حياة لِيڤْ لَنْدَاوْ السرية للغاية
حياة لِيڤْ لَنْدَاوْ السرية للغاية(*)
تثبت ملفات البوليس السري السوڤييتي(KGB) (1)
أن هذا العالم السوڤييتي العبقري شارك في كتاب البيان الرسمي المناهض لستالين.
<G. گُورْلِيكْ>
تمثل نظريات <D .L. لَنْدَاوْ> العمود الفقري لفيزياء المادة المكثَّفة mattercondensed في القرن العشرين. وقد شَرحت هذه النظريات الميوعة الفائقةsuperfluidity والموصلية (الناقلية) الفائقة superconductivity وجوانب متنوعة من الفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات ومواضيع متعددة أخرى. وحتى أيامنا هذه، فإن سويات لنداو Landau levels ومغنطيسية لنداو المعاكسة Landaudiamagnetism وطيف لنداو Landau spectrum ونظرية لنداو – گينزيبورگ Landau -Ginzburg theory، واكتشافات أخرى له مازالت تمثل أدوات أساسية في البحوث الفيزيائية؛ كما أن كتبه علّمت أجيالا من العلماء. وجدير بالذكر أن مكتبة جامعة هارڤارد تضم عناوين لكتب وبحوث لهذا الفيزيائي السوڤييتي يعادل عددها أربعة أمثال عناوين كتب وبحوث الفيزيائي الأمريكي الذائع الصيت <R. فاينمان>.
وتقديرا لإنجازات لنداو، فقد مُنِحَ عام 1962 جائزة نوبل. وقد رأى المعجبون بلنداو منظِّرا يعيش في صومعة، ويتسم بالجرأة والوقاحة والجاذبية؛ إلا أنه بعيد عن رتابة الحياة اليومية. ولكنهم كانوا يجهلون جانبين سياسيين لحياته: السنة التي أمضاها في سجون جوزيف ستالين في أواخر الثلاثينات. وإسهاماتِهِ في صنع القنبلة النووية لهذا الطاغية بعد انقضاء عقد على ذلك.
ولم نعلم إلا حديثا أن لنداو كان شخصا خاض في المشكلات السياسية، ممّا جعله موضع شك دائم من قِبَلِ الـ KGB (البوليس السري السوڤييتي). وقد عُرِفَتْ هذه الحقيقة مصادفة إلى حد ما. ففي عام 1989 نَشَرَتْ <M. بِيسِّيراب> (ابنة أخت زوجة لنداو) الطبعة الرابعة من السيرة الذاتية لهذا العالم. ولمّا كانت سياسة الانفتاح (الگلاسْنَسْتْ) بدأت في ذلك الحين، فقد ادعت المؤلفة أنّ بإمكانها أخيرا رواية القصة الكاملة حول اعتقاله عام 1938. وتروي بيسّيراب أنّ تلميذا سابقا للنداو، اسمه <L. پِياتيگورسكي>، كان ساخطا عليه واتهمه بالتجسس لمصلحة الألمان، وأن هذا حدث خلال موجة الإرهاب الستالينية العاتية، حين أُعدم الملايين بناء على تهم وهمية.
ولسوء حظ بيسيراب، فقد كان پياتيگورسكي وقتذاك على قيد الحياة؛ وكان صحيحا أن لنداو طرده من فريق الفيزيائيين النظريين الذي يعمل بإشرافه في معهد خاركوف بأوكرانيا. وكان بإمكان “دَاوْ” (وهو الاسم الذي كان يطلقه على لنداو العظيم تلامذتُه المعجبون به) أن يقسو جدا عليهم، ممّا جعلهم يعلّقون لافتة خارج مكتبه كُتِبَ عليها: “حَذَارِ، فإنه يعضّ!” ومع ذلك، فقد كان پياتيگورسكي حينذاك يبجّل لنداو، ونظرا إلى الصدمة التي أصابته من جراء التهمة الموجّهة إليه، قام في صيف 1990 باستدعاء بيسّيراب إلى المحكمة.
ما الذي تحويه ملفات الـ KGB؟
عندما طلب القاضي ـ الذي حُوِّلَت إليه القضية ـ إلى KGB مراجعة ملفات لنداو، تَبَيَّن أنها لا تتضمّن أية إشارة إلى پياتيگورسكي، مما حدا ببيسيراب أن تنشر اعتذارا عمّا ادّعته. وإنني أظن أن الـ KGB كان يعتقد في ذلك الوقت أن هيبة العلم السوڤييتي لم تكن ضحية بريئة للحماقة الستالينية، وإنما لمجرم متمرس مضاد للسوڤييت. وفي عام 1991 نشر الـ KGB المحتوَى الكامل تقريبا لملف لنداو في مجلة لم تدم طويلا، وكانت مخصصة لأمور الانفتاح وعنوانها “مجلة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.”
وما حدث هو أنني تمكّنت من الاطلاع على ملف لنداو قبل بضعة أسابيع من نشره. فَعَقِبَ بداية الپريسترويكا مباشرة، في أواخر الثمانينات، عُيِّنْتُ باحثا في معهد تاريخ العلوم والتقانة في موسكو. وكان مدير المعهد ابن وزير الدفاع السابق <D. أُوسْتينوڤ>. ولمّا كنت أدرك أن اسمه يمكن أن يساعد على تجاوز بعض الحواجز، فقد قَرَّرْتُ أن أجرب حظي في الاطلاع على ملف الـ KGB.
وبحذر شديد كتبت رسالة تشير إلى أننا نجهل تماما إلى حد ما مصير كثير من الفيزيائيين السوڤييت الكبار الذين اعتُقلوا في الثلاثينات. وبعد أن أوردت أسماء 24 منهم، سألت عما إذا كان من الممكن للمؤرخين دراسة ملفاتهم. وبعد أسبوعين من التفكير العميق، وافق أوستينوڤ على تحويل رسالتي إلى الـKGB.
ولحسن حظي حُوِّلت الرسالة (كما عَلِمتُ فيما بعد) إلى نائب لرئيس (هذا البوليس) معروف بليبراليته الاستثنائية.
صورة التُقطت عام 1934 للنداو (في الأمام) على عتبة المعهد الفيزيائي التقاني في خاركوف بأوكرانيا. إن مساعي لنداو لإنقاذ الفيزياء النظرية في ذلك المعهد سرعان ما أوقعته في مشكلات خطيرة. |
وبعد شهرين من ذلك، أخبرني الـ KGB أن بإمكاني تفحّص الملفات في رئاسته العامة التي تشغل مبنى لوبيانكا، الذي أمضى فيه عدد لا يُحصى من السجناء ساعاتهم الرهيبة الأولى. وقد قام أحد الحراس بتفتيشي عند الباب تفتيشا دقيقا يدعو إلى الدهشة. لم يكن هناك غرفة للقراءة، بل كان ثمة غرفة صغيرة فقط لأقارب السجناء. وبعد أن ذَكَرَ لي العاملون هناك أنه لن يكون من المريح لي العملُ في غرفة تعجّ بأناس يبكون، فقد سمحوا لي باستعمال مكتب أحد الموظفين الذي كان في إجازة مرضية حينذاك. ومن المحتمل أن تكون هذه الغرفة، التي ما زالت مغطاة برقائق خشبية منذ الثلاثينات، هي التي استُجْوِبَ لنداو فيها. وقد تمكنت من أن أرى عبر النافذة السجن الداخلي الذي احتُجز فيه.
هذا وقد جرى استجوابي أنا أيضا، إذ سألني موظفان عما يمكن أن تحويه ملفات لفيزيائيين فارقوا الحياة من أمور مثيرة للاهتمام. وفيما كنت أجيب عن أسئلتهما، بَدَأْتُ أفكر في سبب السماح لي أصلا بدخول مبنى رئاسة الـ KGB. ومن المؤكد أن اللذيْن توليا استجوابي كانا يعرفان أن والديّ اليهوديين غادرا منذ عهد قريب روسيا إلى الولايات المتحدة ـ فهل كانا يحاولان تدبير مكيدة لي؟ إلا أنه لم يمض وقت طويل قبل أن تهدأ أعصابي، إذ فهمت أن الـ KGB كان، بكل بساطة، يسعى جاهدا إلى تحسين صورته العامة. وعندما سألني المحققان عمّا إذا كان <A. ساخاروڤ> فيزيائيا جيدا حقا أم أنه كان مجرد منشق، أدركت أن الرجلين كانا أيضا محبين للاستطلاع مثلي.
وبعد بضع ساعات تركاني مع خمسة ملفات على المكتب. كانت هذه الملفات مؤرخة من عام 1930 إلى عام 1952، وكان بعضها أبعد ما يكون عن الترتيب والنظام. أما ملف لنداو، الذي أُلقي القبض عليه قرب نهاية موجة الإرهاب العاتية ـ حين بدأت تعود بعض مظاهر التعقّل ـ فقد كان نظيفا جدا. وبعد أن فتحته سألت نفسي أولا عما إذا كان الملف زُوِّرَ في التسعينات؛ لكنني قررت أخيرا أن جميع الوثائق، بما فيها التلفيقات الواردة فيها، تعود إلى الثلاثينات. ولسوء الحظ، فلم يكن هناك أي وسيلة لأخذ نسخ أو صور عن أي شيء، باستثناء النقل بخط اليد.
لقد أُلقي القبض على عالِمَي الفيزياء <B .Y. رومر> و<M. كوريتز> في الليلَة نفسها التي احتُجِز فيها لنداو. كان رومر أحد روّاد الكيمياء الكمومية (الكوانتية)؛ أمّا كوريتز، الذي لم يكن شخصا مشهورا، فكان صديقا مقرَّبا للنداو وحليفا له، وكان من الناس الذين يستنصحهم فيما يتعلق بشؤون حياته اليومية.
وَجَدْتُ في ملف رومر ثلاثة تقارير كتبها مخبرون لم تُذكر أسماؤهم عليها. وكان أحد هذه التقارير غير مؤرَّخ ويتسم بالغرابة ـ فقد ورد فيه أن أحد معارف رومر كان ابنا لأحد حاخامات اليهود، وأنه كان يعيش في برلين ويعمل في الگستاپو (البوليس السري النازي) التابع لأدولف هتلر. أما التقرير الثاني، المؤرّخ في الشهر 3 / 1938، فيورد وصفا لحديث جرى بين رومر ولنداو حول الموظفين السوڤييت، عَبَّرَ لنداو خلاله عن رأيه بأنه لا يُرجى خير من الناس الذين وُلِدُوا وهم أدنى من البشر! وفي التقرير الثالث، المؤرخ في 19/ 4 / 1938، ذكر المخبر أن لنداو وَرومر كانا على عِلْم بمنشور مضاد للسوڤييت كان مُعدا للتوزيع. وكان من المفروض أن تكون النسخة الأصلية، المكتوبة بخط اليد، لهذا المنشور الغريب موجودة في ملف كوريتز ـ الذي أُخبرت بأنه موجود في مكتب المدّعي العام. لكن ملف لنداو كان يحوي نسخة منه مطبوعة على الآلة الكاتبة.
وقد خُطِّطَ لاستخراج نسخ مطابقة للمنشور كي توزّع سرا خلال العرض العسكري الذي يُقام في الأول من مايو (آيار) كل عام. وهاكم نصه:
أيها الرفاق!
إن الأهداف الكبرى لثورة أكتوبر قد جرت خيانتها على نحو ذميم… فقد زُجَّ بالملايين من أبناء شعبنا الأبرياء في السجون، ولا يعلم أحدٌ منّا متى يحين دوره… ألا تَرَوْن أيها الرفاق أن زمرة ستالين قامت بانقلاب فاشي! لم يتبق من الاشتراكية إلا ما هو مكتوب على صفحات الجرائد المليئة بالأكاذيب. إنّ ستالين، الذي ُيكِنُّ كراهية لا حدود لها للاشتراكية الأصيلة، أضحى مثل هتلر وموسوليني. وبغية الحفاظ على سلطته، فإنه يقوم بتدمير البلاد ليجعل منها لقمة سائغة للفاشية الألمانية البغيضة…
إن بروليتاريا بلدنا، التي قضت على حكم القياصرة والرأسماليين، قادرة على التخلص من ديكتاتور فاشي ومن عُصْبَتِهِ.
عاش يوم الأول من مايو (آيار)، يوم النضال في سبيل الاشتراكية!
إن أحداث اعتقال لنداو وكوريتز واستجوابهما من قِبَلِ البوليس السري السوڤييتي (KGB) عام 1938 دُوِّنت من قِبَلهِمَا على عجلة من أمرهما في كرّاسة تدعو إلى قلب الحكم. لقد نُشرت النسخة المطبوعة على الآلة الكاتبة لهذه الكراسة (في اليسار) وأمر الاعتقال (في الأسفل) من قِبَلِ الـ KGB عام 1991. وبعد مضيّ شهرين على حبس لنداو، كَتَبَ اعترافا (في اليمين) يورد فيه تحرره من الأوهام التي راودته تجاه النظام السوڤييتي. وفي عام 1991 بعث الـ KGB بصورة وَجْهِ لنداو التي التُقطت له في السجن (في الأسفل) إلى الصحيفة السوڤييتية پيرودا، ولكنه رفض تسليمها تقريرا ملخصا عن حياة لنداو في السجن بحجة أنه كان محبطا جدا. |
ـ حزب العمال المناهض للفاشية وعلى ما أعلم، فإن هذا البيان هو واحد فقط من ثلاثة بيانات تدين ستالين، كتبها أحد المواطنين السوڤييت إبّان موجة الإرهاب العاتية. وثمة بيان آخر، وهو رسالة مفتوحة، نشرها عام 1939 أحد الدبلوماسيين السوڤييت الذي هرب إلى باريس، وبعد مدة قصيرة من ذلك، مات هذا الدبلوماسي في ظروف غامضة. أما البيان الثالث فكان مدوّنا في المذكرة اليومية الشخصية التي تعود إلى <v. ڤيرنادسكي> مدير معهد الراديوم. إنّ كتابة مثل هذه الإدانة، بل والتخطيط لتوزيعها، أمر يتطلب شجاعة نادرة قد تصل إلى حد التهور. هذا وإن إدراك سبب عدم قيام البوليس السري السوڤييتي بتنفيذ حكم الإعدام فورا بأولئك الذين ارتكبوا هذه الأفعال يتطلّب تعرّف بعض الأمور السابقة لذلك.
ولد لنداو في 22 / 1 / 1908 من أبوين يهوديين في باكو، البلد النفطية وعاصمة جمهورية أذربيجان. كان أبوه يعمل مهندسا في صناعة النفط المحلية، وكانت أمه طبيبة. وحين نشبت الثورة السوڤييتية عام 1917 كان عمر لنداو تسعة أعوام فقط. وعندما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامعة باكو، ثم غادرها بعد ذلك بسنتين إلى جامعة ليننگراد الحكومية. وبعد أن تخرّج لنداو في هذه الجامعة عام 1927، تابع دراساته في معهد ليننگراد الفيزيائي التقني، الذي يمثل مَهْدَ الفيزياء السوڤييتية.
وفي عام 1929 حصل لنداو على منحة جامعية لزيارة المعاهد العلمية في الخارج. وبعد أن عَمِلَ مع <N. بُور> في كوبنهاگن، صار يعتبر بور ـ الذي عمّت شهرته الآفاق حينذاك لإسهاماته القيّمة في الفيزياء الكمومية (الكوانتية) ـ مرشدا ومعلما خاصا له. وفي إنكلترا قابل <p. كاپيستا>، وهو فيزيائي تجريبي سوڤييتي ذو نفوذ، كان يعمل في مختبر كافنديش بكامبردج منذ عام 1921. وفي معرض الإجابة عن أحد الأسئلة التي طرحها كاپيستا، توصّل لنداو إلى نظرية المغنطيسية المعاكسة diamagnetism للإلكترونات في المعادن، وكان هذا أوّل فتح علمي كبير له.
وفي عام 1932 ارتحل لنداو إلى مدينة خاركوف ليرأس قسم الفيزياء النظرية للمعهد الفيزيائي التقاني الأوكراني. وهناك بدأ بحوثه في انتقالات الطورphase transitions من النوع الثاني ـ وهي تغيرات دقيقة تحدث في المادة تختلف عن تجمد الماء، إذ إنها تحدث من دون إصدار حرارة أو امتصاصها. إضافة إلى ذلك، فقد أجرى بحوثا في المغنطيسية الحديدية ferromagnetism، وهي العملية التي يتم وفقها تكوّن المغانط.
وكمعلّم قدير يتقد بالحماسة، بدأ لنداو، مع تلميذه <E. ليفشتز>، بتأليف كتابه المكوّن من تسعة أجزاء بعنوان “دروس في الفيزياء النظرية”(2). وسرعان ما اكتسب معهده شهرة عظيمة لتخريجه عددا من العلماء على المستوى العالمي القادرين على التصدي لأي مسألة تقريبا تَرِدُ في حقل الفيزياء النظرية.
هذا وإن <H. كازيمير> (وهو فيزيائي قَابَلَ لنداو في كوبنهاگن) يصف لنداو حين يَذْكُرُه بأنه كان شيوعيا متحمسا وفخورا جدا بجذوره الثورية. وكانت الحماسة، التي دفعت لنداو لبناء العلم السوڤييتي، جزءا من حماسته للاشتراكية. وفي عام 1935 نشر مقالة فريدة في جريدة إزڤستيا السوڤييتية عنوانها “البورجوازية والفيزياء المعاصرة”.
فإضافة إلى هجومه على ميول البورجوازيين نحو الخرافات الدينية واستغلال قوة ما يملكونه من أموال، أطرى “الفرص التي لم يسبق لها مثيل، والتي أتاحها الحزب والدولة لتطوير الفيزياء في بلادنا.” ولمّا كان لنداو ملتزما بالتصنيف الدقيق للأشياء والأشخاص، فقد وصف نفسه وأصدقاءه بأنهم “شيوعيون”، كما وصف أولئك الذين يكرههم بأنهم “فاشيون”، وأولاء الذين سبقوه في الهيئة التدريسية بأنهم ثيران برية روسية تشرف على الانقراض.
مساعدا لنداو: كوريتز (في اليسار) ورومر (في الأسفل) اللذان أُلقي القبض عليهما مع لنداو في الليلة نفسها. أمضى كوريتز عشرين سنة في الكولاك، في حين قضى رومر عشر سنوات في مركز علمي مخصص للعقاب يسمى بالروسية شاراشكا. وقد أنقذ <P.كاپيستا> (في اليمين) لنداو بادعائه أنه ما من أحد يستطيع شرح اكتشاف جديد باهر توصّل إليه سوى لنداو. وتبين أن هذا الاكتشاف هو الميوعة الفائقة. |
ومع أن لندوا كان مؤمنا بالنظام السوڤييتي، فإنه مع ذلك تعرض لحملات شنها عليه بعض الكتاب الاشتراكيين. ففي أواخر العشرينات، أثار تفكّك نووي اكتُشف حينذاك، وفيه بعض الطاقة التي لم تفسَّر، تساؤلات عدة. وفي بادئ الأمر أيد لنداو وآخرون فكرةَ بور التي تذهب إلى أن هذه التجربة تنتهك مبدأ انحفاظ الطاقة. بيد أن لنداو اكتشف فيما بعد أن هذه الفرضية تخالف نظرية ألبرت آينشتاين في التثاقل gravitation، ومن ثَمّ تخلى عن هذا المفهوم. (وجدير بالذكر أن هذه المشكلة حُلَّت بالتفسير الذي قدمه <W. پاولي> والذي ينص على أن جسيما معتدلا، سماه <E. فيرمي> فيما بعد “النترينو neutrino”، كان ينقل الطاقة المفقودة). ولسوء الحظ، فإن <F. إنگلز>، الذي شارك في إرساء أسس الماركسية، كان قد أعلن في القرن التاسع عشر أن قانون انحفاظ الطاقة أساسي وخالد في العِلم، وهذا أدى إلى توجيه انتقادات قاسية إلى لنداو على صفحات الجرائد المحلية جزاءً له على تعرّضه (المؤقت) لأحد المفاهيم المقدسة في النظرية الماركسية.
وعلى أي حال، فسرعان ما تعرَّضت أفكاره العامة لتغيرات جوهرية. ففي عام 1934 شغل رئاسةَ معهد خاركوف مسؤول جديد ـ عُهِدَ إليه بتغيير توجيه البحوث من الفيزياء النظرية إلى المشاريع العسكرية والتطبيقية. لكن لنداو ناضل بضراوة دفاعا عن العلوم الصرفة (البحتة)، واقترح تقسيم المعهد إلى فرعين يمكن تكريس أحدهما للفيزياء النظرية. وفي هيئة تحرير مجلة المعهد، التي كانت تدور فيها مناقشات حامية الوطيس حول مستقبل المعهد، دافع كوريتز عن خطة لنداو دفاعا قويا. كذلك فإن پياتيگورسكي، الذي لم يكن يعلم أن معارضة التوجيهات الرسمية كانت تُؤوَّل على أنها عمل تخريبي موجّه للمشاريع العسكرية السوڤييتية، أيَّد هذه الخطة أمام المسؤولين (مما جعل لنداو يطرده لاستيائه من حماقة تصرفه). وفي الشهر 11 / 1935 أُلقى القبض على كوريتز.
لقد سعى لنداو بكل ما أوتي من قوة إلى الدفاع عن صديقه بمناشدته رئيس الـ KGB في أوكرانيا الإفراج عنه. وكم كانت الدهشة عارمة في تلك الأوقات حين أُطلق سراح كوريتز “نظرا إلى نقص الأدلة.” (وبعد انقضاء بضعة أشهر على ذلك أَطْلَقَ مسؤول البوليس السري السوڤييتي في خاركوف النار على نفسه. ولعله كان واحدا من المثاليين الكثر الذين لم يتمكنوا من العيش وهم يرون الفجوة الواضحة الآخذة في الاتساع بين المُثُل الشيوعية وما يحدث في الواقع.) إلا أن ملاحظة وردت في ملف كوريتز نبّهت إلى ضرورة أن يواصل الـKGB مراقبة هذا الشخص الذي، “وإنْ لم تثبت إدانته”، إلا أنه “كان عضوا في منظمة تخريبية معادية للثورة يرأسها لنداو.”
وفي عام 1937 ألقى الـ KGB القبض على كثير من الفيزيائيين الألمان العاملين في خاركوف وعلى مجموعة أخرى من العلماء. هذا وقد “اعترف” صَدِيقا لنداو <L. شوبنيكوڤ> و <L. روزينكيڤيتش> قبل إعدامهما بأن لنداو كان يترأس منظمة تخريبية معادية للثورة. وإذ ذاك شعر لنداو بأنه يتعين عليه الهرب إلى مكان آخر قد يكون أكثر أمانا. وفي موسكو عرض كاپيستا على لنداو رئاسة القسم النظري في “معهد المسائل الفيزيائية”، وقد قَبِلَ لنداو العرض وتوجَّه إلى موسكو في الشهر 2/ 1937. وسرعان ما لحق به كوريتز، وكان رومر موجودا هناك. وبعد قرابة عام، وذلك في 28 / 4/ 1938، أُلقي القبض على لنداو وصديقيه.
في السجن
لقد جرى توبيخ تلامذة لنداو وزملائه لتأييدهم لنداو في مواقفه “ضد المادية الديالكتيكية، وحتى ضد نظرية انحفاظ الطاقة.” وكان هؤلاء يعتقدون بأن أحد أعداء لنداو هو الذي أوقع به بسبب تطاوله على غيره ووقاحته. وعلى سبيل المثال، قام لنداو في أحد أيام الأول من إبريل (نيسان) ـ يوم كذبة إبريل (نيسان) ـ بنشر مذكرة رسمية صنّف فيها أعضاء معهد خاركوف وفق إمكاناتهم، وغَيَّر بناء على هذا التصنيف تقدير رواتبهم ـ وواضح أن هذه نكتة لم تَرُقْ لرؤسائه.
كانت التهم الموجهة إلى لنداو أخطر كثيرا من مجرد إيمانه بنظرية علمية. فقد اتُّهِمَ بتزعُّم منظمة معادية للثورة، وكانت الاعترافات التي انتزعت من معاوينه “إثباتا” لاقتناع الـ KGB بصحة هذه التهمة. ولم يُذْكَر في ملف التحقيق سوى تاريخ إلقاء القبض على لنداو ـ وكان هذا قبل أسبوع من عرض الأول من مايو (آيار) التقليدي.
وقد تبين أنه لا علاقة البتة لرومر بالمنشور المضاد للسوڤييت، وشهد بذلك كل من لنداو وكوريتز، ومن ثم فقد بُرِّئَ من التهمة. إلا أن التهم الوهمية التي وُجِّهت إليه بقيامه بالتجسس لمصلحة ألمانيا جعلت رومر يقضي عشر سنوات في شاراشكا sharashka ـ وهو معهد للعلوم والهندسة يُدَارُ وكأنه أحد السجون.
اقتيد لنداو إلى سجن لوبيانكا. ويَذْكُرُ تقرير، كُتِبَ بسرعة من قِبَلِ أحد ضباط الـ KGB على ما يبدو، وموجود في ملفه، أن لنداو كان يُجْبَرُ على الوقوف طوال سبع ساعات يوميا، كما كان يهدَّد بالنقل إلى سجن أسوأ، وهو سجن ليڤوروتوفو. وبعد شهرين انهار لنداو وكتب اعترافا من ست صفحات، وهو أقوى الوثائق الموجودة في ملفه بلاغة. (كان كل سجين يُوقِّع عند خروجه من السجن على عدم إفشائه أي سر يتعلق بالمدة التي قضاها هناك، ولم يتحدث لنداو البتة إلى أحد عن هذه المرحلة من حياته.)
علم لانداو
كان لنداو واحدا من أوائل من قدموا مصفوفة الكثافة density matrix، وذلك عام 1927. وهذه المصفوفة هي أداة رياضياتية للتعامل مع الحالات الكمومية (الكوانتية) المختلطة. وتَمَكَّن بعد ذلك من شرح سلوك الغاز الإلكتروني(3)electron gas، واكتشف أن الإلكترونات في حقل مغنطيسي مقيّدة بمسارات من الطاقة المتقطعة، يُطلق عليها الآن اسم سويات لنداوLandau levels. وفي ميدان الفيزياء الفلكية، قدم فرضية مؤادها وجود قلوب نترونية أصبحت تعرف باسم النجوم النترونية. هذا وقد شرح في آن واحد مع مجموعة من العلماء الأمريكيين، كل على حدة، كيفية إصدار الأشعة الكونية للوابلات الإلكترونية.
إن أعظم فتوحات لنداو هي انتقالات الطورphase transitions من النوع الثاني التي تتغير فيها مادة من تشكيل مرتب إلى تشكيل غير مرتب من دون أن يرافق ذلك امتصاص للحرارة. وأحد هذه الانتقالات هوانتقال الهيليوم من حالة نظامية إلى حالة ميوعة فائقة. وقد شرح لنداو الميوعة الفائقة بوساطة الروتون roton، وهو إثارة بقيت طبيعتها غامضة منذ اكتشافها. قَدَّمَ لنداو أيضا وسيط الترتيب orderparameter، وهو نوع من الدوال الموجيّة ذات المقياس الواسع. ولدى تطبيق هذا الوسيط على الهيليوم ذي الميوعة الفائقة، أصبح بإمكانه وصف سلوك الذرات في حالتها الكمومية العامة، وعند تطبيقه على الموصلات الفائقة، كشف بعض الخاصيات كخاصية جريان التيار حول حقل مغنطيسي دخيل؛وبتطبيقه على الهيليوم 3 الفائق الميوعة(4)شرح مجموعة من التشكيلات المعقدة. وفي عام 1950 ابتكر لنداو مع تلميذه <V. ﮔينزبورگ> إطارا يمكن أن توصف ضمنه الظاهرة الكونية للتناظر المكسور ـ الذي يقتضي مثلا، أن يكون للكواركات كتلة ـ وذلك، أيضا، بوساطة وسيط الترتيب. درس لنداو أيضا كيفية انقسام المغنطيسية الحديدية إلى ساحات تشير فيها المركّبات المِكروية (الصغرية أو المكروسكوپية) إلى اتجاهات مختلفة. هذا وقد بحث أيضا في فيزياء الپلازما ووضع في عام 1965 نظرية موائع فيرمي التي تحوي جسيمات شبيهة بالإلكترونيات تتفاعل فيما بينها بقوة. وقد امتد اهتمامه إلى فيزياء الجسيمات أيضا، إذ رسم صورة إحصائية للنواة، وتحدّى اتساق consistency الإلكتروديناميك الكمومي، كما وضع مبدأ انحفاظ زوجيّة الشحنة chargeparity. وهذا كله غيض من فيض إنجازاته.
|
وينص الاعتراف على ما يلي: “في بداية عام 1939 توصلنا إلى نتيجة مفادها أن الحزب دبّ فيه الانحطاط، وأن الحكومة لم تعد تسهر على مصالح العمال، وإنما غدت معنية بمصالح زمرة صغيرة من الحكام، وأن مصالح الدولة تتطلب إقصاء الحكومة المتربعة على السلطة حينذاك وتكوين دولة جديدة في الاتحاد السوڤييتي تحفظ الكولخوزات [المزارع الجماعية] وملكية الدولة للصناعة، شريطة أن تُسَيَّر وفق المبادئ التي تستند إليها دول الديمقراطيات البورجوازية.”
ومع أن مثل هذه الاعترافات لا يمكن أن تُحْمَلَ على محمل الجد إذا ما أدخلنا في الحسبان الظروف التي كُتبت فيها، فإن في هذا التقرير غرابة تدفعني إلى الاعتقاد بصحته. وقد توصل الفيزيائيان إلى نتيجة حيرت معظم مواطنيهما طوال نصف القرن التالي. كان كوريتز هو الذي أقنع لنداو بضرورة القيام بإجراءات عملية، وهو الذي كان خطّه واضحا على المنشور، إلا أن الحنكة السياسية وراء ذلك تعود إلى لنداو. كان لنداو يعاني تعثرا في الكتابة، فقد كانت معظم كتاباته، بما فيها كتابه الشهير “دروس في الفيزياء النظرية”، يقوم بها في الحقيقة زملاؤه (وكان هذا الاعتراف أطول ما كتب لنداو بخطه طوال حياته كلها.) وقد قام المتآمران بتوقيع البيان باسم منظمة وهمية كي يتقبّله الناس تقبلا أكثر جدية.
قضى كوريتز 20 سنة في الكولاك، عاد بعدها إلى موسكو عام 1958، حيث قابلتُه بضع مرات قبل موته بمرض السرطان عام 1984. كان متحمسا للعلوم، وعمل في ذلك الحين في مجلة علمية شعبية. وقد بدا مفعما بالحيوية والنشاط على الرغم من كل ما تعرض له، وروى لي قصصا كثيرة عن لنداو ـ من دون أن يتطرق البتة إلى قصة اعتقالهما. هذا ولم يُعَدْ إلى كوريتز اعتباره قط (أي إنه لم يُعْتَرَف رسميا بأن التهمة التي وُجِّهت إليه كانت باطلة).
وفي هذا إشارة إلى أن اعتقاله، خلافا لمعظم ضحايا موجة الإرهاب الستالينية، كان نتيجة لسبب حقيقي.
لقد أنقذ كاپيستا لنداو. وبفضل اكتشاف كاپيستا تقنية جديدة لإنتاج الأكسجين ـ وهذا أمر عظيم الأهمية في التعدين، ومن ثَمّ في الصناعة ـ فقد تكوّنت علاقات متميزة بينه وبين الحكومة. كان كاپيستا موهوبا جدا أيضا في قدرته على الاتصال بالمسؤولين. لقد كتب في حياته أكثر من 100 رسالة إلى الكرملين تدور حول السياسة العلمية. وبعضها لإنقاذ بعض الفيزيائيين مثل <V. فُوْك> منظّر الحقل الكمومي quantum field.
وفي عام 1938 “اختفى” رئيس الـ KGB وخلفه في منصبه <L. بيريا> وبعد سنتين من المذابح تمكّن ستالين من بلوغ هدفه، ألا وهو القضاء على جميع منافسيه الحقيقيين والوهميين. وفي ذلك الحين رأى كاپيستا الفرصة سانحة ليوجِّه إلى رئيس الوزراء <V. مولوتوڤ> كتابا قال فيه إنه توصل منذ عهد قريب إلى كشف “في أهم حقول الفيزياء الحديثة”، وأنه ما من أحد من المنظّرين يستطيع شرحه سوى لنداو. وفي عشية عيد الأول من الشهر 5 / 1939 أُطلق سراح لنداو بكفالة بعد مكوثه سنة في السجن. وفي خلال بضعة أشهر تمكّن لنداو من شرح الميوعة الفائقة مستعينا بالموجات الصوتية (أو الفونوناتPHONONS) وبإثارة Excitation جديدة تسمى روتون roton. وقد مُنِحَ كل منهما جائزة نوبل مقابل هذا الكشف الفيزيائي بعد قرابة عقدين من الزمان.
وفي عام 1939 تزوج لنداو من <T .K. دروبانزيڤا>، ورُزِقَ منها عام 1940 بطفل أسمياه إيگور. كان الزواج أمرا غير عادي للنداو الذي كان يؤمن بالحب الحر غير المقيد، وكان يحث تلامذته وزوجته المذهولة على ممارسته.
وبعد بضع سنوات من إخلاء سبيل لنداو، أسّس ستالين المشروع الذري السوڤييتي، وقد جرى دفع هذا المشروع بقوة إلى الأمام بعد قنبلة هيروشيما. هذا وقد جُنِّدَ معهد كاپيستا بأكمله لهذا الغرض، وقام ستالين بتعيين بيريا مسؤولا أولا لمراقبة تنفيذ المشروع. ومع أن كاپيستا كان يبتعد عن إثارة المشكلات، فإنه رأى أن العمل بإشراف رئيس بوليس ستالين السري في جو من السرية الشديدة أمر لا يطاق. وهذا ما دفعه للكتابة إلى ستالين بأن بيريا لم يكن الشخص المناسب لرئاسة مثل هذا المشروع.
التوصل إلى القنبلة الهيدروجينية
سأبدأ هذا الموضوع برواية القصة الخطيرة التالية. نَقَلَ إلى كاپيستا صديق له، هو الجنرال <A. خروليڤ> محادثة سمعها خلسة كانت تجري بين بيريا وستالين طلب فيها بيريا رأس كاپيستا. ولكن ستالين أخبره أنه مع إمكانه تجريد كاپيستا من جميع مناصبه، فإنه لا يستطيع قتله. ومن الواضح أن ستالين كان يُولي تقديرا للشهرة العالمية التي كان يحظى بها كاپيستا كفيزيائي، إذ إنه كان عضوا في الجمعية الملكية البريطانية.
مذكرة سرية للغاية بعث بها لنداو إلى <E.I. تَام> يطلب إليه فيها أن يرسل بيانات عن سرعات الجسيمات التي احتاج إليها في حساباته التي أجراها لأول قنبلة هيدروجينية سوڤييتية. |
وهكذا فقد نجا كاپيستا من الموت، إلا أنه بقي خاضعا لنوع من الإقامة الجبرية إلى أن مات ستالين. أما لنداو فكان مشغولا بمهمة سرية للغاية، إذ عُهِدَ إليه بإجراء الجانب الرياضياتي العددي المتعلق بالقنبلة، وليس النواحي الفيزيائية النظرية. وقد تمكَّن لنداو مع الفيزيائيين الذين كان يرأسهم، من حساب ديناميك dynamics أول قنبلة نووية حرارية سوڤييتية مملوءة بالليثيوم دوترايد ـ وقد أُسميت هذه القنبلة “سْلُوْيكا” أي “الكعكة المؤلفة من طبقتين”layer cake. (ويروي <H. بيث>، أحد صانعي القنبلة النووية الأمريكية، أن الأمريكيين قد أدخلوا في اعتبارهم هذا المركّب وغيره من المركبات لحشو القنبلة لدى وضعهم للتصميم الأصلي لهذه النقبلة التي أسموها “المنبه” alarm clock، والتي كانت تشبه القنبلة سلويكا. بيد أن حسابات الأمريكيين، خلافا لحسابات لنداو، لم تتوصل إلى التنبؤ بديناميك قنبلتهم.)
هذا وقد سمح بالكشف عن جزء من العمليات الرياضياتية التي أُنجزت لهذا الغرض ونُشرت عام 1958. وقد بدت عمليات المكاملة العددية، التي ابتكرها لنداو والتي نُشرت في المجلد الذي يحوي بحوثه، غريبة جدا. ويحوي هذا المجلد أيضا بحثا ربما كان أعمق ما أنجزه لنداو بمشاركة <V. كينزبورگ> عام 1950، حين كانت بحوث القنبلة النووية تُجرى على قدم وساق. ويصف البحث إطارا يمكن أن تُشرح ضمنه مجموعة واسعة التنوّع من الأنظمة ـ الموصلات الفائقة والجسيمات الأولية والخلائط الكيميائية وغيرها. ويتوقع هذا الإطار وجود ظاهرة كسر التناظر symmetry breaking النوعية التي تحظى بأهمية حيوية لدى منظّري الجسيمات الأولية وغيرهم.
وتقديرا لإسهاماته في صنع القنبلتين الذرية والهيدروجينية، مُنِحَ لنداو جائزة ستالين في عام 1949 و1953. أما في عام 1954 فقد منح لقب “بطل العمل الاشتراكي.”
وإنني أعتقد بأن لنداو طلب في عام 1957 إلى الحزب الشيوعي المركزي أن يأذن له بالسفر إلى الخارج. وبناء على طلب الحزب فقد أرسل إليه KGBنصوص المحادثات التي دارت بينه وبين أصدقائه بين عامي 1947 و19577. وقد استند الحصول على هذه النصوص ـ كما ذكر عملاء الـ KGB ـ إلى “تقنيات خاصة” وإلى تقارير المخبرين. وهذه النصوص، التي عُثِرَ عليها في ملفات الحزب الشيوعي، تكشف بعضا من سمات لنداو.
وفي هذه النصوص يصف لنداو نفسه أنه “عالِمٌ عَبْدٌ.”(5) وإذا ما عرفنا طبيعته المتمردة، فلن يكون من المفاجئ أن يتحدث عن نفسه على هذا النحو؛ إضافة إلى ذلك، فإن التجارب التي مرّ بها في الثلاثينات حوّلته إلى مناهض لستالين. لكن هذه الوثائق تكشف عن تحوّل سياسي أعمق؛ ففي إحدى المناسبات، كما تقول إحدى الوثائق، ذكر أحد أصدقائه أنه لو قُيِّض للينين أن يُبعث حيا لأصابه الفزع ممّا رآه. لكن لنداو أجابه بقوله: “إن لينين استعمل أنواع القمع والاضطهاد نفسها التي يمارسها ستالين.”
وقد قال في وقت لاحق: “نظامنا، كما عَرَفْتُهُ منذ عام 1937، هو نظام فاشي قطعا، ولا يمكن أن يتغير تلقائيا بأي أسلوب بسيط… وإنني أعتقد بأنه ما دام هذا النظام موجودا، فمن السذاجة عقد الآمال على تطوره إلى شيء أفضل: إن السؤال عن إمكان التخلص سلميا من نظامنا هو سؤال عن مستقبل الجنس البشري… الفاشية تورث الحروب.” وأخيرا أنهى حديثه قائلا: “من الواضح تماما أن لينين كان أول الفاشيين.”
ومن الأهمية بمكان معرفة أن مِثْلَ هذه الأفكار كانت شاذة جدا في تلك الأوقات، فقد كان جميع زملاء لنداو تقريبا يؤيدون بقوة النظام السوڤييتي ـ ومنهم <.E .I تَامْ>، الذي كان أول سوڤييتي ينال جائزة نوبل في الفيزياء، و <A. ساخاروڤ> الذي كان أول سوڤييتي يُمنح جائزة نوبل للسلام. هذا وإن هؤلاء الذين عرفوا جرائم ستالين وآثامه رأوا فيه مجرما خان مبادئ لينين، الذي ظل في نظرهم بطلا.
وفيما أعلم، كان هناك فيزيائيان فقط عبّرا عن استنكارهما للعمل في قنبلة ستالين. أما أولهما فهو لنداو، وأمّا الآخر فكان <M. ليونتوڤيتش>، الذي أصبح في عام 1951 رئيسا للبحوث النظرية في برنامج القنبلة الهيدروجينية السوڤييتي. وقد عمل لنداو في مشروع القنبلة ليحميه من السلطة، لكنه حاول إضعاف مشاركته فيه.
وفي إحدى المناسبات وجّه اللعنات إلى الفيزيائي <Y. زيلدوڤيتش> (إذ وصفه “بالكلب”) لسعيه إلى توسيع المشروع. وبعد موت ستالين أَسَرّ لنداو إلى تلميذه وصديقه <M .I. خالاتنيكوڤ> قائلا: “لقد ذهب إلى غير رجعة، ولم يعد يتملكني الخوف منه بعد الآن، ولن أقوم من الآن فصاعدا بأي عمل في مجال الأسلحة النووية.” وهكذا فقد تخلى عن المشاركة في مشروع القنبلة.
ومع ذلك فما زال ثمة سؤال يتعين الإجابة عنه. فإذا قبلنا أن لنداو كان كارها للعمل في القنبلة، فكيف نفسّر كون إسهاماته فيها إسهامات جوهرية؟ لقد وفَّر لي الجواب عن هذا السؤال خالاتنيكوف، الذي صار مدير معهد لنداو للفيزياء النظرية الذي أُسِّسَ عام 1965، إذ قال: “بكل بساطة، لم يكن لنداو قادرا على إنجاز أي عمل من دون أن يتقنه.”
وهكذا فقد كان لنداو متميزا في قدرته على فهم الطبيعة الحقيقية للنظام السوڤييتي، وفي امتلاكه جرأة نادرة للتعبير عن نفسه. كذلك فقد كان مركزه بين الفيزيائيين السوڤييت العاملين في إنتاج القنبلة السوڤييتية حساسا جدا ومثيرا للقلق؛ لأنه كان يدرك بوضوح تام طبيعة أولئك الذين سيكون في حوزتهم ذلك السلاح الرهيب الذي يسهم في إنتاجه.
وفي عام 1962 تعرض لنداو لحادث سير خطير. ومع أنه نجا من الموت حينذاك، فقد أُصيب بجروح خطيرة في الدماغ غيّرت من شخصيته وسلبته عبقريته العلمية الفذّة، ويبدو أن لنداو كان مدركا تماما أنه تغير. مات لنداو في 1 / 4/ 1968، ويذكر تلميذه <I .A. أخيزر> أنه حين تلقى هذا النبأ، ظن أنه ليس إلا كذبة إبريل (نيسان) أخرى اخترعها لنداو.
وبعد انكبابي أسبوعين تماما على دراسة ملفات الـ KGB وَجَدْتُ نفسي غير قادر على متابعة هذا العمل، إذ إن العدد الهائل من الأرواح التي أُزهقت والمسجَّلة في هذه الملفات جعلتني أعزف عن مواصلة الاطلاع عليها. وبعد انهيار الاتحاد السوڤييتي عام 1991 أعاد الـ KGB بناءه من جديد، وعلى ما أعلم، فمنذ ذلك الحين لم يعد بمقدور أي مؤرخ الوصول إلى هذه الملفات. وممّا لا شك فيه، فإن هذه الملفات ما زالت تُخفي في طياتها العديد من الروايات المذهلة ـ وربما كان بضع منها يحوي المزيد عن قصة هذا الفيزيائي الرائع.
المؤلف
Gennady Gorelik
زميل باحث في مركز الفلسفة وتاريخ العلوم بجامعة بوسطن. حصل عام 1979 على الدكتوراه من معهد تاريخ العلوم والتقانة التابع للأكاديمية الروسية للعلوم. وبدعم من مؤسسة گوگنهايم، وبمنحة من مؤسسة ماك آرثر، يقوم گورليك بكتابة سيرة حياة <أندريه ساخاروف>.
مراجع للاستزادة
LANDAU, THE PHYSICIST AND THE MAN: RECOLLECTIONS OF L. D. LANDAU. Edited by I. M. Khalatnikov. Pergamon Press, 1989.
KAPITZA IN CAMBRIDGE AND MOSCOW: LIFE AND LETTERS OF A RUSSIAN PHYSICIST. Edited by J. W. Boag, P. E. Rubinin and D. Shoenberg. North-Holland, 1990.
MATVEI PETRUVICH BRONSTEIN AND SOVIET THEORETICAL PHYSICS IN THE THIRTIES. Genady E. Gorelik and Viktor Ya. Frenkel. Birkhauser, Basel and Boston, 1994.
STALIN AND THE BOMB: THE SOVIET UNION AND ATOMIC ENERGY, 1939-1956. David Holloway. Yale University Press, 1994.
‘MEINE ANTISOWJETISCHE TAETIGKEIT..’: RUSSISCHE PHYSIKER UNTER STALIN. Gennady Gorelik. Vieweg, Braunschweig, 1995.
(*) The Top-Secret Life of Lev Landau
(1) الأحرف الثلاثة الأولى مما أسماه النظام السوڤييتي “هيئة أمن الدولة”؛ أو ما اعتدنا تسميته “البوليس السري السوڤييتي،” وسنرمز له في هذه المقالة كالمعتاد بـ KGB. (التحرير)
(2) نشرته دار Pergamon Press بين عام 1975 و1987. (التحرير)
(3) مجموعة مركزة من الإلكترونات التي يتحدد سلوكها في المقام الأول بالتفاعل بين الإلكترونات ذاتها.
(4) superfluid helium 3. (التحرير)
(5) scientist slave.