أحد صفحات التقدم العلمي للنشر
علم الحيوان

إذا تفرَّقْنا هُزمنا: التعاون بين الأسود

إذا تفرَّقْنا هُزمنا: التعاون بين الأسود

على الرغم من أن الأسود أكثر حيوانات الفصيلة السِّنَّوْرِية ممارسة

للحياة لاجتماعية، فهي لا تتعاون إلا عندما يكون هذا التعاون

في صميم اهتماماتها الذاتية.

<C . پاكر> – <A . پوزي>

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007733.jpg

تتجمع اللبؤات الشابات، الظاهرة في هذه الصورة، في عراجل يتراوح عددها في أي منها ما بين ست وعشر. وعلى خلاف ما كان العلماء يتصورون يوما ما، لا يحقق هذا التجمع للبؤات توفيقا أكبر في عمليات الاصطياد، إذ إن نصيب الآحاد من الطعام كثيرا ما يكون أوفر من نصيب التجمعات في عرجلة، ولكن التجمع – بدلا من ذلك – يجعل اللبؤات أفضل كأمهات؛ إذ إن رفيقات العرجلة تتقاسم مسؤوليات إرضاع صغارها وحمايتها، ونتيجة لذلك يزداد عدد الأشبال التي يمتد بها العمر حتى مرحلة البلوغ.

 

من التصوّرات الشائعة أن الأسود وهي تصطاد، تصنع أعجوبة في مجال تنسيق الحركات الجماعية. فمع غروب الشمس تقفز جماعة من تلك «السنانير» المتلصِّصة من ثنايا الظلال، كما يفعل السفاحون المتمرسون، لتحيط أفرادها بالفريسة الغافلة. إن الأسود تبدو كما لو أنها حيوانات اجتماعية نموذجية قد تسامت على الخلافات التافهة لتعمل معا في سبيل تحقيق هدف جماعي، هو -في حالتنا هذه- وجبتها التالية. ولكننا بعد أن أمضينا سنوات كثيرة في مراقبة هذه المخلوقات في بيئتها البرية، تكوّنت لدينا عنها فكرة أكثر اعتدالا.

 

بدأت بحوثنا في عام 1978 عندما آلت إلينا تركة دراسة تجمعات (عشائر) الأسود في مُتَنَزَّه سِرِنْجيتي القومي بتَنْزانيا، وهي المهمة التي بدأها في عام 1966 <G . شُلَّر>، الباحث في الهيئة الدولية لحماية الحياة البرّية Wild lifeConservation International التابعة لجمعية نيويورك لعلم الحيوان. وكنا نأمل في اكتشاف السبب وراء انتظام الأسود في جماعات من أجل الاصطياد أو تربية الصغار أو ترويع الأسود المنافسة وإبعادها بصيحات الزئير الجماعية المتناغمة، إلى غير ذلك من الأمور. وكان في تقديرنا أن جميع هذه الصور من «التشرذم» ليس لها مغزى تطوري كبير. فإذا كان ما ينتجه حيوان ما طوال حياته من ذرية باقية مقياسا لنجاحه النهائي سلوكيا، إذًا لَمَا كان للتعاون بالضرورة أي نفع: فلو أن فردا في مجموعة من الحيوانات كان مفرط الكرم، لانتفع رفقاؤه على حسابه. فلماذا إذًا تبدو القواعد التطورية للاهتمام الموْروث بالذات غير قابلة للتطبيق على الأسود؟

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007734.jpg

إن الرابطة الأخوية تيسر على رفيقات العرجلة(1) مهمة حماية أشبالها من الذكور المغيرة (الصورة العليا). وفي مقدور جماعات اللبؤات الغاضبات طرد الذكور الفرادى، مع أن الواحد منها أضخم من الأنثى بنحو %50 في المتوسط (الصورة الوسطى). وكثيرا ما تقوم رفيقات العرجلة أيضا بمهاجمة الدخيلات من الإناث الأقل قوة وقتلها (الصورة السفلى).

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007735.jpg

إن متنزه سرنجيتي القومي في تنزانيا يؤوي تجمعًا (عشيرة ) من الأسود كان موضع دراسات العلماء منذ عام 1966.

 

افترضنا – واثقين – أنه سيكون في مقدورنا حل تلك المشكلة في سنتين أو ثلاث. غير أن الأسود حيوانات فائقة المهارة في عمل لا شيء، حتى إننا لنقترح أن تُعزَّز قائمة الغازات الخاملة النبيلة التي تضم الأرگون والكريپتون والنِيُون، بإضافة عنصر جديد  إليها هو (ليون) (1)… وهكذا فإن إزاحة الستار عن أسرار سلوك «السِّنَّوْريّات» قد تطلبت وسائل بحث متنوعة ومتعددة، فلقد قمنا بتحليل ألبان هذه الأُسود ودمائها ودَنَواتها DNAs، ولم نبخل عليها بالترفيه بإذاعة أشرطة التسجيل الصوتية ووضعنا في طريقها دمى محشوة على هيئة أسود، كما قمنا بِوَسْم بعض الأسود بأطواق لاقطة للموجات اللاسلكية. ولما كان عمر الواحد من الأسُود البرية قد يمتد إلى ثمانية عشر عاما، فإن الإجابة عن تساؤلاتنا لم تبدأ خيوطها بالتكشف إلاّ الآن (أي بعد تسعة عشر عاما من بداية البحث). بَيْد أننا قد بدأنا نكتشف مؤخرا أن الأساس التطوري للنزعة الاجتماعية بين الأسود هو مشكلة أكثر تعقيدا من جميع تكهناتنا السابقة.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007736.jpg

ذكور الأسود تُهْرَع إلى تحدي الأسود الغريبة، سواء أكانت حقيقية أم زائفة. ولقد قام الباحثان بعمل تسجيلات صوتية لزئير أسود غريبة وأذاعاها في مراتع تجمعات الأسود موضوع الدراسة فانسحب بعضها فور سماعها هذه الأصوات ولاذت بمرابضها. وعلاوة على ذلك كانت كثيرا ما تتخذ سلوكا عدائيا فتنقض على «دمى» على هيئة أسود موضوعة في مكان قريب.

 

إشهار الحِمَى

تشكل ذكور الأسود جماعات متحالفة مدى الحياة، مع عدد من الأسود الأخرى يتفاوت بين الواحد والثمانية، وليس هذا التحالف نابعا من حسن النوايا الأخوية، لكنه يستهدف تحقيق أقصى زيادة في فرص التكاثر المتاحة للذَّكَر المتحالف. وفي معظم الحالات يكون رفقاء المجموعة إخوة أو أبناء عمومة (أو خؤولة) نشأت وترعرعت معا في العرين نفسه، ولكن في حالات أخرى يكون الرفقاء من الأباعد التي تآلفت بعد مرحلة من حياة التشرد والعزلة، وبمجرد بلوغ أفراد الفريق مرحلة النضج الجنسي تتولى حراسة إحدى عَرَاجِل الإناث، ومن ثَم تصبح آباء لجميع الذراري التي ستولد في هذه العرجلة في أثناء السنتين أو الثلاث التالية. ومن المعتاد بعد ذلك أن يتدخل فريق منافس من الذكور الأكثر شبابا، فتقوم أفراده بطرد ذكور الفريق القديم. وهكذا نرى أن مدى نجاح أي ذكر في التكاثر يعتمد مباشرة على قدرة الفريق الذي ينتمي إليه على الصمود في وجه ما تمارسه ذكور الجماعات الوافدة من تحرشات وتحدّيات.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007737.jpg

في العادة تقوم لبؤة واحدة من الجماعة بالقبض على الفريسة إذا كانت في حجم الخنزير البري أو التيتل الإفريقي (الصور). ومن حيث إن نجاحها في القبض على مثل هذه الفريسة السهلة أمر شبه مؤكد، فمن الجائز أن تشترك أخواتها في الأكل حتى ولو تنحّت عن مهمة الاصطياد. وهكذا تقف رفيقات العرجلة عادة في المؤخرة على مسافة آمنة في انتظار وجبة مجانية. ولكن إذا قلت احتمالات نجاح اللبؤة الواحدة في قتل الفريسة – إن كانت الأخيرة حمارا مخططا أو جاموسًا مثلا – فإن رفيقاتها ستنضم إليها للمشاركة في تعقب الفريسة والإيقاع بها (الرسوم البيانية).

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007738.jpg

 

وتتضافر ذكور الفريق في بذل غاية جهدها لتنحية الذكور الدخيلة التي تمثل أعظم مصدر تهديد لمصالحها المشتركة. ففي جوف الليل تظل أُسُود الفريق تذرع منطقة حِماها، وهي تطلق سلسلة من صيحات الزئير العالية معلنة ملكيتها للمكان، وكنا كلما أَذَعنا في المنطقة تسجيلات لصوت زئير أسد غريب كانت الاستجابة فورية من جانب أسود المنطقة متفحِّصةً مصدر الصوت، وقد يصل الأمر بها إلى مهاجمة دمية أسد محشوة كنا نضعها أحيانا على مقربة من مكبر الصوت. ولقد أجرى تلميذنا <J. جرينِّل> عشرات التجارب من هذا القبيل، فوجد أن تعاون أفراد الفريق – إذا كانت من الأباعد – لا يقل عنه إذا كانت من الأشقاء. كما لاحظ أن بعض الأسود كانت تبادر بالاقتراب من مصدر الصوت من دون انتظار لتصرفات الرفاق الأُخر، بل إن ردود فعل بعض الذكور كانت تبلغ أحيانا ما يشبه العملية الانتحارية؛ إذ كان الواحد منها يقترب منفردا من المصدر الذي كان ينبعث منه زئير ثلاثة أسود غريبة.

 

وبصفة عامة تسود المجموعاتُ الكبيرةُ المجموعاتِ الصغيرةَ. وفي التحالفات الكبيرة تكون الأسود في العادة أحدث عمرا عند أول دخولها في العَرْجَلَة، وبهذا تكون فترة بقائها فيها أطول، فضلا عن كون ما في حوزتها من الإناث أكثر. وفي الواقع تكون المكاسب التناسلية للتعاون عظيمة إلى درجة تدفع معظم الذكور الفُرادى إلى تعزيز وضعها بانضمام بعضها إلى بعض. ومهما يكن من أمر فإن عدد الشركاء في مثل هذه التجمعات بين الأباعد لا يزيد على ثلاثة أسود، في حين أن التجمعات المؤلَّفة من أربعة وحتى تسعة أسود تكون أفرادها وثيقة صلة القربى بعضها ببعض، فلماذا لا تقبل مجاميع الذكور الأباعد بين صفوفها المزيد من الشركاء حتى تصل أيضا إلى الحجم الذي يضمن لها المَنَعة؟ مرة أخرى، يرجع ذلك إلى أسباب جينية (وراثية) تتعلق بالمحافظة على النفس؛ إذ يتوقف الأمر بوجه خاص على نتيجة الموازنة بين ما قد ينتجه التجمع للذكر من فرص الإفضاء إلى إحدى عراجل الإناث وبين ما يمكن أن يتحقق له بالفعل من إنجاب الأشبال.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007739.jpg

يشترك أفراد العرجلة في اقتسام الفرائس. وإذا كان مكان قتل الفريسة قريبا من العرين أحضرت الأمّهات صغارها للاشتراك في الوليمة. أما في حالة بُعد المسافة فإنها تجلب الغذاء إلى الصغار في صورة لبن.

 

وعلى الرغم من أن التحالفات الكبيرة تُنْتِج أكبر عدد من الذرية بالنسبة لجملة عدد الآباء، يَفترِض احتساب المتوسط على هذا الأساس عدالةَ القسمة بين جميع أفراد التجمع، وهذه صورة من التعاون لا تحدث في متنزه سِرِنْجيتي. فالحقيقة هي أن أول ذكر يعثر على أنثى في حالة إِجْعَال(2)  فإنه يتولى حراستها ويغار عليها، ويعاود معاشرتها جنسيا المرة تلو الأخرى على مدى الأيام الأربعة التالية، ويهاجم أي ذكر آخر يغامر بالاقتراب متجاوزا الحدود. ولقد قام <D. گلبرت> (الباحث في مختبر <S. أوبرين> التابع للمعهد القومي للسرطان) بأخذ البصمات الدّنَاوية (الوراثية) DNA fingerprintings  لمئات العينات من الأسود التي نُجري عليها مشاهداتنا، فوجد أن الذكر الواحد يكون في العادة أبا لقطيع (ولدة) كامل من الأشبال. وفضلا عن ذلك، لا يتساوى نصيب الذكر الواحد من الذرية مع نصيب غيره إلا في حالةِ تحالفٍ بين ذكريْن اثنين. أما في الأحلاف الكبيرة فإن الجانب الأكبر من الذرية يكون في العادة من نسل عدد قليل من الذكور. وفي الحقيقة إن البقاء بلا ذرية لا يكون أمرًا بالغ السوء من الناحية الجينية (الوراثية) genetic standpoint، إذا كان الشريك الأنجح في الإنجاب أخا للمحروم من الذرية أو ابن عم له؛ إذ من الممكن اعتبار هذا الأخير متناسلا بالوكالة، بل إنه من الممكن للمحروم أن يملأ الدنيا – عن طريق إخوته وأبناء عمومته – ذرية تحمل جيناته هو. أما إذا كان هذا الأسد المحروم من الإنجاب وحيدا فإن انضمامه إلى أي عدد من الأباعد يكون أمرا غير ذي جدوى.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007740.jpg

تشترك جميع الأمهات في العرجلة معا في مهمة إرضاع الصغار، ليس بدافع الكرم ولكن بسبب الإجهاد بالدرجة الأولى. والصورة العليا تمثل الأشبال وهي ترضع من أمهاتها بعد عودتها من رحلة الصيد. ولو بقيت الأمهات يقظة فلن تسمح أي منها بالحصول على لبنها إلا لأشبالها هي. والصورة السفلى تمثل إحدى محاولات الرضاعة التطفلية التي قام بها شبل مراهق ضخم. فعلى الرغم من أن الأشبال تحاول عادة أن تجعل معظم رضعاتها من أمهاتها بالذات، تكون أحيانا شديدة الدهاء في محاولاتها الرضاعة من إناث أخريات (الرسوم البيانية).

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007741.jpg

 

الاصطياد

كان الظن التقليدي السائد هو أن إناث الأسود تعيش في جماعات للاستفادة من الاصطياد التعاوني cooperative hunting. (تمارس الإناث الاصطياد أكثر من الذكور المقيمة). ولكننا – بالملاحظة عن كثب – وجدنا أن التجمع للصيد لا يوفر – بأية حال – فرصا أفضل للطعام؛ وفي واقع الأمر فإن التجمعات الكبيرة تمنى بالفشل في نهاية المطاف، إذ إن الرفاق كثيرا ما ترفض التعاون عند الإمساك بالفريسة.

 

إذا ما بدأت إحدى الإناث الاصطياد فإن رفيقاتها قد تنضم إليها وقد لا تفعل. فلو كانت الفريسة كبيرة بحيث تكفي لإطعام السِّرْب بأكمله – كما هي الحال في العادة – وقعت الرفيقات في حيرة من أمرها. ومع أن الاصطياد الجماعي أقرب إلى النجاح، فهو ينطوي على مضاعفة للأخطار تتمثل في الإجهاد واحتمالات الأذى التي ستتعرض لها الصائدات الإضافيات، أما إذا كان في مقدور الصائدة الرائدة أن تنجح في المهمة بمفردها، فهنا يمكن أن تفوز رفيقات سِربها بوجبة مجانية. وهكذا فإن مزايا الاصطياد التعاوني تعتمد على مدى تحسن فرص النجاح أمام الصائدة الرائدة بانضمام صائدة ثانية إليها، وهذا الأمر يتوقف بدوره على مستوى قدرة الصائدة الثانية. فلو كان نجاح الأولى بمفردها أمرا مؤكدا فإن المخاطرة بالمساعدة بالاصطياد الجماعي ستكون عديمة الجدوى، أما إذا لم تكن الصائدة الرائدة على المستوى المطلوب من المهارة لإنجاز المهمة بمفردها فهنا سيكون لانضمام إحدى رفيقاتها إليها من المزايا ما ترجح كفته كفة تكلفة هذا الانضمام.

 

وتشير القرائن المستخلَصة من دراسة العديد من أنواع الطيور والحشرات والثدييات إلى أن التعاون يصبح مطلبا ملحا إلى أقصى حد عندما يكون الصائد المنفرد بحاجة فعلية إلى العون. والمَحَكُّ في هذه القضية السلوكية هو أن التعاون بين أفراد أي نوع من هذه الحيوانات يقل إلى أدنى معدلاته عندما يكون في مقدور الفرد المتصدِّي لبدء عملية القنص تحقيق النجاح في مهمته بمفرده وبسهولة متناهية. ومما يتوافق مع هذه الملاحظة أن <D . شيل> (طالب الدراسات العليا) وجد أن أسود متنزه سرنجيتي تعمل معا في أغلب الأحوال وهي تتصدَّى لاصطياد فريسة صعبة المِراس كالحمار الوحشي أو الجاموس، أما عندما يكون الأمر متعلقا بفريسة سهلة كالخنزير البري (الوحشي) أو الغزال الإفريقي، فإن اللبؤة تضطلع وحدها عادة بعملية الاصطياد، في حين تكتفي رفيقاتها بالمراقبة من الخطوط الجانبية.

 

على أن الأمور لا تسير على المنوال نفسه في جميع أنحاء الدنيا، فمثلا بمنطقة إيتوشاپان في ناميبيا تتفوق الأسود في الإمساك بواحد من أكثر أنواع الأيائل قدرة على الجري وهو القوفز springbok، وذلك في الساحات المفتوحة المنبسطة. ومن حيث إنه يستحيل على الواحد من الأسود الإمساك بهذا الحيوان فإن أسود منطقة إيتوشا تحرص على التعاون الدؤوب في إنجاز هذه المهمة. ولقد قام الباحث <Ph  . ستاندر> (الذي يعمل بوزارة البيئة والسياحة في ناميبيا) بإجراء مضاهاة بين أسلوب أسود «إيتوشا» في الصيد الجماعي (التعاوني) وبين إستراتيجية فريق لاعبي كرة الرگبي، إذ يتحرك القلب والجناحان معا وبشكل فوري للإحاطة بالكرة – الفريسة في الحالة هذه. وهذا عمل جماعي تعاوني رفيع المستوى، ويتميز بوضوحٍ شديدٍ عن الأسلوب غير المنظَّم الذي تتبعه أسود «سرنجيتي» في ممارسة الصيد.

 

إن إناث الأسود كافة – سواء التي تعيش في متنزه سرنجيتي -أو في أي مكان آخر- تبدي درجة عالية من التعاون إذا كان الأمر متعلقا بتربية الصغار. فاللبؤات تلد صغارها في سرية، وتحفظها في أمكنة خبيئة آمنة -كوادي نهر جاف أو نتوء صخري- لمدة شهر على الأقل حيث تكون الصغار عاجزة عن الحركة وأسهل وقوعا في براثن المفترسات. وبمجرد أن تتمكن الأشبال من الحركة تخرجها أمهاتها إلى الخلاء لتنضم إلى سائر العرجلة. فإن كان لأي من الأمهات الأُخر أشبال اشتركت جميع الأمهات في بناء عرين creehe، وظل بعضها على اتصال وثيق ببعض لفترة الثمانية عشر شهرا التالية قبل أن تعاود الإنجاب. وتقود كل أم أشبالها إلى مكان الفريسة المصيدة إذا كان قريبا. أما إذا كان بعيدا فإن الأمهات تجلب الغذاء إلى الصغار في العرين -في صورة لبن- وعند عودة الأمهات من تلك الأمكنة القصية، تنهار من الإعياء وتستسلم للنوم تاركة الصغار ترضع. ولقد قمنا بدراسة بضعة عشر عرينا، وفي جميع الحالات تقريبا وجدنا أن كل شبل كان يُسْمح له بالرضاعة من كل أم في الجماعة. فالحضانة الجماعية هي أحد المكونات الرئيسية للسر التعاوني بين الأسود.

 

ومع هذا – وكما هي الحال في معظم الصور الأخرى للتعاون بين الأسود – فإن هذا المسلك ليس من النبل أو السمو على هذا المستوى الذي يبدو به لنا. إن أعضاء العرين الواحد تأكل من الفرائس نفسها ثم تعود إلى أشبالها في جماعة. وفي حين يتكون أحد أقسام الجماعة من أخوات، يتألف قسم آخر من أم وبناتها، ولا تتعدَّى القرابة بين أفرادِ فريقٍ ثالثٍ درجةَ بنات العمومة أو الخؤولة. ومن حيث حجم الذرية، قد لا يتجاوز عددها في قسم من العرين شبلا واحدا لكل أنثى، في حين يصل نصيب الأنثى في قسم آخر إلى رهط من أربعة أشبال. أما معظم الأمهات فيكون لكل واحدة منها شبلان أو ثلاثة. ولقد قمنا بحلب قرابة اثنتي عشرة لبؤة، ولدهشتنا وجدنا أن كمية اللبن من كل مُرضِع لم تكن متناسبة مع عدد أبنائها وإنما مع كمية ما دخل جوفها من طعام.

 

فمع أن بعض إناث العرجلة وراءها من الأفواه المفتوحة للطعام أكثر مما وراء غيرها، تكاد تتساوى جميعها في حجم إنتاج اللبن؛ فالأمهات القليلة الذرية تستطيع أن تكون أكثر كرمًا. والحقيقة أن الأمهات ذوات الشبل الواحد تعطي لأشبال غيرها من الأمهات نسبة أكبر من ألبانها عن طيب خاطر. ويبلغ سخاء هذه الأمهات أقصى مداه مع الرفيقات الأدنى قرابة. وهكذا يعتمد نظام توزيع اللبن إلى حد كبير على عامليْن: فائض الإنتاج ودرجة القربى. ويلاحظ هذا لدى إناث أنواع من القوارض والخنازير واللواحم وغيرها من الثدييات التي يكون مجال الاختلاف في حجم الذرية بينها واسعا، ومع ذلك تعيش أفرادها في جماعات «أسرية» صغيرة، ومن ثم يكون الإرضاع الجماعي بينها أكثر شيوعا.

 

http://oloommagazine.com/images/Articles/14/SCI98b14N4_H01_007742.jpg

يشيع التعاطف بين رفيقات العرجلة، إذ يعتمد بعضها على بعض في حماية صغارها، في حين تمثل الذكور واحدا من أخطر مصادر التهديد. فما إن يستولي أحد تجمعاتها على عرجلة جديدة من الإناث حتى تعمد الذكور الوافدة – في لهفتها على إنتاج ذرية من أصلابها – إلى قتل جميع صغار أشبال العرجلة وطرد كبارها خارجها.

 

وعلى الرغم من أن إناث الأسود تتبادل بالفعل إرضاع ذراريها، تحاول كل أنثى أن يكون لبنها لأشبالها هي أولا وأن تصد محاولات الاقتراب التي يقوم بها الجوعى من أشبال غيرها. ولكن هذه الإناث بحاجة أيضا إلى النوم، وعندما تأخذ الواحدة إغفاءة تمتد لساعات فإنها تتيح للأشبال فرصة مغرية عظيمة، فالشبل الذي يحاول الرضاعة من غير أمه ينتظر عادة حتى يغلبها النوم أو تبدو مشتتة الانتباه. ولذا يتحتم على كل أنثى أن توازن بين الجهد المطلوب بذله لصد محاولات الأشبال المتطفلة وبين ما تعانيه من إعياء يتطلب منها أن تنام.

 

إذًا صفة السخاء بين إناث الأسود هي – إلى حد بعيد – حالة لا مبالاة. فالأنثى التي لا تمتلك مما يُحرص عليه إلا أقل القليل، تنام كأفضل ما يكون، إما بسبب قلة ذريتها وإما العون الذي تقدمه قريباتها الأدنى. وقد وَجَدتْ إناثُ الضباع الرقطاء حلا لهذا  التعارض، وذلك بالفصل بين مكان نومها ومكان إرضاع الصغار، فهي تحفظ صغارها في وِجار den آمن تتردد عليه فتراتٍ قصارًا لإطعام الصغار ثم تغادره وشيكا لتنام بسلام في مكان آخر. وبمراقبة إناث الضباع في أَوْجِرَتها وجدناها تتعرض لمحاولات الرضاعة التطفلية (من جِرَاء الأمهات الأخريات) بمثل ما تتعرض له إناث الأسود، ولكن إناث الضباع أكثر يقظة ووعيا، لذا كانت أقدر من إناث الأسود على منع تلك المحاولات.

 

استمرار الحياة في «سرنجيتي»

كما رأينا، تكون إناث الأسود أكثر ميلا للتجمع عندما يكون لها صغار بحاجة إلى الرعاية، وهنا يكون العرينُ المركزَ الاجتماعي لأفراد العرجلة. ومن وقت لآخر تقوم بعض الإناث عديمة الذرية بزيارة الرفيقات الوالدات، ولكنها لا تهتم عادة إلا بشؤونها الخاصة، فهي تتغذى جيدا وتتحاشى التورط في المشاركة في العلاقات المعقدة التي تتطلبها الحياة الاجتماعية في العرين، الذي يمثل قاعة الطعام ودار الحضانة معا. إن الأمهات لا تبني العرين لتحسين تغذية صغارها، فالأمهات في الجماعة قد يكون نصيبها من الطعام – وبالتالي نصيب صغارها – أقل من الأمهات الفرادى. وفي عالَم الأسود لا يوجد نظام جليسة الأطفال babysitter لضمان الإمداد المستمر بالطعام في غياب الأم. إذًا فمن الواضح أن الأمهات تشترك في بناء العرين لحماية النفس والصغار وحسب.

 

تحتاج اللبؤة إلى مدة قد تبلغ العامين لتصل بأشبالها إلى مرحلة الاعتماد على النفس، فإن ماتت الأشبال قبل انقضاء هذه المدة، فإن الأم ستقبل المعاشرة في خلال أيام قلائل، ومن ثم تنقص فترة ما بين الولادتين قرابة العام. ومن المعروف أن ذكور الأسود نادرا ما تتودّد إلى صغارها، وإن كانت حماية هذه الصغار ثمرة لما تقوم به الآباء من جولات في أرجاء المنطقة. وإذا حدث وتعرضت جماعة من الذكور للطرد من حماها فإن الأسود التي تخلفها فيه ستتعجل التزاوج لتكوين نسل جديد. وهنا تكون الأشبال الباقية من الجماعة السابقة عقبة تعترض رغبة الذكور الوافدة في تحقيق أهدافها الملحة، وبالتالي تتحتم تنحية هذه الأشبال. ومن الملاحظ أن أكثر من رُبْع مجموع هذه الأشبال تتولى قتلَه الذكورُ المغيرة، بيد أن الأمهات ستكون في النهاية ضحايا هذا الصراع، فهي تستبسل في الدفاع عن صغارها ضد الذكور الدخيلة. ولكن الذكور تفوق الإناث ضخامة بنسبة تقدر بنحو %50، ولذا فإن هزيمة الإناث في هذا الصراع غير المتكافئ تكون مؤكدة لو دار فردا لفرد، بيد أن صلة الأخوة التي تربط الإناث في العرجلة الواحدة تكسبها فرصة لمواصلة القتال، وفي كثير من الحالات يحقق التآزر بين رفيقات العرين نجاحها في حماية ذراريها.

 

ليست الأسود الذكور هي المشكلة الوحيدة التي تواجه الإناث، فهي أيضا – كالذكور – تحافظ على حماها، ومن ثم تذود الإناث الغريبة عن مجالات الصيد وأمكنة الاختباء ومصادر الماء، حيث تكون الغلبة للعراجل الكبيرة على الصغيرة. وقد تهاجم بعض الإناث جاراتها وتقتلها. والمشاحنات بين الإناث تمتد أطول من التحديات بين الذكور، لأن الذكور تكرس نشاطها التناسلي غالبا في عدد قليل من السنين، في حين قد تمتد الحياة التناسلية للإناث إلى أحد عشر عاما، ولذا فالصراع على الحدود يكون بين عراجل الإناث أطول أمدا مما يحدث بين تحالفات الذكور، ومن ثم فهي تتبع إستراتيجية أكثر حذرا حيال الغرباء. وبناء على مشاهدات <K. مكوم> (حاليا بجامعة سَسِّكسْ) لا تتصدى الإناث لطرد مزاحماتها -عند سماع أصواتهن المسجلة- إلا إذا تفوقت عليها في العدد باثنتين على الأقل. وإناث الأسود يمكنها العَدّ وتفضّل ترك «هامش أمان»، فالفروق العددية هنا تشكِّل مسألة حياة أو موت، وأي عرجلة يقل عدد أفرادها عن ثلاثة مقدر عليها أن تحيا حياة عقيمة خاملة، متجنبة العراجل الأخرى، وعاجزة عن إنجاب أية أشبال.

 

إن عرجلة الأسود هي الملجأ الذي تستطيع فيه أفرادٌ ذات مصالح تناسلية مشتركة أن تتأهب فيه لمواجهة التحرك القادم للعدو – الذي هو أسود أخرى قد تكون ذكورا أو إناثا – وهي محصَّنة ضد الهزيمة. ولقد رأينا – على مر السنين – مئات من الذكور تجيء وتذهب، وتحالفاتٍ ينتهج كل منها المنهج نفسه من الغزو والقتل فالإنجاب، يتلوها الانحدار والسقوط الحتميان. وقد رأينا عشرات العراجل يحكم كل منها قطعة الأرض التي تخصه في متنزه سرنجيتي، ولكن في مقابل كل عرجلة جديدة تنجح في تأسيسها كانت تختفي عرجلة أخرى، ومن الحق أن نقرر أن الأسود قد تبدو عظيمة في غاياتها المشتركة، وهي تناضل جيرانها من أجل الاحتفاظ بالأرض، وصد أي زحف غير مرغوب فيه من قِبَل الذكور. وعلى أية حال فإن الأسد – ملك الضواري – يقدم لنا نموذجا حيا لبوتقة تطورية يشكَّل فيها مجتمع تعاوني.

 

 المؤلفان

Craig Packer – Anne E. Pusey

أستاذان في قسم علوم البيئة والتطور والسلوك بجامعة مينيسوتا، وقد أجريا دراساتهما – موضوع هذا المقال – في معهد بحوث الحياة البرية في متنزه سرنجيتي بجامعتي شيكاگو وسَسِّكْس. أتم پاكو دراسة الدكتوراه عام 1977 بجامعة سَسِّكْس، وهي السنة نفسها التي تسلمت فيها پوزي -شريكته في البحث- الدكتوراه من جامعة ستانفورد.

 

مراجع للاستزادة 

A MOLECULAR GENETIC ANALYSIS OF KINSHIP AND COOPERATION IN AFRICAN LIONS. C. Packer, D. A. Gilbert, A. E. Pusey and S. J. O’Brien in Nature, Vol. 351, No. 6327, pages 562-565; June 13, 1991.

INTO AFRICA. Craig Packer. University of Chicago Press, 1994.

NON-OFFSPRING NURSING IN SOCIAL CARNIVORES: MINIMIZING THE COSTS. A. E. Pusey and C. Packer in Behavioral Ecology; Vol. 5, No. 4, pages 362-374; Winter 1994.

COMPLEX COOPERATIVE STRATEGIES IN GROUP-TERRITORIAL AFRICAN LIONS. R. Heinsohn and C. Packer in Science, Vol. 269, No. 5228, pages 1260-1262; September 1, 1995.

Scientific American, May 1997

 

(1) العَرْجَلَة Pride: الجماعة من الأسُود ونحوها. (التحرير)

(2) يستخدم المؤلفان الجناس اللفظي الناقص بين اسم الأسد باللغة الإنكليزية (ليون) وبعض أسماء الغازات (أرگون، نيون..) للتنويه إلى صفة الخمول المشتركة بينهما. (التحرير)

(3) in estrus أَجْعَلَتْ واستَجْعَلَتْ اللبؤة بمعنى أَحَبَّتْ السِّفاد واشتهت الفحل. (التحرير)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.

زر الذهاب إلى الأعلى