; August 23, 1991.

TRANSGENIC CROPS. Charles S. Gasser and Robert T. Fraley in ScientiftcAmerican, Vol. 266, No. 6, pages 62-69; June 1992.

THE DIVERSITY OF LIFE. Edward O. Wilson. W. W. Norton, 1993.

HOW MUCH LAND CAN TEN BILLION PEOPLE SPARE FOR NATURE? Paul E. Waggoner. Council for Agricultural Science and Technology Report, No. 121; February 1994.

 

(1) استيلاد (تربية) النبات plant breeding: هو النشاط الذي يقوم به الباحثون للحصول على سلالات وأصناف مُحسَّنة من الأنواع النباتية المزروعة، وذلك من خلال برامج طويلة الأمد تستخدم الأساليب التقليدية كالانتقاء والتهجين، أو التقانات الحيوية الحديثة مثل «مضاعفة الاختزال» و«تهجين البروتوپلاست» ونقل الجينات المفيدة من أنواع أخرى قريبة أو بعيدة. (التحرير)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى