كيف ينتشر السرطان
كيف ينتشر السرطان
يتحرك الورمُ في الجسم متجنبا آليات التحكم التي تُبقي الخلايا الطبيعية في مواقعها.
وتَعْرض لنا هذه الحقيقة معلومات قيمة لمحاربة السرطان.
<E. روزلاتي>
جسمُنا هو مجتمع من الخلايا تحتل فيه كل خلية مكانا مناسبا للقيام بمهامها من أجل الجميع. وباستثناء كريات الدم البيضاء، التي تَخْفِر الجسمَ بحثا عن الميكروبات الغزاة والأضرار النسيجية، فإن الخلايا الطبيعية تمكث في النسيج الذي تعدّ جزءا منه. أما الخلايا السرطانية فهي خلايا شريرة تنتهك حرمة النسج الأخرى بشكل عدواني.
وفي الواقع، فإن النقائل (انتشار السرطان إلى أمكنة بعيدة في الجسم) هي ما تجعل السرطان مميتا إلى حد كبير. فالجرّاح يستطيع إزالة الورم الأولي بسهولة نسبية، ولكن السرطان الذي انتشر نقيليا metastasized يصل عادة إلى أمكنة عديدة يستحيل على الجراحة وحدها أن تشفيها. ولهذا السبب يشكل الانتشار بالنقائل وغزو الخلايا السرطانية للنسج الطبيعية السِّمَتَيْن المميزتين للخباثة (الورم الخبيث) malignancy. ويمكن أن يُشاهد أحيانا في الدول ذات الرعاية الصحية البدائية أناس يعيشون وهم يحملون أوراما تبلغ في كبرها حجمَ كرة القدم. وبالطبع فإن الخلايا التي تؤلف مثل هذه الأورام التي يطلق عليها اسم أورام حميدة، تُفْرِط في التَّكَثُّر over-proliferate بشكل واضح، ولكنها (خلافا لما هي عليه الحال في الخلايا السرطانية) لا تغزو ولا تنتقل.
إن الحدث الرئيسي في تطور السرطان يكمن في اكتسابه المقدرة اللازمة لهجرته إلى النسج الأخرى. ولكي ينتشر نقيليا بنجاح، لا بد للخلايا السرطانية أن تنفصل عن موقعها الأصلي وأن تغزو أحد الأوعية الدموية أو اللمفاوية مسافرة فيه مع دوران الدم إلى موقع بعيد؛ لتؤسس فيه مستعمرة خلوية جديدة. وفي كل خطوة من هذه الخطوات، لا بد لها أن تفلت من العديد من آليات التحكم التي تحفظ (في الواقع) الخلايا الطبيعية في مكانها.
إن الغزو والانتشار النقيلي هما السيرورتان اللتان تنشران الخلايا السرطانية بشكل مميت في جميع أجزاء الجسم. ففي البداية، تنفصل الخلايا السرطانية عن الموقع الأولي (غالبا ما يكون في أحد النسج الظهارية) وتَخْرِق الغشاء القاعدي الذي يفصل النسيج الظهاري عن الطبقات النسيجية الأخرى. ويستطيع بعض هذه الخلايا الغازية اختراق الغشاء القاعدي المحيط بأحد الأوعية الدموية وكذلك طبقة الخلايا البطانية التي تبطنه، ومن ثم تصبح هذه الخلايا حرة التجوال عبر الدورة الدموية. وفي نهاية المطاف يمكن أن تأوي إحدى الخلايا السرطانية إلى شعيرة دموية capillary، فإذا تمكنت هذه الخلية من الالتصاق بجدار الشعيرة واختراقه مرة أخرى فإنها تستطيع تكوين ورم ثانوي. وربما تمكنت واحدة من 10000 من الخلايا السرطانية التي تَفْلِت من الورم الأولي من البقاء حية لتستعمر نسيجا آخر. |
والطريق المثمر لفهم الكيفية التي تتفادى بها الخلايا الورمية آليات التحكم هذه كان بدراسة الإشارات (الإيعازات) signals التي توجه الخلايا بشكل سوي إلى أمكنتها في الجسم وتحفظها هناك أثناء البلوغ. وحينما كنت في منحة زمالة لما بعد الدكتوراه في معهد كاليفورنيا للتقانة ما بين عامي 1968 و1970، شَغُف المشرف عليّ <J.W. دريير> بهذه المسائل. وكان <W.R. سپيري>، الذي عمل كذلك في كالتيك، قد وجد أن الخلايا العصبية الحاسة للضوء في شبكية العين تُنْبِت استطالات مرتبة إلى داخل الدماغ، حيث إن الاستطالات الصادرة عن منطقة معينة في الشبكية ترتسم project دائما على منطقة دماغية بعينها. وقد ألهمتْ هذه المكتشفات <D. هود> و <L. هود> أن يصوغا فرضية «كود المنطقة»(1) area code التي تنص على وجود نظام عَنْوَنَة adress system (مكتوب على سطح الخلية في مجموعة واحدة من الجزيئات يمكن أن تقرأه جزيئات على الخلايا الأخرى) يحدد المكان الذي ينبغي أن توجد فيه تلك الخلية.
لقد بدا لي آنذاك أنه إذا وُجِدَ نظام عَنْوَنَة جزيئي، فإن خطأ ما لا بد أن يَكْتَنِفَهُ في حالة السرطان، لأن الخلايا السرطانية لم تبق حيث يجب. فقررتُ أن أحاول العثور على مثل هذه الجزيئات. كما أظهر العديد من المختبرات (المخابر) أخيرا، وجود جزيئات كود المنطقة. فهي تتوسط الالتصاق الخلويcell adhesion، بمعنى تثبيت الخلايا على البنى المجاورة لها.
تلتصق خلايا النسج السوية بعضُها ببعض وبشبكة من بروتين غير ذوّاب تملأ الحيز الكائن فيما بينها، تعرف باسم المَطْرِق(2) خارج الخلويextracellular matrix. (ويُعَدّ هذا الترتيب سِمَة وصفية لا سيما في الظهاراتepithelia التي تؤلف الطبقات الخلوية المشكِّلة للسطح الخارجي من الجلد وبطانة المعي والرئتين وبعض الأعضاء الأخرى التي ينشأ عنها معظم السرطانات.) ويؤدي كل من نوعي الالتصاق أدوارا حاسمة مختلفة أثناء الغزو النسيجي والانتشار النقيلي.
ويبدو أن جزيئات التصاق الخلية بالأخرى تساعد على حفظ الخلايا في أمكنتها. ويبدو أن هذه الجزيئات قد فُقدت أو تعرَّضت للتعديل (التحوير) في الخلايا السرطانية. فمثلا تفقد أنواع السرطانات المختلفة جميعَ أو بعض جزيئات الالتصاق البينخلوي intercellular المُعَرَّفَة باسم كاديرين E-cadherin E. وبالتأثير في هذا الجزيء الموجود في الخلايا السرطانية المُسْتَنْبَتَة نستطيع تغيير مقدرة الخلايا على غزو النُّسُج وتشكيل الأورام. وقد كان <W. بيرخميير>، الموجود حاليا في مركز ماكس ديلبروك ببرلين، أول من أظهر أن تعطيل وظيفة الكاديرين E يمكن أن يغير خطًّا (سلالة) خلويا مستنبتا من نوع غير عدواني إلى آخر عدواني. وعلى عكس ذلك، فإن إعادة هذا الجزيء إلى الخلايا السرطانية التي تفتقر إليه يمكن أن تبطل قدرتها على تشكيل الأورام حينما يتم حقنها (زرقها) في الفئران. وهكذا فإن فك القيد الالتصاقي بين الخلايا يحتمل أن يكون خطوة مبكرة هامة في غزو السرطان.
الحاجة إلى الالتصاق
وبالمقابل فإن الالتصاق بالمَطْرِق خارج الخلوي يسمح للخلايا بالبقاء حية وبالتكاثر. وكما عرف الباحثون لعدة سنوات، فإن الخلايا المستنبتة لا تستطيع التكاثر إلا حينما تلتصق بسطح ما، وهذه ظاهرة تسمى التبعية للتثبيت (اعتماد الإرساء) anchorage dependence. وتتوسط في هذا الالتصاق جزيئات في السطح الخلوي تعرف باسم إنتگرينات integrins، وهي ترتبط بالمَطْرِق خارج الخلوي. وكما أظهر <S. فريش> (من معهد بورنهام في كاليفورنيا) و<.A .M شوارتز> (من معهد سكرپس للبحوث، في كاليفورنيا أيضا) و<J .M. بيسل> (من جامعة كاليفورنيا في بيركلي)، فإن الالتصاق الذي يتضمن الإنتگرينات هو وحده الذي يفي بمتطلبات التبعية للتثبيت.
تتخذ كودات المناطق الخاصة بالخلايا شكل جزيئات التصاق سطحية ومستقبلات نوعية. وتتعرف الخلية السوية مكانَها الخاص أثناء نموها عندما تتوافق جزيئات التصاقها مع جزيئات التصاق موجودة على الخلايا الأخرى وعلى المَطْرِق خارج الخلوي. وفي حالة السرطان يحدث إخفاق ما في نظام العنونة هذا. |
وحديثا، أظهر مختبري في معهد بورنهام وكذا <T. هنتر> من معهد سولك للدراسات البيولوجية في كاليفورنيا، أن الخلايا غير الملتصقة يتوقف نموها؛ لأن أحد بروتينات النواة (يعرف باسم المعقد «سيكلين-E CDK2» cyclin E-CDK2)، الذي ينظم نمو الخلايا وانقسامها، يصبح أقل نشاطا. ويبدو أن المواد المثبطة في نوى هذه الخلايا تعطل إنتاج هذا البروتين.
وكما اكتشف فريش وشوارتز وبيسل، فإن عدة أنماط من الخلايا حينما تُحْرَم من الالتصاق لا تكتفي بالامتناع عن التكاثر فحسب بل وتنتحر أيضا، أي إنها تعاني بشكل تلقائي تبدلات نوعية تُفْضي بها إلى الموت. وقد أُطلق على هذا النوع من الموت الخلوي الذي تكون فيه الخلية طرفا فاعلا اسم الاستموات (الموت الخلوي المبرمج) apoptosis.
لقد أظهرت مجموعتي أنه يُشْتَرط لبقاء الخلايا حية أن يحمل المطرق خارج الخلوي ـ الذي تلتصق به هذه الخلايا ـ «كود المنطقة» الصحيح، وهو كود ربما لا يكون موجودا إلا في المطرق خارج الخلوي لنسجٍ منتقاةٍ بعينها. وأكثر من ذلك، فإنه يشترط أن تَستخدم الإنتگرين المناسب للتثبيت على المطرق. وحسبما تبيِّن جميع هذه النتائج، فقد بدأ يتضح تفسير جزيئي للتبعية للتثبيت، على الرغم من أن الكثير من التفاصيل الحرجة ظلت في حاجة إلى استيفاء.
ويحتمل أن يشكل الانتحار الخلوي، بسبب فقدان التثبيت أو بسبب التثبيت غير الموفق، أحد صمامات الأمان التي تصون سلامة النسج وتكاملها. فالخلايا عادة لا تستطيع أن تنفلت بعيدا عن نسيجها ببساطة لتستقر في مكان آخر؛ لأنها ستموت في الطريق. ولكن الخلايا السرطانية تتجاوز هذا المطلب لكونها غير تابعة للتثبيت، إذ يبقى المعقد «سيكلين CDK2-E» فيها فاعلا سواء أكانت مثبتة أم لا.
إن تثبيط الانتشار النقيلي عن طريق التدخل في التصاق الخلية السرطانية، سيصبح خيارا علاجيا في يوم ما. ففي تجارب على الفئران أعاق حقن (زرق) الپپتيد RGD (وهو شدفة من بروتين الفيبرونكتين) انتشار خلايا الميلانوم (الورم الميلاني) إلى الرئتين. والمفترض أن جزيئات RGD قد سدّت المستقبلات التي تحتاج إليها الخلايا السرطانية المتجولة للارتباط بالفيبرونكتين في المطرق خارج الخلوي للنسج. |
ومازلنا لا نفهم تماما الكيفية التي تُنْجِز بها الخلايا السرطانية هذه الخدعة، ولكن يبدو لنا أنه بالإمكان إلقاء اللوم على الجينات الورمية. (جينات الورم هي نسخ طافرة من جينات سوية تسمى جينات ورمية أولية proto-oncogenes. ويمكن لهذه الطفرات أن تقلب الخلايا السوية إلى خلايا خبيثة [انظر في هذا العدد: «كيف ينشأ السرطان»)]. وفي الواقع، وحسبما أظهرت التجارب المختلفة، فإن البروتينات التي تصنعها هذه الجينات الورمية تحمل رسالة مزيفة إلى النواة تفيد بأن الخلية قد تثبتت جيدا، مع أنها ليست كذلك، وبهذا تمنع الخلية من إيقاف نموها وملاقاة حتفها بالاستموات (الموت الخلوي المبرمج).
تُعَدّ التبعية للتثبيت واحدًا فقط من الموانع التي ينبغي على الخلية السرطانية اجتيازها للتجوال في أرجاء الجسم. فالخلايا الظهارية (وهي أكثر مصادر السرطان شيوعا) يفصلها عن سائر الجسم غشاء قاعدي basementmembrane، وهو طبقة رقيقة من مطرق خارج خلوي متخصص. وتشكل الأغشية القاعدية حاجزا (عائقا) لا تستطيع معظم الخلايا العادية اختراقه في حين تستطيع الخلايا السرطانية ذلك [انظر: «انتشار الخلايا السرطانية ونقائلها»،مجلة العلوم، العددان9/10 (1993)، صفحة 34].
ويمكن تبيان هذه الحقيقة بشكل أخّاذ من خلال إعطاء فرصة للخلايا في أنبوب اختبار للغزو عبر غشاء قاعدي طبيعي أو بعد إعادة بنائه. فالخلايا السرطانية ستخترقه في حين لا تفعل ذلك الخلايا العادية. وعلاوة على ذلك، فإن الخلايا المأخوذة من سرطانات نقيلية، تقوم في هذه التجربة بغزو أسرع من خلايا الأورام غير النقيلية. أما كريات الدم البيضاء، وتمشيًا مع دورها في الحراسة الأمنية، فإنها تشكل استثناء لقاعدة أن الخلايا العادية لا تغزو. وتكون هذه الخلايا أيضا ماهرة في اختراق النسج بما في ذلك الأغشية القاعدية. وتفعل الخلايا السرطانية وكريات الدم البيضاء ذلك عن طريق تحريرها إنزيمات تسمى بروتينازات مفلَّزة metllo proteinases تُحِلّ (تذيب) الأغشية القاعدية والمطارق خارج الخلوية الأخرى. أما الخلايا الأخرى فتمتلك القليل من هذه الإنزيمات والكثير من مثبطات الإنزيم.
يعتبر الالتصاق الخلوي مَكْبَحًا حيويا لهجرة الخلايا السوية. وهناك نمطان للالتصاق الخلوي ينطبقان على معظم خلايا الجسم: التصاق خلية بخلية، والتصاق الخلية بالمطرق خارج الخلوي (في الأعلى). فإذا لم تستطع إحدى الخلايا الالتصاق بالخلايا الأخرى، فإنها قد تصبح أكثر عدوانية وتهاجر عبر المطرق (في الوسط). وإذا فقدت إحدى الخلايا التصاقها بالمطرق خارج الخلوي، فإنها تستطيع الانفلات عن النسيج الأصلي (في الأسفل). وفي العادة، إذا أخفقت خلية ما في إعادة الارتباط بالمطرق خارج الخلوي، أو إذا ارتبطت بنمط خاطئ من المطرق، فإنها تتلاشى عن طريق الاستموات (الانتحار الخلوي أو الموت الخلوي المبرمج). ولكن الخلايا السرطانية يمكنها أن تعيش من دون هذا الالتصاق. |
وبعد أن تمر الخلية السرطانية عبر الغشاء القاعدي فاصلة إياه عن سائر النسج الموجودة في موقعه الأصلي، سرعان ما تُصادِف غشاء قاعديا آخر يحيط بوعاء دموي صغير. (وعادة ما يكون هناك وعاء دموي في الجوار، لأن الأورام الناجحة كيما تتعزز تستحث نمو أوعية دموية جديدة). وباختراقها حاجز الغشاء القاعدي الثاني هذا وطبقة الخلايا البطانية endothelial التي تؤلف البطانة الداخلية للوعاء الدموي، تتمكن الخلية السرطانية من الوصول إلى الدورة الدموية التي تحملها إلى مكان آخر في الجسم.
وتُمكننا التقانة الجديدة من اكتشاف الخلايا السرطانية في دم المريض. فقد قطعنا خطوات واسعة في تحديد الجزيئات الواسمة الكشَّافة التي تميز ما إذا كانت الخلية آتية من نسيج معين أو أنها نمط ورمي. وفي الوقت نفسه طور الباحثون كذلك مقايسات assays (مبنية على تقانات من أمثال تفاعل الپوليميراز السلسلي polymerase chain reaction والوسم بالضد وحيد النسيلةmonoclonal-antibody tagging) من أجل كشف هذه الجزيئات. ونعرف من الدراسات التي تستخدم هذه الطرائق أن الخلايا الخبيثة غالبا ما تكون جوالة في الدورة الدموية حتى قبل أن تستطيع الفحوص السريرية العثورَ على دليل على الانتشار البعيد للسرطان.
وقد يؤدي المزيد من تطوير مثل هذه الاختبارات في نهاية المطاف إلى تحسين المعالجات، عن طريق مساعدة الأطباء على تحديد ما إذا كانوا بحاجة إلى وصف علاجات غير الجراحة بالنسبة لما يبدو لهم أوراما تحت السيطرة. فاكتشاف النقائل الميكروية (الدقيقة) micrometastases في الدم وفي سائر مناطق الجسم هو خطوة هامة للأمام في التشخيص المبكر، كما يشكل طليعة البحوث التطبيقية حول الانتشار النقيلي.
هذا وقد تساءل أيضا بعضُ الأطباء عما إذا كان التعامل مع الورم أثناء تشخيصه أو استئصاله الجراحي كافيا لإطلاق بعض الخلايا في الدورة الدموية. وستسمح طرائق الاختبار الجديدة للباحثين أن يثبتوا أو أن ينفوا هذه الفرضية المشؤومة، ولكن، حسب معلوماتي، لم يقم أحد بذلك حتى الآن. بيد أنه حتى لو ثبت أن هذه الفرضية صحيحة، يبقى من الواضح أن فوائد التشخيص والجراحة تفوق كثيرا الأخطار المحتملة لعدم الإتيان بشيء.
يمكن تفسير نماذج الانتشار النقيلي من خلال أسلوب بناء الدورة الدموية (جهاز الدوران). فالأورام في الجلد والعديد من النسج الأخرى، غالبا ما تستعمر الرئتين أولا، لأنهما تحويان القاع الأول من الشعيرات الدموية first capillary bed في اتجاه الدم بالنسبة لمعظم أعضاء الجسم. وعلى العكس من ذلك، لما كانت المعي ترسل دمها إلى الكبد أولا، فإن هذا الأخير غالبا ما يكون الموضع الأولي للانتشار النقيلي لسرطانات القولون والمستقيم. ومع ذلك فالدورة الدموية ليست العامل الوحيد في الأمر: فسرطان الپروستاتة مثلا تنتشر نقائله إلى العظام. وربما نتج هذا الميل من الألفة بين المستقبلات الموجودة على الخلايا الورمية في الپروستاتة وبين الجزيئات الموجودة في نسج العظام (داخل المربع). |
قابليةٌ للعطب في الدم
ولحسن الحظ، فإنه حتى عندما تدخل الخلايا السرطانية إلى الدورة الدموية، لا يكون تشكل الأورام الثانوية أمرا حتميا؛ إذ تظل الخلية الدائرة في الدم تواجه بضع عقبات أخرى: فهي يجب أن ترتبط بالبطانة الداخلية لأحد الأوعية الدموية، وأن تعبر خلالها، وأن تخترق الغشاء القاعدي عند هذا الموقع الجديد، ثم تغزو النسيج فيما وراءه لتبدأ بالتكاثر. وكل واحدة من هذه العقبات لها متطلباتها من الخلية الورمية التي قد تفوق المتطلبات التي واجهتها في نسيجها الأم. وأكثر من ذلك، فهناك احتمال ألاّ تستطيع عدة سرطانات أن تتغلب بشكل كلي على الآليات الدفاعية التي تحفظ خلايانا في أمكنتها الصحيحة، وتلك إعاقة أخرى تواجه الانتشار النقيلي.
ومن المحتمل أن أقل من خلية واحدة من كل 000 10 خلية سرطانية تصل إلى دوران الدم تبقى حية لتؤسس ورما جديدا في مكان بعيد. ولا نفهم جيدا أسباب قابلية العطب الظاهرية هذه خلال وجود الخلايا السرطانية في الدم ـ فربما لم يكن عدم التبعية للتثبيت للخلايا الورمية كاملا، وبعد كل شيء فإنها قد تفنى أحيانا عبر سيرورة الاستموات. وعلى كل حال، يعتقد الباحثون أن الخلايا الورمية بحاجة إلى الارتباط الفوري، بمعنى الكلمة، بالبطانة الداخلية لأحد الأوعية الدموية الصغيرة.
وتوضح الدورةُ الدموية الكثيرَ عن سببية انتشار السرطانات النقيلية المختلفة تفضيليا إلى نسج معينة. فالخلايا الورمية الجائلة في الدم غالبا ما تقع حبيسة في القاع الوعائي الأول first vascular bed (أو شبكة الشعيرات الدموية التي تُعَدّ الأدق بين الأوعية الدموية) الذي تصادفه في اتجاه تيار الدورة الدموية بدءا من مَنشئها. وأول قاع وعائي يصادفه الدم الخارج من معظم الأعضاء يقع في الرئتين، باستثناء الأمعاء التي ترسل الدم إلى الكبد أولا. وتبعا لذلك تعتبر الرئتان الموقعَ الأكثر شيوعا للانتشار النقيلي، ويليهما في ذلك الكبد.
تأوي الخلايا السرطانية جزئيا إلى الأوعية الدموية الصغيرة، لأن هذه الخلايا تنزع إلى أن تكون كبيرة. وكذلك تُنْتِج بعض السرطانات عواملَ كيميائية تدعو الصُفَيِّحات (خلايا دموية في غاية الصغر تستهل عملية التخثر الدموي) إلى التجمع حولها. وهذه التجمعات تجعل الخلايا السرطانية بالفعل أكبر حجما وأشد التصاقا. (وإنه لمن الجدير بالملاحظة كذلك أن الصفيحات تُنتِج زادَها الخاص الوافر من عوامل النمو والتي يمكن أن تساعد الخلايا السرطانية المرتبطة بها على البقاء حية في الدم. وهذا ما قد يفسر التأثيرات المضادة للسرطان للعقاقير التي تتدخل في وظائف الصفيحات في بعض النُّظُم التجريبية).
لكن الحَبْس الفيزيائي للخلايا السرطانية داخل الأوعية الدموية في موقع الانتشار النقيلي لا يشكل القصة كاملة. فلو كان الأمر كذلك لما انتشرت السرطانات بهذا التباين في أرجاء الجسم. وفي الواقع، تُبْدي بعض أنماط السرطان تفضيلا لافتا للنظر لأعضاء غير تلك التي تستقبل الدم الوريدي منها ـ بدليل ميل سرطان الپروستاتة للانتقال داخل العظام. ومرة أخرى، يبدو التفسير منسجما مع نظام العَنْوَنَة الجزيئي الموجود على سطوح الخلايا. إن الألفة الواضحة بين جزيئات الالتصاق الموجودة على الخلايا السرطانية وبين الجزيئات الموجودة على البطانات الداخلية للأوعية الدموية في النسج المفضلة، ربما تستطيع أن تفسر نزوع الخلايا لأن تهاجر بشكل انتقائي (انتخابي). كما أن للتراكيز المختلفة لعوامل الحضّ على النمو والهرمونات دورا في ذلك.
وحديثا، أظهر <I. ستامنكوڤيك> (من كلية هارڤارد الطبية) وزملاؤه، في واحد من الأعمال الرائعة، أنه يستطيع توجيه الانتشار النقيلي للخلايا الورمية: فقد استخدم الهندسة الوراثية على الفئران بحيث جعلت من أكبادها هدفا لجزيء التصاق موجود على خلايا ورمية معينة. وحسبما تنبأ، فقد أَوَتْ الخلايا الورمية إلى الكبد. ولتحقيق هذه التجارب، استعار ستامنكوڤيك مستقبلات وأهدافا من نظام الالتصاق الجزيئي الذي تستخدمه كريات الدم البيضاء في مغادرتها للدورة الدموية ودخولها النسج. ومع أن هذا النظام كان صنعيا، فربما تقلد (تحاكي) السرطانات بشكل طبيعي كريات الدم البيضاء على هذا النحو إلى حد بعيد ـ فالخلايا السرطانية غالبا ما تصنع جزيئات معينة (تسمى LeX)، وتكون مهمة لحركية كريات الدم البيضاء في الجسم.
يمكن لتجميعة من اللاقمات (العاثيات) phages تتكون من بلايين الڤيروسات تحمل جزيئات مستقبلة مختلفة، أن تساعد على تحديد كودات مناطق النسج التي تأوي إليها الخلايا السرطانية. وفي إحدى التجارب تم حقن (زرق) تجميعة لاقمة داخل فأر، فارتبطت بعض الڤيروسات بشكل فريد إما بالدماغ أو بالكلية. |
اكتشاف كودات مناطق الجسم
إذا كان هناك، كما يبدو محتملا، الكثير مما يمكن أن نتعلمه من تحديد العناوين الجزيئية التي تستخدمها كريات الدم البيضاء والأورام في اكتشاف نسج معينة، فمن المحتمل أن تُثْبِت الطريقة التي اتبعتُها لذلك مع <R. پاسكاليني> (الحاصلة على منحة ما بعد الدكتوراه في مختبري) أنها مفيدة لهذا الغرض. فقد طوّعنا تقنية لعزل الجزيئات الفعّالة بيولوجيا من مجموعات ضخمة، أو «تجميعات» libraries، لمركبات متنوعة. وتتلخص نظريتنا في هذا المدخل بأننا إذا تقصّينا عددا كبيرا بما فيه الكفاية من المركبات، فإننا قد نستطيع العثور على جزيء ما لكل غرض ننشده.
نستعمل تجميعة كبيرة من الپپتيدات (وهي قطع صغيرة من البروتينات) كمصدر لمركباتنا. ولكن <G. سميث>، الذي يعمل الآن في جامعة ميسوري، ابتكر في الثمانينات من القرن الحالي تقانة لبناء تجميعة كهذه تستعمل إحدى اللاقمات (العاثيات) phages (اللاقمة هي نمط من الڤيروس يصيب البكتيريا). فإذا أُقحمت قطعة عشوائية قصيرة من الدنا DNA في جين اللاقمة لإنتاج بروتين سطحي، فإن هذه اللاقمة ستعرض بعد ذلك الپپتيد العشوائي المقابل للجين على سطحها. ونستطيع بتطبيق طريقة سميث أن نُبْدع تجميعة كاملة من اللاقمات تحمل بليونا من الپپتيدات المختلفة، بحيث تُظهر كل لاقمة منفردة پپتيدا واحدا فقط.
كان ابتكارنا هو أن نختبر ألفة الپپتيدات peptide affinities في هذه التجميعة، وذلك عن طريق حَقْن الڤيروسات المتنوعة في حيوان حي. فكل لاقمة تحمل پپتيدا ذا ألفة للجزيئات الموجودة على نسيج معين، ستلتصق هناك. ولقد بحثنا ووجدنا لاقمات ارتبطت تفضيلا بأوعية دموية في دماغ الفأر وكليته. ويوحي هذا النجاح بأنه يمكن اكتشاف عناوين محددة للأعضاء الأخرى، وأنه يمكن اختبار ضلوعها في إيواء الخلية الورمية.
قد تُقَدِّم معرفةُ العناوين التي تبحث عنها الخلايا الورمية فوائدَ سريرية في نهاية المطاف. فإذا وضعنا في الحسبان قابلية الخلايا الورمية للعطب أثناء انتقالها، فإن أي شيء نستطيع فعله لتصعيب ارتباط الخلايا الورمية بالنسج قد يكون مفيدا للمرضى.
هناك عمل استهلالي بهذا الاتجاه فعلا. ففي عام 1984 بيّنتُ مع <M .D. بيرشباخر> حين كان زميلا في منحةِ ما بعد الدكتوراه في مختبري (يعمل الآن في تليوس للمستحضرات الصيدلانية) أن جميع الخلايا تتثبت على الفيبرونكتين fibronectin وبضعةِ بروتيناتٍ مَطْرِقيةٍ أخرى عند بنية مؤلَّفة من ثلاثة حموض أمينية فقط. كانت هذه النتيجة مذهلة، باعتبار أن الفيبرونكتين يتألف من سلسلة طويلة فيها 2500 حمض أميني. ومضينا نثبت أن الپپتيدات الصنعية الحاوية على هذا الپپتيد الثلاثي الحاسم (أرگينين ـ گليسين ـ حمض أسبارتيك، ويرمز له اختصارا RGD) يمكن أن تقوم بدور الشَّرَك (الفخّ)، إذ ترتبط بالمستقبلات الخلوية الخاصة بالفيبرونكتين وتمنعها من الارتباط بالمطرق.
ولاحقا أظهر <M. همفريز> و <K. يامادا> عندما كانا في المعهد القومي للسرطان، وكذلك <K. أولدن> حين كان في جامعة هوارد، أنهم إذا حقنوا فئرانا بخلايا من الميلانوم (الورم الميلاني) melanoma (وهو سرطان جلدي مميت) فإن الپپتيدات RGD تستطيع منع هذه الخلايا من استعمار رئات الفئران، كما أنها تستطيع منع الانتشار النقيلي من الميلانومات النامية تحت جلد الفئران ـ وهذه منظومة تجريبية تشبه إلى حد بعيد الداء البشري. وقد بيّن <A .D. شيريش> من معهد سكرپس للبحوث أن مركبات RGD تستطيع كذلك منع تشكل الأوعية الدموية الجديدة التي تغذي الأورام. ولذلك، فإن مركبات من هذا القبيل يمكنها ذات يوم أن تعزز عتاد الأطباء المضاد للسرطان، ولكن لا بد من بذل الكثير من الجهد أولاً كي يمكن تناول هذه الپپتيدات عن طريق الفم حتى يستمر تأثيرها مدة أطول.
فهم الغزو
إنه من المخيب للآمال أننا مازلنا لا نفهم (بالتفاصيل الجزيئية) إلا القليل عن آليات تحوّل السرطان من ورم موضعي إلى شكل نقيلي قاتل. ولكنه من الواضح أن بعض التبدلات الجينية ذاتها التي تسمح للخلايا السرطانية بتفادي رقابة النمو وتجنب الاستموات (الموت الخلوي المبرمج)، تؤدي دورا هاما في المراحل المبكرة من الانتشار النقيلي، لأنها تمكّن الخلايا من البقاء حية من دون تثبيت. ولكن ذلك الشيء الذي يُدير البرامج التي تجعل السرطان غازيا ونقيليا مازال غير معلوم حقا.
لقد أبرزت مقاربات approaches جينية، شبيهة بتلك التي استخدمت في اكتشاف الجينات الورمية والجينات الكابتة للورم، وجود جينات مرشحة للقيام بدور نوعي في الانتشار النقيلي. وقد يوضح المزيد من المقارنات الجينية لأورام موضعية وأخرى نقيلية أوجه الاختلاف بين هذه الجينات. ولكن من الممكن كذلك أن نكون بحاجة إلى تفكير جديد كليا.
إنني أميل إلى أن دراسة مقاومة الغزو السرطاني على المستوى النسيجي والمستوى الجيني يمكن أن تقدم أجوبة هامة. فمثلا لا يغزو السرطان بعض النسج مثل الغضروف وإلى حد ما الدماغ. فالسرطانات التي تنشأ في أمكنة أخرى من الجسم يمكن أن تنتشر نقيليا إلى الدماغ، ولكنها في الحقيقة لا تغزو النسيج الدماغي بل تكبر داخل الأوعية الدموية وقريبا منها. ويبدو أن شيئا ما في النسيج الدماغي يصدّ الخلايا الورمية التي تغزو سواه من النسج. وكذلك يبدو أن بعض الأنواع الحيوانية تبدي مقاومة استثنائية لنمو السرطانات. وفي ظني أنه يمكننا تعلُّم الكثير إذا ما فهمنا الأسس الجزيئية لهذه الظواهر وغيرها. إن حقيقة كون الانتشار النقيلي أشد نواحي السرطان فتكا، تضفي صفة الاستعجال البالغ في سعينا لاكتساب هذه المعرفة.
المؤلف
Erkki Ruoslahti
هو الرئيس والمدير التنفيذي لمؤسسة بورنهام (سابقا مؤسسة لاهولا لبحوث السرطان) في كاليفورنيا، وأستاذ علم الأمراض المنتدب بجامعة كاليفورنيا في سان دييگو. وُلِد في فنلندا والتحق بجامعة هلسنكي، حيث حصل على البكالوريوس عام 1961 وعلى شهادة الطب عام 1965 ثم على الدكتوراه الطبية في علم المناعة عام 1967. وقد حصل على العديد من الأوسمة الرفيعة الشأن دوليا، وكان عضوا بجمعية نوبل في معهد كارولينسكا عام 1995، كما ألقى محاضرة في منتدى نوبل.
مراجع للاستزادة
MOLECULAR MEDIATORS OF INTERACTIONS WITH EXTRACELLULAR MATRIX COMPONENTS IN METASTASIS AND ANGIOGENESIS. L. R. Bernstein and L. A. Liotta in Current Opinion in Oncology, Vol. 6, No. 1, pages 106-113; January 1994.
ANCHORAGE DEPENDENCE, INTEGRINS, AND APOPTOSIS. EilCkl Ruoslahti and John C. Reed in Cell, Vol. 77, No. 4, pages 477-478; May 20, 1994. EvoLuTtorts: METASrnsts. David I. Lewin in Journal of NIH Research, Vol. 8, pages 82-87; June 1996.
FIBRONFCT[N AND INTFGRINS IN INVASION AND METASTASIS. S. K. Aklyama, K. Olden and K. M. Yamada in Cancer and Metastasis Reviews, Vol. 14, No. 3, pages 173-189; 1996.
(1) يطلق عليها أيضا اسم الرمز البريدي مثل المستعمل في بعض الدول إلى جانب أرقام صناديق البريد.
(2) المَطْرِق هو المادة البَيْنخلوية (بين الخلوية). (التحرير)